|
أمية محمد
علال البسيط
الحوار المتمدن-العدد: 3486 - 2011 / 9 / 14 - 08:59
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
يذهب جمهور المسلمين قدماء ومحدثين بغية إثبات نبوة محمد، وإظهار معجزة رسالته، إلى الزعم بأن هذا الذي أتى بهذا القرآن وما فيه من فنون المعارف والأخبار، وحسن التخلص، ودقة المسلك، وكرم الديباجة، وتمام الصنعة، كان (أميا) لا يقرأ ولا يكتب، فكيف تهيأت له كل تلك المعارف والعلوم، والمدارك والفهوم، والإخبار بما فات، والإطلاع على ما هو آت، إن لم يكن تلقاه وحيا من ربه وتوقيفا من عنده؟
أدير الكلام في هذا المقال حول مدى صحة هذه الدعوى العريضة (أمية محمد) وهي من الأفكار المتلقاة received ideas التي يستهلكها الناس دون فحص أو تحقيق، فلنسلك إذا في تخليصها وتحريرها، ونخلها ومخضها، حتى نخرج زبدتها ونطرح الجفاء وما أكثره في تاريخ الإسلام..
قبل أن نسترسل إلى ما قصدنا إليه في هذا المبحث، لا مناص أن نحدد معنى المعجزة، وهل يكفي الزعم بكون محمد لا يكتب ولا يقرأ في إقناعنا أنه مرسل من قبل الله؟ المعجزة عند المسلمين هي حادث خارق لنواميس الكون، شاذ عن السنن المطردة فيه، ومن ثم يكون الرجل الذي ساقها مساق الدليل رسولا من عند الله، لكننا لا نسلم لأصحاب هذا التعريف بذلك وننكر أن تكون أمية محمد صالحة للدلالة على مقاصد أصحابها، ولا تلزمنا الحجة بصدق ما يعرضه محمد من دعاوى وأنباء. وبيان ذلك أن دعوى الإعجاز التي أتى بها محمد هي بلاغية خطابية، فالقرآن بزعمهم منشور معجز بلفظه، وبيانه ونظمه، تحدى به محمد قومه مع عجزه عن تهجي الحروف، وإقامة الخطوط، بيد أن المعرفة بالكتابة والقراءة عند العرب وغيرهم من الأمم، ليست شرطا في الاتيان بالكلام البليغ، فالقول الفصيح الموزون، والبيان المتناهي المحكم، ليس مرهونا بمعرفة القائل بأصول الكتابة والقراءة، والتاريخ متواتر بأخبار الشعراء والخطباء، الذين كانوا يلقون مطولات القصائد، ومخلدات الخطب، مع تبحر في المعاني، وتصرف في الألفاظ، ولا يكادون يسكتون، ومع ذلك كانوا يرتجلونه ارتجالا، ويرسلونه إرسالا، دون إعداد وكتابة، أو إنشاء وفضل قراءة. ويؤكد الجاحظ هذا المعنى بقوله في البيان والتبيين: ( وكلُّ شيءٍ للعرب فإنّما هو بديهةٌ وارتجال، وكأنّه إلهام، وليست هناك معاناةٌ ولا مكابدة، ولا إجالةُ فكر ولا استعانة، وإنّما هو أن يصرفَ وهْمَه إلى الكلام، وإلى رجَزِ يومِ الخصام، أو حين يمتَح على رأس بئر، أو يحدُو ببعير، أو عند المقارعة أو المناقلة، أو عند صِراع أو في حرب، فما هو إلاّ أن يصرف وهْمَه إلى جملة المذهب، وإلى العمود الذي إليه يقصد، فتأتيه المعاني أرسالاً، وتنثال عليه الألفاظ انثيالاً، ثم لا يقيِّده على نفسه، ولا يَدْرُسه أحداً من ولده، وكانوا أُمِّيِّين لا يكتبون، ومطبوعِين لا يتكلَّفون، وكان الكلام الجيِّد عندهم أظهرَ وأكثر، وهم عليه أقدر، وله أقهَر، وكل واحدٍ في نفسه أنطَق، ومكانُه من البيان أرفع، وخطباؤهم للكلام أوجَد، والكلام عليهم أسهل، وهو عليهم أيسر من أن يفتقروا إلى تحفُّظ، ويحتاجوا إلى تدارُس، وليس هم كمن حفِظ علمَ غيرِه، واحتذى على كلام مَن كان قَبله، فلم يحفظوا إلاّ ما عَلِق بقُلوبهم، والتحم بصدورهم، واتّصل بعقولهم، من غير تكلف ولا قصد، ولا تحفُّظ ولا طلب..)
