|
المصطبة
فريد الحبوب
الحوار المتمدن-العدد: 3645 - 2012 / 2 / 21 - 12:32
المحور:
الادب والفن
لم أقتني شيئاً من حياتي التي مضت، سوى أحداث تستدرجني لمكان ناءٍ من وإلى قلقي، ومفارق طرق أتحاشى فيها الشجارات الضارية مع ذكريات الحب، إلا أنه لا مناص....أحداث لا تدل أثارها إني سأكون بهذا الحال، حياة بلادة وخمول، والسكوت وحدة الذي يمد يد المساعدة لي فيما تنطوي الآمي على نفسها لساعات وتموت، أحداث مُغشى عليها هي ألان حكايات قصيرة على جنبي حسراتي، وما أشد ألأثر الشفيف الذي تخلفه على وجودي تلك الأيام التي ولت في سدى، وتناست وعودها لي ..... يا ويلي كل شيء لدي يحاول السفر. الخريف الذي مر مراراً بشكل ومضي ولم يولي أي اهتماما بسقوط أوراقي، والمطر الحزين المشبع برائحة التراب ظل عاكفاً على مضاجعة الجفاف، أيام ضربت ضربتها وهربت، استعبدتني واستعبدتها، ورغم كل شيء آري من حسن الحظ أني أتذكرها ألان. ولمن مثلي في هذا النفي الإرادي. إذ لا شيء أهم من أن تعزز حياتك بسعادة وإن كانت واهنة، أنها سعادة من نوع خاص قد تنتحب في أية لحظة، سعادة كشرب الشاي قبل بضع لحظات من سطو ألوان الشفق على اللازورد لتحتسي من ذلك الكوب الأحزان والآلام والفرح.......وأحياناً حين تأتي بها رياح شفيفة تشكي لوعات شتى تقلل من شأن الكبر الذي يضمر لك الحزن والتعاسة . ورغم أني لم أوفق في الكثير مما جربت ألا أني كنتُ في الغالب اصنع لنفسي قداسات غريبة بعض الشيء تملأ نفسي بأكثر الأوقات جمالاً وتناغماً. أنا ألان في السبعين من العمر لا كبرياء في عيوني، ولا نار تطلق شرارة الحب ولا شمس في جبيني تمنحني رباطة الجأش وحسن الود واللطف الذي كان يملأ وجهي، أما حبل الأغاني الحزينات تلك التي كانت ابتسامة اعترافاتي لمن أحببت من الفتيات روضها مغزل الريح على الصمت ورماها بعيداً في مغيب منسي، ويقول من يراني إني أثير الشفقة وأبعث في النفس السأم، وفي شخصي نواحي غامضة أبعدت كل من كان حولي، وأظن إن الأشياء المهمة قد ولت دون رجعه، وما بقي يمثل تلك الخيبة من خيبات ألأحلام والأغاني والكلمات وهن يضربن عن الحياة مثلي حين أجالس الظلام، مصابٍ بالنقرس... داء المفاصل الذي تركني اشحذ حاجاتي وأرقع الأوقات بأنين الذكريات والإحداث التي مرت بحياتي مسرعة. واشياءاً واشياء تهب في أي وقت تشاء لاسيما وأنت طريح الفراش لا تقوى أن تتكلم. أحس بميل شديد إن أصرخ صرخة لا أقوى عليها ألان. وفي بداية ما سأقصه من إحدى تلك الإحداث تحت ضوء العمر المتهدم، وبكل تأكيد إن الاستحمام بالذكريات أمر جميل ورائع إذ نادراً ما يرى المرء نفسه حياً في الكبر دون ذكريات. والآن عليكم فيما أملأ فنجاني بالقهوة إن تصمتوا وتعودوا معي بضع خطوات........ هناك.......