أمولة التراكم
ثامر الصفار
2011 / 5 / 11 - 00:39
د. جون فوستر ترجمة: د.ثامر الصفار
أمولة التراكم*
بالاسلوب التي يمكن فيه ان يبدو حتى تراكم الديون على انه تراكم لراس المال، يمكن ان نرى الدمار الذي ينطوي عليه نظام الائتمان وهو يصل الى ذروته
كارل ماركس
في عام 1977 نشر بول سويزي آخر مقالة له اشار فيها الى " أمولة عملية التراكم الراسمالي" باعتبارها واحدة من ثلاثة اتجاهات اقتصادية رئيسية ميزت اواخر القرن العشرين ( اضافة الى نمو سلطة الاحتكار والركود). ولا ريب ان المطلع على النظرية الاقتصادية سيدرك ان هذه الجملة تنطوي على مفارقة. فقد سعت كل تقاليد الاقتصاد، وبدرجات متباينة، الى الفصل ،تحليليا، بين دور التمويل وبين " الاقتصاد الحقيقي". اذ يفهم التراكم على انه تشكل حقيقي لراس المال، يزيد من اجمالي الناتج الاقتصادي، في حين ان ارتفاع قيمة الموجودات المالية تزيد الثروات فقط وليس الناتج الاقتصادي. ولهذا فقد كان سويزي، عندما القى الضوء على أمولة التراكم، يشير في الواقع الى ما يمكن اعتباره " لغز رأس المال" في زمننا الحاضر.
مما لا شك فيه ان التمويل قد لعب دوما دورا مركزيا، دورا لا يمكن الاستغناء عنه، في تراكم رأس المال. ولقد اشار جوزيف شومبيتر الى ان نشوء ظاهرة الاقتراض هي واحدة من السمات المميزة للراسمالية. واضاف " ان سوق النقد كان دائما..... المقر الرئيسي للنظام الراسمالي". ومع ذلك فان ثمة تغير اساسي قد حدث في طبيعة الراسمالية خلال العقود الاخيرة من القرن الماضي. فقد غدا التراكم – تكون الراسمال الحقيقي في عالم السلع والخدمات – خاضعا اكثر فاكثر للتمويل. بحيث اصبح تخوف كينيز المشهور من هيمنة المضاربة على الانتاج واقعا متجسدا.
في حينها لم تحظ ملاحظة سويزي حول أمولة التراكم الراسمالي بالاهتمام المطلوب. لكنهااليوم ، وفي اعقاب اكبر ازمة مالية واقتصادية منذ الكسادالعظيم، جليةتماماالى الحد الذي لم يعد بالامكان التغاضي عن المسألة التي تثيرها. فاليوم، اكثر من اي يوم آخر، كما قال ماركس " فان تراكما للديون" يبدو وكأنه " تراكما لراس المال" مع تأثير متزايد للسابق على اللاحق.
وفعلا، فنحن نشهد ، منذ السبعينات، ما اسماه كاري بولاني ليفيت " الامولة العظيمة". يمكن تعريف الامولة على انها تحول طويل الامد في مركز ثقل الاقتصاد الراسمالي من الانتاج الى التمويل. وقد انعكس هذا التغيير في كل منحى من مناحي الاقتصاد، وبضمنها: (1) زيادة حصة ارباح التمويل من كامل الارباح؛ (2) ارتفاع الديون نسبة الى اجمالي الناتج المحلي؛ (3) نمو حصص التمويل، التأمين، والعقارات في الدخل الوطني؛ (4) اتساع دور الفقاعات المالية. ففي عام 1957 كانت حصة التصنيع تبلغ 27% من اجمالي الناتج المحلي في الولايات المتحدة الاميركية، وحصة التمويل، التأمين، والعقارات لا تتجاوز 13%. اما في عام 2008 فقد انقلبت الصورة لتصبح حصة التصنيع 12% وحصة التمويل، التأمين، والعقارات 20%. وبرغم توقف الازمة المالية العظيمة الا ان هناك العديد من الشواهد الى ان هذا النزوع العام لامولة الاقتصاد لا زال مستمرا خصوصا مع الدعم والتحريض الذي يتلقاه هذا الميل من قبل السياسة الاقتصادية النيوليبرالية في كل منعطف. ولهذا فان السؤال يكون: كيف يمكن ان نشرح انقلاب الادوار هذا بين الانتاج والتمويل؟
كينيز وماركس
اول ما يثب الى العين، عند اية محاولة لمعالجة دور التمويل في الاقتصاد الحديث، هي اعمال جون مينارد كينيز. خصوصا اعماله في اواخر الثلاثينات من القرن العشرين عندما كان يعمل على تأليف كتابه المعنون النظرية العامة عن العمل، الفائدة والنقد (1936). فهنا تبرز شخصية ماركس كلاعب اساسي في تحليل كينيز.
في عام 1933 نشر كينيز دراسة قصيرة تحت عنوان " نظرية النقد في الانتاج"، الذي اصبح لاحقا عنوانا لمحاضراته عهدذاك. وقد شدد كينيز فيها على ان النظرية الاقتصادية التقليدية حول التبادل قد صيغت على اساس اقتصاد المقايضة. وقد كان مفهوما ايضا انه بالرغم من توظيف النقد في جميع تعاملات السوق في ظل الراسمالية، فان النظرية التقليدية او التقليدية الجديدة ظلت " تعامل النقد باعتباره محايدا بصيغة ما". اذ ليس من المفترض ان يؤثر النقد على " الطبيعة الجوهرية للتعامل" باعتباره يقوم" بين اشياء حقيقية". واقترح كينيز، بالضد من `ذلك، نظرية النقد في الانتاج يكون فيها النقد واحدا من الجوانب الفاعلة في الاقتصاد.
وتمثلت الفائدة الرئيسية لمثل هذه المعالجة في توضيحها لكيفية حدوث الازمات الاقتصادية. وبهذا يكون كينيز قد شن هجوما على التصور الاقتصادي التقليدي الذي انطوى عليه قانون ساي والقائل بان العرض يخلق الطلب الخاص به ـ وبالتالي على التصور القائل بان الازمة الاقتصادية كانت، في الاساس، مستحيلة. فكتب متحديا ذلك :" الازدهار والكساد هما ظاهرتان خاصتان باقتصاد يكون فيه.... النقد غير حيادي".
ومن اجل تطوير هذه النقطة الهامة ميز كينيز بين ما اسماه " اقتصادا تعاونيا" (جوهريا يعني نظام المقايضة) وبين " اقتصاد صاحب العمل" entrepreneur economy حيث تتدخل التعاملات النقدية في تحديد علاقات " التبادل الحقيقي".ويمضي كينيز، في محاضراته، شارحا بان " لهذا التمييز علاقة بما طرحه ماركس سابقا....حيث اشار الى ان طبيعة الانتاج في العالم الفعلي هي ليست، مثلما يفترض الاقتصاديون عادة، علاقة سلعة ـ نقد ـ سلعة، اي حالة مبادلة سلعة ما (او جهد) بنقد من اجل شراء سلعة اخرى (او جهد آخر). فربما يكون هذا موقف المستهلك، لكنه ليس موقف صاحب العمل – البزنزمان - ، حيث العلاقة بالنسبة له هي نقد – سلعة – نقد، اي يفترق عن النقد لشراء سلعة (أو جهد) من اجل الحصول على المزيد من النقد".
واكد كينيز، متفقا مع ماركس، من ان " صاحب العمل لا يهتم بكمية المنتوج، بل بكمية النقد الذي سيسقط في حضنه. وسيزيد من انتاجه فقط في حالة توقعه الحصول على المزيد من الارباح النقدية". وبعكسه، فان صاحب العمل، (او الراسمالي) سيقلل من مستوى الانتاج اذا ما توقع عدم زيادة الارباح. ولهذا فان الجانب النقدي لعملية التبادل، مثلما تصفه معادلة ماركس نقد- سلعة- نقد، لا تطرح فقط ان الكسب النقدي كان الهدف الوحيد للانتاج الراسمالي، بل ان الازمات الاقتصادية يمكن ان تنشأ ايضا بفعل الاعاقات التي تحصل خلال العملية. وبعد مناقشته لمعادلة ماركس نقد – سلعة – نقد، مضى كينيز ليعلن بلغة قريبة من لغة ماركس: " ان الشركة تتعامل على الدوام بصيغة اجمالي النقد. وليس لديها هدف في العالم سوى الحصول على نقد اكبر مما بدأت به. هذه هي الصفة الجوهرية لاقتصاد صاحب العمل".
من المعروف ان كينيز لم يكن باحثا ماركسيا. لهذا فقد اعتمد عند اشارته الى ماركس في محاضراته على عمل الاقتصادي الاميركي هارلان ماكراكن، الذي كان قد ارسل الى الاول نسخة من كتابه نظرية القيمة ودورات البزنس، بعد نشره عام 1933. وقد ركز تحليل ماكراكن، المالثوسي المنهج، على قضية الطلب المؤثر ودور النقد. بيد انه توسع في دراسة تاريخ الفكر الاقتصادي. وفي الفصل الذي خصصه لماركس كتب ماكراكن:
عند معالجته لعملية التبادل او استحالة السلع ، بدء [ماركس] اولا بمعالجة سلعة – نقد – سلعة ( سلعة من اجل نقد من اجل سلعة). واعتبر ان مثل هذا التبادل لا يختلف من حيث المبدء عن المقايضة طالما ان هدف التبادل كان تحويل سلعة ذات منفعة قليلة او عديمة المنفعة بالنسبة لمالكها الى سلعة اخرى ذات منفعة عالية، ويدخل النقد كوسيط ملائم للتأثير على عملية التعامل. وعمليتا التعامل لا تنطويان على استغلال، لان الفرضية كانت انه في كل تعامل كان التبادل يجري بين قيمتين متكافئتين، او بين كميات متكافئة من العمل المبذول فيهما، وبالتالي فان السلعة النهائية ليس لها قيمة اكبر او اصغر من السلعة الاصلية، لكنها ذات منفعة اعلى بالنسبة للمشتري. ولهذا فان استحالة سلعة – نقد – سلعة مثلت تبادلا لقيمتين متساويتين وليس هناك استغلال.....