وهذا الذي قاله ليس خصيصة للعرب وإنما هو لكل الأمم، فلا حجة في القول بأن اتيان محمد بالقرآن، وتحديه لقومه به وهو على هذه الحال من الأمية والعامية والجهل بالكتابة والقراءة هو دليل نبوته وتأكيد للطابع المعجز للقرآن، فشرط المعجزة أن لا تتأتى لإنسان، ولا تصدر من غير إله، إذ ينبغي فيها من جهة أن تخرق النظام المعهود لدى الناس، ومن جهة أخرى أن تمنع أي ريب في إمكان وقوع ذلك الخرق بقدرة غير قدرة الله، والقرآن وأمية صاحبه (على فرض أنه أمي) لا يتحليان بهاتين الميزتين، فلا هما خرق لمعهود الناس، ولا هما يمنعان إمكانية حدوث ذلك بقدرة غير قدرة الله، فالقرآن أسلوب في الكلام قصارى القول فيه أنه إبداع أدبي، وأمية محمد ليست مانعة له من الإتيان بأصناف البلاغة، والديباجة الكريمة، والسبك الحسن، والرونق العجيب. ثم إن الأمية صفة نقص توحي بالسذاجة والعامية والجهل، في حين أن مبنى النبوة على الكمال والعلم والمعرفة، فيا للعجب أن يستدل للمعجزة بعدم المعرفة بالقراءة والكتابة.
فإذا تبين هذا انصرفنا إلى البحث في صحة ما إذا كان محمد لا يعرف الكتابة والقراءة، وسوف ننطلق إبتداء من فحص النصوص الأولى المؤسسة لهذه العقيدة المتفشية بين المسلمين، وهي باعتبارها بسبب وثيق، ونسب متين، من ثبوت المقدس، أصبحت جزءا من المقدس، وبالتالي فإن أي نقد لها تجعل المسلم رافضا له بطريقة آلية لأنه( أي النقد لهذا المعطى) يهدد العالم الاعتقادي الذي بنى المسلم عليه أصول إيمانه، وأساس وجدانه، ويوشك بنقضه، أن ينهار به ويخر عليه من أركانه. تنقسم النصوص الأساسية التي أقام عليها علماء المسلمين دعواهم في الإستدلال على عدم معرفة محمد الكتابة والقراءة، إلى ما جاء في كتب السيرة والتاريخ، وما رواه الرواة في كتب الرواية و الحديث، وما ذكر في القرآن من وصف محمد بالأمي وأتباعه بالأميين، وسنأخذ كل قسم منها على حدة بالفحص والتحقيق حتى نخلص إلى رأي قويم متين وفهم موضوعي مكين في هذه المسألة: أما كتب السير والتاريخ، فتعود بنا في هذا الصدد، إلى ما رواه محمد نفسه عن أول اتصال له بالملك جبريل، حيث جاء في رواية ابن إسحاق بهذا السياق: ... جاءه جبريل بأمر الله، فقال رسول الله: جاءني وأنا نائم فقال: إقرأ، فقلت: وما اقرأ؟ حتى ظننت أنه الموت، ثم كشطه عني فقال: إقرأ، فقلت: وما أقرأ فعاد لي مثل ذلك ثم قال: إقرأ، فقلت: وما أقرأ؟ وما أقولها إلا تنجيا أن يعود لي بمثل الذي صنع بي فقال: "إقرأ بسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. فدلت صيغة الإستفهام (ما أقرأ) بمفهومها الضمني، على معرفته بالقراءة، إذ لو كان يجهل ذلك لما سأل ماذا يقرأ، وتكرر ذلك منه زاد هذا المعنى قوة وتوكيدا. وكذلك أوردها ابن جرير الطبري في تاريخ الرسل والملوك، والذهبي في تاريخ الإسلام، وغيرهم من المؤرخين وكتاب السيرة، من طرق مختلفة منها ما روته عائشة