ذات يوم كنت طالباً في أحدى الجامعة ، وكنت حينها في سنتي الأخيرة، كان طولي مئة وثمانون سنتمتر، وكان وزني معتدل ولكن كنت أمر بفترات سريعة أثخن بها بشكل ملفت، غير إني أتمكن وبنفس السرعة العودة إلى وضعي الطبيعي. وكنت أحياناً املك جذعا منتصب كقوام محارب، وكتفاي بارزتين وحالفني الحظ إن في صدري بحر هادئ يضطرم ويملئ وجهي بالبريق، وحين احضى بهذا القوام، كنت غالباً ما أقف في أوقات تتخلل المحاضرات على خشبة مهملة أكون فيها أعلى من أصدقائي، وأشبه ما أكون بقائد أوركسترا، اختلس النظر إلى النسيم الذي يحرك أوراق الشجر الصغار وهن يتكلمن همساً..... وكنا نتجلد من شدة البرد ألا إننا لا نكف عن التقول بأشياء لا داعي لها، وندس في ألايادي سطور نكتبها على استعجال ودون روية. ما أجمل ذلك الزحام والهمهمات ونبرة المواعيد. كانت ألأمور طبيعية وتسير على أحسن ما يرام، كانت لحظات نعيشها كما نحب لا نبالي لأي نصيحة، أو نعاود التفكير بالتصرفات الطائشة على وسادة الليل، كنا نحول أغلب المشاهد التي نراها إلى كاريكاتير. وكنا أحياناً كما الواقفين أمام المرأة حين تمر فتيات جميلات يحملن عدم ألاكتراث على وجوههن المتشحات بالأرجوان. وربما كنت الأكثر بينهم أصنم نفسي بغرور ولا أنفر من صيحات الإعجاب التي تنقر ذاتي بمناقير إوز . لم يكن حالي بأفضل حال حين عينت الفتاة التي هب لها قلبي وصرت أحب قدوم الصباح من أعماقي. العجيب أن روحي صارت تعج بالحيوية والنشاط منذ لفحتني حرارة الأشواق ونمت على كتفيها ذره هواي. أحاسيس عجيبة متشوقة للاستمرار،كانت تتخذ مكانها على نفس المصطبة كل يوم، وتتوق إلى استرخاء لا تتأمل فيه شيئاً من شؤون الحياة. سوى صفاء النظر وأن تتحول وسط الزحام والبرد والشمس إلى زهرة على ضفة نهر. كانت تلتفت نحوي بين الحين والأخر فيما عينيها الباردتين لا ترأف بي. كان لهاثي الشديد يخفق فوق يديها الطريات بالثقة، وعلى أوراقها وبعض الحاجيات المنثورة في حجرها والمصطبة الهائمة والتواقة لي. شعرت للوهلة الأولى أني مصاب بدوار البحر وأنا أطالع خطواتها كما لو أني مراقب طائرات من برج عال، كان حضورها الباسم قوي ومؤثر وهي تسير إمامي بنظرتها الثاقبة ووجها المعزز بالورد الأحمر، كان هناك جانبان التصقا تحت قدميها على طول الطريق الذي تسير فيه، الجبين الذي كان غيمة من قطن أوحى انه غير قابل لصدأ الكبر، والضباب غمر شعرها المنثور، وتراقص اللازورد على كتفيها وهي تخطو مسرعة وسط جموع الطلبة، كانت مثل طائرة شراعية تندفع بقوة الهواء، رأيت الملاح والقلاع وشغب النوارس على الضفاف، رأيت شجرة تنمو أغصانها بالزهر الأبيض، تأملتها في أوقات عدة لم تكن تبالي لي، شعور حافل بخمرة الحنين ملأ قدحي وأنساني أحداث الماضي وبقيت في حقبتها التي زخرت بالفن والموسيقى والهوى الذي استنشقته معي مدينتي وهي تحتبس منذ زمن ألامها وأحزانها.. تهجيت أسمها كان لغزاً... ووحيداً يغفو على الرياح والوديان، ولم يطاوعني ألا القليل من الفراشات حين وصفتها بصدى