الحراك الشبابي الفلسطيني - هل ينقل سيناريو مصر للمناطق المحتلة؟


اسماء اغبارية زحالقة
2011 / 3 / 30 - 07:46     

اسماء اغبارية زحالقة

في أجواء الثورات الشعبية السلمية عموما التي تجتاح الوطن العربي، استفاقت ايضا الساحة الشبابية الفلسطينية. بعد عهد طويل تم فيه احتكار السياسة من قبل فتح وحماس المتناحرتين على السلطة، بدأ حراك شعبي جديد حمل شعارا يحظى بإجماع فلسطيني هو "الشعب يريد إنهاء الانقسام"، وهو في انطلاقته في 15 آذار تمكن من حشد ما يقارب ال150 الف فلسطيني في مسيرات شملت مدنا مختلفة من الضفة الغربية وقطاع غزة.

وما كادت المبادرة الشبابية تنطلق حتى هزت القوى السياسية ودفعتها للقيام بتحركات حثيثة لاحتوائها، بعد ان فشلت في قمعها بالقوة والضرب والاعتقالات من جانب فتح وحماس. وكانت ابرز هذه المحاولات دعوة رئيس حكومة حماس المقالة، اسماعيل هنية، لرئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس (ابو مازن)، لزيارة غزة تمهيدا للحوار ورأب الصدع، وإعلان الأخير تلبيته الدعوة. وبدا الإرباك واضحا في تصرف القوى ازاء المبادرة، وذلك عندما اختلفت حول معاني الزيارة قبل ان تتم، وبرز هذا في موقف قيادة حماس في سورية على لسان محمد نزال الذي أعلن (في 19/3) استيائه من الزيارة المرتقبة.

الخيار الثالث والانتفاضة الاولى

جوهر المبادرة الشابة هو طرحها خيار المقاومة الشعبية السلمية الذي يجري اتباعه اليوم في العالم العربي، وهو من هذه الناحية يعتبر ردا على فشل خياري المقاومة المسلحة والمفاوضات العبثية في تحقيق التطلعات الفلسطينية السياسية والاجتماعية.

اذا لاحظنا الحراك الشبابي الجديد نجده لنفس نوعية الشباب الذين يقودون اليوم الثورات في العالم العربي: شباب فيسبوكيون، مثقفون، غير حزبيين ولكنهم بفعل كونهم في خضم معركة مع الاحتلال فلمعظمهم خلفية سياسية سواء ليبرالية أو يسارية. وهم كحال الشباب في العالم العربي لا يزاولون النشاط السياسي، وذلك من منطلق عدم ثقتهم بالسياسة والسياسيين معا. بعضهم يعمل في منظمات المجتمع المدني المختلفة التي استبدلت الاحزاب السياسية، والكثير منهم لا يطمح لامتهان العمل السياسي مستقبلا، كما قال لنا بعضهم.

بدأ الحراك تحديدا مع بداية الثورة في تونس، من خلال مظاهرات مؤيدة للثورة التونسية، وتعرض هؤلاء للقمع الشديد من قبل سلطة فتح في رام الله. هذا ما يحدثنا به الناشط المقدسي نضال عطالله المنسق الاعلامي للحراك الشبابي، وهي المجموعة الأساسية التي خرجت في رام الله بمبادرة لفتت اليهم الأنظار وهي الإضراب عن الطعام. ومع تطور الثورة في مصر، انضمت للحراك مجموعات شبابية جديدة تشكلت بشكل عفوي عبر الفيسبوك، وبشكل عفوي ايضا أُعلن عن 15 آذار يوما للمظاهرات الشعبية بهدف إنهاء الانقسام. وقد شارك في المظاهرات ما يقارب ال150 ألف فلسطيني ساروا في مدن أبرزها رام الله، بيت لحم، نابلس وغزة.

لا تنقص الدوافع التي تجعل الشباب يتحركون في فلسطين تجاه قادتهم، رغم دقة الموقف الفلسطيني وخصوصياته المعروفة. لافت ان الشعار الرئيسي هو "الشعب يريد انهاء الانقسام". في القسم الأول من العبارة هناك تطابق مع الوضع في العالم العربي، وهو ان الشعب أعلن وصرّح أن له ارادة يجب أخذها بالحسبان. اما عن القسم الثاني من العبارة "إنهاء الانقسام"، فتبدو لأول وهلة مختلفة جوهريا عن المطلب العربي وهو "إسقاط النظام".

ولكن برؤية اكثر عمقا نتبين ان وراء مطلب إنهاء الانقسام تقف نفس الدوافع التي جعلت الشعوب العربية تثور وتتمرد على واقعها: عدم الثقة بقيادتي فتح وحماس واستياء عارم من أدائهما السياسي، من القمع وانعدام الحريات وغياب العدالة الاجتماعية.

يقول نضال عطالله: "ان هناك حالة من الاحتقان بسبب الانقسام، وصارت قضية الشعب على كف عفريت بسبب خلاف الشخوص الذين لم يعد احد يهتم بوجودهم ولا يثق بسلطتهم. الخلاف وضعنا في حالة يرثى لها، سواء على مستوى النضال ضد الاحتلال او المشاكل الاجتماعية والاقتصادية الداخلية، وعلى رأسها مشاكل العمل والفقر والسكن والتعليم".

مع أن هناك سخطا عارما على فتح وحماس، الا ان أحدا لا يجرؤ على قول ذلك صراحةً. وليس هناك إجماع بين مجموعات الشباب المختلفة على المطلب الرئيسي المعلن، فهناك من يطالب بإسقاط أوسلو وهناك من يطالب بإعادة انتخاب المجلس الوطني الفلسطيني لمنظمة التحرير ليكون هو المرجعية العليا لقرارات الشعب بشأن استراتيجية نضاله وتقرير مصيره.
قد يرى البعض أن بث الروح في جثة هامدة كالمجلس الوطني مجرد عبث ووهم، ولكن الأهم هنا هو الرسالة التي نقرأها بين السطور، وهي تحميل كلا الطرفين المسؤولية عن الانقسام وما يترتب عليه من إضعاف الشعب الفلسطيني على الجبهة الداخلية وفي مواجهة الاحتلال، وتعبير غير مباشر عن عدم الثقة بالسلطة الفلسطينية وبحكومة حماس في تشكيل المرجعية المطلوبة.

يقول عطالله: "السلطة الوطنية لا تحقق امنياتنا واملنا السياسي، وعمليا نطالب بالاحتكام الى المجلس الوطني بسبب المشاكل الكثيرة للسلطتين القائمتين والانقسام بينهما وعدم قدرتهما على المبادرة باستراتيجية اوسع من الضفة وغزة".


ويشير فادي قرعان (23 عاما) من البيرة: "واضح ان القيادات فشلت والخيارات التي اتبعتها سواء المفاوضات او المقاومة المسلحة، كانت خاطئة، لانها لم تستخدم بالشكل الصحيح، وإلا لتحررت فلسطين. هناك خيار ثالث وهو المقاومة الشعبية التي أطاحت بمبارك وحكومات الفصل العنصري في جنوب افريقيا والكولونيالية بالهند. نحن كفلسطينيين كان لنا نموذج الانتفاضة الاولى، وكانت تلك الفترة الوحيدة التي حققنا فيها شيئا، واسترجعنا ولو رمزيا بعض المناطق في الضفة وغزة. ولو استمرت الانتفاضة بكل القوة ولم يتم احتواؤها من خلال اوسلو، لحققت انجازات اكبر".

إسقاط اوسلو

ومع إقرار جميع من تحدثنا اليهم بان الشعب يرفض اوسلو، الا ان عطالله وقرعان يتجنبان القول صراحة إنهما مع إسقاط اوسلو او إسقاط السلطة الفلسطينية، والسؤال هنا لماذا؟ يرد فادي: "هناك اعتراض كبير على جهاز السلطة، ولكن لا يمكن ان ننسى ان السلطة الفلسطينية تشغل اغلب الموظفين داخل الضفة وغزة وتنفق عليهم. مليون شخص محتاج إلى هذه المؤسسة لكسب الرزق، أين سنذهب بكل هؤلاء؟"، ويقول نضال بوضوح: "ان هذه الحقيقة تمنع وجود إجماع شعبي حول إسقاط السلطة، وتصعب الحشد حول هذه النقطة".

