أبقدر ما هنالك من اوجه افتراق وتناقض فيما بين شخصيتي وسيرتي حياة الأديبين والمثقفين الكبيرين ابراهيم العريض ومحمد مهدي الجواهري بقدر ما يجمعهما من عناصر تشابه موضوعية وان جاءت بمعزل واستقلالية عنهما، سواء بالنظر الى الظروف الزمانية والمكانية والتاريخية المشتركة، أم بالنظر الى المنبت أو الجذور الاجتماعية الدينية المتماثلة أو المتقاربة، أم بالنظر الى ما بلغاه في حياتنا الثقافية والادبية العربية المعاصرة من شموخ في الابداع الفني والعطاء الأدبي والثقافي والفكري:
فأولا: نجد ان العريض والجواهري كلاهما ولدا وتوفيا في زمن واحد متقارب فكلاهما ولدا مع بدايات القرن العشرين وكلاهما توفيا مع عشية وغداة افول هذا القرن، وبهذا فانه ربما لم يقيض لقامتين ادبيتين شامختين ان تكونا شاهدتين على قرن بأكمله كما قيض لهذين الشاعرين العربيين، وهو أخطر قرن حتى الآن في حياة العرب، قرن حافل بالتحولات والاحداث الكبرى على جميع الاصعدة السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية وهو - القرن - يكاد بالمصادفة موضوعيا ان يشكل بحد ذاته حقبة زمنية لها خصائصها وسماتها ومحطاتها المتميزة، ولئن صادف شهر يوليو 2002 ذكرى تأبين العريض فانه يصادف الذكرى الخامسة لرحيل الجواهري. لكن من أسف ان كليهما رحلا عن عالمنا دون ان يتفرغا لكتابة هذه الثروة التاريخية والثقافية العظيمة، واعني بها رواية سيرتيهما الذاتيتين اللتين لو كتبتا لكانتا خير معين للأجيال الحاضرة والمقبلة في الاطلاع على جانب مغيب من مخزون الذاكرة الجمعية وعلى الاخص ما هو مجهول منها قابع في صدور الراحلين، ولكانتا خير معين للملمة أوراق أو شذرات مهمة من تاريخنا الثقافي بحرينيا وعراقيا وعربيا، وان كان الجواهري كما هو معروف شرع في سني حياته الاخيرة في المنفى في كتابة اجزاء من سيرته لكن الموت لم يمهله لاتمامها. ثانيا: من حيث المنشأ الجغرافي والاجتماعي نجد كليهما ينحدران من بلدين عربيين ينتميان الى منطقة جغرافية اقليمية واحدة حيث يجمع ما بين هذين البلدين (البحرين والعراق) الكثير من الخصائص والسمات الاجتماعية والثقافية والدينية المشتركة بما في ذلك التراث والثقافة الشعبية واللهجة، وكلاهما - العريض والجواهري - عاشا ونشآ في ظروف دينية واجتماعية متماثلة لها خصائصها الثقافية الشعبية الدينية المتميزة سواء داخل العراق أم داخل البحرين. ولعل من الجدير ذكره في هذا السياق ان العريض قد ولد لأم عراقية الأصل تنحدر من مدينة كربلاء.
ثالثا: ان هذين العملاقين الكبيرين في ساحتنا الثقافية العربية ظلما وان بدرجات متفاوتة من حيث الحفاوة بهما والاعتراف بهما وتسليط الضوء عليهما في اعمالنا الثقافية والادبية والتعليمية بما يناسب حجم الدور والوزن الكبيرين لكل منهما في حياتنا الثقافية العربية. فباستثناء نخبة متخصصة من المهتمين بأعلام ورموز الادب العربي فان جل الأجيال الشابة والحاضرة تكاد تجهل كليا هذين الاسمين ولعبت الملابسات والظروف الزمانية والمكانية دورا في بخس حق هاتين القامتين، ولك ان تتخيل لو أنهما عاشا في واحدة من العواصم الثقافية العربية الثلاث (القاهرة، دمشق، بيروت) فأية شهرة عربية وحفاوة يتبوآنها فوق ما يحظيان به من شهرة حالية تكاد تقتصر على النخبة. واذا كان كلا الشاعرين قد ظلما بشكل أو بآخر على نحو متفاوت الحجم بطمس وزنهما الحقيقي الكافي في الاعلام العربي وفي الاعمال الثقافية العربية وفي مناهج التعليم فانهما وبسبب داء العصبيات السياسية الفتاكة في عالمنا العربي نالت اعمالهما وسيرتهما الثقافية قدرا من التجهيل او التعالي الجاهل سواء من قبل المؤسسات الرسمية العربية ولاسيما تجاه الجواهري ام من قبل مجاميع من نخبتنا السياسية.