قطرة، بعد عشر دقائق من هيامي بمشيها المبتهج أفترق جانبي الطريق واشتكى الخمر لوعة أشعاري وغابت في إحدى المباني وتحسرت كيف أواري ما رأيت النسيان، أو أغفل عن غابة مطر، وأنا أكثر من أحب المطر . في الصباح التالي لم يكن شيئا في جذعي صامداً سوى ملابسي ولم أثر أي موضوع مع أصدقائي بل كنت هائم على وجهي، أدور في باحات الجامعة، لم أراها في غار ولم تلوح على ظهر مجرة، حتى الظلال حين تتحرك لم تدلني عليها، طوال النهار أتلو لهفتي ولا تهجد ولا أدري إن كانت تراني، ماء السماء نفذ إلى جلدي ... وبلل المطر قلبي الذي استحال إلى غابة استوائية خضراء فيما راح الجمع الحاشد لمشاعري التي تجمهرت في حماسة غير مسبوقة تطلق الصيحات, تهربين إلى أين........؟. وقد هربت مني بيادر الصمت وأينعت براعم الشجاعة بكاملها وسط نفسي كزهرات العباد، وريش الحمائم، أما الشمعدان فكان راهب الضياء الذي يُلاحم حواسي في مخابئ الحلم.................... جزني كي أحيا.... وبالطبع ينبغي أن يكون غنائي عالياً، ولكن لا أريد إن يفتح باب قلبي على مصراعيه وينعكس الضوء في مرايا روحي وتُفضح التمنيات ألاغاني والجداول. كنت أضحك قبل ساعة وها أنا أعود ثانيةً لصمتي المطبق.... لا .... لا أريد إن أعود لقارورة الأصداء واتخاذ مظلة السكوت سبيلاً للاختباء والوهن..... وليتني لا أحتضر عند الكلام، أو حين أحدق وأرى قدميها تشفق على حساباتي أو أبوح بحقيقة حبي ....! دنوت منها وكان فمي يزداد يباساً، كانت تجلس للتو، وفيما راحت ترتب أشياءها بحرية وهدوء، كان شجر الآس والكالبتوس والسدرة قد تزاحموا من أجل الظل، أما النباتات الصغيرة فانتفضت تحت قدميها والتفت حول روحي . نسمات من عطر راحتيها أخذ مكان بين كلماتي والمهاترات ذابت على شرفة لمعان شفتيها الورديتين. قُصف المكان بأشعة الشمس وصار الهواء ذا مذاق طيب ووثقت ثقةً عمياء بنفسي وتبادلنا النظرات كانت عيناي تتكلم وعيناها تلمع كلألأة سطح البحر، رأيت فيهما سفن كثيرة والأشرعة تطوى قبل أوانها والشتاء البارد يسكت في مرسى كشكل كيتار، كان يرتمي على مقعدها أحياناً وأحياناً يركب الغيمات التي تذهب إلى مدن جفنيها كل صباح .... طلبت الجلوس بجانبها ، وانخفض صوتي إلى حد غير مسموع فيما صوتها جرى أنهار. حملقت بوجهي بنظرة خاطفة وترجرجت جفنيها مثل السنونوات وهتفت بصوتها الرفيع... ماذا؟ _............ ولم تضف شيئاً بل تنهدت كمن يحوك ثوب منذ إلف عام. لم يبقى معي شيئاً، أنصرف الجميع ولم أقل أكثر من .... _هل لي إن أجلس......! أجابت بلا تعثر وكسرت حصار الحرج..... _اجلس أرجوك حيث تريد. كان المكان مشبع برائحتها وظننت أني أبحر في الأماني وأنتشل روحي من حشرجان وعذاب، كنت خجول في بادئ الأمر كمن يقدم هدية إلى ملكة من زمن الأساطير. _أتدرين كلما فكرت بالكلام إليك يغمى على صوتي فأعود خائباً ... رقصت عيونها رقصة سريعة ورشيقة مفعمة بالحيوية وقالت عندئذ والرمشان يتقارعان بابتهاج صاخب - وإنا كذلك كنت أفكر بك طويلاً - وأطلقت تنهيدة رحل على أثرها الكثير من الخوف، وجدة الحياة عن عمد تدندن فرح روحي وسط الحريق الذي شب في ثغرها. _هل تعلمين كم مرة جبنت واليوم طفح كيلي ..