|
طيف
طارق الطوزي
الحوار المتمدن-العدد: 3255 - 2011 / 1 / 23 - 13:37
المحور:
الادب والفن
«من رأى أنّه عروس و لم ير امرأة و لا عرفها، و لا سُميت له و لا نُسبت له، إلاّ أنّه سُمّي عروسا فإنه يموت أو يَقتُل إنسانا» ابن سيرين
قد يكون الحلم فضيحة تغتصب حقيقتي الضائعة لتنشرها حكيا، أو ربما هو اعتراف بانشقاقي العميق عن عالم لا أرى فيه غير سطوة الشرّ واللؤم، أو هو شيء آخر يكتشفني وأعجز عن فهمه. نعم، مازال عليّ التفكير في هوة بُنيانيَ الحالم حتى أدرك مداراتي الغامضة. على نحو آخر، قد أرى في الحلم مسارا بهيجا لعالم يتهشّم، أو ربما هو زخم من الشذوذ والخلق يعبر في هياج إلى دنيا الفناء فيمزّق ستر الخداع. غريب أمري، كيف لي أن أعايش جهلي؟ أتألّم كلّما ضاع عني المعنى، أشعر كأني في دوّامة تسرع بي نحو الانهيار. كنت وسط الغرفة الغريبة أغرق في حيرة نزقة. لست أدري، أسمع أصواتا صاخبة تزعق في شدو مبهم، وموسيقى لعينة ترجم صمت سكينتي المهذبة. الغرفة تلبس زينة غير عادية، نور خفيف يهمس في فتنة الزيغ والرياء، سرير قصير القوائم متّسع إلى حدّ لا يصدّق، وستائر سميكة جدّا تغطي النوافذ في خشوع منافق... ما ترسّخ في ذهني عن ذلك الموقف جنون، فيبدو أني كنت هناك كمن ينتظر في سعادة و حماس شقيّ دخول عروسي المجهولة: لا اسم لها، لا صورة تدلّ عليها، لا ذاكرة تحتفل ببريقها... مجرّد انتظار لطيْف أنثوي بلا صفة. مشهد فحولي آخر على عتبة الرؤيا. أيعقل؟! تبيّن جيدا معي قسوة ما يقترفه الحلم: كنتَ في مدى بهيم، تتوقع ظهورا أنثويا مجهولا، وتخوض في سلسلة من التوقعات المبهجة عن ملامح تلك النكرة الآتية. تسأل في لذة موبقة: أهي قصيرة، أم هي طويلة؟ أتراها ضعيفة أم مكتنزة، أو قد تكون معتدلة؟ هل هي ذات ردفين هائلين؟ أو.. لست أدري. أي توق سلطانيّ عظيم جعلك ترسم امرأتك بهذا التعدد المترف داخل تلاشيها؟ تجعلها في كلّ حين تتجدّد، تتخذ هويّة أخرى، فتبدو كهذه أو كتلك أو يفيض عليّك الخيال بأيقونة نجسة تجمع تشتّت هذيانك القذر. عيب وفجور؛ كنتَ على بوابة الانتظار، تمرح في سعي حثيث نحو لمحة بيان تحدّد صفة أنثى الحلم الممكنة. وتطالع في ذهنك الخبل أجسادا عديدة لنساء عاريات، كنتَ تشهد الحياة في اختلاف تجليهنّ، وتستنشق رغبةً تحلّقُ بك في زمن الزمهرير. أكنتَ تدعك أيرك الناهض، لتصل إلى صفاء كاذب، وتتهدّم بعدها مضطربا كئيبا؟ هذا هو الحلم الذي اعتراك فبعثرك، وهزم ثقتك في ما تستبطن من نزوة، إنك لا تستأمن عاقبة انفلاتك إلى نواقيس البوح. لم تعد تجنح إلى تصديق همسك وكلماتك؛ ففي طياتها تغتال فتنة الحياة و الروح. الأغلب أنك لا تملك القدرة على نفض القسوة عن حنجرتك، فتختلق من رحم اللغة سمّا زعافا. عليك الصيام، عليك كتم نطقك. اغتسل بسكوتك المطبق. - 2 - عند موقف الخلوة كنت يوما أحتفي بآية الخلق، إذ عكّرت مجرى طهارتي بالتفكّر في الإفك والمجون، فظهر منّي ظلام دامس غلّف قلبي بزيغ التخيّل، وداخلني شوق التوهّم بما دلّني إلى بساط الحيرة. قال لي صوت من حيث لا أراه: يا ابن التراب، توهّم أنك تتخذ منزلا مؤثثا في مدينة بعيدة. ثمّ توهّم أيضا أنّك داخل هذا المنزل تغيّر من نظام ترتيب أثاثه، وتقوم بطلاء جدران غرفه بألوان تمزجها في فوضى فتلوح للعيان كصرخة ألم رهيب، وتزين السقف بزخارف مجرّدة لا تحمل نظاما ولا اتزانا معقولا؛ فتسعى بهذا إلى بعث المكان من وحي مرقدك الحالم. بعدها توهّم أنّك تهاتف مومسا لم تتعرّف عليها قبلا، وتحدّد معها ميعادا للحضور إلى المنزل. ثمّ تستسلم إلى تأمّل بهجة الحلم في ميقات انتظار موعد وصول امرأتك المجهولة. توهّم الآن أنك تبكي في حرقة، غير مصدق لقاءها. ففي فترة انتظارها، جنحت إلى تصوّرها كذات شبحيّة، حاولت أن تعطّل صفتها. جعلتها كنبض علوي يرفض أي تشبه بكائن معروف. بلا أي معنى يقاس. عندما أطلّ جسدها عليك، كان لقاء نورانيّا تملّكك، حتى تحوّل شعورك إلى بؤس عميق عبرت عنه بكاء. توهّم أنك قلت بصوت يحمل عاطفة جياشة: "إنني نفيت صفتك حتى تكتمل بهجتي بصدق حضورك، وها إني مصدق لما بين يديك". ثمّ تخرّ ساجدا لتقوى جسدها الحيّ. فيعلو صوتها الضاحك مبشّرا بالنعيم. بل توّهم موقفا آخر، حيث تلبسها في حلقة انتظارك ألف روح، وألف يد، وألف ساق، وألف ألف رأس. ثمّ يهولك في حضورها الواقعي كيف تبدو صامتة لا تحمل بريقا. فتردّد بصوت خافت: "أين بهاؤك اللا مألوف؟". توهم مرّة أخرى، وقد تبين لك اكتمال البهجة في اغتيال صورك ساعة انتظارها، وأنك تقع ضمن ساحة الصمت العظيم، أو هو النسيان العظيم. تنتفي داخل ذاتك بلا صفة. تكتفي بأن لا تكون. ربما، هي لحظة من عناد جبروت الفراغ والموت. توهّم عندها أنّك فتحت الباب، فبدا كلّ شيء يستقبلك فيها متوهّجا بريئا، تسألها في فضول رهيب، تمسّ جسدها العاري كمن يكتشف الحياة أوّل مرّة. تضحك. ترى زينة الدهشة تغمرها. فتمرح على عتبة وصال لا يموت. أجبت الصوت، من حيث يراني ولا أراه، قلت: قد توهّمت، فأصبحت على ما انتهيتَ أسيرا عاشقا، فها أنا طوع لحظة اللقاء معها أبشَّر بالنطق. أشهد موتي، و أتأمّل فتنة أن أكون في ميقات ظهورها الأوّل. أعدم نفسي حتّى أراها؛ فمن غير أفق أنا أنشدُّ إلى نور بروزها، أهذي واصفا جنون إشراقها. هكذا تحضر تلك التي كانت هي الأولى، ضاحكة، راقصة، تغنّي، و تطوف سافرة طليقة على جثتي. - 3 - في زمن لاحق، كنت على مشارف اليقظة والنوم، حين جاءني صوت أظنه ينبعث منّي، حدثني في وقّار عن ضياع الحلم وراء وسوسة النميمة، وطفق يذكّرني بترحالي عبر دروب الحيرة والظلام، وكيف ألهمني صراط الدهشة يوما إلى فتنة الحياة