|
هرطقات طنطاوية على دفتر الفتنة (1)
نهرو عبد الصبور طنطاوي
الحوار المتمدن-العدد: 3240 - 2011 / 1 / 8 - 17:41
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
## موسم الانفعالات المملة والشعارات الرنانة :
في كل مرة يحدث فيها حادث إجرامي يستهدف الأبرياء من مسيحيي هذا البلد، تستقبل عيناي وأذناي سيلا جارفا من الانفعالات والتشنجات والاحتجاجات والاستنكارات، يتبعه سيل آخر من المصطلحات والمفردات والآراء والكلمات والتعبيرات والشعارات واللافتات التي سمعتها عشرات ومئات المرات منذ سنوات عديدة وطويلة كردة فعل على هذا الحادث أو ذاك، حتى امتلأت نفسي بالسآمة والكآبة والملل والإحباط من كثرة ترديد هذه المصطلحات والمفردات دون أية نتيجة جادة فاعلة لوقف مثل هذه الحوادث والقضاء على أسبابها، ودون أي توصل حقيقي جاد يذكر لمعالجة هذه الكوارث، إنه سيل يبدو من المؤكد بل من الضروري والحال هكذا أنني سأسمعه وأشاهده مع الملايين من قاطني هذا البلد إلى أن يخرج النفس الأخير يوم مغادرتنا لهذه الحياة الدنيا.
إن تكرار وتوالي وتعدد هذه الأحداث الإجرامية جعلنا نمتلك قاموسا من المشاهد الانفعالية والتشنجية، وعددا من المصطلحات والمفردات المعلبة الجاهزة المجمدة داخل ثلاجة ذاكرتنا، نقوم باستدعائها واستخراجها هي هي على الفور لتمثيل تلك المشاهد والتشنجات في كل مرة، وترديد تلك المفردات والمصطلحات هي هي عند كل حادثة يحدث فيها حادث إجرامي كالحادث غير الأخير الذي حدث في مدينة الإسكندرية ليلة رأس السنة، إنه قاموس يمتلئ بكم من المفردات والمصطلحات التي لا تخرج عن كونها مفردات ومصطلحات نسجت من نسيج العجز والسخف والهلامية والوهم والخيال والشعر والأحلام والكلام المعسول، مفردات ومصطلحات لا تمت للواقع ولا للحقيقة بأية صلة، مصطلحات من عينة: (إحنا شعب واحد، إحنا نسيج واحد، إحنا بيجمعنا وطن واحد، مفيش مسلم ومسيحي، الإرهاب يريد أن يفرق أبناء الوطن، الإسلام برئ من هذه الأفعال الإجرامية، لابد من التأكيد على الوحدة الوطنية، لابد من تفعيل المواطنة، طول عمرنا عايشين مع بعض، أنا أصدقائي مسيحيين، أنا جيراني مسيحيين، أنا أكلت محشي بالأمس عند صديقي المسيحي)، مجرد كلام في كلام في مصطلحات في مفردات رنانة براقة زاعقة، ما أن تهدأ الأمور وتبرد الأحداث ويخفت صداها ويتراجع ضجيجها، إلا ونفاجأ بكارثة جديدة أكبر وأبشع وأشنع وأكثر ألما ومرارة وحصدا لأرواح الضحايا من الحادث الذي قبله.
أنا فقط أدعو القارئ الكريم أن يعود لأرشيف الجرائد والمجلات والبرامج التليفزيونية التي نشرت وأذيعت عقب أحداث نجع حمادي العام الماضي، والذي قبله والحادث الذي قبل الذي قبل الذي قبله، ثم لينظر القارئ الكريم وليقارن بين ردود الأفعال عقب تلك الحوادث وردة الفعل عقب حادث الإسكندرية، فهل يا ترى سيرى من جديد في لفظ واحد أو عبارة واحدة أو مشهد انفعالي أو تشنجي واحد في كل ما قيل ونشر وأذيع عقب كل تلك الحوادث مجتمعة؟.
إن العجب الحقيقي يكمن في قدرة من يرددون هذه المصطلحات والمفردات، ومن يظهرون هذه الانفعالات والتشنجات في كل مرة بنفس الحرارة ونفس الحماسة ونفس الانفعال ونفس التشنج، دون أن يؤثر تكرار الأحداث وتواليها وتعددها على الأداء المتقن للدور الانفعالي والحماسي الذي نقوم بأدائه عند كل حادثة، إنني لأسأل نفسي كثيرا ألا يشعر أحدنا بالخجل من نفسه وهو يردد نفس الرثاء ونفس النعي ونفس الكلام عند كل كارثة ونحن عاجزون عن وضع أيدينا على البذور والجذور الحقيقية لهذه الفتنة؟، وألا يخشى أحدنا أن تتحول هذه الانفعالات والتشنجات وهذه المصطلحات والمفردات من كثرة تكرارها وترديدها كما هي في كل مرة إلى ما يشبه المشهد الكوميدي فنضحك عليه ونسخر منه، بدلا من أن يبكينا ونحزن له، هل وصل بنا الحال من كثرة تكرار هذه الحوادث وتشابه وتكرار ردنا عليها بنفس ردود الأفعال السابقة إلى ضرورة تعديل العبارة التي تقول: (ما أشبه الليلة بالبارحة)، فنجعلها: (ما أشبه الليلة بالبارحة والغد)، وهل يعني ذلك أننا علينا أن نرسخ في قناعاتنا أنه ليس هناك من نية حقيقية جادة صادقة للوقوف على الجذور الحقيقية والأسباب الفعلية لمعالجة هذه الأزمة وإنهاء هذا المسلسل الدامي؟.
