الماركسية منهج حي وليست عقيدة جامدة
حافظ عليوي
2011 / 4 / 28 - 14:26
لم تكن نشأة الماركسية في أواسط القرن التاسع عشر بداية الفكر الإنساني التقدمي، ولم تدّع لنفسها أنها نهايته وختامه، فقبل نشأة الماركسية عرفت البشرية وأبدعت حصيلة واسعة وغنية من الأفكار والنظريات والعلوم في شتى المجالات، شكلت تراثاً لأي إبداع مادي أو روحي في مسار الحضارة الإنسانية المتطورة في المجرى التاريخي لها، وزينة كل ما هو إنساني وتقدمي وإيجابي وعلمي فيه، وبعبارة أخرى، فقد شكلت الماركسية نتاجاً طبيعياً لتطور فكر البشرية. ولذا فهي –كما قال لينين لاحقاً- ليست انعزالية.. ليست عقيدة جامدة. بل فكراً حياً ومبدعاً حيث أعطت الردود على المسائل التي طرحها فكر البشرية التقدمي (الذي سبقها)، حيث نشأت كاستمرار مباشر وصريح لأفكار أعظم ممثلي الفلسفة والاقتصاد السياسي والاشتراكية، وكان عليها كي تتطور أن تعطي الردود على المسائل الجديدة التي يطرحها هذا الفكر، وتطرحها الحياة المتطورة باستمرار، وأن تبقى وريثاً لكل ما يبدعه العقل البشري. وبالفعل استطاعت الماركسية أن تحيا وتتطور وترتقي –رغم كل التعرجات والمنحنيات- بخطى ملموسة واسعة وعديدة من الآراء والأفكار والمفاهيم والمقولات والنظريات والمناهج العلمية المنسجمة، التي شكلت بمجموعها نظرة جديدة للعالم وطريقة خلاقة ومبدعة لدراسة وفهم الظواهر والعمليات المختلفة في الطبيعة والمجتمع والفكر الإنساني. وبهذا غدت الماركسية - في بداية القرن العشرين- سلاحاً جباراً وأداة نضالية تغييرية ثورية في أيدي الطبقات والفئات الاجتماعية صاحبة المصلحة في التقدم الاجتماعي وخاصة الكادحين وفي مقدمتهم الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء وشرائح واسعة من البرجوازية الصغيرة.
فعلى الصعيد الفلسفي صاغت الماركسية الديالكتيك المادي، الذي شكل ثورة حقيقية في المعرفة والتفكير، وأسّس بلورة منهج علمي لا غنى عنه في دراسة وتحليل وتفسير الظواهر والعمليات في الطبيعة والمجتمع والفكر والتأثير عليها. وتميز الديالكتيك الماركسي بعلميته وثوريته ومنطقه الخلاق، مما سمح له بالتجلي كوحدة عضوية متناغمة بين الجدلي والتاريخي، فاكتسب وجوده الملموس في الفهم المادي للتاريخ، وبهذا أصبح قادراً على الكشف عن القوانين الموضوعية لعملية إنتاج وإعادة إنتاج الحياة الاجتماعية وقوانين تطور التاريخ البشري ودور الجماهير الحاسم فيه، وكذلك تبيان جدل العلاقة بين مستوى تطور القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج، والتي على أساسها تحدث الثورات الاجتماعية ناقلة المجتمع من تشكيلة إلى أخرى.
وعلى أساس هذا المنهج المادي الجدلي التاريخي استطاعت الماركسية أن تكشف عن الجوهر الاستغلالي البشع للرأسمالية وأن تنتقد شرورها، وأن تبين محدوديتها التاريخية وتعلل حتمية زوالها، وذلك على أساس الصياغة المبدعة لقانوني القيمة والقيمة الزائدة، اللذان سمحا بالكشف عن آليات وبشاعة الاستغلال في نمط الإنتاج الرأسمالي وتناقضاته الداخلية.
أما على صعيد الفكر السياسي، فقد أرست التأسيس لنظرية علمية عن الاشتراكية كبديل للمجتمع الرأسمالي، وكشفت عن مستقبل نشأة المجتمع الاشتراكي وبناء المجتمع اللاطبقي لصالح الطبقة العاملة وجماهير الفقراء والكادحين ولصالح كل القوى ذات التوجه التقدمي، أي أنها طرحت ذاتها كأيديولوجيا للتغيير الثوري.
وهكذا، فإن الماركسية شكلت منظومة فكرية متكاملة ومترابطة عضوياً لحصيلة واسعة من النظريات والمفاهيم والمقولات والأحكام والقوانين المنسجمة مع موضوعها وفق منهج علمي محكم يقوم بالاستناد إلى الواقع الملموس إلى جانب استشراف المستقبل.
لكننا، وبالرغم من هذه الوحدة وذلك الترابط وضرورة أخذهما بعين الاعتبار في دراسة الماركسية، إلا أننا نستطيع أن نميز في الماركسية مستويات، كالمنهج المادي الجدلي التاريخي، والمفاهيم والمقولات والقوانين المرتبطة به، وتلك المرتبطة بالنظريات الفلسفية والاجتماعية العامة في دراسة وتحليل الطبيعة والمجتمع والفكر اليساري والتغيير الاجتماعي، ومجموع الأفكار والاستنتاجات والتعليلات الفكرية الأكثر ملموسية وتفصيلية والأكثر تعييناً وقرباً من ميدان التطبيق العملي.
ولا يعني هذا التمييز فصلاً تعسفياً، أو عزلاً للنظرية عن المنهج، فمكونات الماركسية مترابطة فيما بينها، والمنهج يقوم على أساس التعميمات النظرية من منظومة المفاهيم والمقولات والقوانين، لذا فإن التمييز هذا ليس إلا تسهيلاً للدراسة والمعالجة، وخاصة لجهة الوقوف على العناصر الأكثر ثباتاً والأقل تغيراً، كالمنهج والتعميمات النظرية الأكثر تجريداً، وعلى تلك الأقل ثباتاً والمتغيرة بشكل أسرع، كالأفكار والتحليلات الأكثر ملموسية وتفصيلية والأقرب للتطبيق العملي. وفي إطار هذا التمييز نستطيع القول بأن المنهج هو الأكثر ثباتاً على الرغم من اعتماده على المقولات والمفاهيم النظرية العامة، ذلك أن المفاهيم والمقولات مرتبطة دوماً بالحركة التطويرية التاريخية وفق هذه المرحلة أو تلك، وبالتالي يجب أن تؤخذ دائماً بارتباطها بالبشر ونشاطهم المادي كما يقول ماركس.
