عمال جنين في ام الفحم - معلّقون على الجدار
اسماء اغبارية زحالقة
2004 / 10 / 16 - 11:53
رُفع ستار الليل عن مدينة ام الفحم، واطل صبح يوم جديد على نحو 2000 عامل فلسطيني يعملون في المدينة، معظمهم عمال بناء من منطقة جنين. نهار يبدأ في "الوعر" بين اشجار الزيتون، لينتهي بين اشجار الزيتون. وليس ذلك حنينا للطبيعة، ولا رومانسية حالمة. انه البيت، فيه زجاجات الماء تُغسل بها الثياب والاجساد المنهكة، بلا صابون، ومعلبات السردين ولبن "الشامينت" – طعام يومهم.
منذ نحو عامين ومع اقامة الجدار الفاصل، اعلنت اسرائيل عنهم "مقيمين غير قانونيين"، وشنت ضدهم وضد المواطنين الذين ينقلونهم لاسرائيل ويشغّلونهم، حملة دهم واعتقالات. آلاف العمال زُجّوا في معتقل الدامون بمنطقة حيفا، المئات يُطردون يوميا ويجبرون على دفع غرامات. ولكنهم دائما يعودون.
الادعاء الحكومي الرئيسي وراء التحريض ان العمال غير القانونيين يشكّلون "بنية تحتية للارهاب"، يستغلها الساعون لتنفيذ عمليات انتحارية فيدخلون اسرائيل بنفس الطريقة. العمال الفلسطينيون الذين التقيناهم في ام الفحم، نفوا التهمة جملة وتفصيلا، واكدوا: "نحن عمال، لا نريد الموت بل الحياة ولقمة العيش لاولادنا". يقول طاهر (46 عاما) من قرية سيلة الحارثية قضاء جنين، اب لولدين: "الحكومة تدّعي، اما نحن فليس لنا محامٍ يدافع عنا".
احمد (40 عاما) اب لخمسة، يضيف: "من يريد ان يموت، سيموت. انا لم آت لاموت، انا اريد ان اعيش. هناك ملاحقة ضدنا لاننا غير مرخصين، كما هو الحال في دول اخرى، وليس للامر علاقة بملاحقة الامنيين".
بالنسبة لنبيل ابن الثانية والعشرين، سبب التحريض واضح: "الاتهامات باطلة من اساسها. فالطريق من القدس مفتوحة، ولا احد يستشيرنا اذا كان ذاهبا لعملية. الهدف الحقيقي من الجدار والملاحقات هو تجويعنا، حتى نضغط على قيادتنا لتخلق لنا اماكن عمل، او تسلم اسرائيل ما تريد".
حياة عامل "غير قانوني"
التقينا العشرات من عمال جنين يوم الخميس 30/9، في منطقة "الميدان" بام الفحم. كان علينا الوصول باكرا، لانهم يظهرون هناك من السادسة صباحا ويختفون في الحادية عشرة صباحا. ستة او سبعة من كل 40 عاملا يفوزون بمكان عمل في ام الفحم. الآخرون يغادرون الميدان ويعودون بصمت، ل"يستروا انفسهم"، بين كروم الزيتون والبنايات غير الجاهزة حيث يبيتون. السبب: الخوف من الجيش، والحرص على سمعتهم في البلدة العربية. هناك يقضون الوقت يتأملون السماء، حتى يطلع صبح اليوم التالي. لمحاولة اخرى.
البيت "الحقيقي" ليس بعيدا. قرية عنين تراها من جبل "اسكندر" في ام الفحم، مسافة عشر دقائق سيرا على الاقدام. "كنا نشعل السيجارة في عنين ونطفئها في ام الفحم"، يحدثنا ماجد ابن العشرين ربيعا. ولكن منذ عامين، قام الجدار ليفصل البلدين بمسافة عشر ساعات: الكثير من السجائر تُشعَل وتطفأ في الطريق الجديدة، من عنين الى القدس ومن هناك لام الفحم. وبعد ان يدفع كل عامل 140-200 شيكل لسيارة الاجرة، يصل ام الفحم ويقف عند الحدود و"يتحسر"، كما يقول احمد ابن الاربعين، اذ "ترى بلدك ولا تستطيع وصولها".
