|
صناعة الشعر (1)
خليل محمد الربيعي
الحوار المتمدن-العدد: 3282 - 2011 / 2 / 19 - 11:02
المحور:
الادب والفن
"الشعر ملـَكة وموهبة"..هذه الجملة برأيي هي العامل الرئيس في تدهور حالة الشعر العربي في زمننا والسبب الأكبر في قلة المعالجين للشعر وندرة المتذوقين له، وهي كذلك السبب في كثرة المتشاعرين والملتصقين بركب الشعر من ذوي الآمال العريضة بتغيير وجه الشعر وإحداث ثورة فيه مع أنهم لا يملكون من أدوات اللغة أكثر مما يملكه أي إنسان من العامة ثم لا ينتجون لنا إلا القوافي العرجاء والمعاني المشوهة والأوصاف الخـِداج. ولا أدري من أطلق هذه المقولة أولا وجعلها كالرقعة التحذيرية على باب الميدان الشعري، وجعل الناس يعزفون عن ممارسة الشعر وتذوقه ويتركونه لأصحاب الاختصاص والمواهب وقليلٌ ما هم..لكنني أظن أن النشأة الأولى لذلك لا تبتعد كثيرا عنا، بل تكاد تظهر في المنظور الزمني القريب خاصة عندما بدأ إنشاء نقابات واتحادات الأدباء التي ضمت الشعراء معهم، أي بدأ تخصيص الشعر بفئة محددة ووضع قياساته وشروط القبول فيه باستخدام الهندسة والرياضيات، وهو إجراء ارتبط بالمعيشة وطلب القوت بعدما أصبح الشعر حرفة ومهنة، وصار الشاعر يطلق من أبيات الشعر وأوصافه على الزبائن حسب الطلب..وكأنهم اشترطوا للدخول إلى نادي الشعر الحصولَ على بطاقات دخول خاصة فكانت النتيجة أنْ لم يدخل ناديهم هذا إلا عدد يسير جدا من الشعراء الذين ضاعوا بين جموع واسعة من حاملي البطاقات المزوّرة ! وأريد في هذا المقال أن أدحض الزعم بأن الشعر منحة إلهية تقتصر على الموهوبين وذوي الملكات وأنّ الإنسان لا يحق له صنع ترنيمة الشعر إلا إذا غُمس بالماء المقدّس أولا..فالشعر في الحقيقة هو إنشاء الكلام وتأليفه على نسق يأخذ مادته من خلجات النفس وخفايا الروح ويستمد إيقاعه من ذبذبات العاطفة ونبضات الأعصاب فلا يخرجُ من شاعر خبير ومتمكن إلا أحدث تأثيرا عجيبا في كل من يقرؤه ويعرف معانيه..كأنه إشعاع أثيري غامض لا يضربُ الإحساس إلا سرت فيه رعشة وخفة مطربة تخدر العقلَ وتسكن القلب..ولما كانت مادة الشعر المؤثر(الروح) موجودة في كل إنسان حي ومصدرها واحد وهو نفـَسُ الله حين قال (ونفختُ فيه من روحي) – أمكن لكل إنسان حي أن يقول شعرا مؤثرا ولو في أبيات قليلة ولو لمرة واحدة في حياته..وهذا ما يعرفه الشعراء الذين يبحثون عن المعنى الشعري في كل ما يرون ويسمعون، إذ قد لا يجدون معنى مبتكرا من مطالعة الكتب ويجدونه في كلام صبي صغير أو منطق امرأة حسناء أو حكاية شيخ كبير..وكل ذلك شعر (خام) يطفو على ألسنة هؤلاء جميعا ويظهر في كلامهم وإن لم يقصدوه أو يتصنعوه..ولا يتمكن من استخراج هذه المعاني وسبكها في قالب لفظي مؤثر إلا من ألمّ بقسط وافر من اللغة ومفرداتها وتعلم صناعة الشعر ومرّن نفسه على أوزانه..