الارهاب يقتل الضمير العربي
اسماء اغبارية زحالقة
2004 / 9 / 20 - 09:16
نقاش
الارهاب يقتل الضمير العربي
الارهاب سيعيش بيننا طالما لم يُطرح له بديل تقدمي ثوري يحظى بالشرعية والمصداقية في صفوف العمال في الغرب والشرق، يكون هدفه نبيلا ساميا وهو النضال حتى تغيير النظام العالمي الرأسمالي الحالي والانظمة المتواطئة معه. ان هذا النظام هو الذي خلق هذا الارهاب، ولا يزال يستخدمه لتبرير حربه في العراق وطموحاته التوسعية التي تخدم طبقة ضئيلة من الرأسماليين على حساب الطبقة العاملة والاغلبية الساحقة من البشر.
اسماء اغبارية
الحادث الارهابي المروّع الذي قتل بدم بارد مئات الاطفال في المدرسة بمدينة بيسلان بروسيا، وتصاعد عمليات خطف وذبح الرهائن من عمال وصحافيين في العراق بايدي مجهولة بعضها ارهابي معلن، زعزعا العالم العربي، ولاول مرة صار الارهاب يسمى ارهابا.
الامر الواضح ان الاجماع الذي شمل العالم العربي حول دعم العمليات الجهادية كتلك التي يقودها بن لادن، بدأ ينقسم. استطلاعات الرأي في الانترنت بموقع "الجزيرة نت" القطرية التي اجريت من 8-11 ايلول اشارت الى ان اغلبية 50.6% من مشاهديها لا يزالون يعتقدون ان عمليات القاعدة تخدم قضايا العرب والمسلمين، وهي نسبة عالية بكل المقاييس. ولكن الجديد ان 49.4% يعتقدون العكس. وهي نسبة جيدة علما ان "الجزيرة" القطرية ربّت جمهورها على التطرف منذ وظّفت نفسها بوقا لبن لادن والظواهري. انها الضريبة التي تدفعها قطر مقابل لعبها دور القاعدة العسكرية الامريكية الاهم في المنطقة.
جمهور صحيفة "الحياة" السعودية من جانب آخر، يبدو اكثر اعتدالا، كما يبدو بسبب رغبة السعودية في لجم الحركات الاصولية الذي اذاقتها ويلات الارهاب على اراضيها. في استطلاع للرأي تم بالانترنت في نفس الايام، رفض 93.4% ان يكون "اسلوب احتجاز الرهائن والذبح والعمليات ضد المدنيين، يُسهم في كسب قضايا شعوب او جماعات مهما كانت محقة". وانحصر عدد المؤيدين في 4.1% وعدد الذين لا يدرون في 2.5%.
بداية نقاش
بعد دهور من الصمت والتذبذب بدأ النقاش يعود لاوساط المثقفين وعلماء الدين العرب، وإن كنا لا نتوافق مع بعض المندّدين الذين يعادون المقاومة العراقية مبدئيا من منطلق موالاتهم لامريكا ودعمهم للحكومة المؤقتة العميلة، الا اننا نلاحظ انه حتى الموالين للجماعات الاصولية لم يستطيعوا ان يتجاهلوا حجم الفظاعة.
عبد الرحمن الراشد، المدير العام لقناة "العربية"، تجرأ فكتب في صحيفة "الشرق الاوسط" (3 ايلول): "لن نستطيع تنظيف سمعتنا الا بعد ان نعترف بالحقيقة الواضحة الفاضحة التي تقول ان معظم الاعمال الارهابية اليوم في العالم نُفّذت بيد مسلمين.. وعلينا ان ندرك اننا لن نستطيع اصلاح حال شبابنا الذين ينفذون هذه الجرائم الشنيعة، الا عقب معالجة عقول شيوخنا الذين تحولوا على المنابر ثوريين يرسلون اولاد الناس الى الحروب ويبعثون اولادهم الى المدارس الاوروبية والامريكية". قاصدا الشيخ يوسف القرضاوي الذي نسبت اليه فتوى نفاها لاحقا بقتل المدنيين الامريكيين في العراق.
الكثيرون ردوا على هذا المقال، منهم فهمي هويدي الذي استهجن في نفس المنبر (7 ايلول) العمليات، ولكنّه برأ المقاومة منها، ولم يستبعد ان يكون هدف هذه العمليات تشويه صورة المقاومة.
