|
السياب ونوارس دجلة
همسة الهواز
الحوار المتمدن-العدد: 3201 - 2010 / 11 / 30 - 23:42
المحور:
الادب والفن
بدر ينحلّ من ليل العراق صبابة الشوق ويهل ّ فى جسر الرصافة للمها وعيونهن مواقد شمسٌ تنير ضُحًى الكرخ فيهما ناداهُ حلمٌ من عيون النرجس عندما مسّ النهار جبينهُ المحتدّ أيقظ قلبه المسكون بالعشب الأخضر ونداهٌ الزهر الفواح على حبر أيامنا وكان النهر العاشق يسبقه ويوسع فى الظما الممتد كي يعبر ويبتعد روحاً ترتدي جسداً من العراق يرحل السياب وخلفه يمشي هلالٌ بغداد والنوارس البيض تطير فوقها بعض من القوافي والأبيات ، بينما يداهُ سنبلتان تزقزقُ فوقَها الأقمارُ والأطيارْ تتحدثان عن النبع القديم يخرج من حوافيها نوارس دجلة ترتدي مطراً وتصعد بنا راحلة ً نحو الأماسي البعيدة ، والحكايات والقصيدة لونان متمازجان في لوحة تبكي وزهوَ الدَّمع يدمدمُ سكون البوح في نبضنا فيؤرقنا صمت دموع الفراق. عندما أكتب عن السياب تشب النار في ممحاتي ويهطل المطر من طاولتي وتنبت الأزهار الربيعية بين أوراقي وتأتي النوارسُ من ثقوبِ الليلِ، تسألُ عن مدامعنا هناكْ ، عن فكرةٍ نسج منها السياب روعة كلماته ، وحين يمضي المساء لنا قمرٌ في أقاصي الكلام. ننتظرُ بزوغ هلال وجه المضيء وكلما دارت رحى الأيام أجدهُ فيها قمراً يتلألأ في أرجاء سماءنا هنا، في داخلنا يسكن ياسمين أبياته وذكراهُ لاتفارقنا، أرى السياب في صفحات كتابي وبين حروف أشعاري وعلى قصاصات أوراقي وعلى طاولتي تجلس حبات المطر تترقب إشراقة عطره الندي وضحكاتهُ تترادف نغماتها لتخترق أذنَي أحسُ بآلامهُ. وهمساته الناعمة تصرخ من صدى الأوجاع فتلثم صدر نوارس دجلة بالأحزان،على ضجيج الرحيل تكسر نوارس دجلة غربته يحملهُ القلب على راحتيه على هدير همساته الناعسة يدمدمُ سكون البوح في نبضاتنا فيؤرقنا صمت دموع الفراق ويستدركنا البكاء والنحيب فأنزوي في غربتي على شرفة الحنين. وألمٌ السياب يوخز مساماته ووجعٌ تأنُ منهُ خاصرته ينازع شظايا غربته والقهر يسكن مجراته تهتُ في مواويل البكاء ينزف جرحه ُ في محراب الهوى ويصلي تراويح نَفَســهُ الأخير يلبس قبره العراق ويسير متكأ على أضلاعه كالرمح يدخل أبجديات المدن بيديه جثته الأخيرة وهو يركض فى فضاء بغداد فضاء ليّنٍ تحدوه نرجستان من شفق ٍوماء كالحزن رهّاجاً وكلماته فاتحة الغناء كان يغرس عمرهُ ويمر فيه العشق مرصعاً بدم المهاري والبراري حين يدخل دمهُ فى شقوق الأرض تخرج من حوافيها نوارس دجلة ترتدي مطراً وتصعد راحلةً نحو الأماسي الممطره ذات الشمس الحمراء البعيدة والقصيدة تكحل عيناها بأنامله كأنهم من غيومه أنهمر المطر، في زهوة يلمع فيها ندى السياب من عبق الريحان والتيجان . لقد كان بدر هبة سخية من هبات الزمن الضنين وهو في عز