|
حول العسكرة والعنف والثورة...
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 3622 - 2012 / 1 / 29 - 17:12
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
لا فائدة تذكر من مناقشة البعد العسكري المتنامي للثورة السورية دون وضعه في سياق 320 يوما من مواجهة النظام لها منذ البداية بالعنف المنفلت، ولا عن تحولات فكرية وسياسية ونفسية جرت وتجري في المجتمع السوري وبيئات الثورة طوال أيام وشهور الدم هذه. الخطوط العريضة لما وقع معروفة. زج النظام الجيش في مواجهة بؤر الثورة، وقتل في الميدان مباشرة كثيرين ممن من رفضوا إطلاق النار على مواطنيهم (تقرير هيومان رايتس ووتش في ديسمبر 2011)، فكان أن انشق جنود وضباط، وتشكلت منهم مظلة فضفاضة اسمها "الجيش السوري الحر". وتعرضت مدن وبلدات في درعا وحول دمشق وحمص وحماة وإدلب ودير الزور لحملات تأديبية تشبه الحملات الاستعمارية، فحمل مدنيون السلاح هنا وهناك وواجهوا قوى النظام، علما أن هذا زج مدنيين في المواجهة منذ البداية وعلى نطاق واسع: الشبيحة. هذه الملابسات المعروفة للجميع تعني أن للثورة مكون عسكري أصيل، لا سبيل إلى إغفاله عند التفكير فيها أو التخطيط السياسي لها. لم يأتها من خارجها، ولا هو مزود بإيديولوجية خاصة سابقة عليها. ولا يطعن ظهور هذا المكون العسكري، لا في بداية الثورة ولا اليوم، في طابعها السلمي العام. سلمية الثورة متأصلة في تكوينها الاجتماعي، وفي نوعية المطالب التي تحركها، وفي أداتها الاحتجاجية الرئيسية (المظاهرات)، وليس في أية تفضيلات إيديولوجية أو تكتيكات سياسية. ولقد بات معلوما أن التقابل بين مظاهرات سلمية ترفع اللافتات وتطلق الهتافات وبين مجموعات مسلحة تطلق الرصاص لا يقول شيئا عما يجري في الواقع، بل فقط يغطي جهل المتكلمين لما يجري فعليا بتقديرات صورية. في واقع الأمر، ما كانت المظاهرات السلمية ممكنة الاستمرارية في أغلب مواقعها لولا ما يوفره "الجيش الحر"، بمكونيه العسكري والمدني، من حماية نسبية ومن ردع نسبي لأذرع النظام الضاربة. رفض رؤية هذا الواقع لا يغير منه شيئا، ولا يتيح فهمه، ولا بخاصة إمكانية التأثير فيه. والمثابرة على تكرار كلام ضد التسلح والعسكرة دون أدنى مؤشر لتوقف العنف من جهة النظام هو بمثابة لوم الضحايا على مقاومتهم للمعتدي. ليس هناك مبررات وطنية أو إنسانية يمكن أن تسوغ مسلكا كهذا. لا ريب أنه على مستوى القيم المجردة المقاومة السلمية مفضلة على المقاومة المسلحة، لكن لسنا في دكان نشتري منه هذه أو تلك، بل في واقع عياني، فرض على أعداد أكبر من السوريين الدفاع عن نفسهم في مواجهة نظام ينبع العنف والكراهية من تكوينه بالذات، وليس من أي اضطرارات عارضة، ولا من أية "مطالب جماهيرية"، على ما أمكن لوزير سوري جسيم أن يقول مؤخرا. وما يستوجب الفهم والتحسب أن الميل إلى العسكرة يمكن أن يقترن، وهو يقترن فعليا اليوم، بممارسات فوضوية وغير منضبطة. لا يمكن التعامل مع هذا الواقع المستجد بمنطق تطهري، يرفض أية مقاومة مسلحة، أو يعترض على الثورة ذاتها بذريعة ممارسات فوضوية تحصل في كنفها. هذا لا يجدي ما دام النظام مستمرا في "عسكرته". ما يمكن أن يكون مجديا هو العمل على مستوى الثورة، ليس من خارجها ولا فوقها، باتجاه أن يتوحد المسلحون العسكريون والمدنيون في جسم واحد، أو متفاهم، وأن ينضبط هذا المكون العسكري للثورة بمصلحتها العامة. وهذا ليس ميسورا، ولا شيء يضمن أن يتحقق بالقدر المرغوب، لكن المضي في الكلام الغنائي على السلمية هو وصفة لأن لا يتحقق على الإطلاق. وعدا احتمالات الفوضى، فإن العنف نخبوي تكوينيا وغير ديمقراطي، ومن شأن التوسع في ممارسته، حتى لو كان منضبطا، أن يتسبب في رفع عتبة التماهي مع الثورة، وإضعاف مشاركة النساء والأولاد وكبار السن فيها. لكن خياراتنا ليست بين عسكرة ولا عسكرة، بل بين عسكرة منفلتة بلا ضوابط، وبين شكل أقل انفلاتا، وربما أكثر انضباطا، من العسكرة. إلى ذلك فإن تحولا سياسيا يتحقق بالقوة المسلحة يتسبب بتعقيدات اجتماعية وسياسية وأمنية كثيرة، وهو أقل مواتاة للتطور الديمقراطي من تحول يتحقق سلما. لكن، مرة