|
صناعة الشعر (2)
خليل محمد الربيعي
الحوار المتمدن-العدد: 3284 - 2011 / 2 / 21 - 09:30
المحور:
الادب والفن
شعــرٌ أتت أبياتـــه مزدانــة ً فأتـى لإبداع الخواطر ملهـِمــا ويعيـدُ منشــدُه إعــادة َ مـولع ٍ إنشــاده وتـراه فيــه مقسّمـا مــابين لفظ ٍ يُطمع الجهــلاءَ لو سُئلَ المثـالَ له الأديبُ لأحجمــا وسمـــوّ معنى يأخذُ الألبابَ حتـ ــى لو تدبـّره الكفـورُ لأسلمـا !
هذه الأبيات قلتها قبل ما يقاربُ عشر سنين وكنتُ حينها مقتنعا بأن أي نظم لا يستحق أن يسمى شعرا حقيقيا إلا إذا بلغ الصفة المحكية في الأبيات وأحدث تأثيرها كلما قرئ وأنشد..ومنذ ذلك الوقت وأنا أبحث في كل قصيدة أسمعها أو أقرؤها عن هذا الإحساس وذلك التأثير فلا أجده إلا في أبيات قليلة جدا كأنّ سحابة الإلهام الشعري التي كانت تهطل بغزارة على الشعراء الأقدمين ويقولون هل من مزيد أصبحت جهاما ًعلى شعراء هذا العصر لا تجود عليهم إلا بقطرات قليلة ثم لا يستحيي كثير منهم فيدّعي الغرق بين الحين والآخر..! وكنتُ أسأل نفسي عن السبب في قلة تأثير الشعر المعاصر –على كثرته– برغم الانفتاح المباشر على الثقافات المختلفة وانتشار الكتب والمطابع وسهولة الوصول إلى الكتب والدواوين وغزارة الترجمة ومشاركة الأفكار والمعاني والآداب بين شعوب الأرض بصورة لم تحدث في أي عصر من العصور الخالية..وكنتُ أرجع العلة إلى ضعف الملكة وغياب الرغبة وطغيان لغة التخاطب (Chat) المباشرة والسهلة مما أدى إلى توهين اللغة العربية الفصحى في نفوس طلابنا وشبابنا فأصبح من يعالج الشعر منهم لا يملك أداته الأولى فيخبط ويلتوي على نفسه ولا يخرج منه إلا النظم الركيك والقافية الباردة..لكنني أدركت بعد ذلك أن هذه العناصر إنما هي أسباب ثانوية وأن المشكلة الكبرى تكمن هناك..في الصفوف والقاعات التي يدرّسون فيها العروض..حيث يضعون الطالب على سكة قضبانها تنفرج كلما امتدت إلى الأمام ويدفعونه ليبلغ غايته ولن يبلغ الطالب الغاية إلا إذا صار نصفين!.. ولو علم الخليل ابن أحمد أن العلم والمنهج الذي وضعه ورتب أبوابه يُعطى لطلابنا بهذا الأسلوب العقيم الذي يضيع الطالب بين المصطلحات والتفعيلات المجردة عن الحس الموسيقي والذوق النغمي – لعدل عن تسمية الأوزان الشعرية وتبويب ما قالته العرب وأبقى الشعراء يصنعون الشعر على الفطرة والهاجس..وإلا فما بال جامعاتنا لا تنشئ شعراء فحولا مع كثرة الذين يدرّسون العروض فيها؟ وما بالُ أغلب شعرائنا اليوم ليسوا من متخرّجي الجامعات؟ بل ما بالنا كلما ازددنا أكاديمية في تعليم الشعر ازداد انحطاطا وتدهورا؟..إن أساتذة اليوم يركزون في طريقة تعليم العروض على الجزء الظاهر من الجبل الجليدي وينسون الجزء الغاطس مع أنه يشكل أكثر من ثلاثة أرباع الجبل! ضمتني مع بعض المتخصصين في اللغة وممن ينتسبون للشعر دورة جامعية لطرائق التدريس قبل مدة وكان من ضمن فعالياتها إقامة ورشات عمل يـُطلب فيها من الملتحقين بالدورة تقديم محاضرات يعرضون خلالها موضوعات مختلفة كلّ ٌ في اختصاصه وفـُتح المجال لعرض الآراء وإن كانت خارج نطاق الاختصاص، على ألا تستغرق المحاضرة أكثر من عشر دقائق يفتح بعدها باب المناقشة والتحليل من قبل الحضور والمشرفين على تلك الفعاليات لتقييم أداء المحاضرين وإسداء الملاحظات لهم، وتم تشجيع المحاضرات التي تقدم شيئا جديدا وتوفر للطلاب اكتساب مهارات جديدة..وقد وجدتها فرصة لعرض آرائي في الشعر العربي وتقديم فكرتي الخاصة عن طريقة تدريسه الناجحة التي تضمن إيصال التلاميذ إلى مستوى عال من الحس والذوق الشعري وتسهيل علم العروض عليهم وتحبيبه إليهم وتمكينهم خلال مدة قصيرة من إنشاء ونظم الشعر بالشكل الأمثل، كما توفر الطريقة فرصة الاطلاع على المواهب الشابة وتهيئ المناخ المناسب لتنميتها وتطويرها..فأنشأت محاضرة قصيرة سميتها (كيف نتعلم صناعة الشعر في عشر دقائق)..وكانت كما يلي (تم عرضها بشكل شرائح من خلال جهاز الحاسوب Data show)..
