|
الموت
أفنان القاسم
الحوار المتمدن-العدد: 3536 - 2011 / 11 / 4 - 11:49
المحور:
الادب والفن
نعرف أن الإنسان لا يعي نفسه كما يعي العالم، وكل واحد لنفسه غول أحلام. أندريه مالرو
لنتخيل عددًا من الرجال في سلاسلهم، وكلهم حكم عليهم بالموت، وكل يوم يذبح بعضهم أمام بعضهم، فيرى الباقون شرطهم في شرط أشباههم، وينظر الواحد إلى الآخر بألم وبدون أمل، منتظرًا دوره. إنها صورة شرط البشر. بليز باسكال
تتعارض مع الرؤية القديمة الباسكالية للقدر (مصيرنا المشترك تم "فوق") وجهة النظر الحديثة للثوريين: الإنسان قدر الإنسان، ليس هناك شرط إنساني وإنما شروط إنسانية. إيف آنسِل
أن تكون حرًا... أن تريد ما تستطيع عليه. جان-بول سارتر
الجزائر 1996 الجزائر امرأة بيضاء تستلقي تحت الشمس، والبحر الأزرق يأتي مداعبًا لها قدميها. المنارات قطع تتناثر من قصر موريسكي كبير، والقصبة استعارة في حكاية. هذا ما لدي من شعور كلما أنظر إلى الجزائر من علٍ... الشعور نفسه أيام الشباب وأيام الشيخوخة. ولسوء الحظ، إنه شعور خاطئ. لكنني لست هنا، فوق هذا المرتفع المهيمن على الأزرق والأبيض والذهبيّ كي أضيف بطاقة بريدية وهمية للمدينة التي ولدت فيها إلى مجموعة بطاقاتي الأخرى. أنا هنا أمام السجن الذي حبست فيه منذ أربعين عامًا، تقطع أنفاسي الذكريات، ويا لها من ذكريات مخيفة! ويا له من سجن مرعب! النوافذ الصغيرة، القضبان المعقوفة، الجدران الواطئة، الأسرّة الحديدية، الممرات الطويلة، الظلام، الأسلاك الشائكة، الحراس، الأصداء القادمة من الخارج... الأصداء... الأصداء...
الجزائر 1956 قال السجان: - غدًا سيتم إعدامك. وأنا أحدق في عينيه الزجاجيتين، كنت أقول لنفسي: إذن سأنتظر يومًا آخر. ضعت بين معالم وجهه الحجرية، وسمعته يقول بصوته القاسي: - إنه أقرب يوم منذ الآن، الغد! انتظر قليلاً قبل أن يضيف بنبرة آمرة: - لا تنم باكرًا الليلة، فسيمر ضابط السجن ليراك، لربما في ساعة متأخرة. رماني بنظرة وعيد، ثم سمعته يهمهم: - على أي حال، أنت لن تنام باكرًا... ستشنق هذه المرة، إلا إذا حاولت خداعنا مرة أخرى. أوصد الباب من خلفه، وذهب في الممر الطويل المعتم. كان إلى جانبي عمار، وهو ينطرح على سريره الحديدي ذي الأقدام القصيرة. لم يكن يمكنني التفكير في شيء آخر غير الموت، بعد أن طرد السجان كل فكرة أخرى من رأسي. لقد أحدثت كلمات الحارس فيه ما يشبه الفجوة، تركتُ كل شيء فيها يختفي. كنت أرى فقط نفسي معلقًا على المشنقة، وأنظر إلى هذا العمار الأبله، المنطرح، كتلة ضخمة من الشحم واللحم على السرير الحديدي ذي الأقدام القصيرة... كانت بلادة عمار تسحقني. نهضت، وألقيت نظرة من الكوة الضيقة. قبضت على القضبان المعقوفة، وجسست حافة النافذة الناتئة. لم يكن بمقدوري أن أفعل شيئًا. كانت شمس صباح بشعة في الخارج، وهي بأشعتها الباردة تخترق كتل السحاب لتغطي الطبيعة النائحة. كان العالم يغرق فيها، دون أن يبالي بمصيري. مضت ساعة، وأنا أقف مواجهًا مصيري الإنساني. لم يكن بإمكاني أن أفعل شيئًا آخر. كنت مكبلاً بفكرة الموت. كانت تسحق بثقلها كل حواسي، وتخدرها. كان ذلك كما لو كنت جسدًا من اللحم الميت، مجردًا من كل إحساس. فجأة، أفقت على صوت عمار الأجش: - ياو! عاودني الشعور بنفسي، كنت هناك، واقفًا وراء القضبان، بقامتي النحيلة، الضعيفة، الهشة، الثلومة. أدركت كم كنت بخسًا. فجأة، عادت الزنزانة الضيقة تتبدى لي من حولي، بجدرانها الأربعة الواطئة. فكرت في هذه الكلمات: غدًا سيتم إعدامك! غرقت في عيني عمار القاتمتين ولكن الحادتي النظرة. تفرست فيه، وانفصلت عني تلك الفكرة الغريبة للموت التي صنعها خيالي. خلاني وجهه الغامض، فإذا به مُبْهِرًا، مُعَطِّفًا، بينما كنت أبحث عنه في أعماق حدقتي عمار السوداوين اللتين طفحتا فجأة بالمودة. - هكذا... لن تبقى لك سوى ليلة