وتمييزنا للمنهج العلمي الجدلي ينبع من إيماننا بأنه الطريق الذي يؤدي بنا إلى الهدف، وفق أسس ومضامين النظرية الماركسية، ويستند هذا الفهم على كون المنهج هو الذي جعل ويجعل الماركسية دليلاً ومرشداً للعمل وليست عقيدة جامدة، فالمنهج الجدلي هو منهج علمي ينظر إلى الأشياء والمعاني في ترابطها بعضها ببعض، وما يقوم بينها من علاقة متبادلة، وتأثير كل منها في الآخر، وما ينتج عن ذلك من تغيير. إن المنهج الجدلي ينظر إلى الأشياء عند ولادتها ونموها وانحطاطها. هكذا تتعارض الجدلية في كل ناحية من نواحي الحياة مع الميتافيزيقا أو الغيب، لأن المنهج الجدلي لا يقبل أو يعترف بأي حالة سكون أو ثبات أو جمود أو مطلق أو فصل بين مختلف جوانب الحياة أو الواقع، بل يرى في السكون جانباً نسبياً من الواقع أو من الحركة، فالسكون –كما أشرنا من قبل- هو في كل الأحوال شكل من أشكال الحركة، أما الحركة الدائمة المتصلة فهي المطلق الوحيد في كل الأحوال. من هنا فالماركسية تظل موضوعيا محدودة بالظروف التاريخية التي أنتجتها، و هي بهذا المعنى تشكل محطة نوعية ثورية في مسار تطور المعرفة الإنسانية المتغير و المتجدد وفق متغيرات الحياة الاجتماعية و تجددها الدائم، و على هذا الأساس فان الحفاظ على الماركسية و متابعة رسالتها الإنسانية لا يكمن في الدفاع اللاهوتي أو الدوجمائي عن تعاليمها، وإنما بالنقد الدائم لأفكارها و تجديدها ارتباطا بمعطيات الممارسة الاجتماعية، فهذه الممارسة هي المنطلق و المعيار لصحة الأفكار، إذ أن الماركسية و منظومة المعارف التي طرحتها لا تشكل هدفا بحد ذاتها، و إنما هي الأداة والوسيلة العملية لقراءة الواقع و تغييره، وهذا الموضوع يمثل، من وجهة نظر ماركس نفسه، المنطلق الأول و الأخير في صياغة الأفكار التقدمية.
انطلاقاً من هذا الفهم فقد قدمت الماركسية عبر منهجها المادي الجدلي حلاً مبدعاً لعلاقة الفكر بالواقع، علاقة النظرية والمعرفة بالممارسة والتطبيق العملي، فصاغت مفهومها العلمي لنسبية المعرفة الإنسانية باعتبارها عملية اجتماعية تاريخية، أي جزء من الممارسة، وباعتبار الممارسة في ذات الوقت هي أساسها ونقطة انطلاقها وهي هدفها، حيث أن المعرفة تتكون و ترتقي عبر الطريق الديالكتيكي من التأمل الحي إلى التفكير المجرد ومنه إلى الممارسة. وبهذا فإن الماركسية أعلنت الممارسة والتطبيق العملي معياران دقيقان لصحة أو عدم صحة الفكر والنظرية وتعبيرها عن القيمة الموضوعية.
وبالانطلاق مما تقدم فإن المنهج المادي الجدلي التاريخي جوهر النظرية الماركسية وهو الشيء الأكثر ثباتاً فيها والذي يتضمن في شموليته منهج التحليل الطبقي العلمي والمقاربة الإنسانية العميقة والرؤية العلمية للكون والعالم وتناقضاته.
وإذ نتمسك بالمنهج المادي الجدلي ونسعى لتمثله في الممارسة العملية، فإنه ينطلق في ذلك من كون الماركسية هي نظرية التغيير والحركة، وأن منطق المنهج المادي الجدلي التاريخي ينسجم كل الانسجام مع الطبيعة الموضوعية للظاهرات والعمليات الخاضعة لجدل التغير والحركة، سواء في واقعنا الفلسطيني أو العربي أو الإنساني العام.