لماذا نكره الشعر؟ ................................................................. لا بد لنا أولا من معرفة بعض المفاهيم العامة للشعر العربي وكيفية تقطيع أبياته كي نتمكن من النظم على منواله، فمن ذلك: 1) أنّ العرب لا تبدأ بساكن ولا تقف على متحرك..أي أن بداية أي كلام عربي هي إحدى الحركات الثلاث ولا ينتهي الكلام إلا مع سكون في آخره. 2) أنّ الحركة في آخر الأبيات الشعرية هي حركة بعدها سكون بمد الضمة إلى واو والكسرة إلى ياء والفتحة إلى ألف...أمثلة: رَجُلُ (///ه)، كالقبل ِ (/ه///ه)، جميلا (//ه/ه). 3) أنّ الحرف المشدد هو في الحقيقة حرفان مُدغمان أحدهما متحرّك والثاني ساكن. 4) أنّ التقطيع الشعري هو في الحقيقة تقطيع سمعي لا لفظي وهو في الأصل عبارة عن نبضات تعتمد على تعاقب نمط معين من الحركة والسكون..وهو أشبه بالتقطيع الموسيقي أو نبضات لغة مورس المشفرة (بَبَمْ بَمْ بَبَبَمْ بَبَمْ بَمْ .......). لنأخذ مثالا على بحور الشعر ولنبدأ بالبحر الوافر: تعريف: وزن حركي انفعالي يقوى به الشعر حيثما كان الموقف انفعاليا في مواضيعه المختلفة كالفخر، والمدح، والمرارة، والعتاب، والهجاء....التفعيلة: مفاعلتن مفاعلتن فعولن مفاعلتن مفاعلتن فعولن //ه///ه //ه///ه //ه/ه //ه///ه //ه///ه //ه/ه بَبَمْ بَبَبَمْ بَبَمْ بَبَبَمْ بَبَمْ بَمْ بَبَمْ بَبَبَمْ بَبَمْ بَبَبَمْ بَبَمْ بَمْ ويجوز تبديل مفاعلتن (//ه///ه) أينما وجدت في البيت الشعري إلى مفاعيلن (//ه/ ه/ه). مثال: علـى قلق كأنّ الرّيح تحتـي أوجّههـا يمينا أو شمـالا التقطيع: عَلىْْ قلقن كأنـْنرْريـ حتحتي أوجْجهها يمينن أو شمالا مفاعلتن مفاعيلن فعولن مفاعلتن مفاعيلن فعولن //ه ///ه //ه /ه/ه //ه/ه //ه ///ه //ه /ه/ه //ه/ه بَبَمْ بَبَبَمْ بَبَمْ بَمْ بَمْ بَبَمْ بَمْ بَبَمْ بَبَبَمْ بَبَمْ بَمْ بَمْ بَبَمْ بَمْ كيف ننظم الشعر؟؟ 1) بعد أن تتعلم تقطيع الأبيات الشعرية من هذا الوزن وتتمرن على ذلك طويلا حتى تبرع وتتقن، خذ بيتا مشهورا أو غير مشهور لأي شاعر وضعه أمامك وتأمل في معناه وحاول أن تصنع بيتا بلفظه ومعناه مع تغيير وزنه إلى بحر الوافر. وخذ مثالا قول الشافعي: وأبيتُ سهران الدجى وتبيته نومــا وتبغي بعد ذاك لحاقي هذا من بحر الكامل..تأمله ثم حاول صياغة المعنى على وزن الوافر فقد تقول: أسيرُ الليلَ إذ تقضيه نومــا وتبغي بعد ذلك بي لحاقا مثال آخر قول الشاعر: ولا خير في ودّ امرئ متلون إذا الريح مالت مال حيث تميلُ هذا البيت على بحر الطويل..كرر المعنى في نفسك فربما أمكنك أن تقول: ألا بـُعدا لكل أخ ٍ دنيء يميل مع الحوادث إذ تميلُ 2) حاول –بعد أن تتعلم خمسة بحور فأكثر– أن تقول الشعر في أي شأن يعنّ لك مستخدما (التداعي الحر) أي أن تقول ما تشاء في أي معنى وإن كان تافها ولكن على وزن معين، ولن يتأتى لك ذلك حتى تتشرب ببحور الشعر وتنحت على نسقها باستمرار.
