الماركسية اللينينية الماوية : تقاتل، تصمد و تنتصر 2
خالد المهدي
2010 / 3 / 22 - 14:57
الجزء الأول: الفلسفة
1-2 نظرية المعرفة
كيف يكتسب الانسان المعرفة؟ و كيف يتم انتاجها ؟ و هل هناك معرفة مطلقة ام ان المعرفة نسبية ؟ ان الماركسية ليست هي من طرحت هذه الاسئلة، حيث نجد ان لهذه الاشكالات الفلسفية جذورا تاريخية بعيدة جدا و في خضم تطور البشرية و تطور الانتاج المادي تطورت الاجابات على هذه الاسئلة ، لكن الماركسية تعتبر هي الوحيدة التي قدمت اجابات علمية و صحيحة عن هذه الاسئلة بعدما وصل تطور البشرية الى مستوى من الرقي يسمح بذلك .
يرجع الفضل الى ماركس و رفيقه انجلز في وضع الاسس العملية لنظرية المعرفة حيث قدما البرهان على ان افكار الناس و معارفهم هي نتيجة لمجمل الشروط المادية التي يعيشون داخلها و ينتجون في ظلها وسائل العيش. ان هذه النظرة المادية التي تناول بها ماركس و انجلز مسالة المعرفة قد شكلت بالفعل قفزة هائلة الى الامام في تطور نظرية المعرفة .
هل معارفنا تتسم بطابع الموضوعية ؟ هل تعكس بالفعل حقيقة الواقع الموضوعي ؟ ان الاجابة على هذا السؤال ظلت لفترة طويلة قبل الماركسية ينظر اليها كمسالة نظرية بحثة لكن ماركس في نقده لمادية فيورباخ سوف يعلن ان " مسالة ما اذا كان التفكير الانساني يتسم بحقيقة موضوعية ليس اطلاقا قضية نظرية ، انما هي قضية عملية ففي النشاط العملي ينبغي على الانسان ان يثبت حقيقة تفكيره أي فعاليته و قوته ...
و النقاش حول فعالية او عدم فعالية التفكير المنعزل عن النشاط العملي انما هو قضية سكولاستية بحثة "ماركس .
ان الماركسية هي من ادخلت الممارسة العملية ، النشاط العملي الى قلب نظرية المعرفة بل انها ابرزت ان هذا النشاط العملي هو المسالة الاولى و الاساسية في نظرية المعرفة كلها ، ففي نقده لكانط حول مقولة " الشيء في ذاته" الذي لا يمكن ادراكه كتب انجلز قائلا : " ان اعظم دحض حاسم لهذه الأحابيل الفلسفية و لجميع الأحابيل الاخرى هو العمل و على الاخص التجربة و الصناعة ، فاذا استطعنا ان نبرهن على صحة فهمنا لظاهرة طبيعية بخلق هذه الظاهرة بانفسنا و باحداثها بمساعدة شروطها و باستخدامها ، فوق ذلك ، في سبيل اغراضنا ففي ذلك القضاء المبرم على مقولة كانط بشان " الشيء في ذاته الذي لايمكن ادراكه "1
لقد كانت نظريات ماركس و انجلز مرافقة لثورة هائلة وضخمة على العديد من الاصعدة : في العلوم ، في الصراع الطبقي و في الانتاج و قد جابها المدرسة المثالية و دافعا عن البعد المادي في نظرية المعرفة مطبقين المنهج الديالكتيكي لهيغل بشكل خلاق بعدما اوقفوه على رجليه .
لكن هذا المنهج الديالكتيكي لا يعترف بشيء مطلق جاهز و أزلي انه يرى الانهيار في كل شيء ، و لا يعترف سوى بهذا الانتقال الدائم من القديم الى الى الجديد . اذن كيف يمكن لهذا المنهج ان يعترف بالحقيقة المطلقة الموضوعية كيف يمكن لنا اذن ان نحسم ان معرفتنا بهذا الشيء هي معرفة صحيحة ؟
ان هذا السؤال سوف يطرح بحدة بعد ماركس و انجلز . خصوصا بعد فشل ثورة 1905/1907 الروسية و سيادة التفكير المثالي و الديني حتى داخل بعض الماركسيين .