لكن استحالة نقد – سلعة – نقد كانت تختلف تماما. وعند شرحه لهذه المعادلة فقد عالج ماركس، بتمكن عال، طبيعة ومصدر القيمة الفائضة. في هذه الحالة، يبدء الفرد بالنقد وينتهي بالنقد. واذن، فان الحافز الوحيد للقيام بفعلي التبادل هو الانتهاء بالحصول على نقد اكبر من نقد البداية. وبالتالي فان قياس القيمة الفائضة يكون بحساب الى اي مدى يتفوق النقد الثاني على النقد الاول. ولكن، القيمة الفائضة لم تنشأ او تكتسب في تداول السلع بل في الانتاج.
في 31 آب 1933 وجه كينيز رسالة شكر الى ماكراكن مؤكدا بانه قد وجد الكتاب " ذا فائدة كبيرة جدا، خصوصا تلك الفقرات التي تتعلق بماركس الذي لم اكن اعرفه كما كان ينبغي لي ان اعرفه".
وعلى اساس ما وفره ماكراكن من معلومات عن ماركس واصل كينيز شرحه ليؤكد امكانية حدوث الازمة لو فاق النقد المستثمر النقد النهائي او المكتسب، اي لو لم يتمكن الراسماليون من " تحقيق" ارباحهم المحتملة المتولدة في الانتاج وانتهوا الى خسارة اموالهم. ويضيف:
" لقد قارب ماركس الحقيقة عندما اضاف ان التفوق المستمر للنقد النهائي سيعاق حتما بسلسلة من الازمات، تزداد شدتها تدريجيا، او بافلاس صاحب العمل وتقليل عدد العمال، يصبح خلالها النقد المستثمر هو المتفوق حتما". ان الفكرة التي اطرحها، اذا ما قبلت، ستخدم على الاقل في قيام مصالحة بين اتباع ماركس وبين اتباع ميجر دوغلاس [ متحدث بريطاني باسم المستهلكين]، تاركين الاقتصاديين الكلاسيكيين سكارى في اعتقادهم بالتساوي الدائم بين النقد المستثمر والنقد المكتسب!"
ان معادلة ماركس العامة حول رأس المال، او نقد – سلعة – نقد، برأي كينيز لا توفر فقط مصداقية لاراء الميجر دوغلاس، بل ايضا لاراء" [جون] هوبسن، او [وليم تي] فوستر و [وادل] كاتشنغز... اللذين أمنوا بالميل المتأصل [للنظام الراسمالي] نحو الانكماش وتقليل العمالة". وبعد فترة قصيرة من قرائته لمؤلف ماكراكن نظرية القيمة ودورات البزنس، واكتشافه معالجة ماكراكن لمعادلة ماركس نقد – سلعة – نقد قام كينيز بالاشارة بشكل مباشر في محاضراته الى " تحقق قضية ماركس" ارتباطا بقضية الطلب المؤثر.
لقد امسك كينيز، دون معرفته المباشرة بالتحليل الماركسي، بجوهر تطبيقات المعادلة العامة لماركس حول رأس المال، وعلاقتها بنقد قانون ساي، واشارتها الى ضرورة التكامل ضمن نظام واحد بين الحقيقي والنقدي، بين الانتاج والتمويل. وقد تلاقى كل ذلك مع محاولة كينيز نفسه في صياغة نظرية النقد في الانتاج ( اي، النظرية العامة). ومثلما لاحظ بول سويزي بعد اكثر من خمسين عاما من نشر محاضرات كينيز فان هذه الملاحظات على المعادلة العامة لماركس حول رأس المال قد اشارت الى: (1) ان كينيز " كان في جانب هام منه اقرب الى طريقة ماركس في التفكير حول النقد وتراكم راس المال منه الى الطريقة الكلاسيكية الجديدة " و(2) " انه كان منتبها الى ما هو مهم عند ماركس اكثر من اي اقتصادي برجوازي آخر".
انه من اللافت للنظر حقا، عند النظر الى الماضي، ورؤية الى اي مدى كان تفكير كينيز يتلاقى مع تفكير ماركس. لقد اشار ماركس في نظريات فائض القيمة الى ما دعاه هو " الاحتمال المجرد للازمة" اعتمادا على معادلة نقد – سلعة – نقد. " اذا ظهرت الازمة... بسبب انفصال فعلي الشراء والبيع، ستكون ازمة نقد" ومرتبطة بالنقد بصفته " وسيلة دفع... وطالما ان تطور النقد كوسيلة للدفع مرتبط بتطور الاقتراض والافراط في الاقتراض فان اسباب الاخير حرية بالدراسة [ايضا]". واذن، فبالنسبة لماركس، ان الازمة المتحققة، او ازمة الطلب المؤثر، كانت دائما متصلة بالطابع النقدي للنظام، وتمتد بالضرورة لا الى ظاهرة الاقتراض حسب، بل ايضا الى الافراط في الاقتراض. وهي بالتالي تشير الى ازمة كامنة للغارقين في الديون.
يؤكد ماركس على ان المعادلة العامة لراس المال، نقد – سلعة – نقد ، كانت تخبىء في داخلها نزوع رأس المال الى تحويل نفسه الى اقتصاد نقدي بحت (اومضارب)، أي، نقد – نقد، حيث يولدالنقد نقدا دون صلة مباشرة بالانتاج السلعي. فكتب " في نقد – نقد تصل العلاقة الراسمالية الى اكثر اشكالها سطحية وصنمية". لو كانت نقد- نقد تشير اصلا الى رأس مال حامل للفائدة، فقد استحال في مجرى التطور الراسمالي الى رأس مال مضارب يطالب بالنقد بصورة عامة. ويوضح ماركس " يحل القرض محل النقد ويغتصب موقعه. ويبدء رأس المال شيئا فشيئا يرتدي شكلا " مستنسخا": (1) "رأس مال حقيقي" اي، اسهم المصنع، المعدات، والسلع المنتجة، و (2) "رأس مال خيالي" اي، بنية مالية مزعومة مثبتة على الورق تتعلق بالراسمال الحقيقي. وطالما كان النشاط الاقتصادي موجها للاعجاب بـ "راس المال الخيالي" في عالم التمويل بدلا من تراكم راس المال الحقيقي ضمن عملية الانتاج فقد استحال الى شكل مضارب محظ برأي ماركس.
الانتاج والتمويل
مثلما رأينا، فقد رفض ماركس وكينيز، الفصل الصارم بين الحقيقي والنقدي الذي يميز النظرية الاقتصادية التقليدية. وبرغم الاختلاف في الاسلوب بهذا القدر او ذاك عند كل منهما فان نظرية النقد في الانتاج قد قادت الى نظرية عن التمويل باعتباره شيئا مندمجا بشكل تام في الاقتصاد وغير مفصول عنه – وبالتالي، الى نظرية عن الازمة المالية. ان القرار فيما اذا كان يمكن الاستثمار اليوم ( او اين يمكن الاستثمار) بالمعنى الذي عرضه كينيز خصوصا كان متأثرا بالارباح المتوقعة من هذا الاستثمار وبالطلب المضارب للنقد وشبه النقد (الاقتراض) ضمن علاقته بنسبة الفائدة.
لقد كان تعاظم اهمية التمويل نتيجة للتطور التاريخي للنظام. فخلال الطور الكلاسيكي للاقتصاد السياسي، عندما كانت الراسمالية لا تزال فتية، كان من الطبيعي ان تستند النظرية الاقتصادية على تصور بسيط لاقتصاد المقايضة المعدل والذي كان النقد فيه مجرد وسيلة للتبادل ولم يؤثر ماديا على العلاقات الاقتصادية الاساسية. ولكن بحلول اواخر القرن التاسع عشر كانت ثمة مؤشرات على ما اسماه ماركس " تركيز وتمركز الانتاج" الذي كان مصاحبا لظهور المؤسسات العملاقة، مما اعطى دفعة لنظام الائتمان الحديث، اعتمادا على سوق الضمانات الصناعية.
لقد غير نظام الائتمان الحديث هذا، وبشكل كبير جدا، من طبيعة التراكم الراسمالي، لان ملكية الموجودات الراسمالية الحقيقية اصبحت ثانوية امام ملكية الاسهم او الموجودات التي ارتفعت قيمتها الى درجة عالية بواسطة القروض.
كتب منسكي في مؤلفه حول كينيز " المضاربة على قيمة الموجودات الانتاجية هي خاصية من خصائص الاقتصاد.....الراسمالي. ان النموذج المناسب لتحليل الاقتصاد الراسمالي [المتطور] هو ليس اقتصاد المقايضة،" بل" نظام يضم مدنا [ كمركز لندن للمال] او وول ستريت تمول فيها اسهم الموجودات والتعاملات المالية بواسطة القروض".
من الناحية المنطقية، فان الفصل الصارم بين الحقيقي والنقدي في الاقتصاد التقليدي – والمستمر حتى الوقت الحاضر – لا يمتلك اساسا صلبا. فالبرغم من المشروعية التامة للتميز بين " الاقتصاد الحقيقي" (والراسمال الحقيقي) وبين عالم المال ( وما سماه ماركس بـ"الاقتصاد الخيالي")، الا ان هذا التمييز لا يتوجب ان يفهم منه بان البيانات النقدية او المالية هي غير " حقيقية" بالمعنى العادي للكلمة. وقد ذكر كل من هاري مجدوف وبول سويزي ان " ليس هناك، في الواقع، فصل بين الحقيقي والنقدي: ففي الاقتصاد الراسمالي المتطور، يجري التعبير عمليا عن كل التعاملات بصيغ نقدية وتحتاج الى وسيط من كميات حقيقية من النقد ( نقد حقيقي او قرض)". والاصح، " هو ان الفصل التحليلي المناسب هو بين القاعدة الانتاجية التحتية للاقتصاد وبين البنية الفوقية المالية".
ويمكننا تصور هذه العلاقة الديالكتيكية بين الانتاج والتمويل، باتباع هيمان منسكي بصيغة وجود هيكلين مختلفين للتسعير في الاقتصاد الحديث: (1) تسعير المنتوج الحقيقي الحالي، و(2) تسعير الموجودات المالية (والعقارية). ويوما بعد يوم تزداد هيمنة هيكل تسعير –الموجودات المضارب والمرتبط بتضخم ( او انكماش) الثروة المثبتة على الورق على هيكل تسعير "الحقيقي" المصاحب لاجمالي الناتج المحلي. وبالتالي، فان الراسمال النقدي الذي يمكن ان يستخدم للتراكم ( بافتراض وجود منتوج استثماري مربح) ضمن الاساس الاقتصادي يبدء بالتحول الى نقد – نقد، اي، المضاربة باسعار الموجودات. وطالما ان ذلك أخذ شكل نزوع طويل الامد، فقد كانت النتيجة تغير بنيوي كبير في الاقتصاد الراسمالي.
وعند النظر اليها، من هذه الزاوية فان الفقاعات المالية يمكن ان تظهر بوضوح على انها فترات قصيرة من تضخم سريع بشكل غير عادي لسعر الموجودات ضمن البنية الفوقية المالية للاقتصاد – نمو خاطئ في القاعدة الانتاجية التحتية. بالضد من ذلك، فقد مثلت الامولة ميلا اطول زمنيا نحو توسع حجم واهمية البنية الفوقية المالية ارتباطا بالقاعدة الاقتصادية، حيث تمتد لعقود. "وقد لاحظ جان توبوروفسكي، استاذ الاقتصاد في جامعة لندن، في كتابه نهاية التمويل ان" العقود الاخيرة من القرن العشرين قد شهدت نشوء عصر التمويل هو الاكبر منذ تسعينات القرن التاسع عشر واوائل القرن العشرين، وبلغة القيم التي تحولت الى اسواق مضمونة، يمكن القول انه اكبر عصر مالي في التاريخ. واعني بعصر التمويل فترة من التاريخ يكون فيها الممول....صاحب الدور القيادي في التطور الراسمالي بدلا من رجل الصناعة".
ان عصرا للتمويل كهذا يعزز من نهوض شبح اقتصاد المضاربة الخالص الذي اشار اليه كينيز: "ربما ليس ثمة ضرر من المضاربين طالما كانت الفقاعات مستقرة فوق مسيرة ثابتة للمؤسسة. لكن الموقف يغدو جديا عندما تغدو المؤسسة نفسها فقاعة فوق دوامة المضاربة". كما لاحظ سويزي انه في تسعينات القرن العشرين " فان اعضاء مجلس الادارة [للمؤسسة]" كانوا "مقيدين بدرجة كبيرة ومحكومين براس المال المالي الذي يعمل من خلال شبكة عالمية لاسواق المال". وبالتالي كانت "السلطة الحقيقية" تتواجد في "اسواق المال وليس في مجالس ادارة المؤسسات". واكد بان " هذه العلاقة المقلوبة بين المالي والحقيقي" كانت " المفتاح لفهم الميول الجديدة في الاقتصاد العالمي".
الازمة المالية والامولة
ضمن محاولاتهم لانكار وجود اية اهمية تاريخية حقيقية للازمة المالية العظيمة، سعى معظم الاقتصاديين والمحللين الماليين بالطبع الى التقليل من اهمية طابع تتكررها بانتظام، جاعلين منها ظاهرة كظاهرة "البجعة السوداء"، اي، نادرة الحدوث ولا يمكن توقعها، حيث يمكن ان تظهر بكل تأثيرها الهائل من لا شئ مرة كل قرن من الزمان او ما قارب ذلك. ( استمد تعبير " البجعة السوداء" من كتاب نسيم نيكولاس طالب الذي حمل هذ العنوان وتم نشره عشية الازمة المالية العظيمة، حيث جرى تعريفها بانها حدث ينطوي على تغير في قواعد اللعبة يحصل بشكل نادر ومن المستحيل التوقع به).
بيد ان البعض الاخر من الاقتصاديين، بمن فيهم من يعمل ضمن النظام، امثال نورييل روبيني وستيفن مايم ومؤلفهما المشترك اقتصاد الازمة، رفض نظرية " البجعة السوداء" ودعى الى تسميتها بظاهرة " البجعة البيضاء"، اي ، اعتبارها نتاج عملية عادية تماما تتكرر باستمرار ويمكن توقع حدوثها، وبالامكان تحليل هذه العملية نظاميا. و من اهم المحاولات التي سعت الى توفير معالجة للازمة المالية استنادا على معطيات رقمية تمتد لقرون عديدة، ومشددة على انتظام حالة الاضطرابات في نظام القروض، هي محاولة كارمن رينهارت وكينيث روجوف ومؤلفهما المشترك انها تختلف هذه المرة: ثمانية قرون من الحماقة المالية. (عنوان الكتاب هو اشارة الى مرحلة النشاط في اية فقاعة مالية، حيث برز تصور بان الدورة المالية للبزنيس قد جرى تجاوزها وان بالامكان المضي قدما بتوسيع المضاربة الى ما لا نهاية).
لقد كان منسكي، بالطبع، من اشهر منظري البجعة البيضاء حيث وفر لنا فرضية عدم الاستقرار المالي، التي بنيت على رؤية كينيز حول " الهشاشة التي تسربت الى عملية التراكم الراسمالي من خلال بعض خصائص البنية المالية الراسمالية التي لا مفر منها".
ومع ذلك فان ما فاتهم جميعا، واعني منسكي، روبيني، رينهارت، وروجوف، ضمن تركيزهم التام على الدورة المالية، هو التغيرات البنيوية الطويلة الامد في عملية التراكم للنظام الراسمالي. كما ان منسكي سعى علنا الى تصحيح نظرية كينيز، وخصوصا تحليله لحالة عدم الاستقرار المالي، بوضعها كلها ضمن صيغ دورات البزنس القصيرة الامد، مهملا الميول الطويلة الامد التي استند عليها كينيز في تحليله للازمة المالية.
ولهذا فان ما طرحه كينيز اصلا كان مختلف تماما عن ما عرفناه عنه من خلال منسكي. فقد شدد على الميل الى الركود – او الهبوط في مستوى الارباح المتوقعة من الاستثمار الجديد في اقتصاد راسمالي غني – قد خدم زيادة سلطة النقد والتمويل. وبالتالي، فانه بالنسبة الى كينيز، كما ذكر منسكي، " ان النقد هو الذي يحكم البيت عندما تهبط قيمة الناتج المتوقع للموجودات الحقيقية". اما كينيز نفسه فقد صاغ ذلك :" بسبب كبر حجم التراكم الراسمالي"، في الاقتصاد الراسمالي الغني والناضج، " تقل جاذبية الفرص الاستثمارية الا في حالة هبوط كبير في نسبة الفائدة". كما ان عدم الموثوقية التي يصاحبها الميل الى توقع هبوط ارباح الاستثمار الجديد قد اعطى دفعة قوية الى " افضلية السيولة" ( او كما دعاها كينيز ايضا " النزعة الى تخزين" النقد) والى المضاربة المالية كبديل لتكوين راس المال، الامر الذي زاد من صعوبات الاقتصاد اجمالا.
ان خلفية ذلك كله كان ميل الاقتصاد الى الخوص في حالة النمو البطيء وتقليل العمالة: " ان السمة البارزة للنظام الاقتصادي الذي نعيش فيه... هو قدرته على البقاء مريضا وقليل النشاط لفترة طويلة من الزمن دون اي ميل واضح لا للتعافي ولا للانهيار الكلي. زد على ذلك قصر الفترة التي نشهد فيها عمالة بوقت كامل او حتى بشكل شبه كامل" حسبما كتب كينيز. وقد قادت هذه الظروف الى ما اقترحه منذ امد طويل من سياسة " استخدام رصاصة الرحمة" و " نوعا من اضفاء طابع اجتماعي على الاستثمار".
لم يطور كينيز نظريته القديمة حول الركود والمضاربة المالية. ولكن بعد فترة جرت سلسلة من التطويرات على يد آلفن هانسن، وبروحية ماركسية جديدة على يد ميكال كالسكي، جوزيف ستيندل، بول باران، و بول سويزي. من حيث الجوهر كان هناك طريقان لنظرية الركود التي جرى تطويرها اعتمادا على كينيز (وماركس). الاول، الذي شدد عليه هانسن، ومن ثم سويزي – لكنه يميز جميع هؤلاء المفكرين بطريقة او باخرى – يعاين مسألة نضوج الراسمالية، اي، تطور اقتصاد راسمالي غني مع طاقة انتاجية عالية غير مستعملة يمكن ان تتوسع بسرعة نسبية. وهذه القدرة الكامنة لبناء قوة انتاجية كانت تقف في مواجهة واقع تلاشي فرص الاستثمار، حيث جرى اعاقة الاستثمار الحالي ( في ظل ظروف النضوج الصناعي) باستثمار جرى سابقا. " مأساة الاستثمار هي في انه يسبب ازمة لانها مفيدة " حسب ملاحظة كالسكي.
الطريق الثاني، وخير مثال عليه مؤلف باران وسويزي الرأسمال الاحتكاري، ركز على نمو الطابع الاحتكاري في الاقتصاد الحديث، بمعنى، " ميل الفائض للازدياد" في اقتصاد تهيمن عليه شركة عملاقة، والتأثيرات السلبية لذلك على التراكم.
وفي كلا الحالتين، فان الادخار المحتمل او الفائض المتولد من الاقتصاد يفوق، في العادة، فرص الاستثمار المربح لهذا الفائض، مما يقود الى نزعة الركود (نمو بطيء وارتفاع معدلات البطالة / شبه البطالة والتخلف وتعطيل القدرات). وقد كتب باران وسويزي " ان الحالة الطبيعية للاقتصاد الراسمالي الاحتكاري هي الركود". ولهذا فانه ليس بالامكان افتراض نموا سريعا، في الادب الاقتصادي السائد، لان الثمرة الطبيعية للنظام ضمن مرحلة النضج/ الاحتكار، غدت معتمدة، حسب رأي كالسكي، على " عوامل َ تنمية َ معينة" لرفع الانتاجية. على سبيل المثال، فان الصرفيات العسكرية، والتنزيلات التي تجري بهدف زيادة المبيعات، وتوسع الخدمات المالية والابتكارات الجديدة في السيارات والتي كانت كلها بمثابة الرافعات للنهوض بالاقتصاد، تقع جميعها خارج المنطق الداخلي للتراكم.
يجب الانتباه هنا الى انه لا احد من هؤلاء المفكرين كان قد ركز اصلا على العلاقة الماكرواقتصادية بين الانتاج والتمويل، او على التمويل باعتباره منتجا للفائض. فعلى الرغم من اشارة الراسمال الاحتكاري الى ان التمويل والتأمين والعقارات يمكن ان تساعد في امتصاص الفائض الاقتصادي، الا ان هذه الاشارة جاءت في ختام الفصل المخصص لموضوعة التنزيلات، ولم يجر التشديد عليها. ولكن، شهدت السبعينات والثمانينات اعلانا لنسبة نمو للاقتصاد الراسمالي في قلب النظام، مما ادى الى انتفاخ التمويل ولعبه دور العامل المكافئ. وبسبب العوز الى منفذ في الانتاج التجأ رأس المال الى المضاربة على التمويل بالقروض. ففي السبعينات كانت الديون تتجاوز بمقدار مرة ونصف حجم اجمالي الانتاج المحلي. وفي عام 2005 تجاوزته بثلاثة مرات ونصف، واقل قليلا من 44 ترليون دولار وهي قيمة اجمالي الناتج المحلي العالمي.
ويوما بعد يوم اخذ التمويل المضارب يقضي على حياته نفسها. فعلى الرغم انه في التاريخ السابق للنظام وصلت الفقاعات المالية الى نهاية دورتها من الازدهار، وكانت بمثابة احداث قصيرة الامد، لكن الامولة اليوم تبدو، وبشكل محير، لا تتغذى فقط على الازدهار بل على الركود ايضا ولفترات طويلة الامد. وكان من لعب الدور الاساسي في استمرار هذه العملية هي البنوك المركزية في البلدان الراسمالية القائدة، حيث اصبحت " الملاذ الاخير للحصول على القروض"، ولعبت دور الساند والكافل لاكبر المؤسسات المالية حيثما تطلب ذلك ( اعتمادا على قاعدة " لا يمكن ان نجعلها تسقط لانها كبيرة جدا ").
وكان التناقض الرئيسي هو ان الانفجار المالي يولد حالة اكبر من عدم الاستقرار والتقلب على المدى البعيد، برغم حثه للنمو الاقتصادي على المدى القصير. ولهذا، وجدنا ان ماجدوف وسويزي، اللذان واصلا الكتابة عن هذه التطورات منذ السبعينات الى اواخر التسعينات، قد شددا على انه عاجلا ام آجلا – طالما ان هناك عولمة للتمويل واستحالة ادارته على هذا المستوى – فان رفع البنية الفوقية المالية على اكتاف قاعدة انتاجية راكدة سيؤدي حتما الى انهيار كبير اشبة بانهيار الثلاثينيات. ولكن حتى لو حصل انهيار مالي كهذا، يبقى السؤال ان كان ذلك سيوقف عملية الامولة مفتوحا للمستقبل حسب رايهما.
يكتب توبوروفسكي " في عصر التمويل، يقوم التمويل، في معظم الحالات بتمويل التمويل". وبالتالي، فان الانتاج في العقود الحالية غدا، وبصورة مضطردة، " عرضيا لمعظم الاعمال المربحة". فمع تعطل مكابس محرك التراكم الراسمالي الانتاجي، كان لا بد من تشغيل المحرك الاحتياط للتوسع المالي ليحل محل الاول. وقد ساعد نمو العمالة والارباح في قطاع التمويل، التأمين، والعقارات على تنشيط الاقتصاد، في حين ادى النمو المضاربي للموجودات المالية الى " احداث ثروة " تمكن بواسطتها قسم معين من الراسمال المستحصل من تقييم الموجودات من التوجه الى زيادة الاستهلاك المرفه، ومن ثم تنشيط الاستثمار. فحتى بالنسبة للطبقة الوسطى العريضة ( مهنيون، وموظفون، والمدراء الوسطيون، والعمال المهرة) ادى التضخم السريع في سعر موجوداتهم الى تمكن قسم كبير منهم ،من مالكي البيوت، من رفع وتيرة استهلاكهم عبر الاقتراض من جديد على اساس " الراسمال المستحصل" من ارتفاع اسعار بيوتهم. وبهذه الطريقة، فان توسع القرض رفع من اسعار الموجودات، التي ادت بدورها الى ازدياد الديون التي رفعت من اسعار الموجودات وهلم جرا وهذه هي : الفقاعة.
ان بالامكان النظر الى الديون بمثابة الدواء الذي ينشط الاقتصاد في ظل ظروف الركود المستوطن. لكن استخدامه بجرعات اكبر لن يقضي على المرض بل سيؤدي هو نفسه الى اعراض جانبية وكارثية طويلة الامد. وستكون النتيجة مصيدة الركود – الامولة. وخطورة هذه المصيدة تبدو جلية للعيان اليوم في حقيقة ان راس المال ودولته لا يمتلكان اجابة على الازمة المالية العظيمة الحالية سوى انقاذ المؤسسات المالية والمستثمرين ( شركات وافراد) بتزويدهم بالالاف المليارات بهدف ان يتم استخدام الدين كرافعة للنظام مرة اخرى. ان ديناميكية الامولة بعلاقتها باقتصاد راكد هي لغز الراسمال الاحتكاري – المالي.
