احمد الهاشم
الحوار المتمدن-العدد: 1047 - 2004 / 12 / 14 - 08:27
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
حين كتب اشبنغلر كتابه " تدهور الحضارة الغربية "لم يكن يقصد بالتأكيد تشغيل معاوله لهدم صرحها و لا الشماتة في انحطاطها ان كانت قد انحطت حقاً! وعلينا ان نستدرك متسائلين : وماذا نقول نحن بشان "حضارة "نا؟ فيالها من مفردة, هذه الحضارة, وكم تبدو اليوم غير متجانسة معنا, اذا كانت كانت حضارة الغرب متدهورة!!). لم يكن اشبنغلر فرحا "بتدهور" تلك الحضارة ولامستبشرا او مبشرا, بل كان منذراً. فقد مارس ذلك الدور الذي عز ممثليه لدينا : النقد. فقد تقبلت الحضارة الغربية مايقال فيها من نقد و طعن و مايقال عنها سلبا وايجابا. لانها تدرك ان تشخيص مواضع الخلل و نقاط الضعف هو الذي سيحصنها و يوفر لها المنا عة والمنعة ضد التدهور و الانحطاط. اصبح النقد جزءا من منظومة التقويم و التقييم الذاتيين. وهو اضافة الى ذلك سبيل اية حضارة قوية. فمن هذه القوة تنبع الثقة بالنفس التي تجعلها لاتقيم الدنيا و لاتقعدها لان احدا قال فيها ما لا يعجبها. و انظروا الى المؤلفات المعنونة باسم النقد ابتداءً من نقد العقل المحض و نقد العائلة المقدسة ونقد النقد ونقد العقل العلمي الحديث و القائمة طويلة. من المؤكد ان كانط و ماركس وباشلار ونيتشه صاحب" افول الاصنام"( تدهورها!) وتدوروف وغيرهم لم يكونوا مغرضين و لا متآمرين على حضارتهم و اممهم.
واذا ما نظرنا الى ما قاله نيتشه بشأن الحضارات القوية التي يرى انها تتسامح مع اخطاء افرادها و هفواتهم فانما مرد ذلك الى ثقة هذه الحضارات بنفسها. في حين نبدو نحن وكأننا مكلومون مجروحون سلفا لانحتمل رضَة نقدية. وتلك قرينة الشعوب المهزومة.
اقول هذا وانا اقرأ ما قاله الفنان جمال سليمان عن ناقد- راشد عيسى- يتعاطى الصحافة منبرا, متهما اياه بانه ارهابي. واعتراضي على مايقول لا يتأتى من كونه نقد كلام الناقد – فليته فعل ذلك –وانما لانه اساء. اذ كنا ننتظر من الفنان ان يعطي درسا في تقبل النقد , لا ان يصبح مرآة مقلوبة لسلوك سياسينا. كنا ننتظر منه ان يثقف السياسة فإذا به يسيس الثقافة. و بدلا من ان يجيب على النقد او ينقد النقد و جدناه شتَاما. ومبعث الخطورة في امر كهذا انك ستفقد الامل في أي اصلاح و سنكون كمن ينتظر غودو. فاذا كان الفنان يزاود على السياسي في تشنجه و تزمته وعدم قابليته على تقبل مايقال فما بالك بالسياسي ( حتى انك لتحمد الله ان عملية الخصخصة لم تشمل السجون ولا قوانين العقوبات والا لاصبح لكل من لا يستسيغ رأيا سجنه الخاص. مما يدفعنا الى القول, درجا مع المثل الشائع, السجن السيئ الذي تعرفه افضل من السجن الجيد الذي لاتعرفه !!! ). نعم انها كارثة تبعث على القنوط والاحباط. ممن سننتظر اذاً ردة الفعل المتفهمة التي لااريد ان امنحها اسما آخر مثل ردة الفعل الديمقراطية خشية ان يقال هذه المرة انني اميركي الهوى. فاذا كانت صفة "الارهابي" تلصق بالآخرين بهذه السهولة فما بالك بسهولة اتهامك بالامركة.