"انها نكبة عامل"، يقول لنا محمد (32 عاما) من قرية جبعة قضاء جنين، اب لستة اطفال: "لقد صار العامل منا مشردا ومشتتا. فإن هو لازم بيته بالضفة سيحارب لقمة العيش، حيث اليومية عشرين شيكلا؛ وإن اتى لهنا سيحارب وحوش الليل من العقارب والافاعي، والبرد القارس؛ وفي النهار سيواجه الجيش وخطورة العمل، حر الشمس والجوع والموت ايضا".
قبل شهرين، سقط احدهم عن السقالة، هربا من جنود داهموا البناية. كان عمره ثمانية عشرة عاما. من قرية سيلة الحارثية. لم ير اهله منذ ثلاثة اشهر. عاد اليهم ميتا. ورغم دراية العمال بكل هذه التفاصيل، الا ان احدا منهم لا يذكر اسمه. لقد مات بلا اسم. عامل آخر مات اثناء نومه في البراري، بعدما لدغته افعى. هو ايضا مات بلا اسم.
الى المحادثة دخل محمد ناصر ابن الثلاثين عاما من قرية رمانة بابيات من قصيدة لشاعر المهجر ايليا ابو ماضي، لخّصت عمق المأساة. نورد منها هذه الابيات (متفرقة):
طوى الدهرُ من عُمري ثلاثينَ حجةً قضيْتُ بها الاصْقاعَ اسعى وادْأبُ
وأُغرِّبُ خلفَ الرِّزقِ وهوَ مُشرِّقٌ وأُقسِمُ لو شَرَّقْتُ كانَ يُغرَّبُ
نَبيتُ باكواخٍ خَلَتْ من أُناسِها وقامَ عليها البُومُ يبكي وينْدُبُ
مُفكَّكةٌ جُدرانُها وسُقوفُها يُطِلُّ علينا النَّجمُ منها ويَغرُبُ
حياةُ مشقّاتٍ ولكنْ لِبُعدِها عنِ الذُّلِّ تصفو للأبِيِّ وتَعْذُبُ
أقولُ لِنفسي كُلّما عَضَّها الاذى فَآلَمَها، صبرًا ففي الصبرِ مكسبُ
قبل خمسة اشهر تعرض محمد من قرية جبعة لملاحقة من حرس الحدود: "ضربونا وسرقونا ثم طردونا. مني سرقوا 1700 شيكل هي تعب 20 يوم عمل. ورغم الشكاوى التي قدمناها لم يتحرك شيء. كيف يكون شعور اي شخص لو كان مكاني، عندما يعود لاولاده مذلولا مهانا، ويقول ابنه، ابي عاد بلا نقود. كيف يكون شعور ابنه؟ انها قمة الذل".
ويضيف محمد ناصر، الشاعر: "معظم المشغّلين من ام الفحم يدفعون للعمال اجورهم التي تتراوح بين 50-150 شيكلا يوميا، ويتعاملون معنا باحترام. ولكن هناك من يستغل وضعنا كيلا يدفع حقوقنا. عمل اخي لدى احدهم في البلاط، من الساعة السابعة صباحا للحادية عشرة ليلا. كان يعود لينام على ظهره طول الليل بين كروم الزيتون، ويشخر كالبقرة المذبوحة. ثم بعد تعبه واجتهاده، لم يعطه مشغِّله حقه".
في منطقة "الميدان" مقهى للمسنين من اهل البلد، يتحلقون من السادسة صباحا. الطريف ان المشترك بينهم وبين العمال من الضفة انهم جميعا عمال بناء. يقول خالد سليمان (62 عاما): "ما ذنب العمال؟ انهم يريدون العيش والحرية". مسعود حسين (42 عاما): "اشعر بالاسى والرحمة، واننا جميعا في نفس الطاحونة".