ريعان الشجرة المعطاء والأوج من ذروة السحاب السحي الممطر مازال هو وقصائدهُ في الصميم من قوة الفجر الزاحف ألينا من كلماته من لطفه وروعته من خلقه وأبداعه هو كالقيثارة مسحورة ًيتراجف على شفاها ألم شعب . هو أمل مجسداً ينبثق من سويداء الألم الأسود القاتم في عراقنا وهكذا تبقى يابدر جسراً ذهبياً حياً يعبرعليه كل الشعر العربي بثقة وأعجاب وأعتزاز. مازلنا نقرأ السياب ننسجهُ من الذاكرة ونقرأ الكتاب ونرفع الصوت عالياً في غريب على الخليج ومدينة بلا مطر والمعبد الغريق. حين قرأنا أيضاً قبيل الحرب العراقية قصائد السياب النازفة في جسداً سترَ وجع الشمس بردائِه في سماءَنا حينما كاد العراق أن يكون مرةً أخرى ذلك الجسد المعذب الذي يتم الاف المرات ويتمنا معهُ مجدداً. عشقنا مطر السياب وجذوري الممتدة من عطر السياب تناجي حروفاً نسجت في قلوبنا ، الى أن لم يعد في الشعر سيابيون ولابياتيون ولاقبانيون بل هم تجسدوا في كل أعماقنا ، وهكذا نقرأ الشعر أو النثر نتعمق في متاهات الحياة عن مدى فداحة الأثمان التي وضعوها من أعراقهم لتلقى على مصارعهم شهداء حرف حي نابضاً وفداء كلمة ً نافذة ً وضحايا مجتمع يكابدونه في مشاعل يوقدونها في شعرهم . عندما حاول بعض الملحنين تلحين بعض قصائد السياب كنت أتمنى أن ملحناً كبيراً أو مغنياً كبيراً بمستواهُ الفني العريق أن يأخذوا بعض القصائد بدلاً من الملحنين والمطربين الذين يفتقرون الى الموهبة وأبسط قواعد الأبداع ، لكان نصيب تلك القصائد مزيداً من الأنتشار في جميع أنحاء الوطن العربي . وبعدما أكتملت أربعة عقود ونصف على غياب الشاعر الكبير بدر شاكر السياب الذي نستذكرهُ دوماً مقترناً بتحديث القصيدة العربية والدخول بكتابتها في أفقً جديد لم تعهدهُ في دورة حياتها الطويلة كما تحف بأستذكار فكرة الريادة والجيل الذي أرتبط وجوده الشعري بها في تاريخ الشعر العربي المعاصر، بينما النبوغ الشعري نادر على مدارج الزمن ولايُقاس بيومٍ أو سنة بل يُقاس بالعقود والقرون وقد كان الشعر العربي على موعد مع القدر ، ينتظر من يأخذ بيده ، ويبعث فيه روحًا جديدة تبث فيه الحركة والحياة ، وتعيد له الدماء في الأوصال ، فتتورد وجنتاه نضرة وجمالاً شاعر قومي في جمال شعره وندرته، إنه الشاعر الذي قاوم أنكسار الروح أستطاع أن يجتاز بالقصيدة العربية الى أفق رحيب. هو السياب وشعرهُ الذي يشيرالى مزيداً من الأسئلة كلما كــرر القارئ القراءة ويحرص على مزيد من الكشف والتعرف وبهذا يمنحنا قوة السياب الشعرية.
والـشـعــر الـعـراقـي بـخـاصـةً هـو الـشـعـر الـذي لايـكـرر نــفــسـهُ بــل يـبـتـكــر الـواقــعـيـة السحـريــة ولايـمــوت بـل سحــرهُ يـخـطـف الأنــفـاس الـى الأبــد ولايـخـتـبـر بـل يـبـدع بـالـكـلـمــات.