النقد , او بالاصح الدور النقدي هو ماتبقى للمثقف على نطاق عالمي, هذا مايفعله هابرماس اليوم و فعله بورديو وفوكو و دلوز والقائمة طويلة. فقد انطفأ وهج المثقف العضوي و الايدلوجي والتنويري. ولكن ظل الدور النقدي هو ما يمنح الثقافة مسوغ الوجود. نقد الافكار والمسلمات و الاديان والايدلوجيات والعلم.طيف واسع من الخيارات المعرضة للنقد. وصولاً الى القابلية على نقد مانرتكز اليه حين ننقد كي لايتحول النقد بدوره الى لاهوت اخر. ستبدو معجزة ان تجاوز عدد من تعاطى الدور النقدي أصابع اليد الواحدة في مشهدنا الثقافي العربي.
لا يقف اعتراضي عند حدود ما قاله الفنان جمال سليمان ,وانما لدي تعارضي المعرفي مع راشد عيسى. فهو عادة ما يهتم بالسيئ و ينقد الرديء. وانا أقول ان تناول الجميل اكثر مدعاة للاهتمام و يجعل الردئ في حكم النافل. إذ عسى ان يأخذ الأخير من الاهتمام الذي يوليه النقد للجميل سبيلا الى إصلاح نفسه. وهو اختلاف معرفي واضح. و لكنني لا أنكر ان بعض ما يكتبه راشد يتلبس صفة المشاكسة المستملحة وهي مشاكسة لم ينله منها سوى ما ينغص و سوى تناقص عدد من يلقون عليه التحية في المقهى والشارع. ولكن وأخشى ما اخشاه ان يكون راشد من ذلك الطراز الذي قد يصاب باضطراب الدورة الدموية ان تبرع بكلمة إعجاب. فهو في هذه الحالة سيدخل باب المو تورية و التزمت التي نؤاخذ عليها من نسميهم موظفو الحقيقة وسدنة السائد .وهو كما يبدو يحب ان يعيش في خانة السلب والنفي و ليس الإيجاب والموافقة. و لكنني و الحق يقال لا أحبذ من لا يمتلك في داخله روح الرفض. و الا ما السبب في معارضتي لنظام صدام حسين.
وبرغم إنني كنت أدعو راشد الى الاهتمام بالجميل بدلا من الردئ , فإنني لم أجد في الوقت نفسه في ما قاله جمال سليمان الجميل الذي كنت انتظره. فقد باغتنا بمنطوق جعلني اشعر ان الجميل الذي أتحدث عنه هو محض خيال لا تتلمسه واقعا. ومن ثم فان الجميع أمام آلية قلب الطاولة. وبسبب ماذا ؟ بسبب رأي في عمل فني . والاخير كما نعلم يفترض تعددية التأويل والفهم وتلك هي خصيصته . والا لاصبح قانونا علميا صفته الاقرار الجمعي .وهو امر لايمكن للفن ادعائه لانه بذلك سيفقد خصيصته النوعية وسيندرج في خانة الكم وليس النوع .فميزة الفن والادب و الفلسفة والفكر هو انها حمالة اوجه ومن يدعي ان ثمة فهما واحدا موحدا لها فسيكون مجاله الوحيد هو العمل خارجها وليس التحايث معها. ولن يحتاج الى امر اداري لفصله من مجال الاشتغال فيها. اقول ذلك متسائلا عن اسباب امتعاض جمال سليمان من رأي في عمل لايعد فيه هو سوى حلقة من ضمن حلقات عديد ة منها الاخراج والتاليف و سائر القضايا التقنية الاخرى.
ثم ان العمل الفني ما ان يخرج الى الجمهور حتى يصبح ملك الاخير. وله ان يقول فيه مايشاء , ولندع لسياسيي العالم الثالث نعيم النسب المئوية" الباهظة "الاصوات ,في الجواب بالتاييد وهو امر لانظنه يشرف الفن. فالاخير فضاء اختلاف .
وقد شهدت مسرحية لمخرج عراقي موهوب و مخلص لمشغله الفني هو باسم القهار, كتب عنها راشد. و كانت ردة فعل المخرج تهجمية على الناقد. و لكنني وجدت في العرض الثاني لهذه المسرحية نفسها ان ما انتقده راشد عيسى هو نفسه ما حذف من نسختها الجديدة. و لا افترض ذلك مأخذا بل هو على العكس درجة عالية من الوعي والاقرار لا استبعدها مطلقا من مخرج وفي لفنه بمنزلة باسم القهار.
ثمة جمال في ما فعله القهار و ثمة نقيضه في ما قاله "جمال" .
#احمد_الهاشم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