بصيغة الاستفهام: وما أقرأ؟. لكن كتب الحديث توردها بصيغة النفي لا الاستفهام، وذلك في رواية البخاري ومسلم عن عائشة أيضا وفيها قوله لجبريل حين قال له اقرأ: لست بقارئ، وفي رواية : ما أنا بقارئ. فهذه روايات متناقضة بعضها إلى النفي، وبعضها إلى الاثبات بطريق الإستفهام، ولا مرجح بينها. لكننا حتى في حال الترجيح نفيا أو إثباتا لا يمكن الإستدلال بها على حقيقة معرفته القراءة والكتابة، إذ هي تظل رؤيا منام وقد يرى النائم أمورا لا حقيقية لها خارج الذهن، كما أنه قد ينفي أحوالا يثبتها حال اليقظة، فلذلك لن نقف عند هذه الروايات، لأنها لا تقيم دليلا نطمئن إليه في هذه المسألة.
أما القرآن فهو المعول عليه بالنسبة للذين يزعمون أن محمدا كان لايكتب ولا يقرأ، ونحن سوف نناقش حججهم ونبين بطلانها: يحتج المسلمون في هذا الصدد بالآيات التي تصف محمدا بأنه أمي وتصف أتباعه بالأميين وهي على التوالي: 1-(الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ) 2-( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ) 3-( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ ) 4-(وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) 5-(وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ)
فهل هذه الآيات فيها ما يدل على عدم معرفة محمد للقراءة والكتابة؟ الفهم السائد الذي ترسخ منذ القرن الثالث هو أن الأمي هو من لا دراية له بالقراءة والكتابة، كما هو شائع اليوم بين الناس، وإياه يريدون حين يقولون: محو الأمية، محاربة الأمية، رجل أمي، فهل هذا هو المعنى المراد في تلك الآيات؟ وهل كانت العرب تعرفه بهذا المفهوم؟ لا بد لحل هذا الإشكال المعرفي من الرجوع بالكلمة إلى أصلها الأول، إلى حمولتها المعنوية في عهد محمد قبل التوليد الطارئ عليها فماذا تعني كلمة أمي وأميين في القرآن وفي لغة القرآن، وكيف تم الاصطلاح عليها؟ لابد لنا في الإجابة عن هذا السؤال من العودة إلى المعنى اللغوي لهذه الكلمة لنرى مدى تطابقها مع المعنى الشائع عنها، فمن خلال مراجعة مادة (أ م م) من المعاجم العربية وهو الأصل الذي اشتقت منه كلمة أمي وأمية لا نقف البتة على المعنى المراد به عدم الكتابة والقراءة، إلا في نص نسبه صاحب لسان العرب للزجاج قال: والأُمِّيّ: الذي لا يَكْتُبُ، قال الزجاج: الأُمِّيُّ الذي على خِلْقَة الأُمَّةِ لم يَتَعَلَّم الكِتاب فهو على جِبِلَّتِه وقول أبي إسحاق: معنى الأُمِّيّ المَنْسُوب إلى ما عليه جَبَلَتْه أُمُّه أي لا يَكتُب، فهو في أَنه لا يَكتُب أُمِّيٌّ، لأن الكِتابة هي مُكْتسَبَةٌ فكأَنه نُسِب إلى ما يُولد عليه أي على ما وَلَدَته أُمُّهُ عليه.وفي الحديث: بُعِثتُ إلى أُمَّةٍ أُمِّيَّة؛ قيل للعرب الأُمِّيُّون لأن الكِتابة كانت فيهم عَزِيزة أَو عَديمة؛ وقيل الأُمِّيُّ: العَييّ الجِلْف الجافي القَليلُ الكلام.