وكم مرة تحولت فيها أيام الشتاء إلى أيام حارة شديدة القيض. كلما مررتي بين الشجيرات والمباني وأنت تسعين لإثارة عاصفة. _كنت بانتظارك !! منذ بدء الشتاء ينشد البرد القارص، لكن لم يجذبني التنبؤ في الأسباب التي منعتك من المجيء، بقدر ما شدني أنك لابد من إن تأتي. كانت جميلة بل مدهشة... كنجمة الصباح .وأظن أني حينها سببت حرجاً ..قست على يديها واحمر الورد في وجنتيها أكثر وأردفت تقول بصوت غنائي. _توقف....فيما كانت زهرتي تثمر في يدها ....... وتعثرت بصمت زادها بهاءً....كان كل شيء أقوى منا....ارتعشنا ونحن نتعرض لموجة برد قارصة هبت بقسوة ، لم ننبس بكلمة، والشيء الوحيد الذي بقي يتحرك نور وجها الصغير وعنقود محبه كان يتحرك يميناً ويساراً قرب أذنها اليسرى. أتذكر في تلك اللحظة مر أحد الأصدقاء ابتسم بوجهي وقال لا تناموا...ما زال الوقت مبكراً............ ومضى يسترق النظر بفضول. كنا كما لو إننا نتخذ قرار صعب ينجينا كارثة. - أشفقي علي وتكلمي .... قلت ذلك واندفعت كسيول تكلمني وأكلمها بصراحة مطلقة عني.......... أغرقنا طوعاً استغاثات العطش. تحدثنا طويلاً ذلك اليوم ومشينا لساعات نتنزه، كانت بانتظاري ولربما هذا الإحساس هو الذي شجعني أن أقول لها كل شيء. كل ما لدي، ولم أبذل جهداً كبيراً بإقناعها بالحب .كانت العواطف تندفع من كبتِ طويل مر بها ومر بي. بعد فترة من شعوري بالارتياح جررت نفساً عميقاً وقلت لها... - في ذلك الصباح الذي تلاقت فيه عيوننا أول مرة، وضعتِ حدا لوحدتي، كنتِ لحظتها قيثارة ساحرة، وفي البداية خفت وطأة السحر على نفسي، خفت الغيرة والحيرة ...... وإخلاص قلبي. - مستحيل هدئ روعك .... وبدى لي إن صوتها لم يكن عابئاً بما قلت، أما ذاتها فكانت صلبة وقوية وأنزلقت بعيداً غارقة بسكوتً لاذع. استمرت ألابتسامات بيننا عن بعد، ولم يكشف عنها احد، أما الهدايا التي تزفها أيدينا بين ثنايا الفراغات الهادئة. فكانت هدايا من نار تكفل في الليل النوم بعيون نصف مغلقة. وبعد أيام قلائل اضطررنا إلى تغير مراسيم اللقاءات وأعماق السكوت وبناء مصداً للعواصف التي تهب فجأة وتخرب كل شيء. طبعنا أسمينا على مصطبة اللقاء الأول بأناملها الرقيقة، واتخذنا إحدى المكانات وشارع قصير لا ينتهي زقاقاً لأحلام اليقظة وأمواج زاهية الألوان لا تخمد ولا تنعس ترطب ضفاف اللقاءات. كانت تملك عاطفةً متأنقة بلا تصنع وعفوية ندية ساحره لا تنضب. كنت أغازل عينيها الحادتين مراراً ويضيع الوقت سدى، فأندم لليوم الذي مر، ثلاثة أشهر لم نغب سوى يوم الإجازة الدورية، وكنا نستعر في اليوم ألأخر شوقاً. كل الصباحات كانت عابقة بالمشاهد المشبعة بالود والحنين، ولم نضيع دقيقة، ولم نترك هراً يهرب من مزاحنا. وما كنا ندحرج مثل ألآخرين شيئاً ثقيل، بل نسافر في كل جلسة إلى صمتٍ هانئ، وصوت قلبينا غير عابئ بالمارين. كنت أمعن في جبينها المتأهب للقاء الشمس وأقول مثل كل مرة ..... .