ولئن استيقظ مؤخرا مثقفو اليسار البحريني واعادوا للعريض الاعتبار في سني حياته الاخيرة بعيدا عن ملابسات مواقفه وسيرته السياسية فان الغالبية الساحقة من المثقفين القوميين العرب، ولاسيما البعثيين منهم مازالوا منكفئين وجسين عن شجاعة الاقدام على رد الاعتبار للجواهري ولو بتبيان ما له وما عليه وذلك تحت تأثير نزعة تقديسهم للنموذج العراقي الحالي في السلطة ! واذا كانت ثمة رموز مهمة من مثقفي الاسلام السياسي العراقي قد شذت عن الرموز القومية باحتفائها بالجواهري رغم علمانيته، فان كل مثقفي الاسلام السياسي البحريني تقريبا قد تجاهلت العريض هذه القامة ولو بالاحتفاء بأعماله ذات الطابع الديني !
لعل من الصفات المشتركة التي تجمع ما بين القامتين الثقافيتين الابداعيتين ابراهيم العريض ومحمد مهدي الجواهري في مجال الابداع الشعري انهما عاشا هذه الحقبة المديدة التي قطعت كل عقود القرن العشرين العشرة والتي شهدت تحولات في مناهج الفكر والسياسة، والأدب وبضمنه الشعر بما في ذلك ما طرأ عليه من ولادة مدرسة الشعر الحديث والخروج على شعر القافية العمودي ومع ذلك ظلا وفيين للمدرسة التقليدية التاريخية لهذا الشعر الأخير التي ولدت تقريبا مع ولادة الثقافة العربية منذ ما قبل الاسلام ومازالت لها روّادها ومؤيدوها حتى يومنا هذا، هذا على الرغم مما يعرف عن كليهما من استنارة عقلية وانفتاح كبير على الحداثة وثقافة العصر الانسانية المتمدنة، بل على الرغم من ان منطقتهما وعلى وجه التحديد العراق هي التي شهدت لأول مرة على ايدي بعض روادها في الابداع ولادة الشعر الحديث (نازك الملائكة بالعراق)، وسار على درب هذه المدرسة الغالبية العظمى من شعراء البحرين منذ ستينيات القرن الماضي. وكان المتنبي موضع اعجاب والهام لكليهما.