فهذا التفسير للكلمة هو من قبل الاستدلال والترجيح، وليس من طريق الاستشهاد الذي يثبت به المعنى الأول للكلمة، والذي يؤخذ توقيفا من كلام العرب وأشعارها. ولا يوجد في كلام العرب في الجاهلية شاهد واحد يدل على أنهم كانوا يطلقون صفة الأمي على من لا يعرف الكتابة والقراءة. كما أن في وصف الأمي بالعيي و الجلف الجافي، غميزة في نبيهم محمد، دون أن ينتبهوا لذلك، لأن انشغالهم بمسألة إثبات عدم قراءة وكتابة محمد للتدليل على نبوته حتى في مباحثهم اللغوية، وتكلفهم لذلك ما لا تطيقه اللغة، ولا يحتمله البيان، قد أعماهم في واقع الأمر عن كونهم يقعون في تسفيه محمد ووصفه بصفات العي والحصر، والجلافة والعجمة، والعجز عن الإبانة. هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن الاحتجاج بقول محمد: نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، فيه نظر من وجوه، فإن جملة لا نكتب ولا نحسب ليست بدلا أو مرادفا معنويا ل (أمة أمية) وإنما استطراد، وإلا لو كان معنى الأمية هو هو لا نكتب ولا نحسب، لكان تحصيل حاصل، لا طائل وراءه كقوله: نحن أمة جاهلة بالكتابة والحساب، لا نكتب ولا نحسب!!. ووجه آخر هو أن العرب لم يكونوا جاهلين بالكتابة والقراءة، ولم يكونوا (أميين) بالمعنى الشائع للكلمة، بل إن الكتابة كانت شائعة بينهم قبل ظهور محمد فيهم وفي زمنه، يشهد لذلك العدد الكبير لكتبة القرآن، وغيرهم ممن اتخذهم محمد ككتاب لعهوده ومواثيقه ورسائله التي بعث بها في الآفاق إلى ملوك الأمم المعاصرين لدعوته، وعلى رأسهم الخلفاء الأربعة، وكان كثير منهم يقرأ التوراة والإنجيل، ففي مسند أحمد وغيره أن عمر أتى محمدا بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب، فغضب وقال: لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي. وفي قصة إسلام عمر حين ذهب إلى بيت أخته وعندها خباب بن الأرت معه صحيفة فيها سورة طه يقرؤها إياها وفيه أن عمر تناولها وقرأها. بل إن عبد الحكم الجمحي كانت له مكتبة في مكة يغشاها الناس للقراءة والمثاقفة، كما ذكر ذلك الأصفهاني في كتاب الأغاني قال: كان عبد الحكم بن عمرو بن عبد الله بن صفوان الجمحي قد اتخذ بيتاً فجعل فيه شطرنجاتٍ ونرداتٍ وقرقاتٍ ودفاتر فيها من كل علم، وجعل في الجدار أوتاداً، فمن جاء علق ثيابه على وتدٍ منها، ثم جر دفتراً فقرأه، أو بعض ما يلعب به فلعب به مع بعضهم. بل إن في الرواية التي ساقها ابن إسحاق في الفصل الذي عقده عن نذر عبد المطلب جد محمد الأدنى، ما يدل على أنه وأولاده بمن فيهم عبدالله والد محمد، كانوا يقرأون ويكتبون قال: وكان عبد المطلب بن هاشم فيما يذكرون، قد نذر حين لقي من قريش - عند حفر زمزم - ما لقي: لئن ولد له عشرة نفر، ثم بلغوا معه حتى يمنعوه، لينحرن أحدهم لله عز وجل عند الكعبة، فلما توافى بنوه عشرة: الحارث، والزبير، وحجل، وضرار، والمقوم، وأبو لهب، والعباس، وحمزة، وأبو طالب، وعبد الله، وعرف أنهم سيمنعونه، جمعهم ثم أخبرهم بنذره الذي نذر، ودعاهم إلى الوفاء لله بذلك، فأطاعوا له، وقالوا له: كيف تصنع؟ فقال: يأخذ كل رجل منكم قدحاً، فيكتب فيه اسمه، ثم تأتوني، ففعلوا، ثم أتوه..