الشاعر الكبير بدر شاكر السياب على الرغم من عمرهُ المحدود من 1926 الى 1964 هي فرصة البحث عن حداثته المتجدده ، ذلك أن شاعرية السياب تخترق قوانين الطبيعة المتمثلة بالميلاد والموت فهو ذو حضور يتعمق كلما أوغل بالغياب. ولد الشاعر بدر شاكر السياب عام 1926 في قرية جيكور على الفرات، قرب مدينة البصرة جنوب العراق. تنقّل بين جيكور وأبي الخصيب والبصرة ثم بغداد لاستكمال تعليمه وتحصيله الدراسي ليتخرج من دار المعلمين في بغداد في منتصف الأربعينات، حيث كانت بغداد تعيش كباقي العواصم العربية أنعكاسات الصراعات العالمية أثناء الحرب الثانية. دخل السياب معترك الحياة السياسية وعانى منها الكثير،حيث صدرت مجموعته الأولى "أزهار ذابلة" عام 1947 في القاهرة وكان كتب في منفاه أجمل قصائده ومناجاته الشعرية منها غريب على الخليج وصهرت هذه المرحلة شعره ليتبلور فيها صوته وتكتمل أداته ويكتب ذروة نصه الشعري الذي صار يتميز به بعد رحيله. ويتعرف السياب على شعر وود زورت وكيتس وشيلى بعد أن انتقل إلى قسم اللغة الإنجليزية ويعجب بشعر اليوت وأديث سيتويل ومن ثم يقرأ ترجمة لديوان بودلير أزهار الشر فتستهويه ويتعرف على فتاة أضحت فيما بعد شاعرة معروفة غير أن عائق الدين يمنع من لقائهما فيصاب بإحباط آخـر، فيجـد سلوته في الأنتماء السياسي. وفي عام 1947 تضمنت قصيدة هل كان حبا حاول فيها أن يقوم بتجربة جديدة في الوزن والقافية تجمع بين بحر من البحور ومجزوءاته أي أن التفاعيل ذات النوع الواحد يختلف عددها من بيت إلى آخر. وعندما زار الشاعر الراحل بد شاكر السياب بيروت عام 1960 لطبع ديوان لهُ ، في هذه الفترة ساهم في الحركة الشعرية والثقافية المتمثلة بصدور مجلة الشعر والحوار والآداب. وفي عام 1948 بعد أن صدرت مجموعته الأولى أزهار ذابلة ، وبما أن الشكوى صارخة على أن الشعر العربي قد أحتفظ بجموده لمدة أطول مما كان ينتظر حدوث النهضة الحديثة إن هذه الباكورة التي قدمها لنا صاحب الديوان تحدثنا عن موهبة فيه، وأن كانت روعتها مخبوءة في أثر هذه البراعم بحيث تضيق أبياته عن روحه المهتاجة ولكن ستكشف الأيام عن قوتها، و لا أريد أن أرسم منهجا مستقبلا لهذه القريحة الأصيلة تتفجر وتفيض من غير أن تخضع لحدود أو قيود، ولكن سير الشعراء هم الذين تعبوا كثيراً، وعالجوا نفوسهم بأقصى الجهد، وكافحوا كفاح الأبطال حتى بلغوا مرتبة الخلود. كانت لغة السياب في هذه المرحلة لغة حديثة فعلاً ونعني باللغة الحديثة وهي أقترابها من لغة الناس اليومية ، وأبتعادها عن المفردة القاموسية الميتة ، وأدخال أحاديث الناس البسطاء الى الشعر، وتناول قضاياهم بألفاظهم هم ، ولعل هو هذا أثمن ما جاء به الشعر العربي الحديث إعادة الشعر الى الناس الذي يكتب من أجلهم هذا الشعر ، ولذلك سرعان ماأنتشرت أنتشاراً كبيراً وأكتنزت هذه اللغة ، وتعددت دلائلها ،وقد أستخدام السياب الواسع للأسطورة وهي ظاهرة جديدة أيضاً أدخلها السياب الى القصيدة الحديثة متأثراً بالشعر الغربي الحديث ، خاصةً أليوت. أنطلق بدر شاكر السياب نحو الشعر العربي من أفضل المنطلقات فهو حين أفتتح بصحبة نفر أخرين عهد التعبير الجديد كان ينطق بولاء للتراث العربي كله ولحرصه على أن يمتد التراث حياً نابضاً عبر الحاضر فقد وهبهُ أسلوباً معبراً عن الحساسية المعاصرة وأستلهم طريقة في الأداء أنصهرت فيها كل المؤثرات التي تعرضت لها روحه المتطلعة القلقة ، وكان في