فصل المقال بين السياسة والدين

زهير الخويلدي

الحوار المتمدن-العدد: 3294 - 2011 / 3 / 3 - 09:11
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    

فصل المقال بين السياسة والدين
" لا يمكن للسجل السياسي أن يظهر ويستمر الا داخل القوانين ولكن لا يتكون ولا ينمو هذا السجل الا عندما تتقابل شعوب مختلفة"
ان المشرع السياسي في الزمن ما بعد الثوري ليس الفقيه الملتفت الى نصوص الماضي ولا رجل العلم الذي يربط المسببات بالأسباب والذي يستنتج حصول الأحداث من المقدمات المنطقية والقواعد الكبرى وانما هو المدبر المتعقل الذي يستخدم فن الفهم من أجل التمعن في مجريات الأمور والاصغاء الى غبار المعارك والمنعطفات واستخلاص العبر والدروس من التحولات العنيفة والهزات بعد اقتلاع قصور الشمولية.
على هذا النحو من الضروري أن ينهمك المفكر اليوم في البحث عن المعنى عن طريق فهم عميق للوضع البشري والأحداث السياسية وتحديد مساهمة الدين وحضوره وتأثيره في الأحداث وفي الفعل السياسي.
هناك نقاط مشتركة بين المجالين وتتمثل في التجربة التأسيسية واشكالية البدء والانطلاق وأيضا اشكالية النهايات والخواتيم وتجربة الأهداف الكلية والغايات الكبرى التي يسعى الفاعلين الى انجازها واتمامها، من هذا المنطلق "ان الابتداء يشكل من وجهة نظر علم السياسة ماهية الحرية الانسانية في حد ذاتها" .
من عيوب علم السياسة أنه يعتقد في أن تجربة التأسيس في زمن البدايات تستوجب اللجوء الى القوة التي تتعدي الحق وتشرع العنف التكويني من أجل التخلص من مرحلة سابقة وتدشين مرحلة أخرى مختلفة.
كما يغيب عنها أن ماهية الفعل السياسي هو تدشين بدء جديد وأن الانسان يمتلك قدرة على الابتداء ويشكل البدء الماهية التي تخصه بل ان خلق الانسان ارتبط مع بداية الكون وتجلى أصله في ميلاد الفرد الحر.
ان الصراع مع الأنظمة الشمولية قد انعكس على العلاقة بين الدين والسياسة وأدى الى توظيف مقولات دينية من أجل اقامة أنظمة شمولية وتبريرها واطالة مدة بقائها في الحكم وهيمنتها على العباد والخيرات.
لكن ينبغي أن نميز بين النسق الديني المتعالي الذي يدور حول وحي منزل والدين العلماني الوضعي الذي شكلته جماعة سياسية واعتقدت في صدقية مبادئه وقواعده وأهدافه، ثم يجب أيضا الإنتباه الى أن الشيوعية قد كونت دينا علمانيا جديدا وسمحت بإدخال القداسة الى حقل الشؤون العمومية بعد أن قامت بالفصل بين الكنيسة والدولة وجعلت مشكل العلاقات بين الدين والسياسة طي الكتمان وأخلته الى غياهب النسيان.
يمكن معاملة الايديولوجيات الحديثة بأنها ديانات ذات طابع سياسي معلمن بعيدا عن الفهم الماركسي للدين بوصفه ايديولوجيا بسيطة ومحضة تستعملها الطبقة الحاكمة من أجل الهيمنة والمحافظة على مصلحتها. في نفس السياق يمكن التعامل مع الالحاد على أنه العقيدة الأولى التي وقع التعامل معها كونها دينا جديدا.
ان الحجج التي تدل على وجاهة اعتبار الالحاد دين جديد كثيرة وتعود الى نيتشه القائل بموت الاله والى دوستوفسكي الذي عبر ثورة الانسان المعاصر ضد الآلهة بعد أن فشلت كل الحجج في اثبات عدم وجوده. زد على ذلك يمكن ذكر قيام الثورة العلمية وتشكل خطاب في علوم الطبيعة يعتقد في اللااعتقاد وينهل من انزعاج باسكال من الفضاءات اللامتناهية ومن تجربة الشك الديكارتي التي طالت كل شيء تقريبا.
من هذا المنطلق:" ان عالمنا هو عالم معلمن من وهجة نظر الروح وذلك لكونه بالتحديد عالم الشك" وان الطابع الديني الذي يحلم به الشك الحديث كان حاضرا في تجربة الارتياب الديكارتي وكشفه عن الحاجة الى الضمان الالهي من أجل التخلي عن فرضية الشيطان الماكر واكتشاف الكوجيتو كيقين أول.