"جزء من الصعوبات داخل فلسطين"، كما يقول فادي، هي "أن القائد في فتح او حماس لا يعرّف نفسه كسياسي داخل دولة، بل مناضل ومعتقل سابقا لدى اسرائيل، بهذا يختلف عن الحزب الوطني والاخوان في مصر مثلا". وهنا يبرز الفرق الجوهري بين السلطة الفلسطينية، واكثر منها حكومة حماس المقالة، وبين انظمة الحكم العربية، وذلك من حيث أنها "نظام" ولكن بلا دولة. فالحركتان سارعت لارتداء الزي الرسمي الحاكم وانتقلتا لإدارة شؤون البلد قبل انجاز المهمة الاساسية وهي تحرير الارض من الاحتلال. الحركتان تسودان ولكن دون ان تتحقق السيادة.


دون ان تكون لهذا الكيان الحاكم أدنى مقومات الحكم، وأولها حرية الحركة للإنسان وذلك بفعل ممارسات الاحتلال وبقاء الاستيطان، ودون إمكانية حقيقية لإدارة وإنشاء اقتصاد فعال، انبرت سلطة فتح وحماس للتصارع على الحكم. بذلك أضافتا مشكلة على المشاكل القائمة أصلا: احتلال، انعدام الحرية، انعدام البنية التحتية الاقتصادية، فقر وبطالة، ومنذ أربع سنوات ايضا أُضيف الانقسام العميق الذي يهدد وحدة المناطق المحتلة جغرافيا وسياسيا، يضعف الطرف الفلسطيني امام اسرائيل، ويهدد النسيج الاجتماعي الداخلي. هذا الوضع الغريب من وجود أسياد بلا سيادة او نظام حكم بلا دولة، هو صنيع اتفاق أوسلو. وكان من المنطقي اكثر ان يكون مفتاح التغيير بإسقاط الاتفاق الذي سبّب المشكل.

إلى هذا يؤكد فادي ونضال ان "حكومة وحدة لن تلبي مطالبنا، سنبقى في الشارع حتى وضع تاريخ لانتخابات مجلس وطني. هدفنا ليس ان يتعانق خالد مشعل مع نبيل شعث، نحن ندرك ان الانقسام اعمق. ولكن لا يمكن ان ننسى ان الحركات نفسها غير ممثلة مئة بالمئة من قبل قياداتها على الجهتين، مطلبنا الاساسي هو دمقرطة القرار السياسي الفلسطيني، وتمثيل ارادة الشعب من خلال انتخاب المجلس الوطني.

"المصالحة بين فتح وحماس مهمة، ولكننا نحاول ان ننجز شيئا اكبر من فتح وحماس. هدفنا التحرك ضد الاحتلال من اجل الحرية بطريقة تقوم على مبادئ اساسية، منطقية بخطواتها، بعيدة عن المصالح الفئوية والشخصية التي يمكن ان تشوه أي جسم. بنينا شبكات اجتماعية ولدينا خبرة في التواصل والتكتيكات للمقاومة الشعبية سنستخدمها ضد الاحتلال، هدفنا الاساس والاخير هو الحرية الكاملة والعدالة الاجتماعية".

فيسبوك وعمال

لا جديد في ان الانقسام الناجم عن الصراع على السلطة يعبر عن خلاف برنامجي عميق بين الطرفين، ويخدم كل برنامج مصالح خارجية سواء المحور السعودي-الامريكي-الاسرائيلي، وسواء الايراني-السوري، وبالأكيد وحتى الآن هو لا يخدم قضية الشعب الفلسطيني لا في انهاء الاحتلال ولا في توفير أدنى مقومات الحياة الكريمة والعدالة الاجتماعية للشعب. ان هذا الانقسام هو وليد نظام اوسلو الذي أجهض الانتفاضة الأولى، خلق السلطة الفلسطينية والفساد الذي رافقها، وبالتالي أوصل حماس للحكم كبديل للفساد والتواطؤ مع الاحتلال، ولكنه ايضا خلق بالتالي الصراع على السلطة لدرجة ان هذا الصراع صار اهم واكثر ضراوةً من مقاومة الاحتلال.