الجانب الأكبر من نتاجهُ يشبه الرسام الذي يوغل في المغامرة الفنية الحديثة بسبب من قوة سيطرته على أدواته التقليدية . كان بدر فاتحاً طموحاً في التعبير واللغة والرؤيا والشكل والموسيقى والشعر وأبعاد الوجدان ، فأن بدر يمتاز عن نسج فنه بأنهُ خلق شكلاً يستطيع الأخرون أن يتوارثوه عنهُ ليمضوا في المغامرة التعبيرية . وهكذا يعد السياب واحداً من الرواد في النهضة الشعرية العربية الحديثة باعتباره رائدًا من رواد الشعر الحر، ترك أثره في التجديد الشكلي والمضموني وتناولته الدراسات الأدبية الكثيرة ، وهكذا يعد السياب واحداً من الذين جعل ولادة محتوى جديد في الشعر العربي ، فشعرهُ مسكون بهاجس التواصل مع الأخر بهاجس التغيير،هذه الفطرة هي التعويذة التي يحملها السياب في حياته وشعرهُ لكي يتغلب على الفقر والجوع والعبودية والظلم . لقد كان السياب فاتح طرق ومنبهاً الى حداثات كامنة موجودة بالقوة أخرجها اللاحقون الى الفعل والتحقق النصي ذلك أن قصيدة السياب تخترق متن عصرها وترسل أشارات تشن عن ضوء باهر يكشف ويهدي وبهذا يبقى البحث عما تبقى من السياب لا في نصوصه بل بأسلوبه ولغته له تأثير على كل شاعر وناثر ، أن السياب يبرز ويتميز بكثرة أقتباساته من الألفاظ القرآنية، بل إننا نرى في كل قصيدة " تحويماتــه " في الأجواء القرآنية في أرتباطه بالعبارة أو المضمون أو الأسلوب، فهو يطعّم شعره بالروح التراثية مستغلاً ثقافته العربية؛ وفي بروز هذه الظاهرة دعوى للقارئ أن يستقبل الشعر الحديث ويأنس به، إذ أن مثل هذا الشعر المتصل بالشعر القديم والقرآن يستهوي إليه القارئ التقليدي، بالإضافة إلى أن القارئ الحديث يجد بهذه الأقتباسات والأنتفاعات ثقافة وأطلاعًا. وذلك عندما أعاد السياب الى القصيدة العربية أرتباطها بالناس من خلال تحشيده الهائل في التفاصيل الحياتية ، ودخل الحياة بكل نبضها الحي في جسد قصيدته وحتى البحور التي أستخدمها السياب في تلك الفترة خاصة ً، حيث أنها جاءت متوافقة مع طبيعة تلك المرحلة وتشابكها وجلالها وتحولاتها الضخمة ، من غريب على الخليج ، وأنشودة المطر ، والنهر الميت ، وحفار القبور، والمخبر، والمومس العمياء ، والأسلحة والأطفال ، وأكاد أسمع النخيل يشرب المطر، إن النمط الذي خلقه السياب في قصيدته يستوعب مصادر معرفية متباعدة يؤلف بينها قلب القصيدة . فنجد أستعارات قرآنية ومسيحية وبابلية وشعبية ومرويات شائعة ومعتقدات خرافية وأساطير ورموزاً من جيمس فريزر وأشعار الكلاسيكيين بل حتى في سياق اللغة يأخذ السياب مفردات عامية لعل تفسير نقادهُ بأنها محاكاة لنصوص إليوت ، الى جانب بداياته الواقعية والشعبية. جعل السياب في طور بناء القصيدة إذ حفر لها مجرى دافقاً تمر منهُ سفن الحداثة صوب هدفها الغامض البعيد ، مما جعل من شخصية السياب نموذجاً تموزياً فريداً تلهمهُ مآسيه بما يغذي جسد قصيدتهُ فكان شعرهُ يتعايش على وجوده وينفيه حتى الموت الذي صار أمنية وضعها على لسان الأم العراقية المتعبة التي تهدهد لطفلها حتى ينام منشدة لنفسها وسط سواد العراق وعذاباته. وقصائدهُ هي التي تفيض فيضاً جارفا ً في ظروف تحتم إيصالها إلى أكبر عدد من الناس في أقصر وقت ممكن لأنها مباشرة وأولية ومهمة في آن واحد ومع ذلك فأنه أستطاع أن يجعل من مجموع شعرهُ كتباً مليئاً بما يشبه السر الموحي في كل لحظة ، بالسر الذي يجعلنا دائماً نعود إليه ونشاطرهُ نشوة الكشف عن معانيه من جديد.
