تأملات / وللترشيق في خلقه شؤون !
رضا الظاهر
2011 / 7 / 25 - 19:39
... والترشيق يعني، أساساً، التخلص مما هو زائد عن الحاجة، ومنه، مثلاً، تخفيض الوزن عبر التخلص من الشحوم. ورشيق القوام معتدل القامة، ورشيق الكلام لطيفه، ورشيق الخط جميله، ورشيق العمل خفيفه وسريعه، ورشيق العقل راجحه وعميقه، ورشيق القلب حساس ورقيق المشاعر ...
هل تتذكرون (رسالة التربيع والتدوير) التي كتبها الجاحظ في هجاء أحمد بن عبد الوهاب، الكاتب في عهد الخلفة العباسي الواثق ؟ فقد كان أحمد بن عبد الوهاب هذا، حسب وصف الجاحظ، مفرط القصر يدعي أنه مفرط الطول، وكان مُربَعاً جَعِد الأطراف، وهو في ذلك يدعي البساطة والرشاقة. وكان ادعاؤه لأصناف العلم على قدر جهله بها.
غير أن ترشيق حكومتنا يختلف عن كل ترشيق، ليس فقط لأنه عراقي، وبالتالي يجب أن يكون نسيج وحده، ذلك أن العراقيين لا يعجبهم العجب ولا الصيام في رجب، وإنما لأن القائمين عليه نسوا أن يقرأوا آية الكرسي عندما بدأوا النية في الترشيق، إذ شغلتهم كراسيهم، وسيظلون بها في شغل عن مآسي البلاد والعباد !
وفي بعض الأحيان يتحول الترشيق العراقي الى تراشق، كلامي اتهامي، لا بالتصريف اللغوي وانما بتصريف الواقع، وهذا ما نشهده جلياً بين كتل متنفذة تستمر في التصارع على المغانم والامتيازات.
وقد حق لمحللين أن يتساءلوا: أيمكن لحكومة "الشراكة الوطنية" المترهلة أن تتحول الى حكومة رشيقة وقد كان الترهل قرار القوى السياسية المتنفذة ذاتها التي تدعو الآن الى الترشيق ؟ وما هي معايير هذا الترشيق وآفاق وثمار إنجازه ؟ وهل أسبابه الموجبة تنحصر في الحفاظ على المال العام، حيث سيحتفظ المشمولون بعملية الترشيق بامتيازاتهم، أم تتجاوز هذا الهدف ؟ أيمكن للوزارات المرشقة، وهي وزارات دولة وذات ميزانية محدودة أساساً، أن تفلح في خفض إهدار المال العام في دولة هي من بين الأكثر فساداً في العالم ؟
وهؤلاء المحللون يتوقعون أن يؤدي الترشيق، الذي لابد أن يستغرق وقتاً طويلاً حيث لم يتم تحديد سقف زمني لتنفيذ إجراءاته بعد الانتهاء من نقاشها في البرلمان وإقرارها، الى أزمة سياسية جديدة لا الى حل أزمة راهنة. كما أن الكتل المتنفذة المتصارعة لم تخفِ خشيتها من أن تعمق هذه الأزمة الصراعات داخل الكتلة الواحدة حيث يجري، عادة، اعتماد مبدأ الاستحقاق الانتخابي المحاصصاتي والتوافق السياسي في إرضاء القوى والشخوص. وفي هذا السياق كانت هناك مناصب استحدثت بسبب هذا النهج "التوافقي"، وبينها، بالطبع، مجلس السياسات الستراتيجية لاشغاله من قبل رئيس القائمة العراقية، وهو منصب مثير للجدل وموضع صراع متفاقم. ومن غير المستبعد أن يزعج مثل هذا الترشيق البعض لأن أغلب الحقائب الوزارية كانت لأغراض الترضية والتواطؤ في إطار شراء السكوت المتبادل.
ويلفت الانتباه ما ورد في تقارير صحفية بشأن ما سمي بظاهرة بيع الحقائب الوزارية بدفع "سرقفلية" للتمتع بالمنصب الذي يدر أرباحا ويلبي امتيازات. وهي ظاهرة، إن صحت الأنباء الواردة عنها، تكشف عن أن هناك الكثير الذي يمكن شراؤه بالمال في "سوق سرية للحقائب الوزارية" عبر جهات معنية وبأساليب وقواعد راحت وسائل إعلام تفضحها.
ومن المؤكد أن الترشيق الذي يوحي بعض القائمين عليه بأنه وسيلة للتخلص من نهج المحاصصات سيستند الى نهج المحاصصات ذاته، وسيكون تكريساً له وليس سعياً الى التخلص منه. وبالتالي فانه مادامت منهجية المحاصصات قائمة وفاعلة ولا يمكن التخلي عنها فانه لا قيمة كبيرة لأي ترشيق يستند، بالضرورة، الى هذه المنهجية. ومن هنا اعتقاد بعض المحللين بأن إبقاء التشكيلة الحكومية بترهلها وثقلها على الموازنة المالية أفضل من الدخول في متاهات جديدة تلقي مزيداً من الغموض والفوضى على وضع يتسم بالتعقيد جراء أسباب كثيرة بينها التشبث بمنهجية المحاصصات الطائفية والاثنية، والدور المقيت الذي يمارسه "المحررون"، واستمرار الصراع بين المتنفذين على السلطة والمال والنفوذ، وضيق أفقهم في التفكير والممارسات الاستحواذية، واستهانتهم بحقائق الواقع ومعاناة الملايين المريرة.
وفي غضون ذلك تجري أحاديث كثيرة عن لقاءات قادة الكتل السياسية المتنفذة وتطلق تصريحات متناقضة بشأن ما يمكن أن تؤدي اليه من ثمار "منشودة". ومن المثير للأسى حقاً أن تهون المطامح الى حد اعتبار مجرد لقاء قادة هذه الكتل إنجازاً هاماً يستحق التهليل في الاعلام حتى وإن جرى وسط تبادل اتهامات وتهديدات بين الساعين الى "التوافق"، وطمس لحقائق، وضحك على الذقون، واستمرار لتعمق معاناة الناس في سائر ميادين الحياة.
* * *
كأن لسان حال متنعمين يلهج بالدعاء فيقول: أللهم إنا نرغب اليك في حكومة مرشّقة، ترقص على أنغام مموسقة. وهي حكومة تضلل المساكين بانجازات ملفقة، بينما تلقي بهم في أتون محرقة .. حكومة يطرحها التجار للمناقصة، وعمادها الأساس المحاصصة ..
لا ريب أنكم تعلمون أن أسباب الترشيق كثيرة، وحديثه ذو شجون .. وللترشيق في خلقه شؤون !
رشّق الله أجوركم بمصاب حكومة "الشراكة الوطنية" .. وجزاكم خير الجزاء على البلايا النازلة صباحَ مساء ..