تأملات / نظرة ترقيعية لأزمة بنيوية
رضا الظاهر
2011 / 5 / 30 - 20:52
تأملات
نظرة ترقيعية
لأزمة بنيوية
لم يعد بوسع أحد من السياسيين المتنفذين أن يوهمنا بأن البلاد تسير في الطريق "الديمقراطي المزدهر"، وأن كل شيء سيكون، رغم الصعاب "المؤقتة"، على ما يرام. فحقائق الواقع القاسية والمريرة تكشف، يوماً إثر آخر، عن أن هذه الصعاب ليست مؤقتة مادامت جذور أسبابها ممتدة عميقاً، ومادامت سياسات المتنفذين عاجزة عن اقتلاع هذه الجذور.
ففي الصراع الذي يتعاظم احتداماً حول وجهة التطور تنعكس الأزمة الاجتماعية العميقة في البلاد متجلية في معضلات يعاني منها الملايين. والكارثة العظمى في هذه المعضلات هي نظام المحاصصة الطائفية والاثنية الذي يشكل عقبة كأداء أمام مسعى إخراج البلاد من الأزمة، بل ويعمق هذه الأزمة باستمرار في نظام حكم عاجز عن حل معضلات تدهور الأمن وغياب الخدمات وتفشي الفساد والبطالة وانتهاك حقوق الانسان وازدراء إرادة الناخبين وسوى ذلك من ظواهر مقيتة في دولة تغيب عنها المؤسسات والعدالة، ويزيد من شللها سلوك القوى السياسية المتنفذة التي تتصارع على الامتيازات دون اعتبار للمحن التي تطحن الناس برحاها.
وعن هذه الحكومة المشلولة تغيب الخطط الستراتيجية وتسود النظرة الترقيعية والحلول المؤقتة الهادفة الى شراء سكوت الناس وتهيئة أفضل المناخات لمواصلة النهب. وتلجأ القوى المتنفذة في الحكم، من بين وسائل أخرى، الى التضليل الاعلامي وطمس الحقائق وتشويها والمتاجرة بانجازات وهمية في خطابات إنشائية وتصريحات مثيرة للسخرية، وسوى ذلك مما يدخل في باب غسيل الأدمغة وإشاعة روح الخنوع بين الناس بقصد الاستمرار على حال يؤمن لأهل السلطة نفوذهم.
وفي ظل عوامل الاستعصاء هذه نشهد المزيد من تجليات تعمق الأزمة. فحكومة "الشراكة الوطنية"، الممثلة لكتل متنفذة متصارعة على المغانم، عاجزة عن استكمال تشكيلها حتى وفق منهجية "التوافق"، ومتنفذوها أسرى لأجواء التوتر والارتياب والاتهامات المتبادلة. ومن الطبيعي أن يسهم هذا الواقع في مزيد من فقدان الناس الثقة بهؤلاء الحكام المتصارعين لأنهم عاجزون عن التوافق على ما وعدوا الناخبين به.
أما ما يشهده الوضع الأمني من تدهور، خلال الأسابيع الأخيرة خصوصاً، فيبرهن من جديد، وفي ظل معركة القوى السياسية المتنفذة الطاحنة على الوزارات الأمنية، على أن المتنفذين يتجاهلون حقائق الواقع ويتعسر عليهم، بالتالي، معالجة معضلة الأمن الخطيرة، بينما يقررون، لوحدهم كعادتهم، وقتاً إضافياً لبقاء قوات "التحرير"، باعتبارها حامية الحمى !
وفي غضون ذلك تتواصل انتهاكات حقوق الانسان وتطويق هامش "الديمقراطية" وممارسة صيغ جديدة من العسف السافر ضد المحتجين بصورة سلمية والرافعين لشعارات عادلة تدعو الى إصلاح النظام. ولا ريب أن اعتقال شباب وطلاب مشاركين في التظاهرات السلمية في ساحة التحرير ببغداد يوم الجمعة الماضي والاعتداء الوحشي عليهم هو تجسيد حي لخشية الحكام المتنفذين من الرأي الآخر المختلف. وهذا، في الجوهر، انعكاس لنمط تفكيرهم الذي يصعب عليه أن يتقبل السعي الحقيقي الى الديمقراطية الحقيقية.
وبينما يستمر مسلسل الفساد مستشرياً على مختلف المستويات، ويعجز المتنفذون، وبينهم منتفعون كبار من هذا الاستشراء، عن معالجته بصورة جذرية، تشيع منهجية "التسييس" على مختلف الصعد. ولعلنا نجد في الوضع الكارثي الذي يعيشه البرلمان مثالاً ساطعاً على هذا التسييس، حيث يغيب الدور التشريعي والرقابي وتتفاقم التوترات بين الكتل المتنفذة داخله ليجد نفسه أسيراً لمنهجية التوافق بين هذه الكتل، وهو توافق أدى، من بين عواقب وخيمة أخرى، الى إعاقة المجلس عن أداء واجبه في تجسيد إرادة من انتخبوه والسعي الى تحقيق المطامح العادلة لمن منحوه ثقتهم.
ولا ريب أن حل أزمة البلاد لابد أن يكون حلاً سلمياً يستند الى معايير الديمقراطية والدستور لا الى معايير الصراع الذي يهدد باحتمال اتخاذه أشكالاً عنفية يمكن أن تغرق البلاد في سيل جديد من الدماء والمحن وتعصف بالعملية السياسية ومستقبل العراق.
ومن المؤكد أن مثل هذا الحل غير ممكن بدون توفر المناخ الملائم له والظرف الناضج الذي يفرضه، وهو ما يضع الجميع، وبشكل خاص السياسيين المتنفذين في الحكم، أمام مسؤوليتهم في التخلي عن نهجهم المنغلق ومسلكهم العائق ونمط تفكيرهم الضيق، ناهيكم عن منهجية المحاصصات الطائفية والاثنية التي مازالوا ضحايا إغرائها، ولهاثهم، وسط هذا الاغراء، للحفاظ على امتيازاتهم على حساب بؤس الملايين.
* * *
بينما تتعاظم معاناة الناس جراء المعضلات المستعصية ستنتهي مهلة الأيام المائة كما توقع كل ذي بصر وبصيرة الى فضح جديد للعقل القاصر العاجز عن فهم وإدارة وحل أزمة المجتمع.
وما لم يتخلى المتنفذون عن أوهامهم المرتبطة بنمط تفكير رغائبي ضيق لا يمكن الثقة بأن الخطوة الأولى باتجاه ضرورة التغيير ستحدث لتعقبها خطوات أخرى.
يتوهم من يظن أن أزمة البلاد مرتبطة بأفراد متصارعين على أهمية تأثير الفرد ودوره في التاريخ. إنها أزمة اجتماعية عميقة وشاملة، أزمة بنيوية، وبدون الوعي بهذه الحقيقة ومعرفة جوانبها وتعقيداتها لا يمكن الشروع بحل الأزمة. أما النظرة الترقيعية التي توهم بحل الأزمة أو التوجه الى حلها فلم تعد قادرة على إيهام ملايين المكتوين بنيران المآسي والاستهانة بذكائهم وإرادتهم.