لعل بدر شاكر السياب كان أول من يرضى بأن تبدأ أسطورته بموته فالأسطورة فيما يخص كبار المبدعين ، حيث يقول الشاعر الأنكليزي جون كيتس في إحدى رسائله حياة شكسبير قصة رمزية وما كتاباتهُ إلا للشرح والتعليق عليها وهذا القول ينطبق على السياب فنحن قد نعرف الكثير عن حياته ولكن لابد لنا لإدراك أغوارها ، من أستخلاص وقائع تجربتهُ الداخلية وتجربتهُ الذهنية والنفسية من خلال قصائدهُ والتي هي ولاريب في ذلك عبارة عن تعليق وشرح مستمران عليه . لقد أستعمل السياب رمزي المسيح والصليب في أغلب قصائده ، ولربما تكرر ورودهما أكثر من مرة في القصيدة الواحدة .. وهذا ما نلاحظهُ في قصائد ديوان – أنشودة المطر أن رمزي المسيح والصليب يرتبطان أرتباطا عضويا بمفهوم التضحية أو الفداء والتي تمتد الى طفولة الشاعر. أيضاً أستفاد السياب من الأساطير البابلية والسومرية واليونانية أذ مزج بينها وبين همومه الذاتية التي كانت قلقة نتيجة قلق عصره وأستنجاده بالأسطورة كدليل رمزي نتيجة عشقه المثالي الى عالم حالم يبتعد به عن التناقضات فأستخدمها مرة لأتقاء شر السلطة الغاضبة وأخرى أتقاء شبح الموت الذي يداهمه وأستحوذ على مشاعره نتيجة المرض الذي طال أمده وتمثلت في ( أساطير ) و ( أزهار ذابلة ) عندما يخبو ضياء الشموع , ويبقى النخيل يئن ويصرخ في قبضة الريح . وفي ظلمة اليأس ينشق عبر الضباب الكثيف وهذا الزمان الذي يستحيل الى لحظات خريف طويل
ففي قصيدة ( مدينة بلا مطر ) أستخدم السياب تموز البابلية آلهة الخصب التي تخلت عن المدينة فجف فيها كل شئ , أذ لا مطر , ولا زرع , فأنتشر في المدينة الجوع والجفاف فيبدأ أهل القرية التضرع الى الآلهة الخصب وتقدم الى تموز وحبيبته عشتار وسار صغار بابل يحملون سلال صبّار وفاكهة قربانا لعشتار ويشعل خاطف البرق بظل من خلال الماء والخضراء والنار.