النظر إليك كالإمعان في جوهرة .................... تشبعت كل الصباحات بالهوى. بهوانا المنزلق على قصاصات أكتبها كل ليلة من تلك ألليال وبصحبة غيمة أو شمس من كل لقاء أضعها في راحتيها بلا أسمي. في الحقيقة لم أحرص على وضع أسمي بل كنت أشعر أني مزارع فقير في حقلها الأخضر طوال المواسم، كنت أحفظ بعض العبارات وأبثها بين حين وأخر... الفقراء لا يكتبون أسمهم في الغالب على الجدران أو الأرض ... الفقراء تغفو عيونهم من التعب ولا يغفر لهم. كنا مفتوحي الشهية نأكل بنهم كبير وهي بجانبي تجلب الشطائر، صغيرات، لذيذات أعضها وتعضني وننشغل بحل لغز الجوع الذي طرأ علينا فجأة. منذ بدأنا نقطن حي العشق المجنون. كنت أعترف لها في كل مرة بحبي والجمود الذي شل كل متعة سوى متعة اللقاء والتفكير بها. يوم بعد يوم تزداد إثارة الحب والأشجار تمسك من خلال أغصانها الشاهقة بالأساطير التي تأتي من كل مدن العالم، وفي كل لقاء نرسم لوحة بحجم الأطلسي، نسكب عليها لون شعرها والمغامرات والأحلام التي لم تعد تنام، وذات يوم بعد مرور ما يقارب الأربعة أشهر مررنا بها على الأساطيل المتوقفة في مرسى التاريخ، على الحوريات البحرية. والتزحلق فوق الثلج والأجسام الطائرة ولم نترك من أبطال ميثولوجيا اليونان شيئاً لم نذكرهُ ولعل أكثرهم ذابوا وماتوا حبا. وبينما كنا متكئين على جدار النسمات وأمامنا نافورة جامدة لا يتدفق فيها الماء نحو الأعلى، تم أنشاؤها قبل حبنا بعامين، وسرعان ما أهُملت وانتهى بريقها. تحدثت إليها بكل جد وقلت لها . _احبكِ....احبكِ ......احبكِ....كان نشيد أحسست ولا أدري لماذا أني احفظهُ وحدي. وعزفت جوقة تنهداتي الحاناً مليئة بالمرارة والحزن في لحظة أنطفأ بها قلبي بالكامل . كانت أسنانها الناصعة البياض كفورة ينابيع، وشفتيها أول ما تثمرهُ شجرة التفاح، حركت أهداب عينيها كأن فكرة غريبة مرت بها أسبغت عليها قليلاً من التوتر...وقالت في حوار دار بيننا حينها، وبعد ان تنفس الصباح شيء غير مألوف في راحة يديها. _من الواضح إني أحبك أكثر. _ لا، ولكنك تعطي الاشياء مسميات كبيرة الحجم جداً. _لي ملء الحق وأنا احب فتاة مثلك، أنت جديرة بالعناوين التي ألصقها بك. لم يكن قلبها يحمل السرور بلقائي مثل كل مرة، تراجعت بضع خطوات، رفعت رأسها صوب المارين ثم قالت.... _آمل إن ينفد الى قرارة نفسينا هذا الحب، وهذه الاحاسيس المفعمة بالود. وأن لا يأتي يوم نفقد فيه كل شيء، ويُغضن النسيان ذاكرتنا، ارجوك لا تكن واثقاً بما سنكون عليه في المستقبل...