وقبل ان يلجأ احد لاتهام "الموساد" او "السي اي ايه" بهذه العمليات، ادلى الزعيم ابو مصعب الزرقاوي، احد ابرز قادة المقاومة في العراق، بتصريحات نادرة على لسان احد مساعديه لصحيفة "الحياة" (10 ايلول)، "اعطى فيها أدلة شرعية على جواز عمليات القتل التي يقوم بها، حتى ولو حصل فيها تمثيل بالجثث، "فالله اجاز لنا بأن نرد عليهم بمثل اسلوبهم. فإن قتلوا نساءنا نقتل نساءهم...". في نفس المقابلة كفّر الزرقاوي الشيعة وقال مساعده: "لو انهم ما قاتلونا ما قاتلناهم".
واذا كنا نتفق مع هويدي في تفسيره للانسداد السياسي الذي يقود المواطن العربي والمسلم لليأس وللانزلاق في "مزالق الحماقة والجنون" على حد تعبيره، الا اننا نتساءل الى متى نصرّ على ان نرى في "الظروف" العامل الوحيد في القضية؟ ماذا عن العامل الذاتي والواجب الذي علينا نحن القيام به لتغيير الوضع؟
محاكمة للضمير العربي
ويبدو انه سيكون علينا قبل تحديد دورنا ان نحاسب انفسنا. محاكمة للضمير العربي يقوم بها عبد الحميد الانصاري في "الحياة" (9 ايلول)، يستغرب فيها ازدواجية الموقف: فمن جهة اجماع عربي اسلامي ضد خطف الفرنسيين، لان فرنسا صديقة وذات نفوذ، وصمت مطبق ازاء العمال النيباليين الذين تم الاستهتار بارواحهم. النتيجة احتمالات انقاذ الفرنسيين، في حين فصلت رؤوس العمال النيباليين عن اجسادهم امام الكاميرات، بلا رحمة.
استنتاج الانصاري من ذلك واضح وجريء: "ان العرب يتحملون جانبا من المسؤولية الاخلاقية عن ارواح الضحايا الابرياء الذين تمت تصفيتهم عبر عمليات الخطف على امتداد الشهور الماضية في العراق". ويقول للتوضيح: "لا اقول ان العرب والمسلمين لا يستنكرون الارهاب بل يدينون ويشجبون ويرفضون، ولكنهم يستدركون ب"ولكن" التي تفتح باب التبريرات الايديولوجية والسياسية والدينية التي يجد فيها الارهابيون سندهم المعنوي والنفسي والشرعي، وبخاصة اذا كانت صادرة عن رموز دينية محترمة".
نموذج لهذه ال"ولكن" يقدمه عبد الباري عطوان، محرر صحيفة "القدس العربي" (7 ايلول) الذي يندد ثم يسارع للتبرير: "الاستشهاديون الاسلاميون في فلسطين والعراق والشيشان لم يلجؤوا الى هذه الطريقة المستهجنة في الغرب، الا بسبب الفارق الهائل في موازين القوى لصالح اعدائهم. فماذا يمكن ان يفعل انسان مقهور اعزل في مواجهة طائرات حربية حديثة عملاقة، او في مواجهة دبابة مزودة باحدث المدافع واكثرها فتكا؟". كما لو ان احدا قرر ان النضال لا يكون الا بالكفاح المسلح.
وكجزء من المحاسبة، تأتي هذه المحاكمة للكاتب غسان الامام في "الشرق الاوسط" (6 ايلول): "مطالبة بوتين بحل سلمي في الشيشان لا تلغي مسؤولية العرب. ثقافة الكراهية التي مارسها اعلاميون ومثقفون ودينيون ورسميون عرب ضد روسيا، هي التي ساعدت وساهمت في دفع الافغان العرب الى الشيشان لخوض حرب من اجل الحرب، وليس لحرب من اجل السلم، حرب عبثية دمرت الشيشان، وجعلتها خرابة افغانية ومغارة لمحترفي الارهاب..".
