تأملات / سيارات الاسعاف المصفحة باطل !
رضا الظاهر
2011 / 6 / 6 - 15:33
وسط تفاقم للأزمة الاجتماعية العميقة التي تعصف بالبلاد واستعصاء في المعضلات الشاملة وتعاظم لمعاناة الملايين وتواصل لنهج المحاصصات الطائفية والاثنية وصراع الامتيازات بين الكتل المتنفذة ومسلك "تسييس" يمارسه "الخصوم" السياسيون، يلجأ الحكام الى استخدام مختلف السبل لكسر شوكة المحتجين وترهيب المشاركين في التظاهرات واستباق تصاعد واتساع الأصوات الشعبية، حيث شنت قوات الأمن حملتها الأخيرة في اعتقال الشباب والاعتداء عليهم يوم الجمعة الثامن والعشرين من الشهر الماضي، في أعقاب تهديدات معلنة ومستورة وملاحقة لهم وتحرٍ عن أماكنهم. ولسنا بحاجة الى سرد ما جرى من انتهاكات وحشية باتت معروفة للقاصي والداني.
وقد كان من الطبيعي أن يؤدي هذا الانتهاك الفظ لحق كفله الدستور الى موجة من الاحتجاج ضد الاجراءات التعسفية واتساع لحركة التضامن داخل الوطن وخارجه مع المعتقلين ومطالبة باطلاق سراحهم. وفي محاولة للتراجع وحفظ ماء الوجه وعدت الجهات المعنية باطلاق سراح الشباب الأربعة لكنها ماطلت كعادتها وعلى نحو مغرض. وسواء أطلق سراحهم الآن (حتى ساعة كتابة هذا العمود صباح أمس الاثنين) أم لا فان المسألة الجوهرية تبقى قائمة، ونعني بها أسباب ودلالات الاعتقال التعسفي.
فقد سعى الحكام الى توجيه رسالة الى سائر المحتجين بغرض إحباط حركتهم وثنيهم عن الاستمرار في التعبير عن حقهم المشروع حتى يتوقفوا عن إقلاق الحكام وتهديد امتيازاتهم.
لقد كشف متابعون معنيون ومدافعون عن حقوق الانسان عن حقيقة أن عمليات الكرخ التي احتجزت الشباب الأربعة التقطت صوراً لهم لتركيبها على وثائق مزورة لاسناد تهمة جنائية لهم وبالتالي تبرير اعتقالهم والتغطية على السبب الحقيقي للاعتقال المتمثل في مشاركتهم النشيطة في احتجاجات ساحة التحرير. وليس هذا الأسلوب جديداً على قوات أمن لا يندر أن نجد في صفوفها أنصاراً للنظام المقبور نزعوا جلودهم بعد "التحرير" وارتدوا أخرى في ظل التخبط السائد في الأوضاع وبمباركة من بعض الحكام الجدد ممن كانوا يوماً ما ضحايا لهؤلاء الجلادين المتلونين كحرباء.
ولعل من بين الدروس المستقاة من هذا الحدث التناقض في مواقف وتصريحات الحكومة والناطقين باسمها وباسم أجهزتها الأمنية، وهو تناقض يشكل جزءاً من ثقافة سائدة وعقل يفتقر الى المصداقية. وبات التخبط الذي تغرق جهات حكومية في مستنقعه مفضوحاً ليقدم، مرة أخرى، دليلاً على وهم "الديمقراطية".
وتختلط الفضائح بالانتهاكات في ظل صراع المتنفذين وسط إعادة انتاج الاستبداد بصيغ جديدة في توليفة لا نجدها إلا في نظام محاصصات يخشى أصوات الشباب الغاضبة المحتجة على الباطل والمطالبة بالحق العادل، ويتشبث بـ "المحررين" محتمياً بحرابهم ومستسلماً لعواقب مثل هذه الحماية.
والحق إن هذا يذكّرنا، مرة أخرى، بأساليب الدكتاتورية الفاشية وعمليات الاعتقال العشوائي وتغييب الناس في الزنازين ومنع أهاليهم من اللقاء بهم أو التعرف على مصائرهم.
ويحق لمحللين أن يتساءلوا: هل سيعتذر من ارتكبوا هذا الانتهاك الوحشي للمعتقلين وعوائلهم بل وللشعب العراقي ؟ هل سيحاسب المسؤولون عن هذا الانتهاك وسواه، ومن الذي سيحاسبهم ووفق أية معايير ؟ وهل ستكف أجهزة أمن دولة العدالة والقانون المزعومة عن عمليات تشويه الحقائق وإلصاق التهم الباطلة بالمحتجين الأبرياء والمختلفين في الرأي ؟ وهل سيتوقفون عن الاستهانة بآلام الناس وبذكائهم ؟ أم أن المتنفذين لن يبالوا بأصوات الحق وسيوغلون في إجراءات القمع لينشروا المزيد من ثقافة التخويف والخنوع !؟
* * *
إذن فقد عاد شبح سيارات الاسعاف المصفحة والسيارات المظلّلة ليعلن عن تصاعد احتمالات عودة الاستبداد التي تتخذ هذه المرة شكل اعتقال شباب محتجين سلمياً ومطالبين باصلاح النظام بتهم انتقلت، عبر تناقضات فاضحة، من التحريض على العنف والتعرض الى مسؤولين "كبار" في الدولة الى تزوير وثائق شخصية !
أليس مما يثير السخرية أن سيارات الاسعاف المصفحة وكل ترسانة العسف تتجاهل المزورين الحقيقيين "الكبار" وبينهم مسؤولون في الدولة أو ما يسمى بالدولة ؟
ومن شر البلية أن النظام يطالب بكفيل للشباب ليطلق سراحهم حتى يثبت أنه متمسك بالاجراءات القانونية ومعايير "الديمقراطية". غير أن كل من يتمتع ببصر وبصيرة يدرك أن من ينبغي أن يبحث عن كفيل له هو النظام نفسه، وأن الشباب، المفعمين بالأمل والاصرار والخبرات الجديدة، هم، لا غيرهم، من يمكن أن يسمحوا له بالبحث عن مثل هذا الكفيل. ومن نافل القول إن الشعب المكتوي بنيران المعاناة لا يصلح أن يكون كفيلاً لمثل هذا النظام.
واهم من يتخيل أن جدران الاستبداد قد انهارت تماماً. فهذه الجدران قائمة في ثقافة سائدة يرسخها سدنتها، وهم أنفسهم أو ممثلوهم من وجهوا سيارات الاسعاف المصفحة، وهي مجسِّدة للباطل، لتعتقل هاتفين أرعبت أصواتهم العادلة مذعورين خائفين على امتيازاتهم.
وواهم أيضاً من يتخيل أن المتنفذين و"رجال" حكومة "شراكة الفحول الوطنية" قادرون على إسكات أصوات المحتجين ومنع شرارات السخط من أن تجعل لهيب الغضب الشعبي يندلع فيلقن أهل العسف، ممن لا يتعظون من خبر الحياة والتاريخ، درساً بليغاً ينتهي بهم وبعسفهم الى حيث يستحقون.