## هيا بنا نهرطق :
هذه بداية سلسلة مقالات سوف أسرد وأسجل فيها بعض الهرطقات الطنطاوية على دفتر الفتنة الدينية الطائفية بين المسلمين والمسيحيين في مصر، وأسميتها هرطقات طنطاوية نسبة لكاتب هذه السطور المهرطق (نهرو طنطاوي). والهرطقة كمفهوم هي محاولة جديدة وجريئة لإعادة تجديد فهم أو تجديد عدة مفاهيم في عقيدة أو منظومة معتقدات جامدة راسخة ثابتة، بإدخال مفاهيم فكرية جديدة عليها تخالف المفاهيم الراسخة العتيقة، وقد تؤدي هذه المفاهيم إلى إنكار أجزاء أساسية من المعتقدات الأم بما يجعلها بعد التغير غير متوافقة مع المفاهيم القديمة للمعتقد. ومصطلح (الهرطقة) إن كان له خلفية مسيحية نشأ فيها، إلا أن مدلول الهرطقة يستخدم في سياق جميع العقائد وليس المسيحية فحسب، ففي التراث الإسلامي مثلا تستخدم مصطلحات كـ (الزندقة) و(البدعة) بدلا من مصطلح: (الهرطقة) للدلالة على المعنى ذاته فيما يتعلق بمحاولات التجديد في فهم العقائد الإسلامية الثابتة.
وفي الغالب الأعم لا يَصفُ من يُعَدُّون هراطقةً آراءَهم على أنها هرطقات، بل إن من يوصفون بأنهم هراطقة يرون أنفسهم على أنهم إصلاحيون أو مجددون أو أنهم يُنَقُّون العقيدة ويخلصونها مما شابها، أو أن فهمهم لها هو الفهم الصواب الذي انحرفت عنه الجماعة الأم. والهرطقة في الغالب الأعم لا تأتي إلا بخير حتى وإن ناوئها الناس في بداياتها وناصبوها العداء، فكم من هرطقة قيلت كشفت لنا علما ما، أو حقيقة ما، وكم من هرطقة قيلت كانت سببا في تقدم أمم وشعوب وحضارات، أو لم يتم اتهام العالم الفذ (جالليو) من قبل الكنيسة الكاثوليكية الغربية بالهرطقة عندما قال أن الأرض ليست مركز الكون وما هي سوى كوكب يدور حول الشمس؟، وغيره من المهرطقين الذين أثروا البشرية بهرطقاتهم (علومهم واكتشافاتهم)، وأو لم يتم اتهام الفيلسوف العبقري (ابن رشد) بالزندقة والردة حين انحاز إلى العقل في فهم النصوص الدينية وتم إحراق كتبه ووضعه تحت الإقامة الجبرية داخل بيته حتى مات؟. ثم تهافت العالم الغربي فيما بعد على كتبه وشروحاته لكتب أرسطو يترجمونها ويقرؤنها ويدرسونها في مدارسهم وجامعاتهم حتى كان لها الفضل العظيم والكبير على تقدم وازدهار الحضارة الغربية في شتى المجالات. حتى وإن كان المهرطقون قد وضعت رقابهم على المقاصل، أو علقوا على أعواد المشانق، أو تم إجالسهم على الخوازيق، أو تم إسالة أجسادهم في أفران الغاز، إلا أن هرطقاتهم استحالت إلى علوم ونور تهتدي به البشرية فيما بعد. لذا فكلمة (هرطقة) ليست وصفا موضوعيا وإنما تنطلق من وجهة نظر من يستخدمها، فالانتماء إلى أي جماعة بشرية كانت قد اتفقت فيما بينها مسبقا على ما هو صحيح و ملتزم بالأصل، فلكي يوجد فرد داخل هذه الجماعة أو تلك يمكن وصفه بالمهرطق فإنه يجب أن يسبقه وجود نظام راسخ من المعتقدات (دوجما)، والخلاصة إن كلمة (هرطقة) تستخدم لوصف أي رؤية لا تتوافق مع الراسخ في أي مجال.
