سعيد العليمى
الحوار المتمدن-العدد: 3679 - 2012 / 3 / 26 - 16:19
المحور:
الارشيف الماركسي
مادامت انجلترا قد جرى النظر اليها حتى الان من الناحية السياسية , فدعونا نبدأ بذلك . دعونا نفحص الدستور البريطانى , الذى اعتبره التورى "اكثر منتجات العقل البريطانى كمالا" , ودعونا كتحيز اخر للسياسى , ان ننطلق حاليا مما هو تجريبى تماما .
التقدير المعتدل للجمال النوعى للدستور البريطانى الذى تطور "تاريخيا" , هذا يعنى بلغة المانية واضحة ان الاساس القديم الذى خلقته ثورة 1688 قد حفظ , وهذا الاساس , كما يسمونه , قد بنى عليه فيما بعد . وسوف نرى حالا اية سمات اكتسبها الدستور نتيجة لذلك , ولبرهة فان مقارنة بسيطة بين الانجليزى فى 1688 مع الانجليزى فى 1844 قد تكفى لتبرهن على ان اساسا دستوريا متطابقا لكليهما هو عبث واستحالة . حتى اذا تغاضينا عن التقدم العام للحضارة , فان الطابع السياسى للامة وحده مختلف تماما عما كان عندئذ . كان قانون الدعاوى المتطابقة , قانون الضبط والاحضار وقانون الحقوق اجراءات قام بها الويج انبعثت من ضعف وهزيمة التورى فى هذا الوقت وقد وجهت ضد هؤلاء التورى , بمعنى اخر , ضد الملكية المطلقة والكاثوليكية المكشوفة او المستورة .{207 }ولكن خلال الخمسين سنة التالية اختفى التورى القدماء وتبنى خلفائهم المبادئ التى كانت حتى حينها ملكية الويج , ومنذ ان صعد جورج الاول الى العرش , فان التورى الكاثوليك الملكيين قد اصبحوا ارستقراطية , حزب الكنيسة الاعلى , ومنذ الثورة الفرنسية , التى ايقظتهم اولا فان المبادئ الايجابية للتورية قد تبخرت بشكل متزايد وتحولت الى " نزعة محافظة " مجردة , الدفاع المكشوف الغافل عن الوضع القائم – وبالفعل فحتى هذه المرحلة قد خلفوها وراء ظهورهم بالفعل . وقد قررت التورية من خلال السير روبرت بييل ان تعترف بالتغير , وقد ادركت انه لايمكن الدفاع عن الدستور , وانه يقدم تنازلات ليبقى ببساطة البنية المتداعية لاطول فترة ممكنة .
لقد عاين الويج تطورا مهما مماثلا , لقد ظهر حزب ديموقراطى جديد , ومع ذلك فلازال يفترض فى اساس 1688ان يكون ملائما لعام 1844! والان فان النتيجة التى لايمكن تفاديها لهذا "التطور التاريخى " هو ان التناقضات الداخلية التى تمثل الملامح المميزة للملكية الدستورية والتى عرضت بما يكفى حتى فى الزمن الذى كانت فيه الفلسفة الالمانية لازالت تحمل وجهة نظر جمهورية – ان هذه التناقضات تكتسى باشد اشكالها تطرفا فى الملكية الانجليزية الحديثة . وفى الواقع فان الملكية الدستورية الانجليزية هى ذروة الملكية الدستورية بوصفها كذلك , انها الدولة الوحيدة التى لها , بقدر مايمكن لذلك ان يكون ممكنا فى الوقت الراهن , ارستقراطية حقيقية بالميلاد حفظت مراكزها بالتوازى مع وعى عام عالى التطور نسبيا , وعلى ذلك يوجد ثالوث السلطة التشريعية بالفعل الذى استعيد فى القارة بشكل اصطناعى وابقى عليه بصعوبة فحسب .
اذا كان جوهر الدولة , مثل جوهر الدين , هو خوف البشرية من ذاتها , فان هذا الخوف يصل اعلى درجاته فى الملكية الدستورية , وخاصة الانجليزية . ان تجربة ثلاثة الاف عام لم تجعل البشر اكثر حكمة وانما على العكس جعلتهم اكثر تشوشا واكثر تحيزا , لقد جعلتهم مجانين , ونتيجة هذا الجنون هو الوضع السياسى الراهن فى انجلترا . ان الملكية المحضة توقظ الارهاب – ويفكر الناس فى الاستبدادين الشرقى والرومانى . الارستقراطية المحضة لم تعد مخيفة –العوام فى روما واقطاع القرون الوسطى , نبلاء فينيسيا وجنوه لم يكونوا سدى . والديموقراطية افظع من كليهما , ماريوس وسولا , كرومويل وروبسبيير , الرأسان الملطخان بالدم لملكين , قوائم الابعاد و الدكتاتورية تتكلم بصوت عال بما يكفى عن " فظائع" الديموقراطية . اضف الى ذلك , فمن المعروف بصفة عامة انه لاشكل من هذه الاشكال قد كان قادرا على البقاء ابدا لوقت طويل . فما كان يتعين عمله ؟ بدلا من الانطلاق فى مسار مستقيم , وبدلا من ان نخلص الى عدم كمال وبالاحرى لاانسانية كل اشكال الدولة ان الدولة ذاتها هى سبب كل هذه التجليات غير الانسانية وانها هى نفسها غير انسانية , بدلا من ذلك ارتاح الناس لوجهة النظر التى تقول بأن اللااخلاقية ترتبط فقط بأشكال خاصة للدولة , استنبطوا من المقدمات الانفة ان نتيجة ثلاث عوامل لااخلاقية يمكن ان تكون نتاجا اخلاقيا , وخلقوا الملكية الدستورية .