فأساس المعضلة في الحقيقة هو غياب الصنعة والمهارة لا غياب الموهبة والملكة. جمعتني جلسة مع أحد الشعراء الذين يدرّسون العروض في الجامعة وجادلني في أن الشعر موهبة لا تحصل لأيّ كان..ومن جملة أدلته التي ساقها أنّ الخليل ابن أحمد لم يكن شاعرا مع أنه واضع علم العروض ومعلمه الأول وأنه قال حين سئل عن العلة في عدم قوله الشعر: إنما الشعر ملـَكة..ولستُ أعرف من أين جاء بهذه القصة، لكنني كنتُ أعلم قبل لقائي به أنّ شعراءنا لا يملكون معرفة لغوية وأدبية وتاريخية متينة تؤهلهم أن يختاروا الرواية القوية ويتركون الرواية الضعيفة..وإلا فإن كلمة (ملكة) بفتح اللام ما كانت تعني في زمن الخليل ما تعنيه لنا اليوم من أنها صفة راسخة في النفس تؤدي إلى المهارة في أداء عمل معين..فالخليل توفي سنة 170 للهجرة أي في القرن الثاني الهجري وإلى ذلك التأريخ بل وإلى ما بعده بقرون كان المعنى المأخوذ من الكلمة أن يقال: فلان حسن الملكة أي حسن العشرة والمعاملة مع عبيده ومملوكيه، وفلان سيء الملكة أي سيء الخُلق والمعاملة معهم..وهو المعنى الوحيد الذي كان متداولا لهذه الكلمة ويدل على ذلك خلو القواميس والصحاح في تركيب (م ل ك) من أي معنى آخر للكلمة، ومنها كتاب (العين) للخليل نفسه وهو أول معجم في العربية..فكيف يستعملها الخليل في كلامه الذي يـُنقل عنه ولا يورد ذلك المعنى في معجمه؟ ثم من قال بأن الخليل لم يكن شاعرا ولم يكتب الشعر؟ وأنا لا أريد هنا أن أستقصي الأشعار التي رُويت عنه في كتب الأدب المختلفة لئلا نخرج عن حد المقال، ولكنْ أقول إنّ للخليل أشعارا ومقطعات مشهورة تدل على حذق الصنعة ومتانة الأسلوب مما لو جُمع اليوم –على قلته– لملأ عدة صفحات..لكنّ قلة أشعاره لها تفسير آخر غير ما يفهمه أدباؤنا وهو أن الرجل استفرغ َ مجهوده ووقف نفسه منذ البداية على حفظ ودراسة اللغة وجمع أشعار العرب وتوصيف النغمات الموسيقية، حتى روَوا أنه اهتدى لعلم العروض عندما دخل سوق الصفـّارين في البصرة مرة وشدّته أنماط طـَرْقات الحرفيين المتتابعة على النحاس والحديد هناك، وأثمر ذلك كله عن مؤلفات كبيرة في اللغة والنحو وتأسيس علم العروض..فصرفه ذلك عن قول الشعر الذي يتطلب كثيرا من الفراغ وحدة الذهن وخلاء القلب..وللإنسان طاقة وجهد إذا استفرغها في علم أو عمل ما فقلما يتهيأ له من القوة والوقت ما يجعله يتميز في علم أو عمل آخر. أما الرواية الصحيحة التي نقلتها كتب الأدب فهو أنه قيل للخَليلِ بنِ أحمد: ما لكَ لا تقولُ الشِّعر؟ فقال: الذي يجيئُني لا أرضاه، والذي أرْضاه لا يجيئني..وفي هذا الجواب رد على من يزعمون أن الشعر موهبة، لأن الرجل لم ينف عن نفسه القدرة على قول الشعر ولكنّ الذي يتهيأ له منه لا يراه من النمط العالي وما يمكن أن يتميز بين أشعار عصره –وهو كان أعلم الناس بنقد الشعر وتشريحه ومراتبه– وكلامه هذا يدلّ أيضا على أنه كان مركزا جهده في نواح أدبية أخرى. ومن الأدلة على ما نقوله من أن الشعر صناعة بيانية لا موهبة خاصة هو ما ذكره المتخصصون في نقد الشعر منذ العصور الأولى لنشأة الشعر واستفاضة معانيه..