لذلك علينا أيها التأكيد، منذ البداية، إننا أحوج ما نكون إلى توفر الحد المقبول من الإطلاع على الماركسية ومنهجها، وقبل كل شيء أن نكون مالكين للوعي المطلوب لكل جوانب واقعنا الراهن، الوطني التحرري والسياسي والاجتماعي والاقتصادي وتركيبه الطبقي بوضوح كبير، مدركين أن الماركسية ليست كل ما قاله (ماركس) فهي لم تتشكل دفعة واحدة، بل تمت وتحددت عبر خبرة طويلة من المعرفة الفلسفية والعلمية والممارسات الداخلية والعملية. فالماركسية هي ثمرة أوضاع تاريخية واجتماعية وفكرية محددة، عبر تطورها منذ ماركس وإلى يومنا هذا...فما هي الماركسية إذاً؟ و كيف يصبح الإنسان ماركسياً؟
نبدأ بتعريف الماركسية كما ورد في العديد من مصادرها ومراجعها الرئيسية التي عرفت الماركسية بأنها:علم القوانين الطبيعية التي تتحكم في سير وتطور المجتمع الإنساني، وهي بهذه الصفة علم لا يقل دقة عن سائر العلوم الطبيعية، ولذلك أطلق عليها مؤسسها "كارل ماركس" اسم الاشتراكية العلمية تمييزاً لها عن سائر النظريات الاشتراكية التي سادت في زمانه( نقصد بالنظرية هنا المعنى الذي يفيد أن الماركسية مجموعة القوانين و المقولات والفرضيات...الخ)، كذلك فان المكون الأساسي للماركسية، ونقصد بذلك المادية الجدلية (الديالكتيكية) و منهجها، سمي علم العلوم أو علم الحركة بمختلف أشكالها و صورها، والماركسية هي علم تطبيق المادية الجدلية على تاريخ المجتمع البشري بجميع مراحله وأنماطه المختلفة من حيث النشؤ والتطور بين هذا المجتمع أو ذاك، أما المكونات الأخرى للماركسية (التطور الاجتماعي و الاقتصاد و الفلسفة و الاشتراكية) فهي ليست سوى تطبيق للمادية الجدلية على المسيرة التطورية لمجتمعاتنا العربية أو لأي مجتمع من المجتمعات في انتقالها من نمط إلى نمط آخر
ولذلك فان الشرط الأول من شروط تكوين الكادر الماركسي في اي حزب، كما في كل الأحزاب اليسارية، هو الإيمان الواعي بان الماركسية علم، و هذا ما يفتقر إليه الكثير من في كل الأحزاب اليسارية العربية وغيرها، رغم إقرار هذه الأحزاب و التزامها بالماركسية و منهجها رغم إقرار هذه الأحزاب وبصورة موضوعية صحيحة بأن الماركسية ترتبط بالقوى التي تعبر عن الطبقات الفقيرة من العمال والفلاحين الفقراء، وهنا تتجلى أهمية إدراك و وعي الماركسية كشرط أساسي لتكوين الإنسان الحزبي الماركسي، فإذا كانت الماركسية علم كسائر العلوم كالطب أو الهندسة، فان هذا يفترض تأهيل العضو الحزبي أن يدرس علم الماركسية و قوانينها و مقولاتها لكي يصبح ماركسيا و لكي تصبح الماركسية كيانا كما هو علم الطب الذي أصبح كيانا لدى الطبيب، فكما يجابه الطبيب في كل مريض حالة جديدة يؤهله علمه أن يشخص الحالة المرضية و يصف لها العلاج المناسب، كذلك الأمر يجابه الماركسي ومن ثم الحزب بالمعنى الجمعي خلال نضاله اليومي والاستراتيجي حالات جديدة تؤهله الماركسية التي أصبحت كيانا له أن يشخص الحالة أو التطورات والمتغيرات ويضع لها الحل المناسب، وهو حل مرتبط بدراسة الماركسية كشرط لابد من استكماله لنشؤ وبناء عضو الحزب الماركسي، إذ لا يمكن أن يصبح ماركسياً من لم يدرس الماركسية في سياق نضاله والتزامه ببرنامج الحزب وأهدافه الوطنية والديمقراطية، عبر ارتباطها الوثيق بالبعدين القومي والإنساني، و هذا هو الفرق بين دراسة العلوم الطبيعية كالطب و بين دراسة علم الماركسية، فمن المفروض أن العضو الحزبي يتعلم الماركسية من خلال ممارستها في نضاله داخل الحزب وخارجه، لمتابعة مستجداتها و تطورها من ناحية وبتوجيهات الحزب عبر عملية التثقيف النظرية والعملية من ناحية ثانية، من اجل بناء و خلق الكوادر الحزبية القوية فكريا و تنظيميا ونضاليا، وإلا فان الكوادر الضعيفة ستظل تعكس ضعفها ورخاوتها على مجمل هيئات الحزب وقواعده
السمات الرئيسة للماركسية:
تتميز الماركسية عن غيرها من الأنساق النظرية والفلسفية السابقة بأمور ثلاثة:
الأول:- أنها تستمد عناصرها ومعطياتها وبالتالي قوانينها من الدراسة العلمية العينية
الملموسة للواقع الاقتصادي والاجتماعي الفكري والصراعي (الطبقي) في فلسطين والوطن العربي والعالم.
الثاني:- هو أنها ليست مجرد نظرية معرفية علمية تستمد هدفها من الدراسة العلمية
الموضوعية وإنما تتضمن كذلك موقفاً موضوعياً كنظرية لتغيير الواقع تغييراً جذرياً لإقامة واقع مغاير يتخلص فيه الإنسان من الاضطهاد الوطني والطبقي ومن الفقر والقهر والاستغلال، وتتفجر فيه إنسانيته الإبداعية وتتوفر له الحرية الحقيقية.
الثالث:- الممارسة العملية تتم وفق هذه المعرفة، وهي شرط لها، وهي مصدر أساسي
في الوقت نفسه لهذه المعرفة.
إلى جانب ذلك فإن الماركسية معنية بثلاث لحظات في ديالكتيك إنتاج الهوية الاجتماعية الطبقية:
اللحظة الأولى: هي التعليم والتربية في استخدام المنهج الديالكتيكي المادي في التفسير التاريخي والاجتماعي، وهي تشمل قراءة التراث الماركسي الكلاسيكي قراءة متبصرة ونافذة.
اللحظة الثانية: هي إنتاج العلم التاريخي والاجتماعي بالخصوصية بواسطة العمليات الفكرية التي تعلمها سابقاً، أي إعادة إنتاج النظرية الاجتماعية والتاريخية هنا عندنا نحن العرب في سياق العصر الراهن.
اللحظة الثالثة: هي إعادة إنتاج الفكر الماركسي لهويته الطبقية وأشكاله وأدواته الميكروية الجديدة (مناهج متخصصة في حقول معينة من العلوم الإنسانية والطبيعية) وفي هذه اللحظة تنشغل النظرية بمسألة قضايا التنظيم وبناء الحزب السياسي وفق أشكال مناسبة وفعالة بما تضمنته من بناء تصورات وأيدلوجيا للتغير الاجتماعي التاريخي.
اللحظات الثلاث متداخلة ومترابطة، أي لا يتم وعيها كلحظات منفصلة ميكانيكياً.
