|
مراجعات فلسفية في مفهوم الحقيقة (2)
مجدي عزالدين حسن
الحوار المتمدن-العدد: 3638 - 2012 / 2 / 14 - 22:53
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
3/ ما الحقيقة؟ إن تاريخ مفهوم (الحقيقة) يشهد على أن محاولة إعطاء تعريف جامع مانع لمفهوم (الحقيقة) أمر غاية في الصعوبة. إلا أننا بشكل عام يمكننا أن نميز بين مفهومين لها: المفهوم التقليدي للحقيقة والمفهوم الحديث للحقيقة. 3-1 مفهوم الحقيقة في الخطاب الفلسفي التقليدي: نظرية التطابق نظرية التطابق تمثل التصور القديم الذي قام عليه مفهوم (الحقيقة) في الفكر الفلسفي التقليدي منذ فلاسفة اليونان، إلى أن جاء "نيتشه"Nietzsche وقام برجه وزعزعته وسحب الثقة من مسلماته وبداهاته التي قام عليها. حيث كانت " النظرة التقليدية تنظر إلى الحقيقة بوصفها اتفاقاً بين المضمون الذاتي (سواء أكان حكماً أو فكرة) وبين الواقعة الموجودة في العالم والتي (تمثلها) الفكرة أو الحكم" وبالتالي فإن التصور الفلسفي التقليدي ينظر للحقيقة بوصفها تطابق الذات والموضوع، هنا الحقيقة تُفهم من خلال مقولة التطابق:" التطابق على مستوى أول بين اللفظ والمعنى، أو بين الكلام والرؤية، أو بين القول والماهية، أو بين الخطاب والحقيقة، أي بين الدال والمدلول، والتطابق على مستوى ثانٍ بين التصور والكائن، أو بين النظرية والواقع، أو بين التفسير والحدث، أو بين القراءة والنص، أي بين الماهية والوجود. وهذا هو المفهوم التقليدي الذي نهض عليه خطاب الحقيقة منذ أرسطو حتى نيتشه الذي شكك ببداهته وعمل على زعزعته" سنناقش مفهوم (الحقيقة) وارتباطه ب(نظرية التطابق) من خلال تصورين: سنأخذ للأول نموذجاً: المنظور التحليلي اللغوي وبخاصة في النظرية التصويرية للواقع عند "فتجنشتين"، في المقابل سنأخذ للتصور الثاني نموذجاً من علم اللغة الحديث واللسانيات ممثلاً في النظرية اللغوية الحديثة وتحديداً عند "فرديناند دي سوسير". 3-1-1التحليلية اللغوية: النظرية التصويرية للواقع: الحقيقة كتصوير للواقع الخارجي ظهرت النظرية التصويرية للواقع في بدايات القرن العشرين – والذي عُرف بعصر التحليل-على يد "فتجنشتين"Wittgenstein، واستفادت منها الوضعية المنطقيةLogical Positivism فيما بعد. وقد ارتبطت هذه النظرية بدعوة "فتجنشتين" إلى تبني لغة منطقية مثالية لمعالجة مشكلات الفلسفة. والمثالية هنا ليس المقصود بها الفهم الفلسفي للكلمة، بل هي اتجاه تجريبي مفرط في التجريبية ويعتبر قمة التطور للفكر التجريبي. وهو اتجاه يرى أن اللغة العادية، لغة الإدراك الشائع common sense أو لغة رجل الشارع العادي، لغة الحياة اليومية، لا تصلح كوسيط اتصال أمين وقوي لنقل المعرفة والحقيقة، لأنهم يرون أن اللغة العاديةOrdinary Language مليئة بالخلط والغموض واللبس وعدم التحديد، وذلك يؤثر في يقينية الحقيقة وصدقيتها بالتأكيد، وتظهر كنتيجة له المشكلات