الحياة تجري كيفما تشاء..... ثم إغمضت عينيها، وحين هبت الرياح الباردة ارتفع صوت الهديل في شعرها، تقربت منها ونفخت بعض الهواء البارد بوجهها، وببطء وبصوت أقلع من أعماقي نحوها هتفت.... _ لا..... أشعر أنك تصارحيني بعدم حبك لي.... المصير قرار منك ومني والطريقة الوحيدة للوثوق بكل شيء بيننا إن نؤمن إن حياتنا باتت واحدة. _ لا أريد إن تعتبرني قصيرة النظر، ولكن أنا أتوقع كل شيء.... وشقت طريقها من خلال ستار أستغرابي وجموع الطلبة وغابت غيبة طويلة منذ ذلك الحين. لم أرى شبحٌ غريب حينها بل عللت أملي بالمعاني التي لا أفهمها وبما تنشره صحف التأملات الهانئة في أماكننا العامة، ولم أصر مثلما فعل عقلي إن الأمور على شفا هاوية. ألا إن أحوالي باتت تتغير، وأصبحت صحتي منوطةٍ برضاها وغضبها مني. وفجأة أصبح كل شيء صعب وأحياناً تصفه بالنزق. كلما رمقتني بنظرة غريبة لم أعتد عليها من قبل. ومنذ عشر ة أيام وأنا لم أتناول معها السدنويشات. صارت تهرب مني وتختفي. وفي كل مرة أمسح عيوني وأفتش خلف الباب المكسور في ذهني لما كل هذا. ....كان رواحي ومجيئي غامراً بالذهول تحت أعين جميع من أعرفهم . ناديتها ذات صباح فعزفت عني بعيداً وكدت أنفجر في هذه المرة، ولكن خرجت من الانفجار مثقل بالآلام وللأسف واهن وضعيف لا أقوى على الحركة بسهولة، وكل ما أمكنني فهمه حين عزفت أحدى فرق السيمفونية ....أنها أحبتك وهي مخطئة ...ستتخلى قريباً عنك. نكس المصير رأسه بيني وبينها، وما عاد يحرص على كبح جماح الظنون الشريرة التي تأتي وتفر، صار من المستحيل إن أقترب منها ونستأنف عادات الحب الجميل، صارت تضجر مني ولا تفتح نافذة ليلها للريح التي تحمل روحي. صارت تتثاءب كثيراً وتنام، أما انا إثناء تلك الليال فعاقداً ذراعي وراء رأسي محطماً كما ألاسير، أجرف الكلمات بحسراتي إلى قاع بلا قرار، ومن كثرة دموعي غمر الإحباط بيادر أملي. كانت فترة التخرج رائعة ومحزنه وبدت ألسنة الفراق اللاهبة تملأ فضاء الكلية...... سيذهب الجميع ويفترق كلاً إلى ضفة حياة قد لا تراه ثانيةً وللأبد. وبالتأكيد كنت أخشى إن لا أراها ثانيتاً لاسيما وقد شارف كل شيء على التبدد، أبدية الحب، المصير والحياة، الكيتار العازف بلا انتهاء. مرت ألأيام وهي تنحدر أكثر وأكثر على بلاط الحزن، ووحدي كنت في ذلك الانحدار، الشوارع تعطس بوجهي خيبة ظني، وحلم تلو حلم يتلاشى وهو يتهاوى من أعلى شرفة تطل على خريف ودع العصافير مبكراً، لم أصل كالمعتاد إلى محطة وأنتظر ولم ألاقي أحداً على جرف شكواي، الجميع أصدقائي وصديقاتي يعدون ويرتبون شؤونهم، بعضهم قرر الزواج وبنوا في النجمة البعيدة بيت. بعضهم ابقوا على حب تحميه الإسرار واشترطوا في كل صيف يسافرون بلا جوازات ولا سفر. أما إنا مازلت أقف كل صباح على خشبة مسرحي اطل بها على جميع من يمروا ببطء وبسرعة . كان المفروض أن نتقابل في هذا اليوم تركت لها موعد عند أحدى صديقاتها المقربات لا أتذكر التاريخ جيداً 6/18/ ..... 