و في هذا الجانب، نشير إلى الماركسية في علاقتها بالأحزاب الشيوعية العربية في ظل ما يمكن تسميته بتبعية هذه الأحزاب للمركز في موسكو قبل انهيار الاتحاد السوفيتي، حيث كان يجري اعتناقها، كما ترد في الكتب والكراريس المؤلفة (والمطبوعة غالباً) في الاتحاد السوفيتي، عبر علاقة كانت قائمة على التبعية العمياء لموسكو آنذاك دون أي فرصة للنقد أو المراجعة والاجتهاد، الأمر الذي راكم حالة من الجمود في أوساط الحركة الشيوعية العالمية والعربية، أدت إلى عجز أطراف هذه الحركة عن التفاعل الخلاق مع واقعها المحلي (القطري والقومي) وخصوصيته من حيث التطور الاجتماعي والثقافي.
لكن انهيار المنظومة الاشتراكية أوجد تحوّلاً عميقاً، ليس في السياسة والجغرافيا السياسية فقط، بل وبالفكر كذلك، حيث انقلب بعض «المدافعين الأشداء" إلى «أعداء» أو رافضين، وشتّامين لكل ما يمت للاشتراكية بصلة، حتى «المجددين الماركسيين»، عمموا الرفض والتشكيك، وتأكيد قيم الرأسمالية كنمط اقتصادي اجتماعي، في سياقها الليبرالي و"ديمقراطيتها".
ولاشك في أن انهيار المنظومة الاشتراكية يفرض التشكيك والشك، وبالتالي يفرض البحث والدراسة والتقييم لتجربة الاشتراكية ، وبالتالي جعل الشك عنصراً أساسياً في رؤيتها، وهل لازالت قادرة على أن تكون «الأساس النظري» للمشروع القائم على نفي الرأسمالية؟
لابد من الإشارة أولاً، إلى أن «معنى» الماركسية التي ترّسخت في وعينا (أو التي وصلتنا) يحتاج إلى تحديد، وبالتالي هل أننا نناقش الماركسية ونصدر الأحكام بحقها من داخلها فعلاً؟ أم أننا نقوم بكل ذلك انطلاقاً من «الوعي» الذي تشكل لدى أحزاب اليسار العربي والعالمي في إطار تلك الحالة من التبعية الميكانيكية للمركز في موسكو، حيث أن كل ذلك يؤسس لـ«طريقة في التفكير» تصبح هي أساس وعي الظواهر؟ فالماركسية حسب ما تعرّف هي منهج وقوانين ونظريات، فهي طريقة في التفكير أولاً، وهي منظومة قوانين ومفهومات تشكل آليات النشاط الذهني الضروري لكل بحث، وخصوصاً لكل بحث في واقعنا الفلسطيني والعربي، إنها منهجية وعي (تفسير وكشف) يكون الواقع هو ميدانها الأساسي، من أجل وعي الصيرورة الواقعية ذاتها، وهذا يعني بالنسبة لنا أن نجعل من الواقع محل بحث مستمر، مما يجعل كل ما هو محدّد مسبقاً محل تساؤل، سواء من أجل إعادة الإنتاج أو من أجل النفي أو الاغناء. وصيرورة «الموت والحياة» هذه هي التي تحكم الماركسية، مما يجعل اليقين موضع شكّ مستمر، و الشكّ مجال الوصول إلى اليقين. هذه العملية تستلزم الواقع حكماً، ولن تكون ممكنة أو مفيدة دونه، وهي تتأسس على الجدل المادي.
النقطة الأولى إذن، لكي نستطيع وعي الاشتراكية ووعي الماركسية، تتمثل في امتلاك الجدل المادي، وهي الخطوة الضرورية من أجل إعادة بناء التصورات والأفكار، فالماركسية هي «فلسفة» التفسير، أي أنها منهجية تسمح بتفسير الواقع، ولكنها في تفسيرها هذا توصل إلى ضرورة التغيير، مما يجعل التأسيس النظري يرتبط بالتأسيس العملي، وليكون التأسيس النظري عملاً أولياً في سياق تأسيس حركة اجتماعية فاعلة، تسعى لتحقيق التغيير، عبر الأحزاب الماركسية العربية عموماً، والفلسطينية خصوصاً، انطلاقاً من إدراكنا لطبيعة ومفهوم الحزب الذي هو شكل «الاتحاد» بين فئات مثقفة وفاعلي (أو ناشطي) الحركة الاجتماعية (المحددة في العمال والفلاحين الفقراء أساساً)، الأمر الذي يفرض مزيداً من الوحدة الجدلية بين عنصري الوعي والتنظيم من ناحية، وبلورة رؤية تحويل الواقع وتحديد الهدف العام الذي نسعى إليه وتأسيس الحلم المستقبلي أو المجتمع العربي الاشتراكي الموحد من ناحية ثانية، وعلى طريق النضال من أجل تحقيق هذا الهدف العظيم فإننا نعتقد أن إعادة وضع الصراع العربي الصهيوني، كصراع ضد النظام الامبريالي الرأسمالي هو أحد أهم الشروط المطلوبة لنجاح نضالنا ضد الحركة الصهيونية ودولتها، باعتبارها قاعدة وشريكاً أساسياً في حماية المصالح الامبريالية في بلادنا، وهذا يفرض أن نعود إلى الماركسية لكي نواصل النضال عبر عملية صراع طويلة سنخوضها حتماً ضد الرأسمالية، سواء في بلداننا أو مع الرأسمالية المتوحشة التي تزحف علينا من الخارج. إذاً سنبدأ من موضوع ما هي الماركسية؟
ربما يكون السؤال مفاجئاً لأن اعتقاداً ساد بأننا نعرف ما هي الماركسية، حيث كانت رائجة وكانت «أفكارها» منتشرة كما الهواء، وبالتالي واضحة بسيطة وسهلة وليست بحاجة إلى قراءة أو دراسة أو بحث لأنها لدى العديد من رفاقنا من العاديات، وبالتالي يكون السؤال ما الماركسية نافلاً بما أنها بسيطة وسهلة وواضحة... ولكن انهيار المنظومة الاشتراكية شكك بهذه المسألة وقلب التفكير باتجاهات أخرى، ولهذا سنبدأ بمناقشة هذه المسألة.