الزائفة مثل (مفهوم العدم) حيث نجد كثيراً من الفلاسفة أقاموا على أساس هذا المفهوم مجموعة أنساق مفاهيمية وأعطوا له كينونة وجودية بالمعنى المعطى لكلمة وجود. والفلاسفة من خلال الاستخدام المغلوط أعطوا (مفهوم العدم) وجوداً وبنوا عليه أنساقاً فكرية، ولم يعوا حقيقة أنه مجرد مردود لغوي فقط لكلمة وجود لأنني لا أستطيع أن أقول هذا عدم (وقس على ذلك الكثير من المشكلات). ولذا ففي ظل هذا السياق يمكن تفهم دعوة "فتجنشتين" في (الرسالة) إلى ضرورة تأسيس لغة مضبوطة ودقيقة تكون لها نفس درجة الدقة والإتقان والضبط الموجودة في الرياضيات. ففي الرياضيات هناك الدالة واحد لواحد، حيث نجد أن كل عنصر في المجال لابد أن يرتبط بعنصر واحد في المجال المصاحب. كذلك هو الأمر على مستوى النظرية التصويرية للواقع، فالمجال هو العالم الخارجي والمجال المصاحب هو اللغة. وبالتالي اللغة في مقابل العالم الخارجي، القضية اللغوية في مقابل الواقعة الخارجية، اللفظ/الكلمة في مقابل الشيء. إذن تركيب اللغة في مقابل تركيب العالم. سيراً على هذا النهج، وفيما يخص علاقة اللغة بالعالم الخارجي، فقد ارتأت النظرية التصويرية للواقع أن تكون العلامة اللغوية وضعية، وأن يكون لها مقابل مادي ملموس في العالم، وهذا المقابل المادي هو الفيصل للحكم على صدق القضية أو كذبها. فقضية مثل (الله موجود, الطاولة موجودة): من خلال التجربة القائمة على المشاهدة والملاحظة يمكن أن أحدد هل هناك طاولة موجودة في الحجرة أم لا؟ ويمكن استدعاء أي عدد من الناس لمشاهدة هذه الواقعة, وبالتالي القضية: (الله موجود) والقضية: (الله غير موجود)، تصبح قضايا خالية من المعنى، لأنها لا تقبل التحقيق ولا نستطيع التعامل معها بالوسائط الحسية ولا تقبل الإجراء الحسي. وبالتالي نجد أن طبيعة المشكلات الزائفة لا تقبل الحسم الموضوعي. إذ لابد أن تكون كل علامة لغوية مستخدمة تقبل التحقيق وتشير إلي واقع مادي موجود في الواقع الخارجي. وأما فيما يخص ناحية التركيب والبناء داخل نظام اللغة: فينبغي أن تأخذ العلاقة بين العلامات نفس علاقة العلامات في الرياضيات (قوائم الصدق والكذب)، وأن يتم تركيب جملة أو قضية مع جمل أو قضايا أخرى برابطة ذات دلالة منطقية. وبالتالي يصبح النظام اللغوي الذي دعا إليه "فتجنشتين" من ناحية التداول: نظام واحد أمام الواقعReality وأمام المنطق. نظام واحد يسري على جميع البشر وتصبح الكرة الأرضية واحدة تفكر بطريقة واحدة وتتوصل إلى حقيقة واحدة. نجد في ( Tractatus logico-philosophicusرسالة منطقية فلسفية) ـ المؤلف الأكثر شهرة ل"فتجنشتين" ـ فكرته عن الذرية المنطقية، ونظريته التصويرية للغة، وفكرته عن طبيعة المعنى. وهي تمثل أفكاره الفلسفية الأولى التي اعتقد في وقت كتابته "للرسالة" أنه قد توصل بها إلى حل جميع مشكلات الفلسفة. وكتب في مقدمة "الرسالة": " تبدو لي حقيقة الأفكار الواردة هنا