فهذا الجاحظ –موسوعة الأدب وصاحب المدرسة الإنشائية الكبرى في العربية– يقول في بعض فصول كتابه الحيوان: (والمعاني مطروحةٌ في الطريق يعرفها العجميُّ والعربيُّ، والبدويُّ والمدنيّ، وإنَّما الشأنُ في إقامةِ الوزن، وتخيُّر اللفظ، وسهولة المخرج، وكثرة الماء، وفي صحَّة الطبع وجَودَة السَّبك، فإنما الشعر صناعةٌ، وضَرْب من النَّسج، وجنسٌ من التَّصوير)..ولا يخفى عن المميزين وأهل الأدب أن الجاحظ إنما يتكلم عن علم وفهم، وهو الذي حشد في كتبه أشعار القدماء والمحدثين إلى القرن الثالث الهجري، وكان له تمرس في نقد الشعر وصناعته حتى زعم بعض من يعرفه أنه كان يصنع الشعر المكين ولكن لا ينسبه لنفسه (وكثيرا ما كان يفعل ذلك في كتاباته أيضا)..وهو في كلامه المنقول آنفا يعضد ما ذهبنا إليه. ومن الأدلة أيضا ما ذكره ابن رشيق في كتاب (العمدة) قال: (وأهل صناعة الشعر أبصر به من العلماء بآلته من نحو وغريب ومثل وخبر) ثم نقل عن بعض أرباب هذا الفن قوله: (وللشعر صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم كسائر أصناف العلم والصناعات: منها ما تثقفه العين، ومنها ما تثقفه الأذن، ومنها ما تثقفه اليد، ومنها ما يثقفه اللسان). ومن ذلك ما عـُرف عن بعض الشعراء ممن كان يتروى في اختيار ألفاظه ويعتني بذلك أشد العناية، كزهير ابن أبي سلمى في القدماء: كان يصنع القصيدة ثم يكرر نظره فيها على وجه التنقيح والتثقيف خوفاً من التعقب بعد أن يكون قد فرغ من عملها في ساعة أو ليلة، ولهذا سميت قصائده بالحوليات، وأبي تمام في المولدين حيث عـُرف شعره بصناعته اللفظية والبديعية التي تابعه عليها كثير من الشعراء فيما بعد..وكلما اهتم الشاعر بتخير اللفظ وحسن الصياغة أجاد وبرّز ونجح في إخراج شعر مؤثر..فلو كان الشعر موهبة لم يحتج إلى التنقيح والتجويد. ومن ذلك ما أشار إليه المعري في خطبة ديوانه (سقط الزند) حيث قال: (والجيد من قيل الرجل وإن قلّ يغلب على رديئه وإن كثر، إلا إذا كان الشعر له صناعة ولنفسه مرونا وعادة)..ولا أظن أحدا من المبصرين ينكر على المعري مكانته بين الشعراء وعلمه باللغة والنقد، فهو صاحب كتب النقد في شعر المتنبي وأبي تمام والبحتري، وهو المتشرب بالشعر وعالمه حتى إنّ كثيرا من استدراكاته على الشعراء السابقين له صبها في كتابه (رسالة الغفران) بشكل محاورات مفترضة معهم في الدار الآخرة ! ومن ذلك أنّ الشعر لم يكن فيما مضى يقتصر على الشعراء والنظامين بل كان يصنعه الأشراف والسوقة، وتنظمه المغنيات والجواري، وتقرضه النساء كما يقرضه الرجال، وينشئه العلماء والشيوخ والأئمة وحتى الخلفاء، وكثير من الأبيات ما زالت تتردد منذ قرون وهي لبعض هؤلاء. فليس إلا أنْ يتعلموا طريقة نظمه وتقطيع أوزانه حتى يقولوا الشعر ويبدعوه كأي فن من الفنون التي يمكن تحصيلها بالتعلم والأخذ عن أهل الاختصاص. ومنه أن الشاعر نفسه يتدرج مستواه في صناعة الشعر ويتطور مع الزمن، وتتغير طبيعة ألفاظه وأوزانه وتناوله لها بشكل تطوري واضح، حتى إن البعض يرتب أشعاره عند طباعة ديوانه حسب التدرج الزمني لها ليتعرف القراء على مسيرته الشعرية، بينما يستحيي البعض من ذكر أبياته الأولى التي أنشأها في طور الغرزمة والجدّة..