ان الاعتقاد الديني الحديث يختلف عن الايمان التقليدي بما أنه يتشكل من اعتقاد في المعرفة ويسمح بحرية التفكير والفعل ويقبل المرور بتجارب الشك والحيرة والارتياب قبل بلوغ الاقرار والشهادة. ان الانسان الديني المعاصر ينتمي الى نفس العالم المعلن تماما مثل خصمه الملحد الذي يؤمن بالنسبية والصيرورة.
على هذا النحو يمكن معاملة الايديولوجيا والدين بوصفهما نفس الظاهرة وذلك لكونهما يؤديان نفس الوظيفة وهي تمتين اللحمة الاجتماعية بين الأفراد وتوجيههم نحو نفس الأهداف والمصير المشترك.
هناك خلط يقع فيه المنظور التاريخي بين طبيعة العلمنة والعالم المعلمن، نظرا الى أن العلمنة هي مسار سياسي يتعلق بالمضامين الروحية غير المتطابقة وتفضي الى أن المعتقدات والمؤسسات الدينية ليست لها سلطة على الحقل العمومي وأن الحياة السياسية ليست لها سقف ديني يحد من حريتها وتعدديتها وقانونيتها.
ان السلطة لا يجب أن تكون مستمدة من خلفية دينية وذات مصدر مقدس حتى وان كانت تشير الى التقاليد والتراث والقيم الروحية وتتأسس على الماضي والهوية الثقافية للشعب بل هي سلطة دنيوية قانونية.
كما أن مفهوم الحرية ينبغي ألا يكون مستمد من أصل ديني لأن الصراع من أجل الحرية لا يبدو متطابق ومتفق مع النسق الديني العادي بل يمكن لنظام سياسي قائم على الحرية أن يسمح بالحرية الدينية والمعتقد.
ان الحرية التي يتطلع اليها الناس هي حرية بالمقارنة مع الوجود السياسي وحرية الوجود وتسعى الى أن يكون المجتمع معلمن وتسمح للأفراد بأن يكونوا موطنين أحرار وبأن يختاروا عقائدهم ويغيروها متى شاؤوا دون وصاية أو محاسبة. ان الأديان تربح الكثير عندما تتأسس الدولة على سيادة الشعب والحرية السياسية والقانون وخاصة عندما تضمن حرية الضمير واقامة الشعائر في كنف السلم والتسامح.
ان محاربة الأنظمة الشيوعية للدين واضطهادها للحريات الدينية وتضييقها على المؤسسات الدينية كان على حساب الحريات المدنية والسياسية وليس على حساب قيم التسامح والاختلاف والنسبية فقط.
ان نفي الأنظمة الشيوعية للدين قد أفضى الى الوقوع في أسوء دين وهو تقديس الزعامات وشخصنة الأفكار وتبني الدين السياسي المعلمن الذي يعاني من الشمولية والايديولوجيا الوضعية البائسة المتعارضة مع الأبعاد الروحية للطبيعة البشرية والمنادية بالقيم المادية الجافة والدخول في مواجهة مع كل دين حر وكل فن حر وكل فلسفة حرة وثقافة منتجة ترتبط بالإنسان المنتج والخصوصيات الرمزية للشعوب.
لا يمكن أن نأخذ بجدية ما يقوله الناس على أنه حقيقية وينبغي العودة الى الكائن البشري الفاعل والواقعي طالما أن الأفكار والأقوال هي مجرد ردود أفعال وانعكاسات عن معاناة يومية ويجب أن ننظر الى الظاهرة الدينية على أنها أكثر من مجرد اعتقاد وأوهام وايديولوجيا تنويمية كما هو الشأن عند ماركس ، بل يلزم الانتباه الى الوظائف العديدة التي تؤديها سواء على الصعيد النفسي ( شقاء الانسان دون اله على حد عبارة باسكال) أو على الصعيد الاجتماعي ( الدين أساس التماسك الاجتماعي عند دوركايم) أو على الصعيد الاقتصادي ( الرأسمال الروحي يمكن أن يتحول الى رأسمال مادي عند بيير بورديو).
اذا قام الكاتب بغض النظر عن السياق التاريخي والأساس الفلسفي فيمكنه اذن أن يعتبر الشيوعية دينا جديدا دون أن يحتاج الى تعريف مفهوم الدين ودون البحث عن ازالة التناقض بينهما طالما أنه يقصد بالشيوعية دين علماني لا يكترث بالبرهنة على وجود الله. لكن من جهة أخرى ينبغي الغاء كل ارتباط بين الدين والحرب طالما أن الحرب الدينية تحول الدين الى خطر الايديولوجيا التي تبرر العنف عن طريق احتكار تصريف شؤون المقدس والانتقال به من دائرة المجال الخاص الى دائرة أوسع هو المجال العام.