واحدة. ساعتذاك، اختفت تلك الصورة المؤثرة من عيني عمار، وعادت فظاعة الموت تستولي عليّ من جديد. ومع ذلك، لم يعد عمار فظًا وكريهًا، كان كالحمل وديعًا، مسالمًا ومؤنسًا. قلت لعمار: - ومن ثَمّ ماذا! سيان لو يتم التنفيذ في الحال. كنت أخدع نفسي. في الغد ستكون الأمور مختلفة، فالغد لن يأتي قبل ليلة. لربما لن يأتي الغد أبدًا. فكرت في "لربما"، وانقبض قلبي. كنت خائفًا بالفعل. كنت يائسًا بالفعل. كنت أتعذب بالفعل. أخذت الجدران تضيق هي أيضًا من حولي. أحسست بثقلها الطام. كدت أختنق. رددت رغم صعوبة تنفسي: - سيكون الأمر سواء... سيكون الأمر سواء... لكن عمار انفجر ضاحكًا: - يا لها من أكذوبة! ظننت أنه اكتشف أمري، وسبر غور نفسي. قال، وهو يخنق ضحكة: - الحياة! تنفست الصعداء، بينما عمار يضيف ساخرًا: - أتعرف؟ لسوف يعدمونك حسب الطريقة الأكثر إنسانية! أخذت أستمع إليه بتنبه شديد: - سيضعون على عينيك رباطًا حريريًا، وبين أسنانك لجامًا ذهبيًا... تمامًا كالمهر الذي لا يعرف ما هو الموت، لئلا تصرخ، فهم لا يحتملون الصراخ! بصق على الأرض قبل أن يشتم جلادينا: - أبناء الكلب! يخشونك حتى في لحظة الموت! بصق من جديد، وقذف شتيمة أخرى. عندما هدأ، عاد الصفاء إلى ملامحه طاردًا كل أثر للشك. فكرت فيما قال: "يخشونك"، ولم تعد تهمني طريقة إعدامي. حط صمت طويل بيننا. في الخارج، شمس الظهيرة البشعة، وقرصها ينزع عنه البراقع الرمادية. سرى في بدني تيار بارد. انتبهت على عمار، وهو يحك فخذه، وعيناه مغلقتان، فناديته: - عمار! تحرك قليلاً دون أن يتوقف عن الحك. سألته: - أتعتقد حقًا أنهم سيقتلونني هكذا؟ لم يعرني أدنى اهتمام، أبقى عينيه مغلقتين، وهو يحك فخذه بأكثر فأكثر من المتعة. بقي مضطجعًا، مفصولاً عني. عاودني القلق. ومن جديد، شعرت بالجدران الأربعة، وهي تقترب، وهي تكاد تسحقني. كنت أقع تحت وطأة سحقها وحدي، حتى ولو كان عمار يتقاسم الزنزانة معي. أمام سلبيته المفزعة ولامبالاته التامة، تخيلته في الخارج، دوني في الخارج، بينما كان هنا بالفعل. وفي الحال، شعرت بوطأة رهيبة لحضوره: هو الذي لم تزل له أيام يحياها، هو الذي سيبكيني في الغد، هو الذي سأترك له وحده كل شيء. كان عمار في استلقائه على مثل تلك الصورة يبدو لي حرًا رغم وجودنا في القفص نفسه. كان لا ينشد إلا الاستلقاء، والخلود إلى الراحة، ويموت رغبة في النوم. - كالمهر الذي لا يعرف ما هو الموت؟ انفتحت عينا عمار بوحشية عليّ، وتفرستا فيّ بسخط، وهما تعتصرانني كحبة الحامض دون رحمة. وكمن أصابه العَتَهُ، رماني في وجهي مهتاجًا: - يا ابن الكلب، دعني! عند ذلك، عدت أفكر في الموت الرهيب. زحفت إلى زاوية من زوايا الزنزانة، وأنا أخشى من تهدم كل شيء عليّ. كان الجدار باردًا. لم يكن كل شيء يمكنني احتماله. بدأت أفحص الحقيقة، أرى الموت على مقربة مني. سمعت أنفاسه. أحسست به يحيطني بذراعيه، شفتاه على شفتيّ. كان يسفُطني. كان عمار قد عاد إلى غفوته مديرًا لي ظهره. صب في ظهري العرق. نهضت إلى النافذة الصغيرة. أملت سماع ما يجري وراءها. وصلتني أصداء الأمواج وصيحات الناس، صيحات المعذبين: كنت بعيدًا عن السجن الكبير الذي كانته الجزائر الكولونيالية! كنت هنا، في المكان الأكثر ضيقًا والأكثر سحقًا، مع عمار، الراقد على سريره الحديدي كمن يرقد على فريسته. لأحيد عن شرطي الهش والثلوم، سيطرت عليّ بشراسة رغبة مجنونة: أن أقتل نِدّي الوحيد. وفي الحال، استدرت نحو عمار. فكرت: "سأتخلص منه وفي الوقت نفسه من الموت الذي يشخصه في نظري!" أثلج ذلك صدري، ولكنني، وأنا أتقدم منه، رأيته كما لو كان ذلك للمرة الأولى: جسده العملاق، المتين، رأسه الضخم، المكور، شعره الكث، المجعد، ساقاه الطويلتان، فخذاه المنتفختان. وأكثر ما خشيت إبهام قدمه الذي كان يبدو، وهو يندفع بقوة ليضربني في صميم وجهي. كان عمار