جازمة ومقطوع بصحتها. ولذا فإنني أعتقد أني قد وجدت الحل الجذري والنهائي لكل المشكلات الأساسية (في الفلسفة)" . ومن ضمنها بالطبع مشكلة الحقيقة! وهو هنا يعكس لنا بطريقة غير مباشرة مفهومه لحقيقة قاطعة جازمة لا تقبل الشك في صدقيتها! ونلاحظ بهذا الصدد أن المشكلة الرئيسية التي تدور حولها أفكار "فتجنشتين" بصفة عامة، هي أن حدود الحقيقة مرتبطة بحدود اللغة، وحدود اللغة عنده مقيدة بدائرة الإجراء الحسي والتجريبي. فيجب علينا معرفة حدود اللغة حتى لا نتكلم فيما لا يمكن الكلام فيه، أي أن لا نقول إلا ما يمكن أن يقال، وما يمكن أن يقال مرتبط بالوقائع الموجودة فعلا على مستوى الواقع الخارجي. وبالتالي فإن حدود مفهوم الحقيقة لديه مرتبط بحدود اللغة أي بحدود ما يمكننا قوله والتعبير عنه بوضوح، وهو الأمر الذي يؤكده بقوله: " الفكرة الأساسية التي تدور حولها الرسالة، يمكن تلخيصها بالقول: إن الذي نستطيع قوله على الإطلاق نستطيع قوله بكل وضوح، وما لا نستطيع قوله بوضوح يجب أن نلتزم تجاهه الصمت." ولما كان ما يمكن قوله هي قضايا العلم التجريبي- التي تتكلم عن الواقع الخارجي- كانت قضايا الفلسفة والميتافيزيقا والشعر والفن ..الخ خالية من المعنى. ولذلك يخبرنا أن ما لا يستطيع الإنسان أن يتحدث عنه فينبغي له أن يصمت إزاءه. ولكي نعرف كيف توصل "فتجنشتين" إلى النتائج أعلاه، فلابد من التطرق لتحليله للعالم وتحليله للغة ولنظريته التصويرية للواقع، حتى يكون بإمكاننا فهم مفهوم الحقيقة كما فهمه "فتجنشتين". ولنبدأ بتحليله للعالم: فالعالم مؤلف من مجموع الوقائع, The world is the totality of facts. ونحن لا نستطيع أن نتعامل مع شيء أو نفهمه بمعزل عن علاقة هذا الشيء بغيره من الأشياء, وبالتالي التعامل مع الشيء في إطار علاقة ما يعني أننا في وسعنا أن نقدم تعريفاً لذاك الشيء. ويترتب على ذلك أنه ليس في وسعنا التعامل معرفياً مع شيء إلا إذا أدخلناه بالضرورة في علاقة بشيء ما، وهذه العلاقة يسميها "فتجنشتين" الواقع Fact. إذن العالم هو مجموعة وقائع باعتبار أن الواقعة هي علاقة الأشياء ببعضها. وهو يقسم الوقائع إلى مركبة وذرية. الواقعة الذرية هي علاقة تجمع بين شيئين فقط، وهو أدنى حد من تأليف الوقائع، في حين أن الواقعة المركبة هي علاقة بين أكثر من شيئين. إذن العالم عنده مؤلف من أشياء تدخل مع بعضها البعض في مجموعة علاقات مشكلة بذلك وقائع. ليصبح بذلك العالم مجموعة وقائع، تنحل بدورها إلى وقائع ذرية تتكون من أشياء أو من بسائط منطقية. يجب فهم تحليل العالم عند "فتجنشتين" إي القول بانحلاله في المحصلة النهائية للتحليل إلى ووقائع، من أجل أن يقابلها بتحليل اللغة وانحلالها بدورها إلى وحدات أولية ممثلة في القضايا، لكي تقابل الوحدات الأولية التي ينحل إليها العالم، بحيث يتوقف صدق أو كذب الوحدات الأولية للغة- وهي القضايا الأولية- على وجود أو عدم