|
لعلّ الأيام حبلى
جواد بولس
الحوار المتمدن-العدد: 3682 - 2012 / 3 / 29 - 19:55
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لم أستأذن جلسائي بالكتابة عن فرح جَمَعَنا، وعن وجع خبّأناه في حنايا أضلعنا، لمّا افترقنا وعاد كل واحد إلى بيته/حصنه الأخير. رفيقٌ من زمن الشرار، حين كنّا شبابًا لا يعرف ليلنا حسدًا ولا خوفًا ولا عتابًا، دعاني وزوجتي لنحتفي معه بضيفه، عزيز يزور فلسطين وهذه ليلته الأخيرة فيها، ففي الصباح سيعود إلى شامه وليلها الطويل وبردى الذي كان ماؤه من تبر السماء. الشتاء ما زال يسكن رام الله. المطر يتساقط كهاربٍ من مطاردة حفنة أشرار، يحاول أن يمسك أنفاسه ويمسح سوادًا أرخته خطايا النهار. البرد قارس ما غلبه إلّا دفء المكان وعشرةٌ "فاتوا مضاجَعهم" واجتمعوا صحبة وابنة الحقل وسكين وأمل. تحلّقنا طاولة بلا زوايا ولا حواجز. صغرانا ستطوي الخمسين عمّا قريب. كان اللقاء كما يليق بالشوق ينضج غفلة، كوجع ناي ثقبته يد الخسارة وحكمتها تجربةً وهاجس السفر. عن سورية سمعنا، وعن كيف ينتقي الموت عرائسه بالبطاقة والهوية. عن حلم العطاش حوَّله جشع الطغاة إلى كابوس وشرايين دم قطّعتها نعال من خانوا الوعود ووثبوا أسودًا ضارية على أيائل الحقل. عن فرق تسمى زورًا معارضة ولدت بدنس من زناديق خلّفوها فرقًا تمتهن القتل وتزرع الفوضى والسراب. فإمّا الخسارة وإمّا الخسارة، لأن صوت الحلم هزم في البدايات وبعضه ما زال يجيء حشرجات توجع وتشعل ليل الخاسرين. حرب الأهل والإخوة، ضفة تلوح من خلال ثقوب أشرعة سفينة تغرق، أو، أمل الناجين، مصالحة تؤجل حمامات الدم إلى مواسم الصيد الأخير الذي حتمًا سيحل على أرض أحفاد غسان وأمية. احترقنا بما سمعناه. عدنا إلينا، إلى ما كان يسمى فلسطين وبعد دقائق أمسينا كمن هرب إلى النار. فهنا، أنّى تطلعنا لن نرى إلا جزائر البؤس والأمل المهاجر. فقاعات من زيف وهاويات. احتلال في كامل "تألقه"، مدجّج بدبّاباته وبأحلام صباه وكذبه المقدس، فعندهم الأرض وعد الرب لنبيه ونبينا موسى وآله، ممن سبقوا، ملوكًا قبلناهم وما زلنا أنبياء، حقهم في الأرض والسماء كما جاء في الكتب. وعندهم الأرض بلا ناس، خاوية إلا من الذباب والفراش يُصطاد على مهل أو يطرد على عجل أو يحبس في زرائب من إسمنت وجوع. أحلامهم ما زالت أحلامهم، وهم ماضون في صلواتهم وأحلافهم مع بني عرب وبني بوش، فالرب يسعفهم ويبارك لهم ويعطيهم من خير البلاد ما وعدهم به من سمن وعسل وصراعات بين إخوة عرب كانوا وفاز كل واحد منهم بإمارة ولم يتركوا للغاصبين ولا حتى عظمة! لم نلتقط في سهرتنا ولو لحنًا واحدًا يصحبنا إلى غفوة على شرفة درويش أو ينسينا لحن المارشات الجنائزية وعويل البؤساء والعاجزين. فكلنا يسأل ما العمل؟ والجواب يحال لصدى السنين والرهان على حَمْلٍ، حتمًا سيحمل به المكان، ولكن ما حزرنا من سيكون الفارس صاحب الشرف النبيل والنسل الرفيع. ما العمل سؤال غاب أو غُيِّب حين برعم البيلسان في ساحات العرب فبدأ التقويم شرقيًا بالخريف. ما العمل سؤال عطّل لعقود يوم ذابت النخبة في غيم القمم وبرودة القصر المنيف، ويوم نام المثقفون والمفكرون في حضن الخليفة. ما العمل سؤال هرِّب في دهاليز ما أشرقت عليها شمس وطن فخلت المجامع والدور والساحات لعلّامات في عُرفها ديفنشي زنديق وكافر وأينشتاين معتوه وماكر ومحفوظ مهادن ومخاتل. لم نلتقِ على فكرة واحدة وجواب، بيد أنّنا اعترفنا بانتهاك أحدهم أو أكثر لجريمة القصور. وكذلك اعترفنا أن هنالك من يقترف جرائم النفاق أمام من سيفترس المنافقين على أول وجبة احتفالٍ بنصره والسلطان. وكذلك اعترفنا أن العاجزين فقط يضطرون للتنازل عن الحلم أمام واقع ملتبس، لا سيما إذا كانوا ذات يوم سادة على نواصي الحسم أو في الدواوين ومفارق الطريق. افترقنا وتمنى كل واحد منا للشامي أن يصل بالسلامة وأن يعود إلينا بالسلامة، هنا أضفنا لتمنياتنا بعضًا من صلاة ودعاء، فلقد شعرنا أننا بحاجة لذلك. عندما غادرنا المطعم، كان المطر يتساقط بغضب وكأنه كان يسمع حديثنا والظلمة كانت أشد سوادًا. خاصرة رام الله كانت تنزف من حب ومن غنج، فالليالي حبلى والأيام كذلك، هكذا آمن البشر، أولئك الذين لا يكثرون من السؤال وتكراره، ما العمل، ببساطة لأنهم يعملون قبل أن يصابوا بالعقم والعجز. تركت رام الله المحتلة وعدت إلى بيتي في القدس المحرَّرة! على حاجز قلنديا أوقفني الجنود وسألوا إن كنت آتيًا من فلسطين فأجبتهم: وذاهب إليها. ففي الصباح سأزور مستشفى السجن في الرملة حيث تتحرَّز إسرائيل على أصحاب حلم وإرادة وبطون تجوع وتقاتل، أصحابها يحاولون أن لا يبقوا دمى ورهائن في يد من يصر على أن الأرض هنا بلا ناس وأنهم، كما صرخوا هناك في بازل، سيحولون خرائبها إلى قصور وشوكها إلى عسل وحليب. هناك هم صرخوا وهنا شيدوا دولة القهر والقمع والماضي وجعلوا الأيام حبلى والشتاء قادمًا.
[email protected]
#جواد_بولس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بعض من -هناء-
-
آذار لي
-
دروس تينة
-
بين خوفٍ مِن وخوف على
-
إن شئت فعِش!
-
لقاء في قانا
-
خضر والتنين
-
نمورٌ وقطط
-
لمن نكتب؟
-
كلنا في العزاء سواء
-
استكشاف
-
ميلادٌ في كابول
-
طريق نحلتين إلى السماء
-
آية للرجال
-
نسمةٌ أقل
-
مزمور للنقب
-
بسمة وعبسة
-
-هيدرا- على الأبواب
-
حديث غرناطة
-
من نامَ لم يدرِ طالَ الليلُ أم قَصُر
المزيد.....
-
جيم كاري في جزء ثالث من -سونيك القنفذ-.. هل عاد من أجل المال
...
-
الجولاني: نعمل على تأمين مواقع الأسلحة الكيميائية.. وأمريكا
...
-
فلسطينيون اختفوا قسريا بعد أن اقتحمت القوات الإسرائيلية مناز
...
-
سوريا: البشير يتعهد احترام حقوق الجميع وحزب البعث يعلق نشاطه
...
-
مصادر عبرية: إصابة 4 إسرائيليين جراء إطلاق نار على حافلة بال
...
-
جيش بلا ردع.. إسرائيل تدمر ترسانة سوريا
-
قوات كييف تقصف جمهورية دونيتسك بـ 57 مقذوفا خلال 24 ساعة
-
البنتاغون: نرحب بتصريحات زعيم المعارضة السورية بشأن الأسلحة
...
-
مارين لوبان تتصدر استطلاعا للرأي كأبرز مرشحة لرئاسة فرنسا
-
-الجولاني- يؤكد أنه سيحل قوات الأمن التابعة لنظام بشار الأسد
...
المزيد.....
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
المزيد.....
|