ان البديهية الاولى للملكية الدستورية هى توازن السلطات , وهذه البديهية هى التعبير الاكثر اكتمالا عن خوف البشرية من ذاتها . وليس قصدى ان اعلق على هذه اللاعقلانية العبثية وعلى الافتقار للعملية فى هذه البديهية , فاننى سوف افحص هنا فحسب مااذا كانت تنطبق على الدستور الانجليزى , و كما وعدت , فسوف التزم تحديدا بالوقائع التجريبية ,الى الحد الذى ستكون فيه بالفعل غزيرة حتى بالنسبة لسياسيينا التجريبيين .ومن ثم لن اتناول الدستور الانجليزى كما يرد فى تعليقات بلاكستون { و. بلاكستون , تعليقات على قوانين ودستور انجلترا } او فى خيالات لولم { دستور انجلترا } او السلسلة الطويلة من التشريعات المؤسسة من العهد الاعظم { الماجنا كارتا } الى قانون الاصلاح , ولكن كما هو فى الواقع . {208 }
اولا , العنصر الملكى . كل امرئ يعرف المغزى الفعلى للعاهل الملك فى انجلترا , ذكرا كان ام انثى . ان سلطة الملك مختزلة عمليا الى الصفر , واذا كانت الحالة , المشهورة على نطاق العالم اجمع , فى حاجة لأى برهان اضافى , فان حقيقة ان النضال الكلى ضد التاج قد توقف منذ مايزيد على مائة عام مضت وان حتى الشارتيون الديموقراطيون الراديكاليون يعرفون انه من الافضل ان يقضوا وقتهم فى اشياء اخرى غير هذا الصراع , لابد ان يشكل دليلا كافيا. ماذا يعترى اذن هذا القسم الثالث من السلطة التشريعية الذى يخول فى النظرية للتاج ؟ مع ذلك –فى هذا , يصل الخوف الى مداه – فان الدستور لايمكن ان يحيا بدون الملكية .ازيلوا التاج , " القمة الذاتية"وسوف تتداعى سقوطا كامل البنية المصطنعة . ان الدستور الانجليزى بمثابة هرم مقلوب , والقمة هى فى نفس الوقت القاعدة وبقدر مااصبح العنصر الملكى اقل اهمية فى الواقع , بقدر مااصبح اكثر اهمية للمواطن الانجليزى .لايحدث فى اى مكان , كما نعرف جميعا , ان توقر شخصية غير حاكمة اكثر مما فى انجلترا .وتتفوق الصحافة الانجليزية على الالمانية لمدى بعيد فى الخنوع العبودى . ولكن عبادة الملك الكريهة هذه بوصفها كذلك , وتوقير فكرة خاوية – او بالاحرى ليس فكرة وانما كلمة " ملك" مفرغة من كل مضمون , هى ذروة الملكية , تماما مثل توقير كلمة "اله" التى هى ذروة الدين . ان كلمة "ملك" هى جوهر الدولة , مثل كلمة " اله" التى هى جوهر الدين , رغم انه ليس لأى من الكلمتين معنى على الاطلاق . الشئ الجوهرى بشأنهما معا هو التأكد من ان الشئ الاساسى , اى الانسان , الذى يقف وراءهذه الكلمات , لايناقش .