ويضيف: "الاسلاميون "المعتدلون" الذين دعوا لنصرة "مجاهدي الشيشان"، ونظموا حملات ظاهرة ومستترة لتمويلهم، هؤلاء الاسلاميون الافاضل هم ايضا مسؤولون عن استمرار حرب مجنونة تقتل اطفال المؤمنين والكفار على حد سواء بلا انسانية وبلا اخلاقية".
مجلة الصبّار كانت رائدة في تحليل المعالم الفكرية للاسلام الاصولي والظروف السياسية لنشأته التي ساهمت فيها بسخاء مصر-السادات والسعودية وباكستان، وذلك منذ عام 1979، دعما لامريكا في حربها الباردة ضد الاتحاد السوفييتي. كما تطرقت الصبار لمسؤولية الاخوان المسلمين المعتدلين الذين صمتوا ازاء نمو التيار الاصولي لاسباب عقائدية بعضها وانتهازية بمعظمها، وذلك خشية إظهار الانشقاق بين التيارين داخلها. (انظر على سبيل المثال مقالات ليعقوب بن افرات في الاعداد: تشرين اول وكانون اول 2001، آذار ونيسان 2002).
ماذا يريد الاصوليون؟
يمكننا ان نلاحظ ان نجم الحركات الاصولية سطع في التسعينات بشكل مواز لانحسار الحركات الوطنية ومنها الفلسطينية، وانضمامها للفلك الامريكي وللانظمة الرجعية، مما افقدها مصداقيتها خاصة مع تبدد الوعود الامريكية بالديمقراطية والسلام والازدهار الاقتصادي. ومن خيبة الامل وتفاقم البطالة والفقر تغذى الاسلام الاصولي الذي دخل الى الفراغ السياسي العظيم، وصادر القضية الوطنية، زاعما ان حلها يأتي من خلال اعادة خلافة الراشدين، اي بتكفير الانظمة العربية والانقلاب عليها.
ولكن بعد فشله المريع في الجزائر والدول العربية الاخرى، حيث ذبحت الفتاوى مئة الف من المدنيين من نساء واطفال المسلمين، غيّر الاصوليون الخطة، وانطلقوا بهدف استعادة شعبيتهم في حملة ضد "اليهود والصليبيين" فارتكبوا فظائع كانت ذروتها 11 ايلول. وهلّل العالم العربي شماتةً، ولكن النتيجة لم تكن حلا لقضايانا بل اضافة قضية اخرى لها: العراق.
وبعد ان ادخل بن لادن الامريكان للعراق، يأتي الزرقاوي اليوم ليعلن نيته طردهم منه. واذا كنا نرى في احتلال العراق جرحا نازفا، فهو بالنسبة لبن لادن لحد للامريكيين وبالنسبة للزرقاوي مهد لتأسيس الخلافة الاسلامية. وقد اكد ايمن الظواهري، مساعد بن لادن، في شريط بثته "الجزيرة" يوم 9 ايلول ان مصير الامريكان بات محتوما في العراق، فاذا بقوا سيذوقون لهيب المقاومة واذا انسحبوا خسروا كل شيء. اما الزرقاوي، الاردني الاصل، فيسعى لاستخدام العراق قاعدة لتحرير فلسطين والعالم العربي والعالم اجمع من الكفر والجاهلية.
لصحيفة "الحياة" (10 ايلول) قال الزرقاوي على لسان مساعده: "ان الهدف الحالي في العراق اقامة حكم اسلامي واطاحة الحكومة الحالية وطرد الامريكان.. انه (اي الزرقاوي) لم يأت الى هذا الميدان الا لهذا الهدف. طرد الامريكان من بلاد المسلمين واقامة حكومة اسلامية. هذا ضمن الهدف، وإلا فكيف نستطيع ان نقلب (الانظمة) في البلدان المجاورة. كيف نستطيع ان ننقذ بيت المقدس وليس عندنا قاعدة ننطلق منها؟ انقاذ بيت المقدس وما يجاورها من بلدان لا يأتي الا بعد اقامة دولة اسلامية ينطلق منها الشباب لتحرير المناطق المجاورة".