ومن هذا المنطلق أقول: إذا كنا نحن المصريون نعي تمام الوعي أن هذه الفتنة الخطيرة التي توشك أن تدمر الوطن وتشتت شمله وتهدم أركانه، وإذا كنا قد اتفقنا منذ أربعين عاما على معتقدات رسخت في نفوسنا ورؤوسنا تقول أن الإرهاب والتطرف والتمييز الديني والمناهج الدراسية وعدم السماح ببناء الكنائس وانتشار التيارات الدينية المتطرفة وعدم تجديد الخطاب الديني، جعلتنا نعاني كل هذه السنين من هذه الفتنة بين المسلمين والمسيحيين، وملأت النفوس عدوانا وعداء وشحا وكرها وبغضا من كل طرف تجاه الآخر، وعملت على إيجاد حالة مفزعة من الاستقطاب والاستقطاب المضاد، ترجمته أحداث عنف إجرامية حصدت العشرات من أرواح الأبرياء من المسيحيين، إلا أن هذه المعتقدات القديمة الجديدة لم تثمر هدوءا ولم توقف نزيفا ولم تغسل قلبا من أدرانه، أو لم يثبت لنا جميعا كمصريين ونتيقن بعد بالبرهان الواضح والتكرار الحرفي والحجة البالغة بعد حادث الإسكندرية أن معتقداتنا ومفاهيمنا هذه باتت عتيقة بالية باهتة مملة أكل عليها الدهر وشرب، وأو لم يأن لنا الآن أن نتحلى بالجدية والمسئولية والصدق والإخلاص وأن نبحث عن مفاهيم جديدة حول الأسباب والجذور الحقيقية لهذه الفتنة الدائمة المستمرة، ونطلق العنان بمسئولية لنهرطق في معتقداتنا القديمة حول أسباب هذه الفتنة العمياء التي لن تبقي ولن تذر إذا ما أفلت زمامها وانهار سدها، والتي لا أرى حادث الإسكندرية الأخير هو آخر أحزانها ولا أتمنى ذلك.
فهيا بنا نهرطق علنا نكتشف شيئا جديدا يعيننا على وأد هذه الفتنة، ولو أغضبت هرطقاتي مني البعض أو استفزتهم أو أوغرت صدورهم ضدي، فلا بأس، فأنا أملك من الجرأة والشجاعة أن أسمي الأشياء بمسمياتها وأن أضع أصبعي على موضع الألم في الجانبين، لأنه حين لا يفلح دواء في علاج جرح فليكن آخر الدواء الكي.
#نهرو_عبد_الصبور_طنطاوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نعم لوفاء الإنسان لا لوفاء الكلاب
-
إسرائيل دولة غربية بمرجعية يهودية (6_6)
-
إسرائيل دولة غربية بمرجعية دينية يهودية (5_6)
-
إسرائيل دولة غربية بمرجعية يهودية (4_6)
-
إسرائيل دولة غربية بمرجعية يهودية (3_6)
-
إسرائيل دولة غربية بمرجعية يهودية (2_6)
-
إسرائيل دولة غربية بمرجعية يهودية (1_6)
-
ديمقراطية فقه الدين
-
دعاة الفضائيات والدعوة إلى التقمص وتناسخ الشخصيات
-
الفضائيات الدينية تجعل من الإسلام دينا رجعيا
-
محاولات رهبنة الإسلام على يد دعاة الفضائيات الدينية
-
رجال الدين وشرعنة الطغيان والاستبداد
-
أمة الادعاء والأدعياء والكذب على النفس والناس
-
رمضان شهر تقوى وهدى أم شهر برامج ومسلسلات؟
-
هل نعي كيف تكون استخارة الله؟
-
هل تموت الأمم بموت قادتها؟
-
منى الشاذلي وتبرير الخروج على القانون
-
الإعلام الديني يروج المخدرات بين مشاهديه
-
شهوة التدين
-
دعاة الدين الكنتاكي
المزيد.....
-
أسعد أولادك…. تردد قناة طيور الجنة التحديث الجديد 2025 على ج
...
-
استقبلها الان.. تردد قناة طيور الجنة أطفال الجديد 2024
-
“فرح أطفالك طول اليوم” استقبل حالا تردد قناة طيور الجنة بيبي
...
-
كاتدرائية نوتردام في باريس.. الأجراس ستقرع من جديد
-
“التحديث الاخير”.. تردد قناة طيور الجنة 2024 Toyor Aljanah T
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف بالصواريخ تجمعا للاحتلال
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تعلن قصف صفد المحتلة بالصواريخ
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تقصف مستوطنة راموت نفتالي بصلية
...
-
بيان المسيرات: ندعو الشعوب الاسلامية للتحرك للجهاد نصرة لغزة
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تقصف بالصواريخ مقر حبوشيت بالجول
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|