وجود هذه الوحدات الأولية التي ينحل إليها العالم - أي الوقائع الذرية- وعلى ذلك كان تحليل "فتجنشتين" على هذا النحو تبريراً لتحليله للغة إلى مجموعة من القضايا الأولية. هكذا نصل إلى أن تركيب اللغة يوازي تركيب العالم، بمعنى أن اللغة تنحل إلى مجموعة من القضايا الأولية أو الذرية. ونحن واجدون بذلك مقابلة ما بين اللغة من جهة والعالم من جهة أخرى. فالكلمة أو اللفظ في مقابل الشيء، والقضية اللغوية في مقابل الواقعة الخارجية. والقضية عنده " لا تحتوي في الحقيقة على معناها لكنها تحتوي على إمكانية التعبير عنه، ( محتوى القضية المقصود به محتوى القضية التي تحمل معنى) فالقضية تحتوي على الشكل ولا تحتوي على مضمون معناها" بمعنى أن كل ما تحتوي عليه القضية هو قدرتها على التعبير عن الواقعة الخارجية، وهذه الأخيرة هي التي يرتبط بها المعنى والحقيقة. وهو الأمر الذي يؤكده "فتجنشتين" بصورة صريحة بقوله: " الوقائع وحدها هي التي تعبّر عن المعنى، أما مجموعة أسماء أو كلمات فلا تستطيع ذلك" و القضية قوامها كون عناصرها –أي كلماتها– مترابطة فيها بطريقة معينة، فليست القضية خليطا من الكلمات، بل القضية ما يفصح عن شيء. والوقائع وحدها هي التي تدل على معنى، أما المجموعة المفككة من أسماء فلا تدل على شيء. وعلامة القضية تتكون من عناصر يسميها "فتجنشتين" بالعلامات البسيطة، وهي ما يدعوه بالأسماء (الألفاظ). واللفظ يدل على شيء (أ هي نفس العلامة التي نشير بها إلى أ). إن النظرية التصويرية للواقع تريد أن تقول لنا أن الطريقة التي تتشكل بها العلامات البسيطة بحيث تتكون منها علامة القضية، تقابلها طريقة تشكل الأشياء في الحالة الواقعة في الخارج. وأن الاسم الوارد في القضية يمثل الشيء، وأن كل ما تستطيعه القضية هو أن تقول كيف يكون الشيء، لا ماهيته. إن ألفاظ القضية هي فكرة ما حين نطبقها ونحلل مضمونها، والفكر هو القضية التي تحمل معنى، واللغة هي مجموع القضايا، واللغة الجارية هي جزء من الكيان العضوي الإنساني، كما أنها لا تقل تعقيداً عنه، ومن هذه اللغة الجارية يستحيل على الإنسان أن يصل إلى منطق اللغة مباشرة. اللغة، إذن، تنحل إلى مجموعة من القضايا الأولية أو الذرية التي يتوقف صدقها أو كذبها على مدى مطابقتها للوقائع الذرية الموجودة في الخارج. إن الصورة المنطقية الظاهرة للقضية، ليس من الضروري أن تكون هي صورتها الحقيقية. إن القضية رسم (صورة) للوجود الخارجي، هي نموذج للوجود الخارجي على النحو الذي نعتقد أنه عليه، وبالتالي فإننا نستطيع التعبير عن معنى هذا الوجود الخارجي من خلال القضية فهي التي تظهر معناه. إن القضية تظهر لنا كيف توجد الأشياء، إذا كانت صادقة، كما تخبرنا بأن الأشياء موجودة على هذا النحو. فالقضية –إذن- تقيم عالماً مستعينة في ذلك بإطار منطقي, وإذا أردنا فهم معنى قضية ما, فذلك يعني أن نعرف ما هنالك إذا كانت صادقة, ولذا لا يمكننا أن نفهم القضية بدون أن نعرف ما إذا كانت صادقة أم لا. كيف نفهم القضية؟ إذا فهمنا الأجزاء التي تتكون منها. وإذا أردنا فهم معاني العلامات البسيطة(الألفاظ) فلا بد من شرحها لنا, والقضية في وسعها أن تنقل إلينا معنى جديداً بواسطة ألفاظ قديمة. إن القضية تنقل إلينا أمراً من أمور الواقع ولذا لابد لها من أن تكون على صلة جوهرية بذلك الأمر, وما تلك الصلة إلا كون هذه القضية رسماً منطقياً لهذا الأمر من أمور الواقع. إن كل اسم (لفظ) واحد يقابله شيء واحد, والاسم الآخر يقابله شي آخر, ثم ترتبط هذه الأسماء بعضها ببعض بحيث يجئ الكل بمثابة رسم واحد حي يمثل الواقعة الذرية. إن إمكان القضية إنما يقوم على مبدأ تمثيل الأشياء بواسطة الألفاظ. وخلاصة ما سبق، أن العالم يتكون من مجموع الوقائع التي تكونه, نعبر عنها في قضايا (مضامين جملة مفيدة)، ومضمون الجملة واحد في جميع اللغات بالرغم من الترجمة. إن الجملة هي الشكل اللغوي وليست موضوع بحث فلسفة اللغة، موضوع فلسفة اللغة، القضايا –مضامين الجمل– كذلك اللغة مؤلفة من قضايا ذرية وقضايا مركبة. القضية الذرية بين متغيرين والمركبة علاقة بين أكثر من متغيرين، ونلاحظ أن أهم مبحث في المنطق الرمزي هو مبحث القضايا-منطق دلالات الصدق يتعامل مع العلاقات للقضايا الذرية- المنطق الرمزي حاول أن يضع قائمة صدق لتحقق أو عدم تحقق القضايا الذرية ويمكننا أن نضع بدل المتغيرات مقابلاً لغوياً. والقضية المركبة يفترض فيها أن تصف الواقع. والعالم في نظر "فتجنشتين" لا يقبل التناقض ويقبل التضاد. وإذا كان تركيب المنطق الذي من خلاله أصف الواقع يقبل التناقض فإذن هو لا يصف الواقع. وتأتي المشكلة في الوسيط الذي من خلاله أصف الواقع، وهو اللغة التي تستخدم الصورة المنطقية في وضع مجموعة دلالات أصف بها الواقع. وظيفة اللغة إذن هي تصوير أو وصف صادق ودقيق وأمين للحقيقة وبالتالي للعلاقات الموجودة في العالم (العلاقات الذرية والمركبة). و"فتجنشتين" يقول أن العالم هو مجموعة وقائع لا أشياء، وجوهر الشيء يكون مكوناً ممكناً لواقعة ذرية ما، ومفهوم الواقعة ليس فقط العلاقات بين الأشياء بالطريقة التي نراها بها ولكن أيضاً ما يمكن تخيله من علاقات، هذا أيضا يدخل في إطار العالم وفي إطار المعرفة و"فتجنشتين" يسمي هذه العملية بالرسم، وعلاقة الإنسان مع هذا العالم هي علاقة رسم مستمر. إذن، مع النظرية التصويرية للواقع نجد أن اللغة تتكون من مجموعة من القضايا. والقضية بدورها تتكون من مجموعة من الألفاظ التي تدخل مع بعضها البعض في علاقة لتنتج لنا معنى القضية، التي يتوقف صدقها على مدى مطابقتها للواقعة الخارجية التي تُخبر عنها. فإذا مثلت الواقعة كما هي تكون بالتالي قضية صادقة، أما إذا لم تعبّر عن الواقعة الخارجية كما هي عندئذ تكون قضية كاذبة. وبالتالي فإن " الفيلسوف التحليلي، يهتم بالبناء الداخلي للغة، أو بتركيبها