أما الحساب فهو فرع الكتابة، ولسنا نتصور محمدا الذي كان أوائل أمره تاجرا يتردد إلى الشام، ويغشى الأسواق، ويتصرف في البضائع والأموال، وما يتطلبه ذلك من معرفة بالحساب وتمييز للأعداد وما إلى ذلك- لا يكتب ولا يحسب، أضف إلى ذلك أن السكة أي صناعة الدراهم والدنانير، كانت معروفة ومستعملة في زمنه، وفي الحديث الذي رواه أبو داود وغيره: (نهى رسول الله عن كسر سكة المسلمين الجائزة بينهم إلا من باس. دليل على ما ذكرناه إذ لا معنى لسك العملة وقوامها الحساب بين قوم لا يكتبون ولا يحسبون. أضف إلى ذلك الروايات الصريحة التي تفيد أنه كتب وقرأ كتلك الأخبار التي تتحدث عن كتابته وثيقة صلح الحديبية، ففي حديث البراء الذي رواه مسلم في صحيحه أن محمدا طلب إلى علي كتابة عقد الصلح مع قريش، فقال له: اكتب الشرط بيننا : (بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله)، فقالت قريش: لو نعلم أنك رسول الله تابعناك، ولكن اكتب محمد بن عبد الله، فأمر علياً أن يمحاها فقال علي: لا والله لا أمحاها، فقال محمد : (أرني مكانها فأراه مكانها) فمحاها، وكتب بن عبد الله. فدل أنه كاتب قارئ بما لا يدع مجالا للشك.
وبما أن علماء الإسلام كما هو معلوم قد جعلوا جهل نبيهم بالكتابة والقراءة أحد الأسس والمرتكزات التي يستندون إليها في إثبات نبوة محمد، فقد كفروا كل من استند إلى هذا الحديث في القول بأن محمدا كان يعرف الكتابة والقراءة (راجع تفسير القرطبي في كلامه عن كتابة محمد في صلح الحديبية) ، وذهبوا في تأويل الواقعة مذاهب شتى، تهافتة فيها آراءهم، وتناقضت حولها أقوالهم، وكفر بعضهم بعضا، ذلك أنهم قوم لا يفقهون. فاستشكلوا كيف تطلق يده بالكتابة فجأة بعد أن لم يكن يكتب، فردوا على القائلين بأنها آية خارقة، ومعجزة تضاف إلى معجزاته، بأنها مناقضة للآية التي تقول: وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون. فكيف تكون معجزة له، والمعجزة إنما كونه لا يكتب؟ والمعجزات يستحيل أن يدفع بعضها بعضا-والكلام لهم-، فلما طال بهم المقام، وكان لا بد لهم من تقديم جواب عن ذلك، قالوا إن معنى: كتب وأخذ القلم؛ أي أمر من يكتب به من كتابه!! فهل سمعت أبرد ولا أتفه من هذا التخريج؟ والتحقيق عندنا، بعيدا عن هذا اللغو البئيس، أن محمدا كان كاتبا قارئا، بل كان حاذقا في ذلك غاية الحذق، متقنا لتلك الشؤون أيما إتقان، ففي تفسير القرطبي، أن معاوية كان يكتب بين يدي محمد فقال له هذا الأخير: (ألق الدواة وحرف القلم وأقم الباء وفرق السين ولا تعور الميم وحسن الله ومد الرحمن وجود الرحيم) وهذا كلام لا يصدر إلا عن خبير بأصول الكتابة بصير بدقائقها، متمرس فيها إلى أبعد غاية، والرأي الذي وقفنا عليه من خلال اعتبار القرائن والشهادات، واستقراء البواعث والغايات، أن محمدا كان مطلعا على التوراة والانجيل، خبيرا بما جاء فيهما من شرائع وأحكام، وأخبار وأنباء، ومعارف وعلوم، وثبت أنه كان يجلس إلى أهل الكتاب ويسمع