|
تقنية النص المهجّن
عدنان حسين أحمد
الحوار المتمدن-العدد: 3196 - 2010 / 11 / 25 - 16:40
المحور:
الادب والفن
قليلون أولئك الكُتّاب الذين لا يفضِّلون لعبة اقتفاء الأثر التي قد تغريهم بوضع الحافر على الحافر، وعدم الاتيان بشيء جديد في خاتمة المطاف. ومن هذه القلة النخبوية النادرة يتفرد الشاعر الأردني أمجد ناصر بمشروعه الجديد الذي سنصطلح عليه اسم (النص المهجّن)، وهو التوصيف الذي نظّن بدقته- والظن غير اليقين طبعاً- وتطابقه مع مضمون (فرصة ثانية)، كتابه الاشكالي الجديد الذي أثار عدداً غير قليل من التساؤلات النقدية المهمة في الوسط الثقافي العربي. ولابد من التنويه الى أن شكل الفرادة يتمثل في البنية الداخلية المركبّة التي تجمع بين الشعر من جهة، والأنماط السردية الأخرى المتعارف عليها كالسيرة الذاتية، والسيرة المكانية، والنص الحكائي وأدب الرحلات وغيرها من الأجناس السردية المألوفة. وحري بنا أن نشير الى أن (فرصة ثانية) هو الكتاب الثاني في مشروعه الابداعي الذي وسَمْناه قبل قليل بـ (النص المهجّن)، فلقد سبق له أن أصدر كتاباً مهماً يحمل عنوان ( حياة كسرد متقطّع) يتماهى فيه النَفَس الشعري بالانسيابية النثرية (القصصية على وجه التحديد) الذي أتاح بواسطته للقارئ العضوي أن يقرأ النصوص بوصفها قصائد سردية، أو قصصاً مفعمة بالمناخ الشعري. يحتاج النص المُهجَّن الى بنية مركبّة، أو معقدة ربما، لتستوعب هذه الأنواع الأدبية التي تجاوزت حدود التجاور الى التلاقح الفعّال الذي يفضي في نهاية الأمر الى تماهي هذه الأجناس مع بعضها البعض وتظافرها في صياغة نص جديد يستدعي قراءة نقدية مغايرة. في كل نص من النصوص الأدبية ثمة فكرة رئيسة تتيح للكاتب أن ينطلق منها لبناء فضاء النص، مهما طال أو قَصُر، قبل أن يصل الى جملته الختامية التي يعتقد أنها أحاطت بالفكرة، وأشبعتها تحليلاً وتمحيصاً. والفكرة الرئيسة في هذا الكتاب تتمثل في الخاتم الآخر المختلف الذي اشتراه (من بائعة جوّالة قالت له إنه استفتاح كريم: خذه ولن تندم.) يبدو أن بنية النص تتكئ على هذا الخاتم المختلف الذي (ترى في حجره الأزرق الكابي صورةً جانبيةً لامرأةٍ مقرفصةٍ على هيئة غزالة معمِّرة.) ولابد أن تُحيلنا هذه المرأة المقرفصة التي تقمصّت هيئة الغزالة المعمِّرة الى أم السارد العليم التي أمدّته بلغة عربية أصيلة كتلك اللغة التي كان يستعملها طرفة بن العبد، وعمرو بن كلثوم وزهير بن أبي سلمى، كما هو الحال في كلمة (الثِفَال) التي تعني كل ما يُبسَط تحت الرحى من جلد أو قماش، ونحو سبع عشرة كلمة قد تبدو جميعها حوشية أو منفِّرة للانسان المديني الذي لم تطرق سمعه اللغة البدوية الصافية. هذه اللغة المكتنزة التي يتسيّد فيها المجاز على الحقيقة هي التي كانت تضطر الشاعر أمجد ناصر لأن يُترجم لأقرانه الذين كانوا يزورونه في بيته أغلب ما تتفوّه به أمه الفاضلة التي أهداها هذا الكتاب، فهي مَنْجمه اللغوي المميز، ونبعه المجازي الذي قد لا ينضب مهما تكاثرت قراءاته، وطال عمره المديد انشاء الله. تشكِّل المضارب الصحراوية المحيطة بالمَفْرَق حيّزاً مكانياً مراوغاً شأنه شأن الشخصيات البدوية المراوغة التي طاردت الغزاة الذين دخلوا في رمال لم يروا مثلها قط. ثمة أماكن مستقرة في الذاكرة الجمعية العربية على وجه التحديد، ويمكن لهذه الذاكرة أن تتعرف بسهولة على مدن مثل المفرق وإربد والبتراء، لكن التيه المكاني يبدأ بالحّرَّة ويمر بأم الجْمال ودير الكهف والصفاوي وجبل الإريتين وأم غزال وعين لورنس ولا ينتهي بوادي رم أو وادي موسى، فثمة قصور مبثوثة في عرض الصحراء تستوقف الكاتب وتأخذ حيزاً كبيراً من اهتمامه مثل (قصر عمرة)، هذا