المنطقي، وهو يهتم أيضا بالطريقة التي ترتبط بها اللغة بالعالم، وكيف "تدل" الكلمات وإلى ماذا "تشير"، وكيف يمكن أن يكون للقضايا معنى، وما هي شروط صدقها." هنا، تصير اللغة صورة تعكس الواقع بحيث يمكن أن نحكم عليها بالصدق إذا كان كل جزء من أجزاء هذه الصورة يطابق الواقع الذي "تمثله" هذه الصورة. هناك جانب آخر في مفهوم الحقيقة لديه يتمثل كما أسلفنا في مقولته الشهيرة: (ما لا يستطيع الإنسان أن يبحث عنه ينبغي أن يصمت عنه) وهو ما لا يقبل أن يكون موضوعاً في الرسم الذهني كواقعة يمكن أن تكون موجودة الآن أو يمكن أن تكون موجودة في المستقبل. فمثلا إذا قلت الله موجود، تدخله في دائرة شروط معينة، وإذا قلت إنه غير موجود كفرت، الحل في نظر "فتجنشتين" هو أن تصمت. وبالتالي نجده قد حكم بشكل قاسي على كل خيال الشعراء والفنانين باعتباره لا يدخل في إطار البحث المعرفي وحجته في ذلك عدم إمكانية نقله إلى الغير في صورة دقيقة ومضبوطة: ولذلك فأبيات كأبيات الشاعر هاشم صديق الواردة أدناه هي من منظور النظرية التصويرية للواقع خلو من كل معنى وحقيقة! ضحكِك شرح قلب السماء لوّن سحاب كل الفضاء هزّ وتر الأزمنة رطّب الصحراء ولمس عصب الجبل فكيف يمكن للسماء أن يكون لها (قلب) حتى (ينشرح) بضحكة فتاة؟! كيف نفهم أن ضحكة هي التي أدت إلى اصطباغ السحاب بلونها المألوف؟ كيف يكون للأزمنة (وتر) حتى (يهتز)؟! وقس على هذا المنوال مفردات (رطّب) و(لمس) و(عصب). فهذا الشاعر من وجهة نظر النظرية التصويرية قد تخطى مرحلة الرسم الذي يمكن أن ينقل إلى الآخرين بكل شفافية ودقة وموضوعية، وذلك راجع إلى أن مفهوم المعنى والدلالة والحقيقة عند "فتجنشتين" مرتبط بما يشير إليه في الواقع أو ما يمكن أن يشير إليه في الواقع. إذن المعنى والدلالة شيء واحد، والقضية الكاذبة تحمل معنى ولكنها كاذبة، الشيء الذي لا يقبل التحقق لا يمكن أن نحكم بصدقه ولا بكذبه (أين هو؟ كيف هو؟ ماهو شكله؟ ماذا يماثل؟) إن القضايا الفارغة من المعنى لا تمثل قضايا معرفية ولا علمية ولا تمثل معرفة يمكن نقلها للآخر. بالتالي حسب النظرية التصويرية فإن معظم القضايا والأسئلة التي كتبت عن أمور فلسفية ليست كاذبة، بل هي خالية من المعنى فلسنا نستطيع أن نجيب عن أسئلة من هذا القبيل: ما الروح؟ ما النفس؟ ما الله؟ ما الشيطان؟ ومثل هذه القضايا والأسئلة، تنشأ من حقيقة كوننا لا نفهم منطق لغتنا، والأسئلة السابقة هي من نفس نوع هل الحق هو الجميل أم لا ؟ إذن أعمق المشكلات ليست في حقيقتها مشكلات على الإطلاق. وبهذا المعنى فان الحقيقة كلها من خلال هذا المنظور هي عبارة عن "نقد للغة". ونجد أن الوضعية المنطقية قد سارت في نفس الدرب الذي سار عليه فتجنشتين ف" لقد ذهب الوضعيون المناطقة،...، فنظروا إلى قضايا الميتافيزيقا التي تصاغ في عبارات تنطوي على كلمات من قبيل: العدم، والماهية، والجوهر..، على أنها لغو بلا معنى. فمثل هذه العبارات لا تقول شيئا عن الواقع يمكن التحقق منه عن طريق المشاهدة أو التجربة، كما أنها لا تقول لنا شيئا يمكن التحقق منه عن طريق المنطق. فالتحليل المنطقي للغة عندهم يظهر لنا أن القضايا ذات المعنى التي يمكن التحقق من صدقها أو كذبها عن طريق الرجوع إلى الواقع (ونموذجها قضايا العلوم الطبيعية)، أو تكون قضايا تحليلية نتحقق من صدقها أو كذبها بمراجعة اتساقها صوريا أو منطقيا (ونموذجها قضايا المنطق والرياضيات)" زعم "فتجنشتين" أنه بطرحه هذا قد عالج مشكلة الحقيقة، ورأى أن الذي دعا إلى إثارة هذه المشكلة هو أن منطق لغتنا منطق يُساء استخدامه كما يُساء فهمه. إن ما يمكن قوله على الإطلاق، يمكن قوله بوضوح، وأما ما لا نستطيع أن نتحدث عنه، فلابد أن نصمت عنه. ويرى "فتجنشتين" أننا إذا أردنا أن نحل مشكلة الحقيقة بشكل نهائي فلابد لنا من أن نقيم لغة مثالية لابد أن نضع معياراً لما له معنى، باعتبار أن اللغة لا يمكن أن تكون مسألة ذاتية بل ينظر إليها باعتبارها وسيطاً اتصاليا يمكن إذا استخدمناه الاستخدام الصحيح أن يوصلنا إلى حقيقة الواقع الخارجي. وبالتالي التجارب الذاتية (الشعراء والصوفية..الخ.) تصف قضايا غير موجودة ولا تخضع لقوانين الهندسة وبالتالي لا تحمل معنى ولا حقيقة وليست لها أية دلالة. واضح أنها نظرية تضيق بالوجود الإنساني وهي في مجمل أفكارها بنيت وفق التصور التقليدي للفيزياء، وأسست على المفهوم التقليدي للحقيقة باعتبارها مطابقة ما بين اللغة من جهة والواقع من جهة أخرى. وهذا هو السبب في انتهائها في الراهن المعاصر. و"فتجنشتين" نفسه هو أول شخص ثار عليها لأنها نظرية تحد من فعالية الإنسان (المحصور في قوانين الهندسة والرياضيات والمنطق)، والعقل الإنساني أصبح معه مجرد وسيط سلبي لنقل الصورة، ولذلك فإن النظرية التصويرية للواقع لم تعطي مساحة لقدرات العقل الإنساني. والعالم نفسه كما صوره لنا "فتجنشتين": العالم ليس 1+1=2، لأن هناك أشياء كثيرة تؤثر في حياة الشعوب: الخرافة، الدين، الميثولوجيا، الشعر، الأفكار الميتافيزيقية، وقد ثبت أن هذه الأفكار أثرت ولا زالت تؤثر في حياة الشعوب ومصائرها. واضح جداً، أن العقل الإنساني لا يقبل البرمجة على طريقة منطقية لغوية واحدة، كما أن البنية النفسية للإنسان لا تقبل ذلك، وعلى ذلك فقد تخلى "فتجنشتين" عن طرحه السابق (رسالة منطقية فلسفية) والذي كان يعتبر إنجيل الفكر الحديث. وأعاد النظر في ذلك في مؤلفاته المتأخرة (ومن خلال طرحه لنظرية ألعاب اللغة) التي ما زال تأثيرها نافذا حتى الآن. حيث أن مع نظرية ألعاب اللغة لم يعد المعنى وبالتالي الحقيقة محددان بالطريقة التصويرية التي عرفناه مع (الرسالة) بمعنى أن اللفظ لم يعد له معنى واحد بل يمكن أن يكون له أكثر من معنى حسب السياق الذي يرد فيه. ولم يعد المعنى مرتبط بالوقائع الخارجية وإنما صار مرتبط بحسب طريقة استخدامه