19...... حينها لم أترك إي قافلةٍ تمر دون إن أفتش وجوه راكبيها، كنت إنا الدليل لكل من يسأل وكنت إنا الغريب واعتى التائهين ، جلست عند كل السلالم ومر الوقت مسرعاً كأجنحة طيور تفر من شبكة خوف. تثاءب الجو البارد. كنت ابتسم بمرارة وأتحدث لمن يحدثني كمن يتدرب على الكلام بلغة أخرى. كان القلق يتسلى بشكلٍ بالغ في مسرحي ولكن روحي كانت على أهبة الاستعداد للقاء أي مفاجأة. ملتُ بعيوني مثل آلة تصوير تطال كل شيء وزوم شكي في انتظار إن يرى ما لا أتمناه. الغريب في ذلك اليوم مر شاب فتشته بدقة وركزت بإمعان كان في صميم أعماقي كما لو أني انظر إلى نفسي، يشبهني بكل شي، المشي، حركة اليدان، الالتفاتة السريعة وتسريحة شعره ، نفس القوام، وخطاه واسعة وقلقة .......حينها منعني من التحرك وبقيت حيث أنا مذهول أرمق حركاته. جلس على مصطبة تقلصت شيئاً فشيئاً وصارت تتسع لأثنين. كانت نفس المصطبة التي كتبنا عليها اسمينا. كان الجو عدواني ذلك اليوم، هبوب رياح قوية مغبرة وبرد جاف يشعرك بالاعتلال. أخرج الشاب الذي كان إلى حداً ما إنا علبة السجائر وسحب واحدة وقام بتدخينها بثقةٍ مفرطة، وبينما بدء الطلبة يخرجون من المباني، وكان كل شيء محتمل بالنسبة لي إن تذهب إلى البيت دون إن تمر بي وربما ستكون الأمور أشد إيلاما في الأيام القادمة إذا أكثرت من عبثها وعدم المبالاة لي..... كان يغمرني بين لحظة وأخرى صمت يقلل من عدد نبضات قلبي، يتبعها صراخ كلما مر الوقت بلوعة ..أين هي.....؟ أمعنت النظر في مصطبتي مازال ذلك الشاب جالساً يطالع ساعته بين الحين والأخر ويلتفت يميناً ويساراً . غابت الضياء وتعفر كبريائها بالسحب الكثيفة وقل عدد المارين . كنت أعتقد أنها ذهبت للبيت وكانت إهانة موجهة لي ولإنتظاري الطويل، سمرت عيوني رغم يأسي في الدرب الذي تمر منه، وبالمصطبة وصاحبي الذي يشبهني،تنهدت .... أين، ولماذا، يال خيبتي، كيف يمكنني إن أتحمل كل هذا. وعلى غير المعهود منها إن تبقى إلى هذا الوقت في الجامعة جاءت من رحلتها البعيدة ، تمشي مسرعة تخلف من خطواتها وهاداً عدة، وتمسك بإحدى يديها مظلة ذات لون أحمر مطرزة بوردة بيضاء كبيرة تتطاير من أطرافها قطرات المطر. لم تلتفت صوبي وكانت مشغولة بالإكليل الذي تحمله في اليد الأخرى كانت كمن يبحر من مرافئ متعددة وتطوف بحثاً عن كنزِ مجهول. أخيرا توقفت عند المصطبة وألقت بابتسامة غائرة ومدت يدها تصافح ذلك الشاب، فسح لها المكان وجلست بكل هدوء فرحة، داعبت الإكليل ووضعته في حجرة وابتسما سويتاً، كانت همساتهما لا تتوقف ويداهما يمزجان الخمر بالماء. لم أكن أعرف ما الذي علي فعله. نزلت من سلالم عدة ولم أنتهي إلى قرار وناديت جميع من يفكرون معي، لم أجد حلاً. كانت الساعة تقترب من أخر العمر، فيما كان هو يمسك بها من كل مكان، لم يكن بمقدوري إن أمتنع من مواجهة الموقف واندفعت بلهاث خائف محاولاً أقناع نفسي أن الأمر برمته حلم، وقفت أمامهما كما لو أني متهم. أما هي فكانت غصن طري ذاب بيديه. وتبادر إلى ذهني إن أستخف بالأمر وأبدي رغبة بالضحك الساخر، غير عابئ بما يجري. كل شيء جال بخاطري حينها إن أفر بعيداً أو أرقص بجنون، إن أبكي وأشكو جُرحي. قال لي الشاب الذي يناسخني بكل شيء. _ أجلس أرجوك ...أجلس كي تفهم ألآمر... أصغيت كما لو أني استمع لموعظة قس.... فيما هي صامته والوعود ترتطم بجذوع الأشجار وبعض الجروح جرت جداول في أعماقي. عرفت أنها تحب هذا الشبيه منذ سنين، وفوجئت بنوع علاقتهما الرصينة، كانا جاران يطلان على بعضيهما كل صباح ومساء، تقدم لأكثر من مرةً لخطبتها ورفض أهلها واضطرا لغلق نافذتيهما بسبب المنع الذي فُرض من أهليهما، تباعدا واشترط عليها إن لا تراه ، وفي الحياة إن لا ترى من تحب أمرٍ بالغ الصعوبة، تعشقه بجنون ويعشقها ، ومنذ فترة طويلة وهما بعيدان ومتفقان على البعد. الخلاصة......، أنها أحبتني للتماثل الذي بيننا، لكل شيء كان لي ومعي احمله كان يملكه هو، كانت ترى فيَّ حبيبها البعيد والقريب، ياله من مشهد مريع إن أكون مجرد هو في عينها، التهبت حنجرتي بالصمت والحزن والاختناق. عاد هو وعلي الرحيل. تاجه صار أثقل من تاجي الذي هوى في الخواء. لا أذكر كم بقيت مذهولاً ولكن في الأخير دعوتهما للذهاب إلى كافتيريا أحبه كثيراً، قبلا مني الدعوة، خرجنا سويتاً وجلسنا معاً، كانت حركات وسكنات وجهيهما جميلة ورائعة، وتدل على حب جميل وطويل.... بقيت أمعن في خيوط التنهدات، في ذلك الحب ونسيت حبي، ضحكنا معاً، وكنت حينها أكثر من ضحك.
#فريد_الحبوب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
اثار الأحلام الرطبة
-
رعد وبرق
-
المهدي هادي بوعزيزي
-
عضة خيانة
-
حياة قصيرة جداً
-
الريف والمدينة قريتان ليس ألا....
-
نصوص توشك إن تنام
-
جحافل جيش المهدي تنادي جيش عمر
-
حب لليله واحده
-
حب لليلة واحدة
-
نحن والساسة كاذبون
-
الكافرون ملائكة التسامح والحياة
-
الذكريات المملحة بالإسرار
-
من أجل حفنة من الدنانير
-
نازك العابد.....نازك الملائكة
-
حكاية مروان... عزائي إن لا شيء ثابت
-
أحمد المهنا :ينتقد الاسلام السياسي
-
مظاهرة تحت المطر ورائحة الطين
-
الكتاب الثقافي يتخطى الكتاب الديني
-
وزارة الزيارة
المزيد.....
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
-
معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا
...
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
-
مايكروسوفت تطلق تطبيقا جديدا للترجمة الفورية
-
مصر.. اقتحام مكتب المخرج الشهير خالد يوسف ومطالبته بفيلم عن
...
-
محامي -الطلياني- يؤكد القبض عليه في مصر بسبب أفلام إباحية
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|