تلك القوة الجبارة التي لا تقهر! رحت أدور في الزنزانة، وأنا أرمق قامتي النحيلة الضامرة. أيقنت من أمر واحد: أن أتخيل نفسي قادرًا على قتله، كان ضربًا من الهذيان. دمرتني الفكرة، فعدت أتكور عند قدم الجدار. ومن جديد، انقض الموت عليّ. كنت أتفسخ، وأتفكك. غدا تنفسي صعبًا. في الخارج، سقطت شمس الغروب البشعة. وأنا، كنت أشبه بقطعة من الجليد، ومع ذلك، كنت أنضح عرقًا. "يجب أن أقتله، يجب..." كانت تلك إرادتي. قفزت أحوم حول عمار كما يحوم الذئب. كان يرهقني. كنت أخافه دومًا. توقفت قرب رأسه. كان يغفو. تأملته بعناية، تأملته مليًا، بينما كان يغط في سبات عميق. كان يفزعني جفناه المنغلقان، يفزعني أنه يستطيع النوم. كم كان ذلك مغيظًا! فهمت أن في تلك الكتلة الضخمة التي تتنفس بهدوء إرادة حديدية. أخيرًا، قررت أن أفعل شيئًا: أن أتحدى ضعفي على الأقل، أن أعطي قيمة ما لنفسي، أن أتصرف بمحض إرادتي، أن أؤكد سيادتي على عالمي الصغير هذا الذي كانه زنزانتي، وأن أتصرف فيه بكل حرية، أن أكون أهلاً له. كان عليّ أن أنجح في كل هذا (أو على الأقل في بعض من هذا): أن أواجه الموت الذي يتربص بي علانية منذ هذه اللحظة، والذي يهددني الآن تحت شكل هذا العمار الضخم، المربوع، الجاثم بخشونة على سريره الحديدي الواطئ. حاولت بالتلمس أن أنتزع قضيبًا من سريري. لمسي للحديد جعلني أثمل. كان عليّ أن أفك طرفيه ثم أسحبه. بدأت العملية. لم يكن الأمر سهلاً كما تصورت. احتاجني ذلك من الوقت ليس أقل من ساعة، وبعد أن انتزعت الأسلاك جلدي. نقلت القضيب من يد ليد، وفي فمي طعم ما قبل الانتصار. كان عمار يغفو دومًا. وحش جميل، هذا ما كنت أفكر فيه. ولكن ما أن اقتربت من رأسه، مشهرًا سلاحي الحديدي لأنفذ عملية القتل فيه، حتى أصابني الشلل على رؤية ذبابة تقبع على جفنه، وتمتصه. تلاشت إرادة عمار الحديدية. تلاشت كل الصور غير المحتملة التي ألهمتني. اختفى الموت الذي كان يلازمني منذ الصباح. غدا كل شيء غير معقول، مستبعد الوقوع، لا يصدق. رحت أرنو إلى عمار بحنو ومحبة. كنت أقع تحت تأثير الناحية الطفولية التي تبدو في ملامحه: يا للحمل الوديع المسالم! يا للكائن الساحر الجميل! انقبض قلبي: كنت أحقد على نفسي. كنت أتألم، وأسحب أذيال خيبتي من ورائي. ارتخت يدي الرافعة للقضيب تمامًا. ذبابة حقيرة أعادت لي أناي، أنا ميتة وباردة. بدا وجه عمار النائم يهزأ بي وبالموت الذي خلت منذ قليل رؤيته في عينيه. أحسست بعالم ينكرني، يتركني، وهو يراني منهزمًا، فاحتقرت ذاتي. التصقت بالجدار. حدقت في القضبان الباردة. أحسست بكوني لا شيء. لا شيء على الإطلاق. حشرة! وفي المساء، تبادلنا، أنا وعمار، الكلمات التالية: - أنت خائف، أليس كذلك؟ - لم أعد أفكر فيه. - كان عليهم أن يخطروك ساعة قبل إعدامك. كنت بينما أسند ظهري إلى الجدار أستمع إلى عمار. لم أكن أنظر إليه، كنت أحزر حضوره. كان يجلس على طرف سريره. كان يحادثني بصوت مفعم بالود، فأقول لنفسي بأنه يبالغ بعض الشيء من صداقته لي. أضاف: - لكنهم، أبناء الكلب، فعلوا ذلك عن عمد! - ... - أرادوا أن يجعلوا منك رخوًا أشلّ... قبل أن يستجوبوك للمرة الأخيرة. - ... - ليعرفوا مثلاً أين يختبئ الثوار في الجبل. استدرت نحو عمار، والغضب يملأ قلبي. قلت لنفسي، لهذا السبب بدلوا زنزانتي، وأنا من كنت أعتقد... - لربما أتيحت لك الفرصة للتحرر. - أرجو ألا يعيوا كثيرًا من أجل هذا، لقد انتهى الأمر هذه المرة بالنسبة لي. - هذه المرة؟ - قبل بضعة أشهر، انهرت، لكني لم أجرؤ على بيع رفاق سلاحي، فبعثت بهم إلى درب لم يكن صحيحًا. رأيت عمارًا يفرك رأسه. كان لدي انطباع مفاجئ بلقائه في مكان آخر غير السجن. نقبت في ذاكرتي. عندما يئست، سألته: - ألم أرك قبل أن نلتقي هنا؟ دارت عينا عمار في حجاجهما، ضاقتا حتى بانتا كحبتين من اللؤلؤ الأسود. انفتحتا على إثر ذلك، وقذفتا شررًا أسود. كان يقدح زناد فكره ليتذكر بدوره، مقطب الحاجبين: - منذ صباح البارحة أول وصولك إلى الزنزانة، وأنا أطرح على نفسي السؤال نفسه. ثم قال لي بجزم: - أنت لم ترني أبدًا إلا هنا، وأنا لم أرك أبدًا من قبل. لربما حدث وتلاقينا دون أن نلاحظ ذلك. بعد قليل، قال لي عمار بفيض من العاطفة: - يسوؤني أن أتعرف عليك الآن، فتفارقني بدءًا من الغد. كم هي قاسية الحياة! نتعارف، فإذا بنا نفترق! أحسست فجأة بالعزلة الكلية، كنت مقطوعًا عن العالم، كما كنت طوال تلك الشهور الستة الأخيرة، قبل نقلي صباح أمس إلى زنزانة عمار. في تلك اللحظة، اعتقدت بتخفيف العقوبة. لم يكن شيء من هذا. قرضتني العزلة كالدودة، كما كان عهدي قبل الالتحاق برجال الثورة، قبل أن أغدو واحدًا منهم. عدت أفكر في موتي، وأنا أسبر أغوار الليل عبر قضبان كوة الزنزانة. كابدت هجوم الأفكار السيئة، أفكار سوداء، أفكار الخيانة في هجوم على رغبة الإخلاص التي لدي. رحت أفكر في الغد، في اللحظة التي سيكون علينا أن نفترق فيها. قلت لنفسي: هذا الكلب قال ذلك عن عمد، وهذا ما كان يرمي إليه. وسمعتني أقول له: - ولكني سأترك لك كل شيء من ورائي. تمدد عمار على سريره، وراح يحدق في السقف. فاجأني أن أكتشف أنه يشاطرني أفكاري عن السجن الكبير الذي كانته الجزائر الكولونيالية عندما قال لي: - هذا كرم منك! لكن لن يلبث الآخرون أن يأتوا ليأخذوا كل شيء. إنهم ينتظرون في الخارج حيث يمتد السجن الحقيقي ليأخذوا كل شيء، حريتنا السجينة، وحتى هذا المكان اللعين، بعيدًا عن الجحيم الآخر. وكم هم كثيرون الذين ينتظرون في الخارج! كثيرون جدًا. ما عليك سوى أن تشير إليهم. سيهرعون على قوائمهم الأربع ليحتلوا كل الزوايا. قلت له: - في الجبل، لم أصادف الناس الذين تتكلم عنهم. كنا متضامنين كلنا، متعاونين ما بيننا. وعندما كان العدو يسقط علينا، كنا نطلق عيارات النار من بنادقنا في الوقت ذاته كلنا، بالعزيمة ذاتها. كانت طريقتنا في المقاومة. تفرس فيّ طويلاً، لربما جعلته كلماتي يحلم. أضفت: - لا أحد غيري وغيرك في هذه الزنزانة حتى اللحظة. إنه عالمنا. أنت "الآخرون" بالنسبة لي. ولأجل هذا سأترك لك كل شيء. - لكن، مع ذلك... - أنصحك أن تقوم بفعل ما، أن تحطم هذه القضبان مثلاً، أن تدفع بقوة ساعديك هذه الجدران لتوسع فضاءك الحيوي، أن تقوم، أنت، بما لم أكن عليه قادرًا، أن تتحرر بالفعل. - وأنت، ماذا تنتظر كي تفعل شيئًا؟ تستطيع أن تجد الوسيلة لتأجيل التنفيذ، دربًا غير صحيح آخر أو... صحيح. رحت أجتر مرارتي: - لن أقول أبدًا أين يختبئ الثوار في الجبل. - أنت متأكد؟ - أنا مثالي بعض الشيء، لكن سيُختصر كل شيء في فعل واحد، عندما سيأخذونني. ألا تراني على وشك الذهاب؟ ولماذا تعتقد بأنني على وشك الذهاب؟ سيكون موتي فعلي الأخير، حتى ولو كان مفروضًا عليّ. عتم الغيم في أعماق عينيه: - لماذا لا تأخذني معك؟ أنا لا أستطيع أن أخون، أنا أيضًا، لا أريد أن أكون واحدًا من الخونة، ولا من الطغاة. دعني أموت معك. أنا مستعد لأجل هذا أن أقتلك وأن أقتل نفسي. دعني أفلت من المصير الذي قرروه لي قبل الأوان، ككل ناس هذا البلد البؤساء. أريد الموت لأجلك، وليس لأجل الجزائر. كانت كلماته تؤلمني. أحسست بنفسي أُفنى، وكأن جنزير دبابة كان قد سحقني. فكرت في تفجير المطعم العسكري الذي أجريته: أشلاء تطايرت في الهواء. كانت تحوم كما لو كانت أجنحة لها. دماء! وكأن الزئبق اندفق في الليل، فإذا بالعالم جراح مفتوحة لا تندمل. كنت قد نفذت مهمتي حتى ختامها، لكنهم قبضوا عليّ بعد أن فر رفيقاي. تسلط عليّ مشهد مضنٍ منذ اللحظة التي أسرني فيها الجنود: المطعم العسكري وقد تحول إلى كوة هائلة تنفث الدخان وتلفظ الدم. قلت لعمار: - لن تنجح في الهرب من المصير المرصود لك، لك أنت، أنت البائس، إلا إذا صعدت إلى الجبل. ولكن حذار من المشاهد الرهيبة التي ستتسلط عليك. ابتسم بغرابة، وسألني: - كم واحدًا قتلت من الأعداء؟ لم ترق لي نبرته المرحة: - لربما عشرين. عشرة في حادثة المطعم وحدها. وأنا حديث عهد في الجبهة، لا أطلق جيدًا. - هذا كما هو عليه في العيد السوقيّ. لم أفهم، فأوضح عمار: - هذا كما هو عليه في العيد السوقيّ. تصوّب، فتطلق! حتى ولو لم تكن تعرف كيف تطلق، هناك حظ من الحظوظ التي تجعلك تسقط واحدًا، اثنين، ربما خمسة، عشرة، أو لا أحد. نهض عمار بهيئة متجهمة خلعت عن وجهه كل تعبير للمرح، واتجه نحوي. كان له شكل عملاق أكثر من اللازم، ومع ذلك، كنت لا أهابه. ومع ذلك، أخذ قلبي بالدق العنيف عندما مد لي يده، وقال: - تعال! لم أذعن لمطلبه. بقيت يده المشعرة تمتد نحوي. كان لها شكل اليد الخارجة من الغاب... رأيت عمار يتراقص كالشمعة. خيبته للمرة الأولى. بدت لي فكرة الموت مستحيلة، لا معقولة. تجلى فعلي الأخير شعرًا خالصًا. تفرست مليًا في اليد الحيوانية. تذكرت أنني صوبت بندقيتي نحو يد مشابهة في الجبل، فاخترقتها الرصاصة من طرف إلى طرف، وأخذت اليد تختلج اختلاجًا متواصلاً. سألني عمار: - ولكن لماذا تتصبب عرقًا هكذا؟ أيها المأفون! أردت فقط أن أساعدك. كنت أتصبب عرقًا غزيرًا، ولكن لم يكن ذلك بسبب الحرارة. كنت أبعد ما يكون عن شخص يشعر بالحرارة. كان جسدي ككتلة من الجليد. وضع عمار يده على كتفي، فكاد قلبي يتوقف عن الخفق تحت تأثير المفاجأة. وبشيء من الغرابة، زلقت يده من كتفي إلى عمودي الفقاري. كان يجسني. وعلى عكس ما كنت أتوقع، أحسست بضغط أصابعه الطرية، وكلما لمسني أكثر كلما فاقم فيّ أكثر الشعور العميق بكوني في منفى داخل جسدي، بينما كان يردد بصوت يطفح عذوبة: - لا تخش شيئًا، أيها المأفون! أريد أن أساعدك، أريد فقط أن أساعدك، هذا كل ما هنالك. أخذني غثيان مفاجئ. كان وحش صغير قد ولد في أحشائي، وها هو يكبر، وكم كان ذلك رهيبًا. ضغطت قبضتي، وبالشراسة الأقصى التي أستطيع عليها، دفعتها في بطنه. انقلب إلى الوراء، وهو يولول صائحًا: - يا ابن الكلب! يا ابن الكلب! قفزت واقفًا، مستعدًا، وجهًا لوجه معه، خشية أن ينقض عمار عليّ. لم أنتظر أن يهاجمني، فأتصرف. قبضت على قضبان النافذة الصغيرة. دفعتها. حاولت زحزحتها. كانت تقاوم. ترك الغثيان مكانه للحَنَق، للتمرد على الحصار الذي كنت موضوعه. لكن يقيني الوحيد كان انهزامي. ودومًا لم أصل إلى تفسير علاقاتي بعمار، الأكثر فظاعة منذ عدة لحظات. كان الليل دومًا، في الخارج. ليل أكثر فأكثر عمقًا. جعلتني أنات عمار أرتعد فرقًا. كانت النداءات تتصادى: أيها الليل... أيها الليل... لحظات قاتمة، ضائعة. عمار الذي كان يتلوى، يداه اللتان كانتا تضغطان على بطنه، وأصابعه الضخمة التي كانت تزلق بين ثنايا شحمه. وحينما ضربت رأسي فكرة انقضاضه عليّ، أدركت عدم جدوى أية مقاومة من طرفي، ولكني مع ذلك قررت ألا أستسلم. لم أعد أتصبب عرقًا، فجاء دور أسناني التي أخذت بالاصطكاك، بالاصطكاك أقوى فأقوى. قُشعريرة. صهرت الحمى عظامي. لم أعد أسمع سوى الضجة المخنوقة لنبضي. كنت أحتاج إلى عملية فصد تخفف من الضغط عليّ، ترد عليّ ثقتي بنفسي. ولما أخذ عمار يعود إلى نفسه، بادرت إلى توجيه القول إليه، وأنا أمنع اختلاجات شفتيّ، عازمًا على استدراك تنفيذ خططه ضدي، شانًا حربًا باردة ما بيننا: - بينما كنت نائمًا، أردت قتلك. لم يقلقه هذا الاعتراف أكثر مما لو كنت قد دغدغته، فانفجر ضاحكًا: - آه! أية دعابة. أيضحك مني أم على مصير يعانيه دون أن يستطيع التخلص منه بسهولة؟ كان باستطاعة عمار أن يطرد صورة الموت التي نراها من وقت إلى آخر على معالمه، لتحل محلها صورة إنسان معذب، مسلوب الحرية، صورتان يُغْلَقُ عليهما معًا خلف القضبان. تابع: - لكنك لم تفعل، ولن تفعل. أحدنا لن يستغني عن الآخر. أجبته بقسوة: - أنا لا أحتاج إليك، أنا لا أحتاج إلى أحد! كنت أكذب. أحسست بكلماتي ترتجف، وبأسناني تصطك. كانت الحمى تتدفق في جسدي، وتُمَيِّعُهُ. ولضعف رأسي الشديد لم يقدر على الاستقامة، فضرب بالجدار. وحالما تحرك عمار مقتربًا مني، قبضت على القضيب العمودي للسرير، لكن ما أوقفني السكينة المطلقة لسماته، ذلك العمق الصافي لبحر هادئ وساكن. رأيت على شفتيه خطوطًا صقيلة، طويلة، طويلة. غدت جبهته ملساء كلها، بليلة كلها، دون فظاظة. انحنى عمار عليّ، وسمعت كلماته تداعب لي حلقي: - اسمع، أعطني هذا. كل ما أريد، أن أساعدك. لا تخش شيئًا. تبدو كالقط الذي تلقى دلوًا من الماء المغلي. لماذا؟ بقيت بيني وبين عمار خطوة واحدة يقطعها كي يشرح لي ما كان يخبئه في صدره. ولما كنت لا أستطيع التفكير في الموت دومًا، لم أعد أفكر في شيء، أو بالأحرى بلى، حاولت أن أحزر ما كان خلف عينيه. اكتشفت ذلك فقط في تلك اللحظة. نظيري. أخي. في التعاسة والبؤس. وكم كنت أشفق على نفسي! ومع ذلك، كنت أشعر بضيق لا يصدق كلما تنفس بجهد في وجهي. - لماذا؟ أيها المأفون! لماذا كل هذا الخوف؟ أية ذبابة لدغتك؟ ترتعش كما لو كنت مصابًا بالمالاريا. لا تخش شيئًا. هل تعرف لماذا أنا هنا؟ زالت نوبة حُمّاي. توقفت قشعريرتي الحادة. انطبقت أسناني من جديد على بعضها. والوحش الجميل كان هنا، عمار كان هنا، وكان يفترسني ببطء. لم أفهم كيف سحب القضيب من يديّ، لم ألتقط سوى هذه الكلمات: - هل تعرف لماذا، أيها الطفل الصغير؟ مددني على السرير، ولفني بالغطاء. - هل تعرف لماذا؟ لأنني إنسان بسيط، لا أحمل في قلبي الأذى للآخرين. لكني سرقت رغيفًا. ضرورتي القصوى. كان من الواجب عليّ أن أسرقه. لربما تساءلت أي نوع هو هذا الواجب. أكرر لك: لقد كان واجبًا. كنت مضطرًا إلى سرقته. كنت خائفًا جدًا من الموت من ذلك الجوع الذي أوقعني في وضع ميئوس منه. كانت وسيلتي الوحيدة للبقاء. أترى؟ لهذا لم أستطع مقاومته، مقاومة سرقتي. وحقًا سرقت. وفي اللحظة التي أنهيت فيها التهامي للرغيف، ساقوني إلى هنا منذ ثلاثة شهور. رأيته يزم حاجبيه، ويحك شعر صدره متأملاً: - سجني، منفاي! تابع التأمل: - كان عليّ أن أختار بين أن أقدم على سرقتي أو أن أموت من الجوع. أقسم لك، أنا لا أحمل في قلبي الأذى. أخذ مجلسًا قربي: - هل فهمت، أيها الرأس الصغير؟ لم أجبه. كانت لي نظرة فارغة، كنت أضيع في محيط الرمال الصامتة الذي يغطي جبهته. ثم تحولت الرمال فجأة إلى سحاب من الفراش التي لا تلبث أجنحتها أن تتكسر آلافًا من القطع المتلألئة. - إنه القدر الذي صنعته بيديّ هاتين، أيها الرأس الصغير، قدر سارق الحياة. كنت في الطريق إلى الجبل، أقسم لك. ولكن كان عليّ أن أعيش لأقاتل، فلم يتركوا لي الفرصة. راح يهمهم، ويقول شيئًا عن ثقة مضت، عن فرصة ضاعت، فوتوها عليه. - لو صعدت إلى الجبل، لقمت بكل ما كان يمكنني القيام به، بشيء مثلك، تفجير مطعم عسكري على سبيل المثال، بشيء في سبيل القضية. توقف، ثم: - لكنهم يزجون بك في السجن مقابل لا شيء، فكيف إذا ما أقدم أحدهم على سرقة حياته، سيكون الأمر أسوأ! أرأيت كم كانت حياتي تافهة في نظرهم؟ مقابل رغيف. أعاد "مقابل رغيف" قبل أن يضيف: - بينما أنت، هم يخشونك، لهذا حكموا عليك بالموت، وإلا تراهم لماذا حكموا عليك بالموت؟ تفرس فيّ مليًا، ودموعه تكاد تنبجس من عينيه، ولاحظت اختلاج هدبيه: - أنا معجب بك، فأنت عظيم. كان لك هدف، وكانت لك قضيتك، قضيتك التي قاتلت من أجلها. ألقى عليّ نظرة إعجاب، ثم أشاح بوجهه عني، وهمهم: - لكنك تتخلى عني، أيها المأفون! تتخلى عني كالآخرين، تمامًا كالآخرين. خسارة أنك لم تقتلني قبل ذهابك، لكنا التقينا هناك، أنا وأنت، تحت سماء لنا، كل فقراء العالم. العالم الآخر يرعبنا، وفي الوقت ذاته من الجميل أن نفكر أننا سنجد فيه كائنات غالية على قلوبنا. صمت قليلاً، ثم عاد إلى القول: - ما اسمك؟ هم لا يبالون بمعرفته، لأنهم يعرفون أنهم سيقولون لك وداعًا عما قريب. سيسمونك "المقاتل"، فقط، لكن هذا لا يكفي، هذا لا يكفي بالنسبة لي. فتحت فمي لأقول له اسمي، لكنه أقفله بيده، وسمعته يقول: - سأسميك "عمار"، مثلي، فأنا لو تعلم كم أحب اسمي، أحبه كثيرًا. لم أدرك معنى كلماته، ومع ذلك، أحسست بالحياة تنبض في عروقي. بحثت عن اكتشاف نفسي من جديد، وفي الوقت ذاته استحوذ صرصار كبير على كل حواسي. لم يكن عمار يئن، لم يكن ينوح، كان يبدو كالقديس. وكنت أنا في محرابه، أشم تقواه، أحس بها في أبعد نقطة غائرة في أعماقي. لم أعد أصطدم بجدار الوجود، وبقيت لدي فقط هذه الفكرة، فكرته التي كانت تدور حول نفسها: فكرة أنه أصبحني أو العكس. وفي كلتا الحالتين، كنت أخضع لشحوب الموتى. مسح عمار بكفه جبهتي، ثم قال لي بطيبة: - هل ما زلت تخشاني الآن؟ اضطرب دون أن ينتظر مني جوابًا. نهض، وذهب ليستلقي على سريره. أخذ في الكلام كمن لا يتكلم إلا لنفسه: - هناك الذين يخيفون، والذين لا يخيفون ذبابة. هكذا صنع البشر. ولهذا الحياة كذبة، لأنهم سواء أخافوا أم لم يخيفوا، يبقى البشر بشرًا، إنهم بشر قبل أي شيء. سحب الغطاء على صدره، وفتح عينيه على السقف، وسألني كما لو كان طفل يسألني: - حدثني قليلاً، حدثني عما يفعل المقاتلون هناك، قل لي ما يجري الآن في الجبل. أحداث كثيرة أردت أن أعرفها، أشياء كثيرة أردت أن أتعلمها، لكن الفرصة لم تسنح، بينما أنت، أنت تعلمت أشياء كثيرة، وثقفتك الأحداث كثيرًا. انتزعني عمار من محنتي. بطلبه هذا، سمح لي بالهرب الفكري، بالتعلق الحياتي، بما كان حياتي. رحت أحكي عني، أحكي له عن بعض أشياء رأيتها، بعض أحداث عشتها، بعض أفعال حققتها. لأن ما بين حتمية الموت والضرورة التاريخية هناك قدري الخاص بي، القدر الذي أنجزه كل يوم. قلت له كيف يضحي الشرفاء بكل شيء في سبيل الوطن، بصدق، وفرح. قلت له على الإنسان الجدير بكونه إنسانًا أن يرفض أن يكون عبدًا، أن يقبل أن يصب دمه لتنبت غرائس الأمل، لتتفتح حريته ورودًا. قلت له حرية الفرد هي حرية الوطن، وحرية الوطن هي استعارة حرية كل فرد، حرية أبيه، حرية أمه. قلت له الإنسان الحر هو من أخذ طريق الجبل بمحض إرادته، إلى جانب رجال آخرين يغدون "إخوته"، وهو من رأى الأعداء، وهم يفقأون لأمه العينين، يذبحون لأبيه العنق، يقطعون لأخيه الشفتين، ويلوثون لأخته الصغرى الشرف، ولا يلقي السلاح، يقاتل، والسلاح بيده، كما قاتل في أول يوم. قلت له جرح الوطن الغالي لا بد أن يلتئم بفضل كل الجراح، جراح كل المقاتلين، لا بد أن يلتئم بفضل كل الجراح، جراح كل الثوريين. لأن الثورة تأتي بالنصر، لأن رايات الدم التي تخفق في عروقنا تلهم كل مقاتل. قلت له أيضًا يقاتل كل الرفاق لأنهم يؤمنون بعدالة قضيتنا، ولأن في رأيهم الإنسان بلا واجب ليس إنسانًا، وواجب الإنسان بمثابة القلب، بمثابة الجوانح. وإلا كيف تريدنا أن نحيا، أن تختلج قلوبنا، أن يسري في عروقنا الدم، أن تذهب كل جهودنا نحو الهدف الواحد، أن نتحقق نحن، ونحقق أحلامنا، كل تلك الأحلام التي لنا، في أجسادنا، أن نحققها؟ حكيت له كيف فجرت المطعم العسكري، كيف حولته إلى خرم ضخم ينهمر منه ضباب الدخان وأمواج الدم. كانت تجربتي، تجربة رهيبة، لكنها تبقي تجربتي. كنت أرى أي أثر تحدثه حكايتي على عمار، كنت أراه، وهو يتحول إلى طفل تارة، بريء بشراسة، وإلى ضحية تارة، ذبيحة تتلوى على نفسها. في عينيه، نداء الأمل، بلا دمع. وسمعته يهمهم شيئًا، يتنفس بقوة أقوى فأقوى. بدا لي أنني أسمع الأمواج الهائجة، الأمواج الآتية لتنسحق على الصخور. وفي كل الأحوال، كم كان جميلاً، كم كان رائعًا وقادرًا، كم كان شقيًا، كم كان تقيًا! راقبت وجهه، وهو يتشنج تارة، ويبتسم تارة. وفي الأخير فتح فمه، وهمهم: - أعرف نفسي فيما قلت، أراني