ماركس وجيمس اندرسون: حول التباين في خصوبة التربة
ثامر الصفار
2011 / 1 / 24 - 01:09
من الفرضيات السائدة عند الكثيرين، مسايرة )ماركس( لخطى )ريكاردو( عند دراسته لنظرية الريع وتحليله للتنمية الزراعية.
والواقع، ان ماركس كان ناقدا حادا لهذه النظرية، لفشلها في فهم عملية التطور التاريخي لزراعة الارض او للتربة. ولهذا السبب كان ماركس يعتبر ان الاقتصادي والسياسي الاسكتلندي والمزارع المحترم جيمس اندرسون (1739-1808)، وهو المبدع الحقيقي لنظرية الريع الكلاسيكية، اكثر تفوقا من مالثوس وريكاردو [1].
فقد وضع اندرسون جميع المقدمات النظرية الاساسية لنظرية الريع الكلاسيكية عام 1777 ضمن بحثه الموسوم بحث في طبيعة قوانين الحبوب، وواصل التعمق وتوسيع بحثه في اعماله اللاحقة. يقول اندرسون ان الريع:
"هو اجر يدفع مقابل استعمال اكثر الاراضي خصوبة. فالاراضي الاقل خصوبة تنتج او تولد دخلا بسيطا يغطي بالكاد تكاليف الانتاج، اما الاراض الاكثر خصوبة فيرتفع اجرها بمقدار ارتفاع درجة الخصوبة، وهذا الاجر السنوي المدفوع لضمان حق استعمال الارض هو الذي يشكل ما نسميه اليوم بالريع" [2].
اما ريكاردو فانه يعرف الريع:
" ذلك الجزء من محصول الارض الذي يدفع الى مالكها مقابل استخدام قدرات التربة الاصلية" [3].
ويفهم من هذا ان ريكاردو ومعه مالثوس ايضا يريان ان مصدر التباين في الخصوبة هو الطبيعة، انتاجية الارض الطبيعية دون تدخل البشر. زد على ذلك ان كلاهما اكد – مفترضا ان قانونا طبيعيا يدعمه – على ان الاراضي الاكثر خصوبة، طبيعيا، كانت اولى الاراضي التي جرى استخدامها، وان ارتفاع الريع على هذه الاراضي وتدهور الانتاج الزراعي عموما كانا بفعل زراعة الاراضي غير الخصبة او ذات الخصوبة المتدنية، بسبب زيادة ضغط السكان.
بخلاف ذلك، كان نموذج اندرسون المطروح قبلهما بعقد من السنين قد عزا تباين الريع الى التغييرات التاريخية التي طرأت على خصوبة التربة، بدلا من افتراض " الخصوبة المطلقة". فالتحسين المتواصل للتربة من خلال التسميد والري والبزل، كان ممكنا، وبالامكان من خلال ذلك رفع انتاجية الارض ذات الخصوبة المتدنية لتصبح شبيهة بالارض ذات الخصوبة العالية، والعكس صحيح ايضا، فالبشر قادرون على استنزاف اكثر الاراضي خصوبة. هذه التغيرات في انتاجية التربة هي التي كانت مسؤولة عن تباين الريع برأي اندرسون، وليس الخصوبة المطلقة مثلما ادعى ريكاردو ومالثوس.
وبرأي اندرسون ايضا، ان الفشل في تحسين خصوبة التربة هو نتيجة للفشل في اتباع ممارسات زراعية عقلانية ومستديمة. فحقيقة ان اراضي انجلترا مملوكة من قبل ملاك اقطاعيين وتزرع من قبل مستأجرين رأسماليين، تمثل عائق جدي في طريق الزراعة العقلانية، لان المزارع يميل الى تجنب القيام بأي تحسين للارض، لان فائدة ذلك، البعيدة المدى، لا تعود اليه ضمن الفترة الزمنية القصيرة نسبيا لعقد التأجير[4].
كما اكد اندرسون في بحث هادئ في الظروف التي ادت الى الشحة الحالية للحبوب في بريطانيا (1801) على ان تنامي حالة الفصل بين المدينة والريف قد ادى الى خسارة المصادر الطبيعية للسماد " فكل من سمع بالزراعة يعرف ان فرش الفضلات الحيوانية فوق التربة سيزيد من خصوبتها، وان من لا يفعل ذلك يستحق اللوم حقا". واضاف ايضا بان القيام بذلك يغنينا عن اضافة اي شيء خارجي للتربة ويمكننا من تحقيق " تربة خصبة الى الابد". ومع ذلك نجد ان لندن بحجم فضلات سكانها الهائل والتي تحتوي على العناصر الطبيعة للتربة الانجليزية " ترمي هذه الفضلات الى نهر التايمز" وهو ما يسبب " انتشار الامراض الخطيرة لساكني اسفل مجرى النهر" وهذا دليل على مدى ابتعاد المجتمع عن الاقتصاد الزراعي المستديم [5]. وخلص اندرسون الى موقف معارض لمالثوس رافضا فكرته عن ان النقص في الحبوب يعود الى زيادة عدد السكان وارتفاع ضغطهم على مساحة محدودة من الاراضي الزراعية [6].