منهم، وكان له خادم نصراني اسمه جبر، وكان عليما بأسرار النصرانية، كان يأخذ عنه علم القدماء، بل ذهب بعض العلماء إلى أنه كان يتكلم الفارسية، ونقلوا في ذلك روايات وألفاظ تلفظ بها من لغات أخرى، ولأبي جعفر الكتاني كتاب في ذلك سماه: (المطالب العزيزة الوافية في تكلمه عليه السلام بغير اللغة العربية) وجاء في فتح الباري لإبن حجر قوله معلقا على قول البخاري: (باب من تكلم بالفارسية) قال: (كأنه أشار إلى أن النبي كان يعرف الألسنة). فاللذين موهوا على الناس بأن محمدا كان جاهلا بالكتابة والقراءة، وجعلوا من كلمة أمي -الذي هو لفظ مولد - يعني عدم القراءة والكتابة، إنما راموا صرف الأنظار والشكوك عن إمكانية واحتمال حشو محمد قرآنه بما حصله من إدامة النظر في كتب أهل الكتاب وغيرهم، خاصة وأن كثيرا مما في القرآن من قصص الأمم البائدة، وأخبار من غبر من الرسل والملوك و الأنبياء، تكاد تطابق ما جاء في التوراة والإنجيل، وهذا ما يفسر غضبه كلما رأى أحدا من أصحابه يطالع شيئا من تلك الكتب ولعل هذه الرويات التي نوردها في هذا الصدد، تؤكد هذا المعنى وتجلوه، فمما جاء في كتب الحديث قوله لأصحابه : ما هذه الكتب التي يبلغني أنكم تكتبونها، أكتاب مع كتاب الله؟ يوشك أن يغضب الله لكتابه فسيرى عليه ليلاً فلا يترك في ورقة ولا قلب عنه حرفاً إلا ذهب به، من أراد الله به خيراً أبقى في قلبه لا إله إلا الله. وقوله: لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإني أخاف أن يخبروكم بالصدق فتكذبوهم أو يخبروكم بالكذب فتصدقوهم، عليكم بالقرآن فإن فيه نبأ من قبلكم وخبر ما بعدكم وفصل ما بينكم. وقوله: لا تحملوا دينكم على مسائلة أهل الكتاب فإنهم قد ضلوا وأضلوا من كان قبلكم ضلالاً مبيناً. ومنها أيضا: والذي نفس محمد بيده لو أصبح فيكم موسى ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم ضلالاً بعيداً ألا إنكم حظي من الأمم وأنا حظكم من الأنبياء. ومنها قول عمر: رآني رسول الله وأنا أمسك مصحفا متشرما -أي ممزقا- فقال ما هذا؟ فقلت: جزء من التوراة فغضب وقال: والله لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي. فهذه الرويات تظهر مدى كرهه أن يطلع أصحابه على ما في الكتب والصحف الدينية الأخرى، خشية أن يفقد مزية التفرد بما ضمه لهم في القرآن من أخبار وأساطير، يزعم أنه تلقاها وحيا من عند الله، وإلا يكن هذا، فما الداعي للغضب والتهديد وإغلال العقول عن النظر والفكر مادام دين الأنبياء واحد، والحق يظاهر الحق ولا يناقضه!! بقي قبل أن نطوي بساط هذا الكلام أن نبين المعنى اللغوي و الاصطلاحي للأمي والأميين في الآيات التي ذكرناها أعلاه، بعد أن بينا أن الأمية بالمعنى الشائع وهو الجهل بالكتابة والقراءة لا أصل له في اللغة العربية ولا شاهد له يذكر في كلام العرب. أما لغويا فقد جمع صاحب لسان العرب وغيره من اللغويين والمقعدين للغة العربية الأصول المعنوية التي يمكن أن تكون مرجعا لهذه