ثم العنصر الارستقراطى . وهو يصيب نجاحا قليلا اكثر من التاج على الاقل فى النطاق الذى خول له فى الدستور . اذا كانت السخرية التى اهيلت بشكل مستمر على مجلس اللوردات لأكثر من مائة عام مضت قد اصبحت تدريجيا جزءا من الرأى العام لحد بعيد حتى ان هذا الفرع من السلطة التشريعية يعتبر بصفة عامة موئلا لرجال الدولة المتقاعدين وتقدمة لطبقة النبلاء كاهانة من قبل اى من ليس بعد عضوا قديما تماما فى مجلس العموم , يمكن ان يتصور بسهولة بأى تقدير تمسك ثانى السلطات السياسية التى اسسها الدستور . فى الواقع فان فعالية اللوردات فى المجلس الاعلى قد قلصت الى حد باتت فيه مجرد شكليات فارغة , ترتقى نادرا فحسب كنوع من قوة القصور الذاتى كما بدا خلال وزارة الويج عام 1830 حتى 1840 – وحتى عندئذ لم يكن اللوردات اقوياء بذاتهم بما فيه الكفاية وانما من خلال التورى , الحزب الذين يشكلوا ممثليه الحقيقيين , ومجلس اللوردات , ويفترض ان تكون ميزته الاساسية فى النظرية الدستورية حقيقة انه مستقل عن التاج والشعب بنفس القدر , بيد انه فى الواقع معتمد على حزب , اى , حالة الرأى العام , وايضا على التاج , نظرا لحقه فى صنع نبلاء . وبقدر ماكان المجلس الاعلى ضعيفا , بقدر ماكان مركزه اثبت فى الرأى العام . الاحزاب الدستورية , التورى , الويج والراديكاليون ينقبضون برعب مماثل من فكرة الغاء هذه الشكلية الخاوية , ولايذهب الراديكاليون ابعد من ان يلاحظوا ان اللوردات , بوصفهم السلطة الوحيدة فى الدستور التى لا يحق لأحد مساءلتها , يمثلون شذوذا ومن ثم فينبغى ان يحل محل النبلاء بالوراثة نبلاء بالانتخاب . مرة اخرى انه الخوف من الانسانية الذى يبقى هذه الصيغة الخاوية , والراديكاليون الذين يطالبون بأساس ديمو قراطى لمجلس العموم , يعايشون هذا الخوف لمدى ابعد من الحزبين الاخيرين من خلال محاولة دفع نسمات حياة جديدة فى مجلس اللوردات العتيق البالى بحقنه بدم شعبى , حتى لايتم هجره كلية . اما الميثاقيون فلديهم فكرة افضل عما ينبغى ان يفعلوه , انهم يعرفون انه قبل هجوم ديموقراطى من مجلس العموم , فان كامل البنية العفنة , التاج , اللوردات , وما الى ذلك , يجب ان تنهار طوعا, وبخلاف الراديكاليين فانهم لايقلقون بشأن اصلاح طبقة النبلاء .
ومثلما نمى توقير التاج بالتناسب مع نقصان سلطة التاج , فهكذا كلما سمت الارستقراطية عاليا فى التقدير الشعبى كلما تدهور النفوذ السياسى لمجلس اللوردات . ليست المسألة فى ان اكثر الشكليات مهانة من العصر الاقطاعى قد استبقيت , حتى ان اعضاء فى مجلس العموم حينما يظهرون بصفتهم الرسمية امام اللوردات عليهم ان يقفوا وقبعاتهم فى ايديهم امام اللوردات الجالسون والمرتدون لقبعاتهم وأن الطريقة الرسمية لمخاطبة احد النبلاء هى " لعل هذا يسعد سيادتكم ", الخ وأسوأ شئ فى كل هذه الشكليات هو انها بالفعل تعبير عن الرأى العام , الذى يعتبر اللورد كائن من نوع اعلى ويكن احتراما للانساب والالقاب الطنانة ,وتذكارات العائلة القديمة , الخ , الامر البغيض لنا ويثير غثياننا نحن القاريين بوصف ذلك عبادة للتاج . فى هذا الجانب من الشخصية الانجليزية ايضا فان لدينانفس التوقير لكلمة خاوية لامعنى لها , المختلة تماما , الفكرة الثابتة وهى ان امة عظمى , والجنس البشرى والكون ,لا يمكن ان يعيش بغير كلمة " ارستقراطية ".
لكل هذا , فللارستقراطية رغم ذلك نفوذ هام فى الواقع , ولكن مثلما ان سلطة التاج هى سلطة الوزراء , بمعنى اخر , سلطة ممثلى الاغلبية فى مجلس العموم , وبذلك , اتخذت منعطفا مختلفا عما قصده الدستور , وهكذا فان سلطة الارستقراطية تكمن فى شئ مختلف تماما عن حقها الوراثى فى مقعد فى السلطة التشريعية . الارستقراطية قوية بسبب اقطاعاتها الشاسعة , وثروتها بصفة عامة , وهى تشارك هذه السلطة مع الاثرياء الاخرين غير الارستقراطيين , ان سلطة اللوردات فعالة ليس فى مجلس اللوردات ولكن فى مجلس العموم , وهذا يصل بنا الى الى مكون السلطة التشريعية ويفترض وفقا للدستور ان تمثل العنصر الديموقراطى .
__________________
* المصدر : الاعمال الكاملة , ماركس , انجلز , المجلد الثالث , وضع انجلترا , مقتطف من الدستور الانجليزى ص ص 489 -- 513 , طبعة دار التقدم -- الانجليزية -- موسكو 1974 . .
#سعيد_العليمى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