سنلمس أولاً، أن الماركسية السوفيتية هي الماركسية التي راجت وبالتالي فنحن إزاء صيغة للماركسية تبلورت في الاتحاد السوفيتي، وهذه الماركسية هي أحد أهم المراجع التي وصلتنا في الغالب، وبالتالي كانت تجيب على كل شيء وتحلل كل شيء انطلاقاً من واقع ومصالح الاتحاد السوفياتي بصورة شبه أحادية لم تأخذ بعين الاعتبار طبيعة الأنماط الاجتماعية الاقتصادية المتنوعة والمختلفة السائدة في البلدان العربية او بلدان أمريكا اللاتينية وآسيا وإفريقيا، رغم أن الماركسية في هذه البلدان –كما في البلدان الصناعية- كانت تعاني من مشكلة تحديد ذاتيتها قبل ذلك، وربما كانت هذه المسألة قد نشأت منذ ماركس، وهو الأمر الذي دفع أنجلس بعد وفاة ماركس إلى محاولة التوضيح والتمييز، وكان في أساس الإشكالية موقع الاقتصاد في مجمل الماركسية، ونحن هنا نلمس إشكالية أخرى حكمت الماركسية، سابقة للإشكالية التي حكمتها بعد انتصار الثورة الاشتراكية في روسيا وقيام الاتحاد السوفياتي، فقد أشار إنجلز إلى قول ماركس المتكرر دائماً: أبلغوا هؤلاء أنني لست ماركسياً، حينما لمس الميل نحو الاقتصادوية في الماركسية. لقد دخل في نقاش طويل لتوضيح موقع الاقتصاد في مجمل التكوين الماركسي (البنية الماركسية)، ولجأ إلى التأكيد على أن الاقتصاد هو المحدد في التحليل الأخير، ولكنه ليس المحدِّد وحده. وهذه فكرة هامة وحاسمة ونعتقد أنها مدخل السؤال: ما الماركسية. فإنجلز يشير إلى دور الوعي والسياسة والأخلاق والثقافة في الصيرورة الواقعية، ولا يكتفي بالتأكيد على دور الاقتصاد. ولكنه يقول أن الاقتصاد هو المحدِّد في التحليل الأخير بمعنى أن الماركسية تنطلق من كل ذلك وليس من الاقتصاد وحده، رغم أنه المحدِّد في التحليل الأخير.
لذا يصبح طرح السؤال ما الماركسية ذو أهمية وله معنى. فنحن هنا أمام هدف يتمثل في تحديد مسافة بين الماركسية السوفيتية، وبين ماركسية ماركس أنجلس وآخرين. كما نحن أمام هدف تحديد ماهية ماركسية ماركس بالذات وماذا أضاف ماركس. وربما هذا المدخل هو الذي يجعلنا نحدد ما الماركسية، لأن إضافة ماركس هي الحاسمة، والتي أسست معلماً مثّل اتجاهاً فكرياً أسمي بالماركسية، وربط جملة مفاهيم بماركس. فماذا أضاف ماركس؟
البحث في الاقتصاد كان قد بدأ فأصبح رائجاً قبل ماركس، من آدم سمث إلى ريكاردو إلى آخرين، فما الذي جعله يتسمّى بماركس؟ لقد نقد ماركس الاقتصاد السياسي، الذي كان إنجليزياً نتيجة اهتمام الإنجليز بهذا البحث تحديداً، وتوصل إلى قوانين أصبحت جزءاً من علم الاقتصاد، حتى غير الماركسي، وبدا نتيجة تركيز ماركس على الاقتصاد بأن الماركسية تساوي الاقتصاد، فاختزلت في قوانين مبسّطة. ومن هنا نشأ التصور القائل بنظرية الانعكاس، بمعنى أن الوعي هو انعكاس الواقع، وبالتالي فالاقتصاد أولاً ومن ثم يأتي الوعي والحركة الاقتصادية أولاً ومن ثمَّ تأتي الحركة السياسية والاجتماعية العامة. لكن كيف توصّل ماركس إلى نظريته حول فائض القيمة ورؤيته لتشكل النمط الرأسمالي؟ خاصة وان البحث في الاشتراكية وصراع الطبقات سبق ماركس، من الاشتراكية الطوباوية إلى مجمل الاشتراكية التي نقدها ماركس في البيان الشيوعي. فما الذي حوّل الاشتراكية من طوباوية إلى علم؟ وبالأساس ما الذي جعل ماركس يقول بنهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية؟ ـ فالفلسفة هي بحث في التجريد ووصلت مع هيغل إلى شكلها الأكمل حيث بلور الجدل، وحين أوقف ماركس هيغل على قدميه كما يقول هو، أنهى الفلسفة الكلاسيكية الألمانية كلها، وأسس لتحول الفلسفة إلى أداة تحليل أو منهجية أو طريقة في التفكير، ونقصد هنا الجدل، ليسمى مع ماركس الجدل المادي.
وهذا يوضح الرابط الذي نريد أن نشير إليه منذ البدء بين الجدل ومجمل المفاهيم والتصورات التي طرحها ماركس، فماركس لم يستطع أن يصل إلى قانون فائض القيمة أو يحلل النمط الرأسمالي دون أن يمتلك الجدل، وبالتالي دون أن يخلّص الجدل الهيغلي من مثاليته، ويحّوله إلى جدل مادي. حيث عبره استطاع أن يحلل التكوين الرأسمالي ويسير خلف الفكرة التي كان الاقتصاد السياسي قد بدأها حول البحث في فائض القيمة أو الربح ليصل إلى النتيجة التي وصل إليها. وهو عبر ذلك أيضاً استطاع أن يدرس الميل البشري للعدالة وتأسيس يوتوبيا، وأن يربطها بالسيرورة الواقعية، ليطرح ملامح إنتقال البشرية إلى تكوين جديد، أطلق عليه اسم الاشتراكية.