وفي قصيدته ( رؤيا في عام 1956 ) يستغل الشاعر – غنيميد – راع يوناني شاب وقع في حبه زيوس كبير الهة الأولمب – الأغريق فيرسل صقراً يختطفه ويطير إليه فيقول ( أيها الصقر الالهي الغريب / أيها المنقذ من أولمب في صمت المساء / رافعا روحي لأطباق السماء / أيها الصقر الالهي ترفق إن روحي تتمزق ) وهنا الشاعر يرمز الى روحه بصورة غنيميد الشاب أنها صورة ( الحب المقترن بالعذاب ) أنها مزج بين الرؤية الواقعية والرؤيا النفسية معاً. كان في حياة الشاعر الكبير بدر شاكر السياب من الدراما شيء كثير من خلال دراستهُ ، صباهُ في جيكور فقره غرامياته سياسياته أعتقالاته خيباته ، فدائياته ، عذابه الأيوبي الأخير ، كلها دراما متصاعدة يحتل هو فيها روحاً ملتهبة مع قصائدهُ لذلك قد أخذت كلها معهُ كمأساة درامية متكاملة تسترسل ، وتنمو ،وتتصاعد ،نحو ذروة من ذرى التجربة الأنسانية الرامزة إلى الحياة البشرية . هنا يكمن السر في عبقرية بدر ، ذلك السر الذي يغرينا ، وسوف يغري الأجيال القادمة بالبحث والتقول والتأويل في أتجاهات كثيرة . أنهُ السر الذي يلازم الكتابات العظمية ، فيجعلها في توهج دائم ، وهو السر الذي يجمع بين أناس غدوا بعد موتهم أشبه بالأساطير.
يمثل الشاعر الكبير بدرشاكر السياب على أية حال مشروعاً يظل منفتحاً على إمكانات ضخمة للشعر العربي الحديث؛ فقد كان هذا الشاعر إشارة عريضة وأخّاذة إلى أفق كان لا يزال بعيداً. لقد أستطاع في أحيان كثيرة أن يلمس حدوداً جديدة ، وأن يشير إلى حدود أخرى لم يمهله عمره القصير للوصول إليها.
كيف نصف رحلة حياة مريرة أتسمت بالكفاح والعطاء الأدبي ووضعتهُ في طليعة رواد حركة الشعر العربي الحر، حيث يعد السياب من أوائل الشعراء العرب الذين جددوا في الشعر العربي وأغنوا القصيدة العربية الحديثة، وقد مثلت حياته الغنية بالالم والعوز والغربة والفراق قمة المعانات أو المأساة الدرامية، وقد كانت قصائده كلها تؤخذ كمأساة درامية متكاملة تنمو وتتصاعد نحو ذروه من ذرى التجربة الأنسانية الرامزة إلى الحياة البشرية في ربع قرن من الزمان مفعم بالاحداث والآلام. وعلى الرغم من أن حياته لم تمتد طويلاً الا أنه ترك وراءه ثروة شعرية أحدثت أنعطافاً كبيراً في مسار القصيدة العربية وتمثلت في الدواوين والأثار الأدبية الآتية أزهار ذابلة، أساطير، أنشودة المطر، المعبد الغريق، شناشيل بنت الجلبي، منزل الأقنان، إقبال، قيثرة الروح، أعاصير البواكير.
