|
الدكتور صلاح فضل يكتب عن ديوان أحوال الحاكي للسمّاح عبد الله
السمّاح عبد الله
شاعر
(Alsammah Abdollah)
الحوار المتمدن-العدد: 3170 - 2010 / 10 / 30 - 16:12
المحور:
الادب والفن
السمَّاح عبد الله في أحوال الحاكي د. صلاح فضل هذا هو الديوان الخامس للشاعر الأربعيني الصلب السماح عبد الله الأنور وقد فاز عنه بجائزة الدولة التشجيعية للشعر هذا العام وهو يمتاز عن كثير من أبناء جيله الهش بعمق انتمائه المتجذر في التراث الشعري القريب والبعيد وصدق تمثله لأحوال الشعر وإيقاعاته وكثافة وعيه بالحياة عندما تستحيل إلي مأساة وحشية علي اقتصاد بالغ في اللغة وإصابة نافذة لمقاطع القول وشغف شديد بالسرد المتقطع والمتوهج في مضارب الهوي والتحنان.
وقد حدد تجربته في هذا الديوان منذ عنوانه بأنه ثنائيات لا بمعني احتواء مقطوعاته علي بيتين فحسب كما هو شأن الرباعيات والخماسيات وغيرها ولكن بمعني كلي يشطر المقطوعة إلي جملتين متخالفتين في التكوين ومتعادلتين في التقابل الدلالي قد تكون الجملة الأولي وجيزة مركزة والأخري مديدة تنتهي بقافية مماثلة للأولي أو علي عكس هذا الترتيب. لكنه يلتزم في كل بنمط التفعيلة الذي أصبح التيار الرئيسي في الشعر العربي منذ القرن العشرين حيث يقع علي يمينه هامش القصائد العمودية التي تباعدت عن روح العصر وعلي يساره طوفان قصيدة النثر التي فتنت أجيال الشباب من القادرين علي الشعر والعاجزين عنه في اختلاط عشوائي مريب. ولكن السماح عبد الله يرتكز علي عمود التفعيلة الجديد بثقة واطمئنان بل يلجأ بمكر واضح إلي تفعيل بيت من التراث الشعري العباسي لأبي فراس الحمداني بتوزيعه بشكل جديد علي طريقة التفعيلة مثلما يتم توزيع اللحن القديم فيمنح كلماته مجالا حيويا دافقا تزداد به كثافة وشعرية وتأثيرا إذ يصبح البيت التقليدي هكذا في التوزيع المحدث:
وقور وأحداث الزمان تنوشني وللموت حولي جيئة وذهاب .
وكأنه يتخذ من هذا البيت الرزين شعارا لأحواله وعلامة علي انتمائه وتمثيلا لرصانته في مواجهة تقلبات الحياة القاتلة. غير أن قناع الوقار الذي يتلبسه الشاعر في هذا المفتتح لا يلبث أن يشف عن حس مأساوي مضاعف يرد عليه مقطع آخر يورده الشاعر في نهاية الديوان مأخوذ من أمل دنقل في ثنائية كبري تجمع بين القديم والمحدث حيث يقول أمل:
أيها السادة لم يبق اختيار سقط المهر من الإعياء وانحلت سيور العربة. ضاقت الدائرة السوداء حول الرقبة صدرنا يلمسه السيف وفي الظهر الجدار.
وبين هذين القوسين الضاغطين علي وجدان السماح عبد الله تتحرك مقطوعاته الشعرية المزدوجة لتلتقط عبث الحب وتنقر في ملح الأرض وترصد نقوش التاريخ.