اضافة الى الصخور البركانية السوداء والصروح الكحلية المتراكبة التي ضربتها الزلال قبل مئات السنين. ثمة قصص وحكايات شعرية كثيرة تؤثث متن النص المهجن ولا تجد حرجاً في أن تستجير بالتاريخ وتستعين به لكي تقف على قدميها مثل حكاية شجرة (البطم) بحسب المرويات العربية التي تقول(إنها الشجرة التي استظل بها النبي العربي مرتين قبل أن يعرف رعدة الغار: الأولى مع عمه والثانية في قافلة السيدة). أو حكاية الراهب النسطوري الذي ( رأى غمامة تتحول غمامة فوق رأس الصبي اليتيم). هناك احالات صريحة الى التاريخ لكنها تعزز النفس السردي للكتاب برمته كما هو الحال في الاشارة الى قرية (أم الجمال) التي عاشت ثمانية قرون، وبلغ تعدادها خمسة آلاف نسمة، وكانت تضم أربع عشرة كنيسة تدين بالمذهب النسطوري. يسلط أمجد ناصر الضوء على البيئة الصحراوية حيث يعرّفنا على (السوسنة السوداء)، تلك الزهرة الارستقراطية المخملية الغريبة التي يحدث تفتّحها في قلب الصحراء ما يشبه (الاستراحة الملونة) وسط بحر ممتد من الرمال الصفراء التي لا يكسر رتابتها سوى بعض الأزهار والأعشاب البرية مثل القيصوم، ورِجل الحمامة، والشِيح، والجعدة، والبعثران والبابونج. وفي خضم هذا التقشف ينبري الكائن الصحراوي الذي يتحايل على الشمس حينما يرتدي ملابس ثقيلة في عز الصيف كي يحافظ على نسبة الماء في جسده. ثمة احالات تنطوي على طابع مثيلوجي مثل الاحالة الى (الطائر الذي لا يُعرَف له اسم، يتبع بدأب مزعج، المقتربين من الهوّة، أو الموشكين على التحليق). هذه الاحالات التاريخية أو المثيولوجية، الحقيقية أو الفنتازية هي التي منحت قارئ النص المهجن لذة مضافة لا تتيح للرتابة أن تتسلل الى طبقات بنائها السردي المتنوع الذي يأسر القارئ ويأخذ بتلابيبه حقا. يأخذنا أمجد ناصر الى مضارب موغلة في القدم. ففي مستوطنة (عين غزال) التي يصل عمرها الى نحو عشرة آلاف سنة حيث تفاجئنا العيون القططية للتماثيل القديمة التي أدهشت الناظرين. وفي (قصر عمرة) الذي يسميه الحراس (حمّاماً) ثمة لوحات حسيّة مرسومة على الفريسكو، بعضها مكتمل، والبعض الآخر ناقص، واللوحات الناقصة تحثُّ المخيلة على استعادة المشاهد المحذوفة. ربما يكون هذا القصر من الأماكن المحبّذة لكاتب النص ومبدعة. فهو من جهة قد درس في معهد الآثار الملكي، وتخصص في الأوابد الصحراوية، لكنه أصبح ممسوساً في غرام واحدة من المستحمات اللواتي ألهبنَ شهوته ونزوعه الايروسي. الشاعر والرحالة النمساوي راؤول هو الذي نبّه كاتب النص الى أهمية (قصر عمرة) وضرورة زيارته لكونه ينتمي الى العصر الاسلامي الذي كان يحرّم التجسيد، ومع ذلك فان أغلب اللوحات حسيّة، وأن بعضها يصوّر مشاهد الحب والجماع. لم يكن بوسعنا أن نتوقف عند القصص والحكايات الشعرية التي وردت في متن هذا النص لأنها كثيرة ومتنوعة. وسنكتفي بالاشارة الى الواقعة الأخيرة التي سردها أصغر أعضاء الثلة المُطارِدة للغزاة الذين عبروا من الجهة الأخرى من الصحراء حيث قال: إن بعض المُطاردين سقطوا في المعركة، بينما مات البعض الآخر من الظمأ والجوع، أما هو وثلته فقد تاهوا في الصحراء. وبينما هم يحاولون العثور على طريق العودة لاحت لهم من بعيد أطلال عمائر وأبراج وصوامع نحاسية. وحينما وصلوا حملوا معهم كنوزاً ذهبية وفضية وخرائط مرسومة على رقاع الجلد، غير أن أكبرهم مات بالحمّى، وجنّ الثاني وتاه في الصحراء، فيما اختطف الثالث طير كبير، أما أفتاهم سناً، وهو سارد الحكاية بطبيعة الحال، فقد تخلى عن كل الكنوز التي بحوزته، وربط نفسه باحكام على ظهر ناقته، وغادر المدينة الملعونة. وبعد عدة أيام وجد نفسه في مضارب قبيلة أرشدته لاحقاً الى حيث يقيم. وبينما