الكلمة، فمنها أن يكون المقصود بالأمي هو المنسوب لأم القرى، وهي مكة والأميون بهذا الاعتبار هم المكيون أو القرشيون، أو أن تكون النسبة في الأمي إلى أم الكتاب وذلك في الآية: وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم. وأم الكتاب في قول هو القرآن فيكون المعنى المراد بالأميين هم القرآنيون أو أهل القرآن، وقيل غير ما ذكر. أما الذي نختاره في المعنى الإصطلاحي للأمي والأميين من مجموع ما اطلعنا عليه من آراء هو أن لفظ الأميين يشير إلى الذين ليس لهم كتاب سماوي فهم يقابلون أهل الكتاب أو بعبارة أخرى هم العرب الذين لم يكن لهم كتاب، وهو ما ذهب إليه الشهرستاني في الملل والنحل حيث قال: وكانت اليهود والنصارى بالمدينة؛ والأميون بمكة... وأهل الكتاب كانوا ينصرون دين الأسباط، ويذهبون مذهب بني إسرائيل، والأميون كانوا ينصرون دين القبائل ويذهبون مذهب بني إسماعيل.وهو اختيار ابن عباس أيضا في فيما رواه عنه الطبري قال: الأميون قوم لم يصدقوا رسولا أرسله الله، ولا كتابا أنزله الله، فكتبوا كتابا بأيديهم، ثم قالوا لقوم سفلة جهال: هذا من عند الله. فيا للعجب كم يطابق هذا التعريف من ابن عباس ترجمان القرآن نفسه، حال محمد وأصحابه، فهو كتب لهم كتابا وقال لهم: هذا من عند الله، فتابعوه عليه صما وعميانا، ثم تلاحقت به السنون، وكرت بكوارثه الدهور، وألفت في إعجازه الموهوم، وأساسه المهدوم، التواليف العظام الضخمة، والرسائل الطوال الفخمة، فانقضت في ذلك الأعمار، وكل ما هنالك شطحات فقيه، وأغلوطات سفيه، ومقامع مزبورة سموها أحكاما، وجهالات منشورة علقوها برهانا، عمل من لا يدري لمن لا يفهم.
#علال_البسيط (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
متى يعقد المأذون قران المثليات؟
-
مشانق القرآن
-
بَيْنَ بَيْنْ
-
جناية الإسلام على الفنون والآثار
-
الراعي والنساء
-
الدامغ للقرآن
-
متى تعود الأصنام إلى الكعبة ؟
-
اثبات تحريف القرآن
-
حاسبوا الله على سوء توزيع الأرزاق
-
في المسلمات الاسلامية.. الحديث النبوي وتخرصات الحفاظ -1
-
قبلة فرنسية...
-
صعصعة الديموقراطي
-
جيوش الصائمين وكتيبة المفطرين
المزيد.....
-
لوباريزيان: سجن 3 طلاب أرادوا إنشاء دولة إسلامية بفرنسا
-
“هالصيصان شو حلوين”.. اضبط تردد قناة طيور الجنة الجديد 2024
...
-
“شاور شاور”.. استقبل تردد قناة طيور الجنة الجديد 2024 على ال
...
-
قصة الاختراق الكبير.. 30 جاسوسا معظمهم يهود لخدمة إيران
-
بالفيديو: خطاب قائد الثورة الإسلامية وضع النقاط على الحروف
-
السفير الديلمي: كل بلدان العالم الاسلامي مستهدفة
-
مقتل وزير اللاجئين في حركة طالبان الأفغانية بانفجار في كابول
...
-
المرشد الأعلى الإيراني: الولايات المتحدة والنظام الإسرائيلي
...
-
المرشد الأعلى في إيران يعلق على ما حدث في سوريا
-
بابا الفاتيكان يوجه رسالة للقيادة الجديدة في سوريا
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|