شجن الطفولة المعرفي
لنصحبه في أولي قصائده التي تمتاح من بئر الصبا العذب وتتخذ عنوانا لها مثل معظم قصائد الديوان- جملة فعلية طويلة دالة علي حرارة الموقف الشعوري: فالتقطتها بقلب وجيف حيث تتركز الإشارة في المطلع قبل أن يسهب في تفاصيل الذكري البعيدة:
لأين تري ذهبت طفلة المدرسة .... سعاد التي منذ عشرين عاما ، كتبت لها حل ، أسئلة الامتحانات ، في غفلة من عيون المدرس ، فالتقطتها بقلب وجيف ، وكف مخوفةٍ ، وكتبت لها كلمات عن الحب والشوق ، في ظهر كراسة الدين ، كان المدرس يحكي لنا قصة القرشيين ، حين أتوا للنبي ، لكي يقتلوه ، فلم يجدوه ، وكان الذي في السرير ، ابن عم الرسول عليٌّ. ، فطبقت الكلمات العشيقة بين أصابعها ، في حنوٍ ، وفي قلق وأدارت إلي العيون الصغيرة ، وابتسمت ثم أنهي المدرس قصته ، بكلام علي الغار ، والعنكبوت ، إلي أن أتتنا ، مدرسة الهندسة .
الاستفهام الذي بثه الشاعر في البيت الأول المقفي بالسين والتاء المربوطة في كلمة مدرسة ما زال يسري في تجاويف الحكاية كالتيار الطفولي حتي يبرز في نهايتها عند القافية ذاتها هندسة فتسري معه شحنة من شجن الصبا العذب في امتزاج ذكريات حب المراهقة بوجدانيات المعرفة في ثنائية دلالية تجمع بين قداسة السيرة النبوية العطرة وعبير البوح المكتوم بأشواق القلوب التي تتفتح علي وردة الحب البريء في حضرة نماذج الحب والتضحية العظمي في تاريخ الروح.
القصيدة المشهد
ليست القصيدة عند السماح عبد الله عملا عشوائيا يتدفق منهمرا بالمشاعر والأفكار كيفما اتفق بل هي بنية تخييلية محكمة تقدم مشهدا في دراما الحياة الباطنية للمبدع وترسم صورة لتضاريس روحه المفعمة بالوجد والاستيهام. وقد تشف مقطوعة واحدة عن معايشة حميمة وموصولة لثلة من الأسلاف الكبار الذين تحوم أطيافهم علي كلماته مثل قصيدة وجودو تأخر أكثر مما يجب التي تستحضر كلا من كفافي وناظم حكمت وماركيز وجودو والمتنبي والمعري بطريقة مزدحمة لا يطيقها الفضاء الحيوي لنص قصير أو تتريث قصيدة أخري عند مشهد مجازي يعيد بناء جانب من عوالم أحدهم ليملأه بالتأمل الهادئ المبدع مثلما يفعل شاعرنا في مقطوعة وشكل أحبابه في الدخان حيث يقول:
سكت الليل ، وانطفأ الشمعدان . ....... والوحيد ارتدي بزة الوجد منقوشة بالتذكر ، والشوق أشعل تبغته ، وتصدر مائدة للحنين المصفي ، وشكل أحبابه في الدخان ، وقعّدهم في الكراسي ، وحين ابتدا مهرجان الكلام الجماعيّ ، حين علا صوتهم ، وبدا يتوتر ، طالبهم بالتروي ، وقال : علي رسلكم يا صحاب ، هنا الماء ، والخمر ، كلٌ له قسمةٌ من خطا الليل ، من خبزة الوقت ، من مهرجان الحنين ، وتمتم : ، في الغد ، لابد من مقعدين جديدين ، إني أري اثنين لا يجلسان .
ولابد أن يكون القارئ قد شاهد مسرحية الكراسي لصمويل بيكيت أو سمع عنها حتي يتابع لعبة العبث الدرامي في استنطاق الصمت واستحضار الفراغ وصحبة التخيل وهو ينفتح علي عوالم افتراضية مفعمة بالضجيج ومطاردة مفارقات الغياب داخل الغياب في المقاعد المنقوصة حتي يتمثل هذا الوقوف الدخاني للأحباب وهو يمتلئ بشهوة الحضور واقتسام خبز الوقت في ملء الليل الطويل بنشوة المودة الصافية البديلة.