اطفال غير قانونيين
بين "المقيمين غير القانونيين" وقف محسن. رجل صغير من عنين. في الثالثة عشرة من العمر، يعمل في اسرائيل منذ عام ونصف. المفروض ان يكون في الصف الثامن، ولكن ظروف الحياة قاهرة. بوفاة والده اصبح مسؤولا عن 12 فمًا يجب اطعامها. يعمل محسن في التنظيف وفي اي شيء، مقابل 50 شيكلا يوميا. يعود من بعدها لمأواه: إما بين الاشجار، او يركن الى باب جامع او يبيت في الشوارع. وجد محسن من تبناه من الشباب. سعيد. وسعيد هو الآخر طفل كبير ورجل صغير، في الثامنة عشرة من العمر.
سألنا: كيف تقضي الوقت بعد العمل يا محسن؟
محسن: لا افعل شيئا.
سألنا: ولكن سعيد، لم لا تشتري للطفل كرة قدم يلعب بها بعد العمل؟
سعيد: هذا ما ينقصنا، ان يأتي الجيش ويصيح بنا: أوتلعبون ايضا؟
بعد ان تضاحك الشباب، قال سعيد: "انا نفسي لم العب بالكرة ابدا. منذ كنت في العاشرة من العمر، وانا اعمل في اسرائيل. جميع اخوتي "فلحوا" في الدراسة الا انا، ففضّل اهلي ان اعمل. بعد ان كسدت تجارتنا بسبب الانتفاضة واصيب ابي بوعكة صحية ونفسية، اصبحت المعيل الوحيد لعائلة مكونة من والديّ و13 اخا. ورغم الصعوبات الا اني اكون فخورا بنفسي عندما ينجح اخوتي في المدرسة. انهم ينظرون الي باحترام لاني الكبير وفي مقام والدهم".
اربع على الانتفاضة
الحل لظاهرة العمل غير القانوني يمكن ان يكون بسيطا: اعطاء العمال تصاريح عمل، ليدخلوا بشكل قانوني. ولكن حلا كهذا لا ينسجم مع السياسة الاسرائيلية، كما يصفها نبيل: "المشكلة ان مطالبنا، حق العودة والقدس، صعبة جدا، لان تحقيقها ينهي وجودهم. هذا ما يفسر استمرار القتل من الطرفين، بلا نتيجة. نحن العمال اكثر المتضررين، لان اسرائيل تستغلنا كرهائن لفرض ارادتها على القيادة الفلسطينية".
يوجز نبيل نتائج اربع سنوات من الانتفاضة: "قبل الانتفاضة كنا نطالب بحق العودة للاجئين، اليوم اصبحنا نطالب بالانسحاب من القرى الفلسطينية ووقف منع التجول، ونسينا حق العودة والقدس. الانتفاضة اعادت امورا كثيرة للوراء".
نذكّر ان العمال قادمون من منطقة النار، جنين، التي يصورها البعض كاهم معاقل المقاومة. عندما سألناه عن رأيه في اسلوب المقاومة الفلسطينية، توخى نبيل الحذر وقال: "هذا امر لا يخصني، ولا استطيع الاجابة عليه. انا انسان عامل. احب فلسطين، اما المقاومة فلها اعتباراتها ومطالبها، ومن حقها ان تطالب بها. ولكني استطيع ان اقول اننا لم نر نتيجة من الانتفاضة حتى الآن".
هذا الموقف يحظى باجماع بين العمال. يقول احمد: "القتل من الجانبين غير مجدٍ. الجهتان تخسران، والعمال اكثر المتضررين". وقال طاهر: "من يعمل في السلطة والمعلمون يتقاضون معاشا، اما العامل فلا حل له. العمليات اضرتنا كثيرا. لم نحرر بلادنا ولم نفعل شيئا".