أليس ذلك دليلا على أن هذا الأمر صناعة كباقي الصناعات أساسه التمرن والمثابرة كما تتكسر الأواني الأولى في يد الصانع المتعلم حتى يـُحكم الصنعة ويكتسب المهارة فيها؟ ومنه أنّ النبوغ والموهبة في كل المجالات الأخرى –غير الشعر– غالبا ما تتفجر في سنّ مبكرة وتظهر أماراتها على الأطفال دون تجربة سابقة ولا اطلاع ولا تقليد، كنوابغ الرياضيات والعلوم ونوابغ الرسم والفنون..لكنّ الشعر لا تبرز الموهبة فيه إلا في سن متقدمة وبعد البلوغ عموما، وبعد فترة تطول أو تقصر من المحاولة والتجربة، بل إن أغلب الشعراء المجيدين لا تحصل لهم الشهرة ولا تتفتق طاقاتهم وإبداعاتهم إلا بعد الأربعين، أي بعد المران الطويل والتطور المستمر. وترجع العلة في ذلك إلى أن صناعة الشعر تستلزم توفر أدوات كثيرة من اللغة والمنطق والبلاغة والعروض مع الاطلاع المستمر على التراث الأدبي إضافة إلى الطبع والقريحة، وهذه كلها تتطلب وقتا لصقلها وتطويرها. أنا لا أزعم أنّ الشعر المؤثر لا يتطلب الموهبة والملكة، ولكنها تمثل خُمس المسألة فقط، وهي بدورها تعتمد على تكامل باقي الأدوات لصقلها وتهذيبها وتنميتها، وارجع إلى الجرجاني صاحب كتاب الوساطة إذ يقول: (الشعر علم من علوم العرب يشترك فيه الطبع والرواية والذكاء، ثم تكون الدربة مادة له، وقوة لكل واحد من أسبابه)..ولا يكون الشيء علما إلا وله منهج وطريقة وأصول وهذا ما نقصده بصناعة الشعر.
#خليل_محمد_الربيعي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الموضوعية المحمديّة الباهرة
-
فلنتثقف أولا ...
-
أثر الإختلاط بين الجنسين في أداء مؤسساتنا المدنية
-
الغُربة
-
الشعر الحر وخمسون عاما ً من العقم (1)
-
تسونامي الثورات العربية: إلى أين؟
-
النظرة الإزدواجية للمرأة في المجتمعات المتمدنة
المزيد.....
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
-
معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا
...
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
-
مايكروسوفت تطلق تطبيقا جديدا للترجمة الفورية
-
مصر.. اقتحام مكتب المخرج الشهير خالد يوسف ومطالبته بفيلم عن
...
-
محامي -الطلياني- يؤكد القبض عليه في مصر بسبب أفلام إباحية
-
فنان مصري ينفعل على منظمي مهرجان -القاهرة السينمائي- لمنعه م
...
-
ختام فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي بتكريم الأفلام الفلسطي
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|