في السياق الذي يرد به. وبالتالي فقد تغيرت نظرية الحقيقة والصدق كما كانت عليه في الرسالة، ولم تعد الحقيقة مرتبطة بالإشارة أو المطابقة أو الرسم والتصوير للواقعة، بل صارت هنا مرتبطة بالسياقية وبالاصطلاح والتواضع وإن كانت لم تخرج هي أيضا من (المطابقة) حيث نجد مفهوم الحقيقة يقوم على التطابق مع الاستخدام اللغوي أي بين صور اللغة وصور الحياة. والشيء الجدير بالذكر هنا يتمثل في أن النظرية التصويرية للواقع قائمة على مسلمة ثنائية الداخل والخارج، الداخل الذي تمثله اللغة في مقابل الخارج المتمثل في الواقع الخارجي. وفي ظل هذا السياق نفهم أن مفهوم الحقيقة يتحقق من خلال (مطابقة) الداخل اللغوي مع الخارج الواقعي. وبالتالي فإن الحقيقة مرتبطة بالخارج وما علينا سوى ضبط الداخل اللغوي حتى نستطيع التوصل لها، حيث يصبح الخارج هو معيار التحقق لها وهو مبدأ الصلاحية والصدقية بالنسبة للداخل اللغوي. وهو الأمر الذي تغير مع اللسانيات وعلم اللغة الحديث ابتداءً من الثورة التي أحدثها "دي سوسير" مؤسس علم اللغة الحديث. فما هي النقلة النوعية التي أحدثها "دي سوسير" خاصة فيما يتعلق بمفهوم الحقيقة؟
#مجدي_عزالدين_حسن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مراجعات فلسفية في مفهوم الحقيقة (1)
-
العقل الإسلامي المعاصر: إلى أين؟
-
في نظرية المعرفة: خلاصة ونتائج
-
في نظرية المعرفة (6)
-
في نظرية المعرفة (5)
-
في نظرية المعرفة (4)
-
في نظرية المعرفة (3)
-
في نظرية المعرفة (2)
-
في نظرية المعرفة (1)
-
الثورة وثقافة الديمقراطية في الفقه السياسي الإسلامي: جدلية ا
...
-
الثورة وثقافة الديمقراطية في الفقه السياسي الإسلامي: جدلية ا
...
-
الثورة وثقافة الديمقراطية في الفقه السياسي الإسلامي: جدلية ا
...
-
الثورة وثقافة الديمقراطية في الفقه السياسي الإسلامي: جدلية ا
...
-
الثورة وثقافة الديمقراطية في الفقه السياسي الإسلامي: جدلية ا
...
-
الفلسفة وسؤال النهضة والحرية والتنوير الغائب في العالم العرب
...
المزيد.....
-
لاستعادة زبائنها.. ماكدونالدز تقوم بتغييرات هي الأكبر منذ سن
...
-
مذيع CNN لنجل شاه إيران الراحل: ما هدف زيارتك لإسرائيل؟ شاهد
...
-
لماذا يلعب منتخب إسرائيل في أوروبا رغم وقوعها في قارة آسيا؟
...
-
إسرائيل تصعّد هجماتها وتوقع قتلى وجرحى في لبنان وغزة وحزب ا
...
-
مقتل 33 شخصاً وإصابة 25 في اشتباكات طائفية شمال غرب باكستان
...
-
لبنان..11 قتيلا وأكثر من 20 جريحا جراء غارة إسرائيلية على ال
...
-
ميركل: لا يمكن لأوكرانيا التفرّد بقرار التفاوض مع روسيا
-
كيف تؤثر شخصيات الحيوانات في القصص على مهارات الطفل العقلية؟
...
-
الكويت تسحب جنسيتها من رئيس شركة -روتانا- سالم الهندي
-
مسلسل -الصومعة- : ما تبقى من البشرية بين الخضوع لحكام -الساي
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|