سؤالنا عن السلطة كان كما يبدو في غير مكانه. الجميع اتفق ان لا دور لها ولا تأثير.
خطة الطريق للعمل
رغم الصورة القاتمة، لم نسمع كلمة يأس واحدة من كل الاجيال التي التقيناها. ماهر ابن العشرين عاما، قالها ببساطة: "انهم يحاولون تيئيسنا، ولكني لن ايأس". لماذا؟، سألنا، فاجاب: "لاني غير معتاد على اليأس". يقول ماجد (20 عاما): "ما دامت اسرائيل فاتحة ابوابها، سندخل، ولو اضطررنا ان نلف من الخليل". وتحمس آخرون: "لن يمنعنا الجدار من العمل". فتدخل نبيل ليعيد بعض الواقعية للامور: "ليس صحيحا ما يقوله الشباب ان الجدار لن يمنعنا. ها هي بلدنا عنين امامنا، ولا نستطيع اجتياز الجدار. لقد منع الجدار عمليات كثيرة ومنع كذلك ملايين العمال من العمل".
احمد (40 عاما) يرى أُفقا: "نحن جيران، لا يستطيعون الاستغناء عنا، ولا نحن نستغني عنهم. اعتقد انهم يريدون التخلص من العمال الاجانب لاستبدالهم بنا. انهم يعطون تصاريح للعمال الفلسطينيين ويدخلونهم تدريجيا".
لمن يبحث عن بداية حل، يمكنه التمعن في "خريطة الطريق" التي يقترحها سعيد (18 عاما)، وتتلخص بما يلي: "فتح الجدار واعادة الناس لاعمالها. العمل سيشغل الناس عن العمليات، لان من يفجر نفسه هو الفقير، الذي لا يجد ما يرزق به اهله فيفضل الانتحار".
Box
الاتحاد العام لنقابات عمال فلسطين:
"اسرائيل تتحمل المسؤولية عن تشغيل العمال الفلسطينيين"
في حوار مع "الصبّار" (27/9) قال محمد العاروري، عضو اللجنة التنفيذية للاتحاد العام لنقابات عمال فلسطين، ومسؤول دائرة الشؤون القانونية:
"قبل الانتفاضة عمل نحو 55 الف عامل فلسطيني في اسرائيل بشكل منظم واكثر من 70 الفا بلا تصاريح. من اللحظة الاولى للانتفاضة، طُرد كل العمال وفُصل 125 الفا دون حقوق.
"العمال يضطرون للمخاطرة بالعمل في اسرائيل لان الوضع صعب جدا: لا يوجد عمل في المناطق المحتلة. مصانع محلية اغلقت، منها سلفانا الذي شغل 250 عاملا. 65% من الناس يعيشون تحت خط الفقر، والبطالة تتجاوز ال32%. البعض يعود لاستصلاح الارض لتأمين لقمة العيش. العامل بالضفة يتقاضى بين 1200 الى 1600 شيكل شهريا، وفي السلطة يتقاضى راتبا ضئيلا يصل الى 900 شيكل. هناك مبادرة لتشغيل العاطلين عن العمل في القطاع العام، مقابل 750 شيكلا شهريا".
بالنسبة لحملة التحريض الاسرائيلية على العمال، قال العاروري: "لم يحدث ان قام عمال فلسطينيون بقتل اسرائيليين. انا شخصيا اعارض العمليات ضد المدنيين في كلا الطرفين، لان الشعب والعمال يدفعون الثمن. ولكني احمل المسؤولية على حكومة شارون التي لا تريد السلام، واوصلت الناس لحالة اليأس. شطب مستقبلهم يزيد قوة المتطرفين في كلا الجانبين".
للتلخيص اكد العاروري: "ان حكومة اسرائيل تتحمل المسؤولية القانونية والاخلاقية عن تشغيل العمال الفلسطينيين، لان الاحتلال هو الذي دمّر الاقتصاد الفلسطيني".