غير أن المأزق الذي تقع فيه الشيوعية أنها أكدت على الطابع العنيف للفعل السياسي تحت عنوان تحريك التاريخ وصناعة المجتمع وبالتالي تكون قد اختزلت الانسان التاريخي في الانسان الصانع وأهملت الانسان العارف والانسان المتدين والانسان المبدع والانسان الراغب والانسان الرامز والانسان اللاعب.
ان الدين ليس أفيون الشعوب طالما أنه يساعد على ولادة الفرد الحر وخلاص الروح من القيود الغرائزية ويدفع الناس نحو الاحتجاج على أوضاعهم الاجتماعية البائسة ويغذي لديهم ملكة الحلم بعالم عادل وخير.
يوجد عنصر قوي في الديانات التقليدية يمكن أن يكون صالحا في تنظيم شؤون الحكم ومصدره غير ديني وهو تفادي الذهاب الى الجحيم والتصميم على الفوز بالجنة وتحقيق النعيم الأبدي وتجنب الشقاء الأخروي.
ان النتيجة السياسية عن علمنة العصر الحديث هي حذف العنصر السياسي الظاهر في الديانات التقليدية من الحياة العمومية ومن الدين وهو خشية الذهاب الى الجحيم . ان هذا الحذف قد ترتب عنه على الصعيد السياسي تغييب البعد الروحي وتبخر الايمان الأصيل من القلوب وتدنيس القيم الأخلاقية القابعة في العمق.
ان القاعدة الدينية "لا تقتل نفس بغير حق" مثلت صفعة شديدة عندما وقع الرجوع اليها في وجه القوانين الجزرية والممارسات العنصرية التي ارتكبتها الأنظمة الشمولية في وجه المعارضين والأقليات وأثبتت أن الدين يتضمن على أبعاد ثورية وقيم انسانية يمكن التعويل عليها لمقاومة الامبريالية والاستبداد.
لقد اثبت التاريخ أن التحالف بين السلطة والمقدس وبين الدين والسياسة لا يكون في صالح الطرفين وآيتنا في ذلك أن السياسة اذا وظفت الدين أفقدته روحانيته وسمو والدين اذا فرض شريعته على السياسة قيدها ونزع عنها مرونتها وطابعها الاجرائي والوظيفي. ان الحل هو فقدان الدين لمكونه السياسي الأساسي وفتح باب الاجتهاد والتأويل على مصراعيه ودون حدود وكذلك فقدان السياسة لسلطتها المتعالية وطابع القداسة الذي تتميز به قرارات الحكام واستشارة الشعب في كل أمر يخص تنظيم الشأن العام.
ان الخطر هو أن يتحول الدين الى مجرد سياق في خدمة القرار السياسي الشمولي وأن تصبح الحياة السياسية مجالا للعاطفة الدينية ويتم استعمال الدين لاحداث التفاوت والتفرقة بين أعضاء المجتمع الواحد وحرمان البعض من حق المواطنة وتحويله الى ايديولوجيا تتصف بالتعصب وتبرر الشمولية الغريبة عن جوهر الحرية الانسانية. ان الخروج من هذه الورطة هو علمنة العالم المعاصر بشكل متبصر وغير عنيف وذلك بالتمييز بين السجل الديني والسجل السياسي للوجود البشري واعطاء حقوق المواطنة كاملة للانسان الديني ولغيره المختلف عنه سواء بسواء ويجب على القوانين والمؤسسات أن تسهر على احترام ذلك.
غير أن السياسة لا تفعل في التاريخ ولا تقطع مع النهج الشمولي ومخلفاته الكارثية الا اذا تخلصت من تفسير التحولات المجتمعية عن طريق الصراع الطبقي وما يؤدي ذلك الى شرعنة العنف واعتماد قانون التحدي والاجابة عند توينبي أو نظرية الأنماط المثالي عند ماكس فيبر أو الصراع من أجل الاعتراف عند كوجيف قارئا هيجل وفك الارتباط بين الدين والتوظيف الشمولي. فما العمل اذا ما كانت السياسة الشمولية تفضي عادة الى ترويج الكذب وتعميم العنف؟
المراجع:
Hannah Arendt, Qu’est-ce que la politique ?, éditions du Seuil, Paris, 1995,
Hannah Arendt, la nature du totalitarisme, éditions Payot& Rivages, Paris ,2006

#زهير_الخويلدي (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات