الثورة العربية والوعي الطبقي للصراع
سمير دياب
2011 / 7 / 4 - 07:55
يكاد قدر الفرح الآن، يوازي قدر القلق، على مجرى الثورات الشعبية العربية، رغم الميل الثابت عندنا على قدرة وإرادة الشعب العربي على تحقيق خطوات نوعية تقدمية، بعد اجتياز البعض في ( تونس ومصر) القفزة الإنعطافية – النوعية الأولى لهما. كون هذه الأيقونات الشبابية والشعبية في حراكها اليومي بالشوارع والساحات، والمسلحة بشعاراتها الجذرية للإصلاح، وأصواتها الهادرة للتغيير، والأهم من ذلك إرادتها الصلبة التي تكبر يوماً بعد يوم في الميادين المتنقلة من بلد الى بلد عربي آخر، تطرح الواقع العربي المرير كما هو، في زمانه ومكانه، وكأنه- وهذا صحيح- نسخة طبق الأصل، غير مقلدة، أو مزورة في صدقها ومصداقيتها، والممهورة بخاتم " الشعب يريد إسقاط النظام".
الفرح، الأمل، الذي ارتسم على وجوهنا، والنابع من أعماق أعماقنا، كياننا، وجودنا، كبشر، كمواطنين متساوين في الظلم في دنيا العرب، صنعه صناع الثورات دائما، الشعب. وهو أمل للمستقبل رسمه الملايين في الشوارع متحدين أنظمة البؤس القابضة لعقود على لحظة الفرح هذه، التي تم الإفراج عنها بقوة الإرادة الشعبية، كمدخل للتغيير الديمقراطي الجذري. أي للتحرر السياسي- الاجتماعي.
اما مصدر- مصادر القلق المشروع عندنا، فيعود واقعاً إلى عدة إعتبارات:
أول وأخطر هذه الاعتبارات دون نقاش فيها، من وجهة نظرنا الفكرية والسياسية، هو الجديد في ألاعيب مشروع الشرق الأوسط الجديد، وأساليبه، وأقنعته المعلنة والمخفية لتقويض روح الثورة، وتنفيس أسسها ومنطلقاتها. بسبب أن المصلحة الحقيقية للإمبريالية الأميركية لا تكمن في إنتصار أي ثورة عربية، لأنها نقيض مشروعها الأوسطي المشغول عليه في المنطقة منذ عقود طويلة. هذا المشروع بقوته وعظمة قيادته وتخطيطه ٌأربك قبل بدء الثورة، بمقاومة في لبنان والعراق وفلسطين لم يكن يتوقعها أبدا، وبمناخ شعبي عربي ضده بالمطلق. ثم ٌ صعق أصحاب هذا المشروع من سرعة وقدرة الشعب العربي على التوالد كالفطر في الشوارع وإسقاط عامودين أساسيين من عواميد أنظمة المشروع الأميركي- الصهيوني في المنطقة، رغم كل القدرات التقنية والمادية، وكل الوسائل المخابراتية التقليدية من كتاب تقارير، وعيون، ولصوص، ودبلوماسية مقنعة، ومؤسسات دولية أو وطنية مموهة، لم تكن ترسل ولو إشارة من إشارات حواس الإنسان الخمس التي تنذر بقدوم هذه الثورة المفخرة.
لذلك فإن موقع الإمبريالية الطبيعي أن يكون معاديا لثوراتنا، بهدف ثرواتنا. وكل تمويه على خلاف ذلك مثل دعم ثورة هنا، أو التأكيد على الحقوق الديمقراطية هناك، عليه أن يجعلنا ، ويجعل شعبنا العربي في موقع المستنفر والمتيقظ أكثر لسيرورة الثورة ولأهدافها التحررية.
إما ثاني هذه الاعتبارات، هو طبيعة وبنية أنظمة الحكم الاستبدادية – الإشكالية القائمة، التي ابتعدت تباعاً عن أهدافها المعلنة التي كانت وسيلتها إلى كسب تأييد الجماهير أو قسم منهم، بحيث بدا التعارض بين الشعارات التي تحملها والممارسات التي تقوم بها، الأمر الذي جعلها انطلاقا من مصالحها الطبقية، أن تنظم الدستور- الدولة – المجتمع بكامله، وفق أهواء مصالحها أو مصالح حزبها الحاكم. دون أن ننسى للحظة أنها وقفت تاريخياً، وما تزال، ضد مصالح الطبقة العاملة والفئات الكادحة، ومشكلتها الرئيسية هي موقفها من الديمقراطية أو الحريات الديمقراطية، رغم زعمها خلال عقود أنها تسعى الى تكريسها، لكن ما حمله الجانب السياسي، في الظاهر، من التفرد والاستقلال هو، في الواقع، تبعي للجانب الاقتصادي الذي يحدد مجمل المنظومة الاجتماعية ، وإن تحرير الإنسان ، بالقياس الى هذا البعد الاقتصادي، من وجهة نظرها، سيسمح باستعادة جوهره السياسي. هذه المعادلة – الكذبة سقطت بالبرهان. وتبين أن حقيقة هذا "اللغو" في منظومة هذه الطبقة الحاكمة، هو عجزها عن تأمين الحريات السياسية والاجتماعية، لأنها عجزت بالأساس عن تأمين مجتمع الكرامة والكفاية، ولو بالحدود الدنيا، ما وسّع الفجوة- الوادي السحيق بين كثرة كثيرة شعبية منتجة لكنها تعيش دون خط الفقر، وبين قلة – ندرة تظلل هيمنتها السياسية والاقتصادية والأمنية على العباد باسم الشعب، مع ما رافق ذلك، من ضرورة، لجشع وفساد وقمع وتخوين.. وأمام إعتماد هذه الانظمة سياسة ربط حل مشكلات تداول السلطة، والحزب الواحد، والحريات العامة والخاصة من خلال حل المشكلات الاقتصادية، فقد أوصلتنا الى معادلة رياضية مؤشراتها واضحة في مستوى التخلف والفقر، وفي عدم قدرتها على توفير الحاجات المادية، كما الحاجات المعنوية ومنها الحاجة الى الحريات السياسية أو الديمقراطية. وبقيت كل تعهداتها تجاه شعبها تعادل صفراً مكعباً، ما جعل العلاقة بينها وبين الطبقة العاملة والفئات الكادحة متوترة وقلقة وغير مستقرة، رغم أن هذه العلاقة تخضع لمبدأ التحالف والصراع، لكن مع انتفاء شروط وجود الحريات السياسية والديمقراطية، فلا مناص عندها ووفقاً لقوانين الصراع الطبقي من أن يصبح الصراع الطبقي القائم صراعاً متنافياً.
وما تعبر عنه ثورات شعبنا العربي اليوم، هو في جوهر هذا الصراع مهما حاول البعض تبسيطه، أو القفز فوقه. وكما حاولت أنظمة الحكم القائمة التكاذب ، أو التأجيل في دفع المستحقات المتوجبة عليها بحق شعوبها - مواطنيها في الحرية والكرامة والديمقراطية . ستحاول مجدداً بواسطة أدواتها المحلية، أو بواسطة الخارج، أن تدافع عن مصالحها الطبقية ضد الثورة، وضد أهدافها التغييرية الجذرية، ولو بأشكال وأطر تقليدية وجديدة. أو بتقديم وعود إصلاحية جديدة هي بالأساس مؤجلة منذ عقود زمنية عمرها من عمر قيام هذه الأنظمة المأزومة على كافة المستويات.
أما ثالث هذه الاعتبارات، وهو ما يحاول البعض إدعاء البديل للنظم السياسية القائمة، من خلال السيطرة على الشارع بقوة الأميركي وشريكه حلف النيتو، أو بدرع الجزيرة العربية، أو بقوة الدعم الإمبريالي الخارجي المادي والسياسي ومن ضمنه السلاح ، متقدمة على الحراك الشعبي الديمقراطي السلمي بافتعال أحداث إرهابية تضعف لحمة الشعب الوطنية، وتفضي الى القضاء على أهداف الثورة، وتفسح في المجال أمام صراعات من نوع آخر، هي صراعات إثنية وطائفية ومذهبية وقبلية وحتى عرقية، مقصودة أو غير مقصودة لا فرق، طالما، تقدم خدماتها المطلوبة مباشرة للمشروع الإمبريالي الأوسطي - التفتيتي، كما تقدم خدماتها ربما، المباشرة وغير المباشرة لأنظمة الاستبداد القائمة ذرائع قد تستفيد منها الى حدود التملص من ضغط الشارع وحراكه ومطالبه الاصلاحية وهي العارفة من صميم قلبها أنها إصلاحات محقة وضرورية وملحة، ولا مفر منها، ولو بعد حين.
*****
هي اعتبارات مقلقة دون شك، وعامل الوقت ليس محايداً، وعلى الثورة العربية، بقواها الشعبية، ومكوناتها السياسية والاهلية الديمقراطية والتقدمية، حفر هذا الوعي لمضمون صراع "الثورة" الطبقي في سيرورتها، من أجل اكتمال فرحة صيرورتها في التحرر الوطني والاجتماعي.