والكفر، ثمّ قال: لكن لا ذاكرة هنا تقوى على حمل سرّ أنثاك؛ فالحقيقة في ما تشهده أوّل مرّة. نشرت لوحي وطباشيري على باحة السؤال، وعمدت إلى تخوم الزمهرير أخطّ باختلاجات الشوق والعشق دليلا يكتنفها. ونهضت أيضا إلى القلم أسبر عبر توالد الخطّ منه شعاب السحر والخلق؛ كي أجد في متاهتها حدسا يلقنني سرّ معناها. أيقنت، بعد حين، أني أدلف إلى محراب العمى؛ لم أستطع كسر توق عروسي المجهولة نحو تبدّلها الأبدي؛ كانت كلّ حين تتخذ شكلا آخر جديدا. تمرح، هاربة إلى اللاتناهي. بلا قيد، تتوارى خلف حراك ملعون. أغضبني عجزي، فحاولت يائسا قتلها حتى تسكن فأبسط لها جناحي، لكنّها كانت تلوح في مدى يتموّج قلقا. تنفلت في عناد إلى الرحيل، وتنزع عنها حلّة الاكتمال القديم. تهبّ غير آبهة بشموخي الأزلي. هي فضاء الخلق. - 4 - فتحت الباب، فتبدّى قلقا مرتبكا، قال: هل رسمت اللوحة؟ لم أجب. أجلسته على طاولة، وسكبت له كأسا من الخمر. تأمّلني في حيرة قبل أن يقول: إن لم ترسم اللوحة فالخسارة ستجمعنا. لا أعرف كيف سأفسّر هزيمتي على أرض اليقظة. هل سيدرك تشتّتي؟ قلت له: مازلت أمام عروسي المجهولة أنتشي بالبحث عن صفتها. هي تلوذ بالفرار كلّما استبطنني ملمح منها. في الحقيقة، إنها تشدّني إلى عالم السؤال والبدع و كأنّها تشدّني إليها. تعلّمني جهلي وموتي وقسوتي. تَسبَحُ في مياه الحلم والتأمّل، وتزعم أنها حلقة الخلق الأولى. لابدّ لي أن أكون هنا، في هذا الميقات الرجيم حتى أراها. إنّها تسلبني حكمتي وجبروتي، وتقدّمني إلى نبع البدء.تنادي بصوت الأمل: كن. ...............
#طارق_الطوزي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مهذبون، على الأرجح...
-
اللاشيء 1
-
الصخرة
-
تأبين ( قصة قصيرة )
-
سمنون المحب
-
محمد ولد السلطان
-
هي/ انعكاس
-
سقم
-
عيون وقحة
-
عجوز الستوت
-
الكأس و المعاد
-
الرحيق المختوم
المزيد.....
-
مترجمون يثمنون دور جائزة الشيخ حمد للترجمة في حوار الثقافات
...
-
الكاتبة والناشرة التركية بَرن موط: الشباب العربي كنز كبير، و
...
-
-أهلا بالعالم-.. هكذا تفاعل فنانون مع فوز السعودية باستضافة
...
-
الفنان المصري نبيل الحلفاوي يتعرض لوعكة صحية طارئة
-
“من سينقذ بالا من بويينا” مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 174 مترج
...
-
المملكة العربية السعودية ترفع الستار عن مجمع استوديوهات للإ
...
-
بيرزيت.. إزاحة الستار عن جداريات فلسطينية تحاكي التاريخ والف
...
-
عندما تصوّر السينما الفلسطينية من أجل البقاء
-
إسرائيل والشتات وغزة: مهرجان -يش!- السينمائي يبرز ملامح وأبع
...
-
تكريم الفائزين بجائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي في د
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|