وبعد أن انتهيت من إلقاء المحاضرة إلى هذا الحد ولاحظتُ أنني فعلا قد نجحتُ في شدّ الحاضرين وجعلهم يتفاعلون مع الموضوع (علما أنهم من اختصاصات مختلفة)، قلتُ لهم: فليخطر ببالكم أي معنى أو أية فكرة ولنحاول صياغتها معا على بحر الوافر باستخدام التداعي الحر، سأبدأ بأول خاطرة لي وأقول: سأمضي نحو باب الصفّ جريا ً وأصفــعُ كــلّ من ألقـى بدربي !! وأنشدت البيت وأنا أمشي إلى باب القاعة وأمسك بمفتاحه وتظهر على وجهي نظرة جادّة..فضحك الحضور وبدا كأني كشفتُ لهم عن سرّ نفسي في تلك اللحظة، ثم قال أحدهم: كلامك.. فبادرته وقطعتُ عليه ما أراد أن يقول وكأني أضعُ خاطرتي على لسانه: كلامك عن قريضك يا صديقي هــراءٌ فـي هــراء فـي هــراء ِ فقال: ليش؟ ما هكذا أردتّ، وهنا تدخل المشرف على الفعاليات وقال: خلّ نحلل ..فقطعتُ حديثه وأنشدت: أحلل ما أشـــاء من القوافـي وأنطقُ ما أشــاء ولا أحــارُ وجعلتُ أقطـّعها تقطيعا موسيقيا ( بَبَمْ بَبَبَمْ بَبَمْ بَبَبَمْ بَبَمْ بَمْ بَبَمْ بَبَبَمْ بَبَمْ بَبَبَمْ بَبَمْ بَمْ) فأعجب الجميعُ ورأوا أن البديهة في صناعة الشعر باتت قريبة من كل واحد منهم إن تعلم أصولها وأخذ نفسه بالمران عليها..ثم توجه أحدهم بالسؤال إلي وطلب أن أنشدهم شيئا من شعري في هذا الوزن، فأجبته بعد إطراق قصير: كان لي صاحبٌ أنافسه وينافسني في لعبة كرة المنضدة وكنت غالبا ما أتفوق عليه ولي في إغضابه وإغاظته ألوان من السخرية والعبث، فحدث أن تغلب عليّ يوما ً وجعلَ يتباهى ويرقص فرحا ويحدّث بها من يعرف ومن لا يعرف، فبعثت إليه عبر المحمول هذه الأبيات على البديهة: أصابك من جنـون الفوز مسّ ٌ وبينك فــرقُ أجيــال وبيني أتنسى إذ خسرتَ بها مئــات ٍ وتـذكرُ أنْ ربحتَ بهـا اثنتين ِ ؟ ستلقى من فنون اللعب فنــا ً يـردّك خاسئـا رعشَ اليدين ِ !! فرضي السائلُ عن الشعر وأعجب به (وكأنه إنما أراد اختباري)..على أنني تعمدتّ اختيار هذه الأبيات التي قلتها على البديهة في حال العبث والمزاح لأنني أردتّ أن تكون المحاضرة خفيفة على الأسماع وباعثة على النشاط حفاظا على تواصل الجمهور وخوفا من إثارة حفيظة بعض الحاضرين من ذوي الاختصاص الذين كنت أعرف أنهم يدرّسون مادة العروض ويـُعرفون بنظم الشعر. أنا لا أذكر هذه الحادثة للتباهي أو لتزكية نفسي وإظهار قدراتها –فأنا أعرَف الناس بنفسي– ولكني أردتّ، كما كنتُ في تلك المحاضرة، أن أعرض نمطا جديدا لتدريس العروض وتحليل أوزانه وتحفيز الطلاب على التذوق السليم لمعاني الشعر ومحاولة التقليد والصياغة ثم التوليد والابتكار ثم التطبع بالفن الشعري وجعله من الأدوات التي تستجيب كلما استدعتها البديهة وتطلـّبها الحال، على أن الأمر ليس بهذه السرعة والسهولة فللشعر آلات لا بدّ من توافرها أولا فيمن يريد أن يصبح شاعرا من إتقان اللغة والنحو والعروض والإطلاع على شعر السابقين من القديم والحديث وعلى أساليبهم وصورهم ومعانيهم..لأن هذه الأدوات قد تنشئ شاعرا متمكنا إن صادفت قلبا خاليا وذهنا صافيا وطبعا أصيلا ورغبة حقيقية..وإذا كان أبو العتاهية قد قال –فيما روي عنه–: لو أردتّ جعلتُ كلامي كله شعرا..فإنه لم يـُبعد ولم يبالغ لأنّ الوصول إلى مثل هذا المستوى ممكن وله أسبابه وأدواته التي، إن اتـُبعت من قبل أساتذة العروض اليوم، ستمكـّن كثيرا من طلابنا أن يقولوا مثل أبي العتاهية بعد تدريبهم على المنهجية الصحيحة في صناعة الشعر الحقيقي.
#خليل_محمد_الربيعي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
صناعة الشعر (1)
-
الموضوعية المحمديّة الباهرة
-
فلنتثقف أولا ...
-
أثر الإختلاط بين الجنسين في أداء مؤسساتنا المدنية
-
الغُربة
-
الشعر الحر وخمسون عاما ً من العقم (1)
-
تسونامي الثورات العربية: إلى أين؟
-
النظرة الإزدواجية للمرأة في المجتمعات المتمدنة
المزيد.....
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
-
معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا
...
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
-
مايكروسوفت تطلق تطبيقا جديدا للترجمة الفورية
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|