النهاية المنطقية للراسمالية
واذا، في الوقت الذي تنعش فيه الامولة تراكم راس المال من خلال عملية توسع المضاربة، فانها، في نهاية المطاف، تساهم في تآكل كامل النظام الاقتصادي والاجتماعي، معجلة بانهياره. ان ما نشهده اليوم في مجتمعاتنا بشكل عام هو ما يمكن تسميته بـ " أمولة الطبقة ". وحسب ما لاحظ ديفيد هارفي فان " نظام الائتمان قد اصبح الان...الرافعة الاساسية الجديدة للحصول على الثروة بواسطة رأس المال الممول من بقية السكان. وفي السنوات الحالية جرى تجميد اجور العمال ووقف التعيينات الجديدة، في حين زادت حالة التفاوت في الدخل والثروة بين الاغنياء والفقراء. ففي عام 1976 كان 1% من السكان يحصل على 9% من دخل الولايات المتحدة الاميركية، ثم ارتفعت النسبة الى 24% عام 2007. ووفقا لما ذكره راغورام راجان (كبير اقتصاديي صندوق النقد الدولي السابق) فان " كل دولار من نمو الدخل الحقيقي في البلاد – اميركا- بين الاعوام 1976 و2007، كان 58 سنتا منه يذهب الى 1% من السكان". مثال بسيط على هذا نذكر ان جون بولسن، وهو احد المدراء الماليين، حصل على دخل في عام 2007 حوالي 3.7 مليار دولار اي 74 الف مرة اكثر متوسط دخل الاسرة في اميركا. كما ان حصة ما نسبته 5% من الاغنياء بين الاعوام 1989 و 2007 ارتفعت من 59% الى 62% في حين شهد 95% من السكان تدهورا في مداخيلهم. اما اصحاب البيوت الذين استفادوا بعض الشيء من ارتفاع اسعار منازلهم فاننا نجدهم اليوم وقد سحب البساط من تحت اقدامهم بعد انفجار فقاعة المساكن. لقد ارتدت هذه الزيادة في حالة التفاوت في المداخيل والثروات في عصر الامولة شكل" تنامي التمايز بين الاغنياء والفقراء"، وذهبت مدخرات الفقراء الى جيوب الاغنياء.
لقد انعكست الزيادة السريعة في استقطاب المداخيل والثروات خلال العقود الحالية في نمو تركيز وتمركز رأس المال. ففي عام 2000، وفي قمة حالة الاندماج والاستحواذ بين الشركات ضمن فقاعة الاقتصاد الجديد، وصلت قيمة الاندماجات والاستحواذات الى 3.4 ترليون دولار – ثم تدهورت بشكل سريع جدا بعد انفجار الفقاعة. ولم يجر تجاوز هذا الرقم الا في عام 2007 ضمن فقاعة ارتفاع اسعار البيوت والعقارات حيث وصلت قيمتها الى 4 ترليون دولار ثم تدهورت ايضا بعد انفجار الفقاعة. وكانت النتيجة من كل ذلك تناقص عدد الشركات التي تسيطر على الصناعات الاساسية. وقد اتضحت حالة تنامي الاحتكارات في السنوات الحالية ضمن قطاع التمويل نفسه. بحيث ارتفعت حصة موجودات الصناعة المالية المحتكرة من قبل 10 شركات احتكارية عملاقة حوالي ستة اضعاف بين عام 1990 وعام 2008، من 10% الى 60%.
ان هذا التحليل الذي يوضح كيف عززت الامولة من حالة التفاوت في المداخل والثروات والسلطات يساعدنا في توضيح وجهة النظر، السائدة اليوم في اوساط اليسار، من ان الليبرالية الجديدة، او حلول ايديولوجية السوق الحر، هي المصدر الاساسي لمشاكل اليوم الاقتصادية. وبدلا من ذلك يمكن النظر الى الليبرالية الجديدة على انها التعبير السياسي لاستجابة رأس المال لمصيدة الركود – الامولة.
ويوما بعد يوم،ولدت امولة التراكم في مركز النظام الراسمالي، والمدعومة بالسياسة النيوليبرالية، منظومة عالمية " لمعالجة الصدمة"، وبدلا من من ان نشهد " رصاصة الرحمة" لكينيز، فاننا نشهد اليوم تهديدا بالقتل الرؤوف لكل مناحي المجتمع والطبيعة. ونتائج ذلك، مثلما اقترحته نعومي كلاين في كتابها مذهب الصدمة، تمتد الى ماوراء التراكم الممول المرافق لعصر الليبرالية الجديدة، ونتائج اكثر سعة بحيث يمكن وصفها " رأسمالية كارثية" تتمثل في اتساع حالة التفاوت الاجتماعي والاقتصادي وتعمق اللااستقرار وتوسع العسكرة والحرب، واخيرا في دمار بيئي متواصل دون توقف.
من هنا يتوجب علينا ان نعمل من اجل مجتمع جديد قائم على المساواة الحقيقية وعلى تنمية بشرية مستديمة: علينا بناء اشتراكية القرن الواحد والعشرين.
• مداخلة قدمت في المؤتمر الوطني الخامس عشرحول الاقتصاد لجمعية الاقتصاد السياسي البرازيلية في جامعة مارانهاو، ساو لويس في 3 حزيران 2010.