من هنا نعتقد أن البحث في الماركسية يجب أن يبتدىء من البحث في الجدل المادي. ولاشك أن هذه مسألة فلسفية كبيرة تحتاج إلى دراسة وبحث معمق، ولكننا لا نستطيع أن نؤسس رؤية للواقع وفهماً لصيرورته، وفهماً للمستقبل، دون أن نصل إلى هذه النقطة بالذات، أو دون أن يصبح الجدل هو الطريق التي تحكم نشاطنا الذهني في فهم الواقع.
بالطبع فان قناعتنا بأن الماركسية هي أيديولوجيا الطبقة العاملة، لا يتنافى مع ذلك، لأن تأسيس رؤية أو وعي لطبقة معينة هي الطبقة العاملة في صراعها من أجل انتصارها يفترض الاستناد إلى الرؤية الماركسية. وهنا نستطيع التمييز بين الماركسية كأداة للمعرفة، وبالتالي يكون الجدل في عمقها، وبين الماركسية كأيديولوجيا تعبر عن مصالح طبقة محددة في ظرف معين ولحظة معينة، وبالتالي انطلاقاً من الجدل المادي الذي يسمح لنا بفهم الواقع نستطيع أن نؤسس التصورات التي تعبر عن هذه الطبقة في صيرورتها، والذي يسمح لأن يؤسس وعيها بما يجعلها قوة فاعلة في المجتمع.
من هذا المنطلق نرى أننا بحاجة إلى العودة إلى الماركسية، العودة إلى ماركس أصلاً، وأن نعي ما هي الماركسية، وأن نعرف ما هو الجدل المادي.
اننا نعتبر أن الجدل هو الأساس الذي استند إليه ماركس واستطاع التوصل الى قوانين وافتراضات أصبحت مكلمة لهذا المنهج، أو أصبحت جزءاً منه، ونحن هنا لا ننفي أن في الماركسية قوانين علمية (مثل فضل القيمة، البنية التحتية والبنية الفوقية، تقسيم المجتمع إلى بنى اقتصادية اجتماعية سياسية، مفهوم نمط الإنتاج، طبيعة السلطة)، لكن مجمل هذه المنظومات لا يمكن أن تصبح أداة تحليل إلا عبر ربطها بالجدل، فالجدل يفعل عبر تفاعل كل هذه المستويات، وعبرها كلها نستطيع فهم حركة المجتمع، وليس عبر التركيز على عنصر فيها أو إهمال عنصر آخر.
لهذا حين يطرح السؤال: ما الماركسية؟ نستطيع ان نجيب بوعي ووضوح أن الماركسية هي في الأساس منهجية في التحليل، هو الجدل المادي. لهذا أشرنا إلى أن البحث في الاقتصاد، وتصور ماركس في الاشتراكية، الصراعات الطبقية، كلها تبلورت عندما أمسك ماركس بمنهجية هيغل (الجدل)، وعمل على تحويله من الجدل القائم على الفكرة، إلى الجدل المادي.
وحينما نحدد أن الماركسية هي الجدل، فإننا نشير إلى أن الجدل المادي تبلور مع ماركس وبالتالي فإن نقله نوعية في الفكر البشري كانت قد تحققت. وهنا يجب أن ندرس صيرورة تطور الفلسفة منذ نشوئها وكيف أنها في هذه اللحظة فقط أصبحت فكراً مادياً، وفي هذه اللحظة تبلور منهج جديد يتجاوز منطق أرسطو الذي حكم العقل البشري منذ أرسطو إلى هيغل، وأسس لأن يصبح هناك آلية في البحث مختلفة عما كان سائداً. هذه المنهجية هي التي أسست كل تصورات الماركسية، بل هي التي أسست الماركسية.
ومن هنا نستطيع أن نقول أن ماركس وضع حجر الزاوية كما قال لينين ذات يوم، ولم يبحث في كل شيء ولم يجب على كل شيء، ولم يكن قادراً على أن يكون دقيقاً عندما يجيب على بعض الأشياء.
فالماركسية من هذه الزاوية هي طريقة البحث التي أتت مع ماركس، والتي أسميت الجدل المادي، التي عززها العلم وأكد على صحتها. هناك إضافات، توسيعات، نعم، هناك فائدة كبيرة يمكن أن نستفيد منها من البحوث العلمية في فهم الجدل، نعم، ولكن لازال الجدل المادي هو المنهجية التي تحكم التطور، وهو المنهجية العلمية، لهذا لا نلمس أن في البحث الفلسفي الحديث من حاول أن يؤسس منهجية أخرى، عدا المنهجية الوضعية التي أدت إلى التفكيكية وإلى نشوء التخصّص، وبالتالي تفكك البحث وتجاوزه لطابعه الشمولي إلى الجزئي عبر البحث في كل فرع منفرداً وهذه الفروع كلها استفادت من الماركسية، و«سرقت» منها، عدا ذلك لم تتأسس منهجية أخرى مع الإشارة إلى أن هذه المنهجيات هي منهجيات جزئية، تخصصية، وليست منهجية شاملة (عامة) كما هو المنهج الجدلي الماركسي، الذي ينطلق من فهم الملموس، صيروراته، تناقضاته، حركته، ولا ينطلق من بحث المجرد.
في ضوء ما تقدم، فإن الماركسية تقف من حيث جوهرها ضد أمرين: ضد التجريد المطلق من ناحية، وضد التجريب البرغماتي من ناحية أخرى، وبالتالي ضد أي فكر عقائدي جامد غير نقدي وغير علمي، وضد أي ممارسة تقوم على هذا الفكر.
من هنا فإن المنهج المادي الجدلي، يعني معرفة الأشياء والوقائع كما هو تحققها الفعلي لا في تصوراتها الوهمية ولا في جزئياتها المنعزلة، وإنما في علاقاتها وتشابكاتها التي تتخذ أشكالاً مختلفة، فالماركسية بقدر ما هي نظرية متكاملة، إلا أنها في الوقت نفسه منهجاً علمياً متكاملاً أيضاً.