بينما تدهورت صحتهُ وصار يتنقل بين بيروت وباريس ولندن وراء العلاج وكان جمسهُ يهزل أكثر وأكثر حتى أنكسر عظم ساقه لهشاشتها. شكلت هذه السنوات الأخيرة بين 1960 - 1964 مأساة السياب الصحية والأجتماعية حيث عانى من الموت يحمله بين ضلوعه في المنافي وليس لديه إلاّ صوته ومناجاته الشعرية ممزوجة بدم الرئة المصابة، حتى مات مسلولاً في يوم 24/12/1964 في المستشفى الأميري في الكويت . مات وهو في السابعة والثلاثين من عمره " غريبا " عن قريته جيكور حيث أن جيكور قرية الشاعر السياب تقع في قلب هذه الجنة الخضراء في مدينة البصرة بأجوائها التي فيها الشجر والظل والزهر والخضرة تصافح العين أينما نظرت ، تفجر لدى الأديب طاقاته الكامنة وتستحيل الحياة في الطبيعة الى مادة شعرية ثرية. بين ميلاده عام 1927 ووفاته على سرير أبيض في أحدى مستشفيات الكويت عام 1964 , ظلت حياته مزيجاً من الألم والتعاسة والحرمان .. مات السياب وترك ثراء ً كبيراً من الشعر الخصيب الذي جعله في مصاف الشعراء العظام بسبب تنوع أنتاجه الشعري وغزارته وشموله لكثير من القضايا الأنسانية . عاش فقيراً وقتله المرض في قمة شبابه الذي أنعكس في رثائه لنفسه , ففي وصية له يقول ( أنا قد أموت غدا ً فأن الداء يقرض .. غير ان حبلا ً يشد ّ الى الحياة حطام جسم مثل دار تحزن جوانبها الرياح وسقفّها سيل القطار (
الحياة نفسها عند السياب قصيدة , لقاء بين شكل يتهدم وشكل ينهض .. أنها أنبثاق أشكال وهي كالقصيدة شكل وليس الشكل تمثيلا نقليا أو وصفيا أنه فضاء خارجي يحتوي فضاءا ً داخلياً. وجاء نهار شتائي حزين في 24 كانون الأول سنة 1964 خرج أربعة من الرجال يشيعون بدر شاكر السياب الى مقره الأخير في مقبرة الحسن البصري في الزبير وكان خامسهم المطر الذي وهبه السياب أجمل قصائده لقد كانت نهاية السياب قصيدة لم يكتبها بدر بل كتبها المطر على تراب العراق الخصب وهكذا يموت العظماء من الأدباء والفنانين ويبقى المطر يحفر أسماءهم. كان السياب في بدايته يطلب الموت وهو في نهاياتهُ ينتظرهُ ، يدعوه بشيء من اليأس ، خاضعاً للسعادة الأبدية التي تسمى بالقبر وهكذا قد هرم المغني. وبقى أدب السياب الذي لقى أهتماماً كبيراً من لدن النقاد في الوطن العربي والعالم وترجمت قصائده الى مختلف اللغات الاجنبية، وقدمت على الدراسات النقدية الكثيرة وأدرجت قصائده في المناهج التعليمية ونال عدد من الباحثين شهادات عليا لرسائل كتبت عن حياته وقصائده. هذا هو بدر شاكر السياب الذي غنى لبلده .. غنى لعراقه .. غنى لشمسه .. لمطره .. لأنهاره .. جداوله.. ونخيله.. لحلوه ومره.. يقف تمثالهُ شامخاً على ضفاف شط العربذلك الشط الذي نسج لهُ بدر قلائد الورد تزينه. ومـن أنــيــن البـصـرة تـبـكـي العـيـون بـمـائـهـا الـرقـراق عـندما هـبـطت الـنـوراس في حـضـن دجـلة حدثـتـني عـن وجع الـنهـرعـن أنـثـيـال وجـود بدر الـنازف بـدماء سـماءنا كـمجـدافــيـن وقاربْ والموج غـريـقٌ بين عـذرية اللغـة في شعر السياب التي أرتـقـتْ بـهـا رؤوسـنا في ما مـضى لتـضيء الـبـيـوت أمام الـغـروب العـظـيـم في أفـراحنا. أضفنا لكل تلك الصور الرائعة فى الذاكرة سرب من نوارس دجلة أرتدت دموع السياب أضفناها حنيناً وشوقاً وحباً لبغداد وشواطئ دجله الحبيبة. ولاشيء يلامس الوجع العراقي