وعلينا في هذا المضمار أن نذكر ان اوسلو لا يعني التبعية السياسية لاسرائيل فحسب، بل هو الموت بالنسبة لمئات آلاف العمال الفلسطينيين الذين عملوا داخل اسرائيل، حتى جاء اوسلو وفرض عليهم الطوق وحرمهم من مصدر الرزق ومن حرية الحركة، وحكم عليهم بالفقر والبطالة. ومن جهة اخرى، اتفاق اوسلو وملحقه الاقتصادي المعروف ب"اتفاق باريس"، يحولان دون نشوء اقتصاد حقيقي وأي افق للتطور في هذا المجال في المناطق الفلسطينية، الأمر الذي جعل جزءا كبيرا من الشعب متعلقا بفرصة العمل شبه الوحيدة في جهاز السلطة، لقاء معاشات مضحكة-محزنة، تجعله رهينة لهذا الجهاز وللقمة العيش من خلاله. وفي حين عانى الشعب الفقر والبطالة عاثت فتح فسادا، الأمر الذي استغلته حماس لنشر نفوذها.

وبغض النظر عن البدائل السياسية التي يمكن ان تنشأ عن التحرك الشبابي الجديد، فلا شك ان الشعب الفلسطيني احوج ما يكون اليوم الى إعادة صياغة برنامجه المطلبي بشكل ينزع الشرعية عن السلطة الفلسطينية التي تحولت منذ زمن الى ورقة التوت التي تغطي على بقاء الاحتلال والاستيطان، وتمنع عمليا مواجهة الاحتلال للقضاء عليه.

المقاومة الشعبية السلمية للاحتلال، والعودة للأساليب التي ميزت الانتفاضة الاولى من اضرابات ومتاريس ضد الجيش، ومظاهرات جماهيرية مستمرة وتمرد وعصيان مدني كامل مع مطلب ديمقراطي واضح – قد يكون المسار الأنسب والاكثر تلاؤما مع الروح الجديدة التي بدأت تعم العالم العربي عامة، والتي حققت انتصارات حقيقية على الأرض.

ان أي تحرك فلسطيني ديمقراطي سيعتبر مشكلة كبيرة جدا بالنسبة لاسرائيل، فهي تدرك ان الشعار المطروح سيكون إلغاء اوسلو، بما يعنيه من تبعية مطلقة لها. وسقوط اوسلو يعني نهاية الاحتلال، لأنه يعرّيه تماما، ويضع اسرائيل في مواجهة مباشرة ومكشوفة امام شعب أعزل يقاوم بشكل سلمي، ولن تجد عندها الأعذار والمبررات لإدامة الاستيطان والاحتلال والقمع وسلب الحريات من شعب آخر. لقد مل العالم من اسرائيل واحتلالها ومستوطنيها وتعنتها وحكومتها اليمينية المتطرفة والعنصرية، وبروز قوة شعبية سلمية عقلانية في فلسطين يمكن ان يحسم الصراع للصالح الفلسطيني ويخدم عدالة قضيته.

وكلمة أخيرة

صحيح ان الشباب في العالم العربي استردوا اليوم دورهم الطبيعي والطليعي في ريادة المجتمع نحو التغيير الاجتماعي والسياسي، ولكن هذه فرصة لنذكر ان من أعطى الزخم الكبير للثورات العربية لم يكن الفيسبوك بل محمد البوعزيزي، ذلك الاكاديمي العاطل عن العمل الذي عانى وضعا اجتماعيا اقتصاديا عصيبا. ومن المهم بمكان ايضا ان نذكر المساهمة العظيمة لعمال النسيج في المحلة الكبرى والعمال الذين خرجوا للشوارع ولا يزالون يتحركون يتظاهرون ويضربون ويعتصمون، ويتصدون لمحاولات الانقلاب على الثورة في مصر.

في كل مكان بالعالم العربي المعاناة مزدوجة: قمع الحريات السياسية وانعدام العدالة الاجتماعية، ومشاكل البطالة والفقر وتردي الوضع الصحي والتعليمي والثقافي هي التي تقض مضاجع مئات الملايين من العرب، وهي حال الفلسطينيين ايضا.

وعليه، اذا كان الحراك في فلسطين ينشد التغيير فعلا، فعليه التواصل مع العمال والشباب والعاطلين عن العمل، وكل العناصر المنتجة، والتي تريد ان تكون منتجة، في المجتمع والتي باتت مهمشة ومهملة من قيادتها الوطنية والاسلامية على حد سواء.