الجماعة في نشوة اذن، فهم يحاربون اعظمَ القوى العالمية على جبهتين في آن واحد: الشيشان-روسيا والعراق-امريكا، وفي بالهم العودة لتطبيق خطتهم الاصلية وهي الانقلاب على الانظمة العربية لنشر الاسلام السلفي. ولكن هذه الخطة فشلت فشلا ذريعا عندما سعوا لتطبيقها في الجزائر، كما ان الدولة النموذجية التي فرضها بن لادن في افغانستان انتهت بالاجتياح للاراضي الافغانية والعراقية، وهذا المصير المتوقع للنموذج الشبيه الذي يسعى الزرقاوي لتطبيقه في العراق.
الملفت للنظر ان بوش ايضا يستخدم العراق لتطبيق النظرية "الديمقراطية"، كمقدمة لنقلها لبقية الدول، وبكلام آخر لاحتلال بقية الدول. وهي تبقى نظرية وهمية غير قابلة للتطبيق، لان بوش يريد للعرب ديمقراطية شكلية، دون مضمونها الذي يعبر عن نظام حكم ملائم للعالم المتقدم والصناعي الحديث. فامريكا تريد العراق مجتمعا متخلفا لتواصل نهب موارده.
والمفارقة انه رغم المواجهة المفتوحة بين امريكا والاصوليين، الا ان الاصوليين يساندون امريكا في برامجها التوسعية. فعلينا الا ننسى ان النظام "الديمقراطي" الامريكي هو الذي خلق الارهاب الاصولي في حربه مع الاتحاد السوفييتي، ولا يزال يستخدمه لتبرير حروبه في العراق خاصة بعد 11 ايلول.
الكاتب الاردني منير شفيق الذي يعتبر من اهم مفكري حركة حماس الفلسطينية، اشار في هذا الاتجاه الى ان بن لادن اسدى بعمليات 11 ايلول، عن غير قصد، خدمة لبوش، اعادت له شرعيته ومكّنته من تنفيذ استراتيجيته الحربية الهادفة لفرض نظام احادي القطبية. فيما رد بوش الجميل لبن لادن، دون قصد هو ايضا، بشن هجومه على الدول العربية والخلط بين المقاومة المشروعة والارهاب، مما مهّد للهجوم الاسرائيلي على حماس والجهاد الاسلامي وحزب الله.
بهذا الموقف يكون شفيق قد اقام الفصل بين الحركات الاسلامية الفلسطينية وحزب الله من جهة وبين القاعدة التي يرى فيها تنظيما ارهابيا "عمّم قتل المدنيين بما يتعدى كل عقل فكيف السياسة والشرع..". ويستنتج شفيق: "وهكذا راح بوش وبن لادن يتبادلان تقديم الخدمات، او "رد الجميل" موضوعيا، وإن تناقضت المقاصد والنيات. وبديهي ان الحكم في السياسة على الممارسة وعلى النتائج وليس على القصد والنية". (الحياة، 13 ايلول)
ما نريده نحن
يمكننا ان نتوقع ان تواصل الجماهير البسيطة التشبث بالارهاب، ربما عن جهل او يأس او عن رغبة نفسية بالتمسك بمصدر قوة ولو وهمي، او ربما بالانتقام. انها تعرف انه لن يجلب لها الحل، انها اصلا تدعمه لانها فقدت الايمان بامكانية الحل، فاذا كان لا بد من الموت ولم يعد للحياة قيمة فعلى الاقل لنرد.
ان هذا الارهاب سيعيش بيننا طالما لم يُطرح له بديل تقدمي ثوري يحظى بالشرعية والمصداقية في صفوف العمال في الغرب والشرق، يكون هدفه نبيلا ساميا وهو النضال حتى تغيير النظام العالمي الرأسمالي الحالي والانظمة المتواطئة معه.
البديل لهذا الدمار يجب ان يكون رسالة حياة. ولذا سيكون على من يطرحه ان يفتح عيونه وآذانه بحثا عن حلفاء في كل مكان في العالم، بين اولئك الذين يسيرون بالملايين في الشوارع الاوروبية والامريكية منددين بانظمتهم وحروبها، ويشكّلون بداية طيبة لمجتمع آخر يعيد للحياة قيمتها ويضع مبدأ الانسان فوق مبدأ الربح: لا تكون الرجعية اساسه بل التقدم والتطور، لا الانغلاق بل الانفتاح، لا العنصرية بل المساواة بين كل ابناء البشر بغض النظر عن الدين، القومية، الجنس او اللون، لاننا قبل اي شيء.. انسان.
مجلة الصبّار، ايلول 2004