فيك. أريد ما تريد، ولكني لست ملكًا لنفسي. أنت سيد قدرك، أنت سيد نفسك، بكل ما في هذا من معنى، سيد نفسك. أرى كيف أناك تلتصق بك... حتى في الموت، تلتصق بك، حتى في الموت، حتى في الموت... ثم أقفل عمار عينيه. بدا أنه يسقط في حلم لا ينتهي. تراخى الوقت، تكاسل، تثاءب، تذاهب، حتى بدايات الفجر المدمى. عند ذلك، عرفت، وكان ما عرفت الأسوأ من كل شيء، أنني سأموت متروكًا، مهجورًا، منسيًا، حتى من طرف أصدقائي ورفاقي، أفلتتني الثورة، أفلتتني الحياة. آلمني ذلك ألمًا رهيبًا، فهربت من السماء المدماة، من العالم الكنود، مخترقًا ما كنت أعتقد أنه حلم عمار. كنت هناك، تحت السماء الليلكية، أتلهى كالظبي العاشق. ولم أخرج من سباتي السماويّ، من هذا الحلم الواعي واللذيد، إلا في اللحظة التي سمعت فيها خطوات في الممر الداكن. كانت اللحظة قد أزفت، وكان عليّ أن أنهض كي أستعد، ثم رأيت أمامي ضابط السجن. كان يبدو عليه أنه قد أمضى وقتًا ليس بالقصير، وهو واقف، هناك، في الزنزانة، دون أن أشعر بذلك. دخل حارسان، فتوجه الضابط إليّ، وهو يعوي: - تركتك بانتظاري طويلاً كما أفترض. كانت لي نظرة طفل سحبوه من حلمه، من فردوسه. كان الطفل على أرجوحة، بين الورود والزنابق، وكانت ملائكة صغار تدفعه، تداعبه، تروي له حكايات عن الكائنات التي تسكن الديار هنا-تحت. وعلى حين غرة، قفز الطفل من أرجوحته، وفي نيته أن يطارد فراشة، وها هو يقف بكل عليائه في زنزانة ضيقة الجدران، جليدية. أعاد ضابط السجن: - سنعفو عنك إذا ما قلت لنا أين يختبئ الثوار هذه المرة. نظرت بصمت إلى خيوط الشفق المدماة التي تلطخني عبر قضبان النافذة الصغيرة، ولم ينتظر الضابط أكثر من دقيقة واحدة. رمى الحارسين ببضع كلمات ملأى بالسُّعر، ثم انفتل خارجًا. قبل أن يقودني الحارسان إلى مكان الإعدام، اقتربت من عمار كي أقول له وداعًا. وعندما انحنيت فوقه، وجدته ميتًا.
الجزائر 1996 أنا لا أزال هنا، أمام السجن. ليست لدي أقل قوة على مغادرة المكان، بعد كل هذه الذكريات التي عبرت روحي، وكأنني أفرغت نفسي من نفسي، من ماضيّ، من كل وجودي. انفتح الباب، وأُطلق سراح أحد السجناء. سجين يخرج من السجن الصغير ليذهب إلى السجن الكبير الذي بقيته الجزائر، إلى كولونيالية الشمس، إلى سلطة القمر. كأنه عمار. له العمر ذاته قبل أربعين سنة. تبعته، ناديته: - عمار! استدار الرجل: - نعم!
* من الأعشاش المهدومة المجموعة القصصية الأولى لأفنان القاسم 1972 بمناسبة نشره للأعمال الكاملة.
[email protected]
#أفنان_القاسم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأعشاش المهدومة
-
الإرجاء
-
الحجرة
-
سوريا: ما هكذا يا رشاد أبو شاور تورد الإبل
-
الانتحال
-
قصة الدم
-
الدم
-
سوريا إلى أين؟ - الحل الثالث للشارع السوري
-
ضد فتح وحماس على الشارع الفلسطيني أن يتحرك
-
اتفاق فتح حماس طبخة أمريكية-إسرائيلية جديدة
-
في لهيب محمود درويش
-
يهودي حائر أضاع الطريق إلى الصحراء
-
شاعر شيوعي قديم يشرب كأس بيرة في بار الفردوس
-
المثقف الفلسطيني وحالة التهميش والحصار التي يتعرّض لها
-
ثلاث ملاحظات أساسية حول الثورة المصرية
-
حكومة البخيت للإصلاح أم للإرعاب؟
-
نافذة على الحدث الثورة المضادة
-
حكاية فلسطيني عاد إلى يافا*
-
شومسكي المخيب للآمال
-
الوقت الضائع في عالم عربي ضائع
المزيد.....
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
-
معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا
...
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
-
مايكروسوفت تطلق تطبيقا جديدا للترجمة الفورية
-
مصر.. اقتحام مكتب المخرج الشهير خالد يوسف ومطالبته بفيلم عن
...
-
محامي -الطلياني- يؤكد القبض عليه في مصر بسبب أفلام إباحية
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|