وكان ماركس قد درس اعمال اندرسون عام 1851 ونقل مقاطع طويلة منها الى دفاتر ملاحظاته. وفي نظريات فائض القيمة التي كتبها خلال الخمسينات والستينات من القرن التاسع عشر اكد بان زبدة مساهمة اندرسون هي تأرخته لقضية خصوبة التربة. " ان اندرسون لم يفترض اطلاقا..... ان درجات الخصوبة المتباينة هي مجرد نتيجة للطبيعة" بل " ان الريع المتباين لملاك الارض هو، في جزء منه، نتيجة للخصوبة الاصطناعية التي يوفرها المزارع للتربة" [7]. وشدد ماركس على اهمية نموذج اندرسون لفهم امكانية تطوير الزراعة، وان هذا النموذج منسجم تماما مع نظرية الريع المتباين. بيد ان هناك امرا آخرا نتج عن الرؤية التاريخية لاندرسون ( وهو ما وضحه في كتاباته اللاحقة) ونعني تأكيده على ان الهبوط العام في خصوبة التربة يجب ان ينسب الى الفشل في الاستثمار في تحسين التربة بفعل الصراع الطبقي بين المزارع ، المستأجر الراسمالي، وبين مالك الارض، او الى الفشل في اعادة استخدام الفضلات الحيوانية كسماد للارض بفعل اتساع الهوة بين المدينة والريف. وهذا كله خلاف الاسباب التي طرحتها نظرية ريكاردو[8].
يتضح هنا ان الدمج الذي قام به اندرسون بين الاقتصاد السياسي وعلم الزراعة يمثل صرحا فكريا غير مسبوق – الاهتمام بالعلاقة العضوية بين خصوبة التربة وكيمياء التربة، العلاقة بين المدينة والريف، والصراع بين مالك الارض والزراعة الراسمالية. وكان هذا سابقا باربعة عقود للثورة العلمية في موضوعة كيمياء التربة. بكلمة اخرى فان لاندرسون الفضل في مساعدة ماركس على اضفاء طابع تاريخي على موضوعة الريع العقاري الراسمالي ومحققا في ذات الوقت فهما اكثر عمقا لظروف التربة، وبالتزامن مع ازمة خصوبة التربة في اوروبا وامريكا الشمالية، ومع التقدم الكبير في علم التربة تمكن ماركس من تحويل هذه المعالجة التاريخية لمسئلة تطوير الزراعة الى نقد ايكولوجي للزراعة الراسمالية.
كما برز اندرسون، في اواخر ايامه، كناقد بارز لمالثوس اثر نشره " مبحث في السكان" (1798). ويمكن القول ان بحث هادئ في الظروف التي ادت الى الشحة الحالية للحبوب في بريطانيا كان الى حد كبير ردا على مبحث مالثوس، وربما رد ايضا على بحث في سبب ارتفاع اسعار المحاصيل (1800) لمالثوس ايضا. وكان اندرسون قد ارسل نسخة من بحثه الهادئ الى مالثوس، لعلها كانت المرة الاولى التي يطلع فيها الاخير على عمل الاول. ولم يكتف اندرسون بمناقشة موضوعة انحطاط التربة في اوروبا بل تعداها الى افريقيا وصقلية وايطاليا نفسها بالمقارنة مع العهد الروماني.
* جزء مختصر من احد فصول كتاب "الماركسية والايكولوجيا: المفهوم المادي عن التاريخ) سيصدر للمؤلف قريبا عن دار الفارابي في بيروت.
الهوامش
[1] حول منبع نظرية الريع الكلاسيكية لجيمس اندرسون، انظر جوزيف شومبيتر، تاريخ لتحليل اقتصادي (نيويورك: جامعة اوكسفورد، 1951)، ص ص 263-266.
[2] جيمس اندرسون، بحث في طبيعة قوانين الحبوب؛ مع نظرة الى مسودة القاون الجديد المقترحة لاسكتلندا (ادنبرة: السيدة مونديل، 1977)، ص ص 45-50، و ملاحظات على وسائل بقاء روح الصناعة الوطنية ( ادنبرة: ت. كاديل، 1977) ص 376.
[3] ديفيد ريكاردو، مبادئ الاقتصاد السياسي والضرائب (كامبردج: جامعة كامبردج، 1951)، ص 67.
[4] جيمس اندرسون، مبحثان حول الزراعة وشؤون الريف ( لندن: جون بيل،1796) المجلد 3، ص ص 97-135. كان الصراع بين المزارع المستأجر وملاك الارض حول الاستثمار في التطور الزراعي، والذي غدا عنصرا مركزيا في نقد ماركس للزراعة الراسمالية في بريطانيا، ظاهرا في مؤلف انجلز"خطوط اولية" 1844. انظر الصفحات 76-78 ، ماركس وانجلز، منتخبات في 15 مجلدا، المجلد 1،(موسكو، دار التقدم،1988)
[5] جيمس اندرسون، بحث هادئ في الظروف التي ادت الى الشحة الحالية للحبوب في بريطانيا (لندن: جون كومنغ،1801)، ص ص 73-75.
[6] المصدر السابق، ص ص 12، 56-64؛ ادوين كنان، تاريخ نظريات الانتاج والتوزيع في الاقتصاد السياسي الانجليزي من عام 1776 الى عام 1848 (نيويورك: اوغسطس كيلي،1967) ص ص 114-115.
[7] كارل ماركس، نظريات فائض القيمة، الجزء 2 (موسكو: دار التقدم، 1968)، ص ص 147-148.
[8] جيمس اندرسون، مبحثان حول الزراعة وشؤون الريف، المجلد 3،ص ص 97-135؛ كارل ماركس، رأس المال، المجلد 3، ص 757، ماركس، نظريات فائض القيمة، الجزء 2 ،ص 244.