ومع ان الشاعرين يبدوان للوهلة الأولى انهما يفترقان من حيث التعاطي مع السياسة حيث دخلها الجواهري من أوسع ابوابها منذ نعومة اظفاره واشتغل بها، وهي حاضرة في قلب معظم اعماله الشعرية الابداعية الكبيرة، وقد دفع ثمنا باهظا لهذا الحضور وذلك النشاط سجنا وتغريبا وتهميشا، في حين تعاطى معها العريض بحذر شديد وكان اشبه بالمبتعد عنها في معظم حياته بما في ذلك حتى المحطات التاريخية المفصلية المهمة التي شهدتها بلاده، الا ان السياسة هي حاضرة في قلب العديد من أعماله وبخاصة فيما يتصل منها بقضية العرب المركزية "فلسطين"، علاوة على ذلك فان العريض شاءت له الاقدار وبتشجيع من الدولة ان يتبوأ رئاسة أول مجلس نصفه منتخب لإقرار أول دستور للبحرين، وكان نواب هذا المجلس - المعينون منهم والمنتخبون - يمثلون نخبة من صفوة الكفاءات والكوادر في مجالات السياسة والثقافة والدين والعلوم. وبفضلهم وبفضل ادارته الناجحة للمجلس تم اقرار واحد من ارقى الدساتير الديمقراطية في المنطقة ألا وهو دستور 1973، والغريب ان هذا الدستور الذي اقره ذلك المجلس الذي قاطعته معظم القوى القومية واليسارية هي نفسها التي تتباكى عليه الآن فيما لا يوجد أحد من اعضائه يتباكى عليه الا ما ندر! ولا ننسى ايضا وفي مجال تعاطي العريض مع السياسة انه نزل بعدئذ في انتخابات 1973 النيابية في المنامة لكنه اسقط بفعل النفوذ الطاغي حينئذ لليسار الذي شاركت معظم قواه فيها، وتعويضا عن هذه الهزيمة عينته الدولة سفيرا متجولا عام 1974 ثم سفيرا مفوضا فوق العادة بوزارة الخارجية.
لكن هذا التعاطي المشترك للسياسة وهو تعاط ملتبس ومتباين كما رأينا لا ينفي بالطبع تباينهما في الشريحة الاجتماعية، التي ينتمي كل منهما اليها والتي اثرت بالطبع في شكل وموضوع نتاجاتهما الابداعية ومواقفهما وخياراتهما السياسية التي كانت كما هو معروف على طرفي نقيض. ورغم انفتاح الشاعرين العريض والجواهري على ثقافة عصرهما وتمتعهما بالاستنارة والعقلانية، فإن ذلك لم يمنعهما من احترامهما وتعاطيهما مع ثقافتهما الشعبية الدينية دون تعال، ونستطيع ان نذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر انهما نظما اثنتين من أروع القصائد المعاصرة التي تناولت ملحمة كربلاء واستشهاد الإمام الحسين وهي الملحمة التي ألهمت كليهما واثرت في نفسه ايما تأثير. جاء في قصيدة "شهداء الطف" للعريض: يا سيد البطحاء ما شأنها حتى ثورى في الطف ريحانها وجاء في مطلع قصيدة "آمنت بالحسين" للجواهري: فداء لمثواك من مضجع تنوّر بالايلح الأروع وفي الوقت الذي مازالت أدبيات الثقافة والاسلام الشيعي العراقي تحتفي بهذه القصيدة الدرة للجواهري التي كتبت بالذهب الخالص على الباب الذي يؤدي الى الرواق بالروضة الحسينية بكربلاء فانه حتى أعمال العريض الدينية والقومية مازالت تلقى التجاهل من قبل قوى ورموز الاسلام السياسي الشيعي البحريني.
فلا غرابة اذاً والحال كذلك ان تجمع المؤسسة الرسمية ورموز الشعب بطائفتيه من ساسة وشخصيات مثقفة ومفكرة على الاحتفاء به والعرفان بعطائه الكبير للبحرين والخليج والعرب. ولئن كان من حسن طالع شاعرنا الكبير العريض ان يموت بين اهله ومحبيه ويدفن في أرض بلاده في وقت تزامن مع ذروة الاحتفاء به وتكريمه حيث منحه ملك البحرين قبل شهور من وفاته وسام الشيخ عيسى أمير البلاد الراحل واطلق اسمه على احد شوارع العاصمة، فان الجواهري مات غريبا مغربا في المنفى عن اهله وشعبه وضاقت ارض وطنه عن استضافته ولو في بطن ترابها ! واذا كانت اعادة الاعتبار للجواهري داخل بلاده مرهونة بانبلاج فجرها القريب فان البحرينيين اليوم مطالبون بالمزيد من الخطوات تجاه اعادة الاعتبار والتكريم لشاعرهم العملاق الراحل ابراهيم العريض على جميع المستويات المحلية والخليجية والعربية، وهي اعادة اعتبار احسبها مازالت دون المستوى المطلوب الذي يليق بقامته وحجم عطاءاته.