بأميّته وثقافته لكنّني وجدت نفسي وآخرين حيرى نتقلّب ونتلضّى دون أن نشفي غليلاً أصابنا الكيّ منه فمصابنا جلل وحرائق الروح قبل الجسد تجد طريقها للإنطفاء بعد أن أكلت النار فيها ولم تبق أو تذر الروح العراقية التي كانت تتوسد الى أقاصي الدنيا في عرق الثقافة والموروث والحضارة، ولاترى وحدتها في وجعها أو تتلفّت إلى أنينها أو حتى إلى حنينها أرتفع النهرُ بجفافه وسقط الجسرُ بصرخات الحزن مابين الرصافةِ والذاكرة التي نسجت من نوراس دجلة والسياب. حين قرأتُ في أسطر التاريخ أن الحزن حول دجلة دماً وحبراً بكيت ورأيتُ بغداد تنهض بعد كل كبوة بعد كل حريق تنفستها في الفرات عشقاً وأبحرت نجوم شط العرب في حضنها المتألق فرحة ًً بكنوز بابل الثقافة والمعرفة. كنّا صغاراً.. وكانت أحلامنا تخرج من بطون أبيات السياب لتحلِّق بعيداً عن مناماتنا كنّا صغاراً بحجم يفاعتنا كباراً بحجم أحلامنا التي شرعت الخطأ أحياناً لتصوغ نفسها. وبقى قلب العراق قريح من وجع الذنوب التي علقت فيه ، نَحِيْلُ الجِسْمِ يَشْهَقُ بالنَّحِيْبِ على أرض تلونت بالدماء، فما في الأماني سوى فرحة والجهات توزع في الكون من وجع السياب ونوارس دجلة .. والكثير من عطرهُ يفوح بين القوافي والمطر . وشيئاً قليل تملكته من حروف السياب بين حبري والورق .. كي يصبح وجع العراق خرافة هذا الزمان وتبقى حقائبنا المسافرة وجهة عطرك يابغداد بينما وجعُ العراق يستفيق ُ ويرتدي حللَ النزيف ِ لكي يُرسّخَ جرحَهُ في الذاكرة ْ. إن كان الدمع يسيل بين أورقنا فالدهر يمحي الحزن الذي حفر في أوجاعنا وأضحت الروح لا رفق فيها ولا تصغي الصرخات لمظلوم. يأتي الزمان وهل على الدهر ناج غير محطوم ، ليبقى صبر العراق يناجي لمن زرع الموت في صمت دارنا لتحلـق نـوراس دجـلة في سـماء العـراق أرتــقـتْ عـلى رأسهـا كلمات السياب ولوحـة مـن الـقوافي والأبيات فــي ليـل بغـداد الـمـنخـور بـالـوجع الـمـســتكـيـن في حـرفي هـز قـناديـل السـيـوف الجارحة في ظهري والقلم يـحاربُ ياعـدوّي ذبـحَة ً الـرصـاص في جـسـد بـلـدي لـثـمـتْ جدارَ الـقلـبِ لتستفيق وجعُ قصائد السياب وترتدي النوارس بأثوابه حللَ النزيف لكي يُرسّخَ جرحَنا في الذاكرة. ومازل الـموت يجتاح آمالنا لتنبت الشمس على جدراننا وينمحي الظلامُ الدامسُ الغافي على أهداب بغدادنا.
#همسة_الهواز (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مترجمون يثمنون دور جائزة الشيخ حمد للترجمة في حوار الثقافات
...
-
الكاتبة والناشرة التركية بَرن موط: الشباب العربي كنز كبير، و
...
-
-أهلا بالعالم-.. هكذا تفاعل فنانون مع فوز السعودية باستضافة
...
-
الفنان المصري نبيل الحلفاوي يتعرض لوعكة صحية طارئة
-
“من سينقذ بالا من بويينا” مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 174 مترج
...
-
المملكة العربية السعودية ترفع الستار عن مجمع استوديوهات للإ
...
-
بيرزيت.. إزاحة الستار عن جداريات فلسطينية تحاكي التاريخ والف
...
-
عندما تصوّر السينما الفلسطينية من أجل البقاء
-
إسرائيل والشتات وغزة: مهرجان -يش!- السينمائي يبرز ملامح وأبع
...
-
تكريم الفائزين بجائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي في د
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|