يقرأ كاتب النص تحقيقاً صحفياً عن المدينة الملعونة التي اكتشفها مسبار وكالة (ناسا) الفضائية، يتذكر الخاتم الكبير الذي كان يحركه الرجل العجوز على نحو دائري في اصبعه النحيلة. ربما يتساءل البعض عن جوهر هذا النص المهجّن، وبنيته التحتية المراوغة التي لابد لها أن تقول شيئاً في خاتمة المطاف. وعلى الرغم من أهمية الجانب الموضوعي وسِعته التي غطّت مساحة الصحراء الأردنية، وتجاوزتها الى الجانب المديني، إلا أن الجانب الذاتي هو الأكثر تبلوراً ودلالة، حيث حملَ الابن خصالاً متنوعة من الأبوين. فاذا كانت الأم قد منحته اللغة المجازية المشتقة من الأس البدوي، فان الأب الذي يمتلك (حساسية شاعر)، ذلك الكائن المشوّش، وصاحب التهويمات الضبابية والمزاعم الحلمية التي لم يؤيدها أحد من أفراد محيطه قد منحه الشبه الشكلاني، والقدرة على السَرَحان، والعيش في مكانين مختلفين في آن واحد. لابد من الاشارة الى أن أي نص ابداعي هو تعرية جريئة للذات. وفي هذا النص الجريء فيه من الكشوفات الذاتية ما يضع الكاتب أمام مرآة جلية واضحة لا شروخ فيها، أو حتى خدوش صغيرة، تفسد متعة النظر الى أدق التفاصيل التي يتوفر المبدع أمجد ناصر وهو يجوب متاهته الرملية سواء على أرض الواقع أم في فضاء الحلم.
#عدنان_حسين_أحمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مَنْ لا يعرف ماذا يريد لسميرة المانع . . أنموذج للرواية الوا
...
-
بنية النص الكابوسي. . قراءة نقدية لرواية (وحدَها شجرة الرمّا
...
-
(ليل، وثلج وأوتار) لمحمد توفيق . . قراءة نقدية في ماهيّة الص
...
-
-سيدات زحل- للكاتبة العراقية لطفية الدليمي: سيرة بغداد من ال
...
-
إكليل موسيقى . . لجواد الحطّاب: لغة تحريضيّة وسخرية سوداء وم
...
-
بيلما باش في فيلمها الجديد (زفير). . سويّة فنية وخطاب بصري ر
...
-
شريط (أرواح صامتة) لأليكسي فيدورتشنكو. .تحفة فنية ترصد قصة ح
...
-
في مهرجان أبو ظبي السينمائي الدولي: ثلاثة أفلام إيرانية قصير
...
-
الأمل والانعتاق في (كرنتينة) عدي رشيد. . دراسة نقدية للشخصيا
...
-
(روداج) نضال الدبس. . النبوّ عن الواقع والجنوح الى الخيال. .
...
-
(طيّب، خلّص، يلّلا) لرانيا عطيّة ودانييل غارسيا. . يرصد الشخ
...
-
كيارستمي في فيلمه التجريبي الجديد - شيرين - مُجدِّد لم يكف ع
...
-
على خطى هاينكة سليم إيفجي يعرّي الطبقة الوسطى، وينشر غسيلها
...
-
بلا نقاب: فن جديد قادم من الشرق الأوسط وشمال القارة السمراء
-
يشيم أستا أوغلو و - رحلة الى الشمس -
-
في فيلمه الروائي الجديد - خريف - أوزجان ألبير يرصد قمع المنا
...
-
تشتّت الرؤية الاخراجية لعمرو سلامة: - زي النهاردة - فيلم يتر
...
-
الفيلم الوثائقي- طفل الحرب - لكريم شروبورغ محاولة لنبذ العنف
...
-
فيلم - بورات - للاري تشارلس . . . من السخرية الوثائقية المُر
...
-
أهمية القصة السينمائية في صناعة الفيلم الناجح
المزيد.....
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
-
معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا
...
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
-
مايكروسوفت تطلق تطبيقا جديدا للترجمة الفورية
-
مصر.. اقتحام مكتب المخرج الشهير خالد يوسف ومطالبته بفيلم عن
...
-
محامي -الطلياني- يؤكد القبض عليه في مصر بسبب أفلام إباحية
-
فنان مصري ينفعل على منظمي مهرجان -القاهرة السينمائي- لمنعه م
...
-
ختام فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي بتكريم الأفلام الفلسطي
...
-
القاهرة السينمائي يختتم دورته الـ45.. إليكم الأفلام المتوجة
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|