هذا الدور الذي ينطلق من رؤية وقوانين نظرية علمية ومحددة، تجسدها قوانين ومقولات ومنهجية المادية الجدلية أو الماركسية، أن كل شيء يتحقق وفق قوانين محددة، أو وفق علل محددة، وهذا ما يمكن تسميته بالحتمية العلمية، التي تتميز في أنها لا تستدعي إلا الأسباب والعلل الفاعلة والشروط المحددة في التجربة والأسباب المحددة لها، وهي أسباب إنسانية واجتماعية وتاريخية وموضوعية أساساً، ولعل من أبرز هذه القوانين المعبرة عن العلل والأسباب الفاعلة هي قوانين الصراع الطبقي والعلاقة بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج، والدور المحدد للطبقة العاملة وكل العاملين الأجراء المنتجين والكادحين في بلادنا.
إن الوعي بهذه القوانين وهذه العوامل والعلل الموضوعية في التاريخ – كما في واقعنا الفلسطيني والعربي الراهن- وتأسيس الفاعلية الإنسانية هو الذي ينتج تحقيق الحرية الحقيقية، لهذا لا سبيل إلى القول بحتمية قدرية في الماركسية. إن جوهر نظرية ماركس هو أبعادها العملية والفلسفية والسياسية العملية التي تتضافر لتحقيق ثورة جذرية في التاريخ عبر دور رئيس للطبقة العاملة وجموع الكادحين والفقراء المضطهدين، وهي ثورة ضرورية وممكنة في وقت واحد، بل لعل إمكانيتها مرتبطة بأساسها الضروري في بلادنا، المتمثل في ذلك الدور البشع الذي تمارسه الامبريالية وحليفها الصهيوني الذي يقوم على اغتصاب أرضنا واحتجاز تطورنا واستغلال فائض القيمة لشعوب بلدان وطننا العربي من ناحية وعلى الملكية الفردية لوسائل الإنتاج في إطار التحالف البيروقراطي الكومبرادوري الطفيلي التابع في بلادنا من ناحية ثانية، وبالتالي فان مجابهة هذا الواقع والنضال من اجل تغييره مهمة أولى ورئيسية لكل القوى الماركسية في وطننا العربي من اجل تحقيق انتقال جماهيرنا الشعبية من فضاء الضرورة والاستغلال إلى فضاء الحرية والعدالة الاجتماعية والاشتراكية، والانتقال بالتاريخ من ملكوت الضرورة إلى ملكوت الحرية.
حينما نقول بأنه ليس وعي الناس هو الذي حدد وجودهم، وإنما العكس إن وجودهم هو الذي يحدد وعيهم، فان القراءة الموضوعية لهذا النص، تكشف منذ بدايته أن إنتاج الناس لوجودهم الاجتماعي هو الذي يفضي إلى تحقيق علاقات مستقلة عن إرادتهم الفردية، وفي هذا السياق يقول (ماركس) بوضوح « إن الناس هم الذين يصنعون التاريخ » ولقد فسر ذلك بقوله « حتى الآن فعلوا ذلك بغير وعي خاضعين لقوى اقتصادية واجتماعية لا يفهمونها ولكنهم قادرون الآن – في ظل الصراع الرأسمالي- على الوعي بها » هذه في تقديرنا هي القيمة الثورية التاريخية الأساسية للماركسية، التي تتجلى في رفضها القطعي للرؤية القدرية للتاريخ، وهذه النتيجة مرهونة بدور العامل الذاتي، أو الحزب، ودرجة الوعي بالواقع والنظرية في آن واحد من ناحية وقدرته على الانتشار والتوسع في أوساط جماهير الفقراء والكادحين من ناحية ثانية، لأنه بدون هذا الدور الطليعي النشط في أوساط هذه الجماهير –خاصة في بلادنا- سيبقى تفسير كل أشكال الاضطهاد والظلم والعدوان تفسيراً مثالياً أو قدرياً من قبل القطاع الأوسع من الجماهير الفقيرة، بما يوفر كل الفرص للقوى الليبرالية الانتهازية ولقوى اليمين الديني والعلماني وشرائحه الطبقية في السلطة وفي المجتمع أن تظل قادرة على التحكم في وعي هذه الجماهير وهنا تكمن أهمية أو دور كافة قوى اليسار في وطننا العربي- في القيام بدورها الطليعي المطلوب لتجاوز الواقع المأزوم والمهزوم، في تحقيق أهداف الجماهير الشعبية الفقيرة في التحرر والعدالة الاجتماعية والديمقراطية والوحدة.
إننا ندرك جميعاً أن هذا المسار النضالي الطليعي، لا يتم بشكل ميكانيكي قدري، وإنما بالوعي العميق بالنظرية والواقع الذي يُمكِّنكم وحده من السيطرة على الشروط الموضوعية وتحقيق الانتصار.
وفي هذا السياق نشير إلى أن ماركس لم يقدم برنامج عملي للتحول الاشتراكي وإنما قدم خطوط عامة، ولقد استطاع (لينين) – من بعده- أن يقود عملية الثورة وأن يحققها باقتدار في مواجهة الضرورات العملية والفكرية والتنظيمية التي فرضتها الأوضاع الخاصة والدولية آنذاك، وكانت له إبداعات فكرية وعملية عديدة مثل: نظرية قيام الاشتراكية في بلد واحد، ونظرية أضعف الحلقات، ونظرية الثورة الثقافية، ونظرية حق تقرير المصير... نظرية الثورة والعدالة... نظرية بناء الحزب.... الخ.