أخرى، ليست خياراتنا حرة، والمكون العسكري للثورة ظهر كنتاج جانبي لعنف النظام الجوهري، وليس لأن أيا كان أراده أو قرره. والنقطة الأساسية في كل هذا النقاش أنه لا مجال لاستعادة البراءة الأصلية السابقة للدم، أو للكلام العذب عن مواجهة عنف النظام "بالصدور العارية"، بخاصة حين يطلقه من لا يشاركون في الثورة، لا بصدور ولا بأقفية. بدل براءة موهومة، تلزم مبادرات وعمل من أجل الانضباط العسكري والسياسي والأخلاقي للسلاح. لدينا واقع فوضوي متفلت، يقوم المثقفون والسياسيون بواجبهم حين يعملون على تنظميه وعقلنته، وليس حين يتطهرون منه أو ينأون بأنفسهم عنه. هذا تخاذل. والواقع أن بعض ما يقال في شأن العسكرة يحركه اعتراض على الثورة ذاتها، وليس على شرعية ممارسات تحصل في ظلها. تعني الثورة نزع شرعية النظام ونفي صفته الوطنية والعامة، وتاليا اعتبار عنفه هو فئويا وغير وطني، وإنكار أي شرعية وعمومية على أجهزته. ما يؤسس لشرعية وعام جديدين هو الثورة ذاتها. وبينما لا يسبغ هذا شرعية تلقائية على كل ما قد يمارس باسمها أو في ظلها من عنف، فإن الموقع الوحيد الذي يتيح اعتراضا متسقا على عنف غير منضبط، هو موقع من داخل الثورة ومعها، وليس من خارجها أو ضدها. بالتأكيد عنف الثورة أكثر شرعية من عنف نظام يقتل الشعب. وهو مضاعف الشرعية من حيث أنه اضطراري ودفاعي في الجوهر، حتى حين يكون هجوميا على المستوى التكتيكي. هناك بالفعل مزاج سلمي أصيل في الثورة، ينفر من العنف، ولو دفاعا عن النفس. لكن أفضل دفاع عن السلمية هو المشاركة في الثورة، بما في ذلك ميدانيا، والعمل الدؤوب على تعزيز طابعها المدني. أسوأ الدفاع هو الجلوس على الخط والتغني بمحاسن السلمية. من وجهة نظر العمل، تلزم جهة عامة شرعية، تتجاوز الاعتناق البراني لقضية الثورة والوقوف إلى جانبها باتجاه الانخراط فيها والتشكل الفكري والسياسي والتنظيمي بصورة تستجيب لتطورها وتعقيدها المتزايد. كان من شأن جهة عامة كهذه أن تنسق بين مكونات الثورة وتقودها نحو الهدف الوطني المنشود. هذا غير متاح. لكن أكثر ما يبعث على التفاؤل بخصوص الثورة السورية هو تعدد مراكز التفكير والمبادرة، وهي تقوم بعملها دون توجيه من أحد، ولا تكف عن العمل من أجل ضبط العسكرة وتنمية طابع الثورة المدني والعام.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ديناميتان للثورة السورية: المستقبل في الحاضر
-
المثقفون والثورة في سورية
-
-حكي قرايا-: تدخل عسكري دولي!
-
مكونات الثورة السورية وسياستها
-
عام ثوري وأزمنة صعبة قادمة
-
الفاشية السورية وحربها ضد العامة!
-
محاولة لشرح القضية السورية للمنصفين
-
حوار في شان الطغيان والأخلاق
-
عن حال مؤسسات الحكم البعثي بين عهدين أسديين
-
العصيان المدني أو الإضراب الوطني العام
-
وطنيّتان: من الوطنية الممانعة إلى الوطنية الاجتماعية
-
الطغيان والأخلاق في -سورية الأسد-
-
اليسار موقع وعمل ودور، وليس نسبا أو هوية!
-
نظرة من خارج إلى الأزمة السورية
-
في شأن سورية وإسلامييها والمستقبل
-
الثورة السورية تنظر في نفسها
-
من الشخصي إلى العالم الواسع: حوار في شأن الثورة السورية
-
ملامح طور جديد للثورة السورية...
-
في أصول انقسامات المعارضة السورية وخصوماتها
-
المبادرة العربية والمعارضة السورية
المزيد.....
-
العثور على قط منقرض محفوظ بصقيع روسيا منذ 35 ألف عام.. كيف ب
...
-
ماذا دار خلال اجتماع ترامب وأمين عام حلف -الناتو- في فلوريدا
...
-
الإمارات.. وزارة الداخلية تحدد موعد رفع الحظر على عمليات طائ
...
-
صواريخ حزب الله تقلق إسرائيل.. -ألماس- الإيرانية المستنسخة م
...
-
كيف احتلّت إسرائيل جنوب لبنان عام 1978، ولماذا انسحبت بعد نح
...
-
باكستان ـ عشرات القتلى في أحداث عنف قبلي طائفي بين الشيعة وا
...
-
شرطة لندن تفجّر جسما مشبوها عند محطة للقطارات
-
أوستين يؤكد لنظيره الإسرائيلي التزام واشنطن بالتوصل لحل دبلو
...
-
زاخاروفا: -بريطانيا بؤرة للعفن المعادي لروسيا-
-
مصر.. الكشف عن معبد بطلمي جديد جنوبي البلاد
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|