وأنا أتكهل
قد تطول مقطوعات الشاعر كثيرا عن هذا المدي المحدود دون أن تفقد تماسكها وانطلاقا من تلك البنية الثنائية المقصودة لازدواج الصوت. وقد لا يصل القارئ أحيانا كثيرة إلي مرفأ آمن في بحثه عن المعني الأخير للنص مما يدفعه إلي إعمال آليات التأويل ويدعوه إلي إعادة تأمل الصياغات الشعرية دون الاكتفاء بما تطرحه من تكوينات مدهشة علي المستوي اللغوي أو المجازي حتي يتجاوز عتبة الإبهام الدلالي.
ولنقرأ مثالا لذلك مقطوعته الجميلة وأنا أتكهل أي أتحول إلي كهل إذ يقول:
كالسوسنة الفرحانة بين الحسك ، حبيبي .................. يتمشي في آنية الوقت كما شاء له الفرح العريان ، ويقبض من نارنج البهجة ، قبضة كمثري ، أو عنب أو رمان ، ويرش بها صحراء البشريين القاحلة ، يقايض سكته بمواويل الأعراس ، ويزداد صبا ، وأنا أتكهل ، وأراقبه من شباك الحجرة ، حين يمر ، ولا يدري بي .
ومن الواضح أن لغة الشاعر هنا ممسوسة بمسحة من فيض نشيد الإنشاد في العهد القديم في بداية المقطع في التشبيه بالسوسنة وفي تأخير كلمة حبيبي. كما أن مفردات الحسك والرمان والعنب تنتمي إلي هذا المعجم الذي كان شديد الحضور لدي شعراء الجيل الأول التموزيين لكن الشاعر يبتكر للوقت آنية يتمشي فيها الحبيب ويقيم تقابلا طريفا بينه وهو يتكهل مقابل الحبيب الذي يزداد صبا كما يحرص علي القرار الإيقاعي في نهاية المقطوعة ليغلق القوس الموسيقي ويفتح أبواب المقطوعة للتأويل. ويظل بوسع القارئ أن يفيض من ذاته علي معني هذا الحبيب في تجلياته المختلفة دون أن تفقد المقطوعة قدرتها علي الإيحاء المتجدد عند كل قراءة مما يحقق وظيفة الشعر في تعدد المعني وإثارة اللغة بصياغات جديدة إلي جانب تحرير المجاز مما استقر عليه في الضمير الأدبي لتوليد أدوات جديدة قادرة علي تنمية الحس الجمالي والمشاعر الإنسانية لدي القراء.
د . صلاح فضل
#السمّاح_عبد_الله (هاشتاغ)
Alsammah_Abdollah#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عبد المنعم رمضان يكتب عن السمّاح عبد الله
-
قراءة في ديوان - الواحدون - للشاعر السمّاح عبد الله
-
ثلاثون عاما مع مجلة الشعر
-
أَلاَ يَا سَقَى اللهُ تِلْكَ الْأيَّامْ
-
السماح عبد الله ومحاورة المألوف ، د. علي عشري زايد
-
أوراقٌ للنشرِ في هيئةِ الكِتابْ
-
لويس عوض : صورة جانبية
-
مديح العالية
-
الطوافة
-
سَرْدِيَّةٌ أُخْرَى لِلرَّائِيَةْ
-
هواء طازج - 3
-
سلفادور دالي
-
انخطاف
-
ورود يانعة لنا كلنا من رجل واحد
-
انظر وراءك في فرح لتكتب شعرا حقيقيا
-
من أين أقتطع خبزة القصيدة ؟
-
خراب السقيفة
-
فرلين
-
عن مكاوي سعيد
-
تصاوير ليلة الظمأ
المزيد.....
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
-
معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا
...
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
-
مايكروسوفت تطلق تطبيقا جديدا للترجمة الفورية
-
مصر.. اقتحام مكتب المخرج الشهير خالد يوسف ومطالبته بفيلم عن
...
-
محامي -الطلياني- يؤكد القبض عليه في مصر بسبب أفلام إباحية
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|