واليوم في عصرنا الراهن، عصر العولمة الأمريكية، وانهيار المنظومة الاشتراكية، وتراجع اليسار العالمي، وتفكك وتراجع اليسار العربي، وانتشار الإسلام السياسي، وما رافقه من إعادة إنتاج التخلف، وسيادة مفاهيم الليبرالية الرثة والهبوط السياسي – غير المسبوق- على الصعيد الوطني والقومي، فإن الحاجة تبرز إلى الاشتراكية وإلى الفكر الماركسي أكثر بما لا يقاس من الحاجة إليها في عهد ماركس أو لينين. ذلك أن الحكم على الاشتراكية والفكر الماركسي لا يكون بما أصاب التجربة السوفييتية الاشتراكية من انهيار، وإنما الحكم الصحيح على الاشتراكية والماركسية يكون عبر ما تعانيه الرأسمالية العالمية اليوم من عجز عن تقديم حلول للمشكلات الأساسية للواقع الإنساني من ناحية، وببشاعتها وبشراستها العدوانية والاستغلالية إزاء شعوب العالم الثالث عموماً وشعوب أمتنا العربية خصوصاً من ناحية ثانية، وهي شراسة فاقت أساليب النازية في همجيتها، تجسد وتدلل على عمق أزمة نظام الامبريالية الأمريكي المعولم، ليس عبر تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية في بنيتها الداخلية فحسب، بل بسبب استنهاض وصعود الثورة الاشتراكية المتجددة في فنزويلا والبرازيل وبيرو وغيرها من بلدان أمريكا اللاتينية، وهو استنهاض يؤشر بوضوح وثبات على إمكانية انتصار الاشتراكية في صراعها الحتمي مع الرأسمالية، بمثل ما يؤكد أيضاً أن الاشتراكية والماركسية تبرز اليوم كضرورة ما تزال تتطلع إليها هذه الأوضاع التي تزداد تردياً في حياة شعوب العالم و شعوب بلادنا العربية عموماً وشعبنا العربي الفلسطيني خصوصاً، الذي يتعرض مشروعه الوطني الديمقراطي في هذه المرحلة لأبشع أشكال العدوان والغطرسة الصهيونية من ناحية ولأبشع صراع داخلي بين قطبي اللحظة الراهنة، التيار الأصولي أو مشروع نظام الإسلام السياسي وهويته والتيار اليميني المتنفذ في حركة فتح، بحيث بات هذه الصراع – رغم تشكل حكومة القطبين- مدخلاً لمزيد من تراكمات الإحباط واليأس في أوساط واسعة من جماهير شعبنا، ما يفرض علينا أن تتحمل مسئوليتها والخروج من أزمتها الفكرية والتنظيمية صوب ترسيخ العلاقات الدافئة وفق البرنامج من ناحية وحماية وتعميق هويتنا الفكرية الماركسية من ناحية ثانية، بما يمكننا من استعادة الدور الطليعي في أوساط الجماهير وقيادتها صوب تحقيق أهدافنا التحررية الوطنية والديمقراطية في إطار النضال التحرري والديمقراطي على المستويين القومي والإنساني، الذي سترتفع فيه رايات المستقبل...رايات الماركسية الكفيلة عبر جماهيرها وطليعتها المنظمة، بتجاوز حالة الهبوط والهزيمة السائدة في واقعنا الفلسطيني والعربي في هذه المرحلة.
وهكذا نعود إلى البداية متسائلين: هل ما تزال الماركسية كما قال بها (ماركس) هي نفسها لم تتغير وعلينا أن نرفع راياتها؟
ونجيب بوضوح أن الماركسية ما تزال تحمل من المصادر النظرية والتوجهات المنهجية ما يجعلها أساسية في مرجعيات فكرنا وهويتنا ونضالنا من اجل التحرر والتقدم والعدالة الاجتماعية والاشتراكية، وخاصة فيما يتعلق باستنادها إلى البحث العلمي إلى جانب رؤيتها النظرية الفلسفية، المادية الجدلية، فضلاً عن الطابع النضالي للماركسية من أجل الانتقال بالمجتمعات البشرية من مرحلة الرأسمالية المعولمة إلى مرحلة الاشتراكية، التي ترتفع مجدداً راياتها اليوم في أمريكا اللاتينية ...وغداً في بلادنا، كما في العديد من بلدان آسيا وأفريقيا، سترتفع رايات التحرر والاشتراكية بفضل نضال القوى اليسارية الثورية فيها، لا سيما وان الظروف الموضوعية في كل هذه البلدان باتت مهيأة لان يبدأ اليسار الماركسي فيها دوراً متجدداً سيجعل منه قوة حقيقة خلال السنوات القادمة إذا ما تم تفعيل دوره الطليعي الملتزم بالأسس النظرية والتنظيمية الثورية في أوساط الجماهير الفقيرة التي ستصنع معه وعبر قيادته مستقبلها الواعد، الخالي من كل أشكال العدوان والاضطهاد والاستغلال والمعاناة.
أيها الرفـاق... نحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى، إلى منظومة جذرية من القيم الفكرية والتنظيمية والسياسية التي تكرس هويتنا الماركسية آخذين بعين الاعتبار –وبوعي- أن ديالكتيك التطور يبتعد عن العقائد الجامدة، ويتجاوز الرؤية النظرية الشكلية المبسطة والوعي العفوي، اليوم تحتاج بلادنا إلى التفكير ديالكتيكياً، والى مصالح الجماهير، انطلاقا من الإيمان بالمستقبل...والتوفيق بين المعرفة النظرية والتحرك، والطريق إلى ذلك، إلى هذه النظرية، هو طريق التطور في إطار يجمع كل من التراث القومي والتراث الماركسي عبر علاقة مترابطة وجدلية، وفق رؤى متجددة، فالماركسية هي الطريق إلى الحضارة الأوروبية، إلى التراث الغربي، إذا نظرنا إليه لا كرفوف للسوبر ماركت، وإنما كثروة حقيقية من التجربة السياسية والثقافية والاجتماعية بكل تناقضاتها، ففي الوقت الذي نحافظ فيه على هويتنا، يجب أن نتجاوز الرؤية القومية الشوفينية المنغلقة، تجاوزاً إيجابياً بمعنى الترابط مع الآخر العالمي في سياق الهدف الإنساني الأسمى. الماركسية وحدها هي التي تساعدنا على ذلك. حان الوقت لرفض الأثر المخدر لضغوطات او مغريات اللحظة الراهنة وخطابها السياسي الهابط، وأفكارها وكلماتها الليبرالية أو الأصولية ورموزها وعلينا أن نختار إما أن نكون مع النخب الحاكمة ضد الشعب، أو مع الجماهير الشعبية ضد كل شيء يحول بينها وبين الحياة الخالية من الاضطهاد والاستغلال والمعاناة.