و بالرغم من اننا نجد الاجابة عن هذا السؤال لدى انجلز في نقده لدوهرينغ فان مجريات الصراع الطبقي و الفشل الذي منيت به الثورة سوف يطرح من جديد . ففي التمييز بين الحقيقة و الخطأ يكتب انجلز قائلا : " ان اهمية الحقيقة و الخطأ ، شأنهما شأن جميع المقولات المنطقية المتحركة ضمن حدود التضاد ، لا يتسمان بأهمية مطلقة الا ضمن حدود ميدان خارق ضيق . و ما أن نشرع في استعمال تضاد الحقيقة و الخطأ خارج حدود الميدان الضيق المذكور اعلاه حتى يصبح التضاد نسبيا ، و بالتالي غير صالح للاسلوب العلمي الدقيق للتعبير . اما إذا حاولنا ان نستعمل هذا التضاد خارج حدود الميدان المذكور بوصفه تضادا مطلقا ، فاننا نمنى بالاخفاق كليا .فإن حدي التضاد يتحول كل منهما الى ضده اي ان الحقيقة تصبح خطأ و يصبح الخطأ حقيقة " 2.
لينين في نقده للماخيين الروس يعلق على ما كتبه انجلز قائلا :
" و هكذا يستطيع التفكير البشري بحكم طبيعته ان يعطينا و هو يعطينا الحقيقة المطلقة التي تتكون من مجمل الحقائق النسبية ، و كل درجة في تطور العلم تضيف ذرات جديدة الى مجمل الحقيقة المطلقة هذا ، و لكن حدود حقيقة كل موضوعة علمية هي حدود نسبية لانها تتسع تارة و تضيق طورا من جراء نمو المعرفة اللاحق "3 .
ان هذه النظرة التي طورتها الماركسية و اللينينية حول مجمل اشكالات نظرية المعرفة تنطبق ايضا على الماركسية نفسها بوصفها نظرية البروليتاريا و فكرها ، فهي الاخرى تتطور من جراء و تبعا لتطور الممارسة الاجتماعية .
ان اللينينية نفسها إذا أخذت من هذه الزاوية ، هي تطوير و تدقيق للعديد من الحقائق التي ابرزتها الماركسية و كشف بعض الحقائق التي انتجها تطور الانتاج الراسمالي و تطور الصراع الطبقي و العلم . ان لينين في دفاعه و تطويره الماركسية في نظرية المعرفة اكد " ان الديالكتيك المادي لماركس و انجلز ينطوي بلا ريب على النسبية و لكنه لا ينحصر فيها أي انه يعترف بنسبية جميع معارفنا ، لا بمعنى انكار الحقيقة الموضوعية ، بل بمعنى الشرطية التاريخية لمدى اقتراب معارفنا من هذه الحقيقة "4
ان هذا الكلام الصادر عن لينين لا ينطبق على " صنف" معين من المعارف بل على كل معرفة بما فيها الماركسية نفسها .اي مجمل الحقائق التي اكشفتها الماركسية ، حيث ان هذه الحقائق نفسها تخضع للشرطية التاريخية أي انها صحيحة داخل شروط تاريخية معينة و هنا طبعا نحن نتحدث عن درجة حقيقة معرفة الماركسية بالواقع الموضوعي .
إن إحدى المآثر العظمى لماركس و انجلز ليس انهم كشفوا الحقيقة ( فهما لم يقولا ذلك و لم يكن بوسعهما ذلك اساسا ) بل انهما صاغا المنهج العلمي الوحيد الذي يمكننا من الاقتراب من الحقيقة الموضوعية اكثر فاكثر .
لينين يقول في هذا الصدد عند نقده للماخيين : " ان الاستنتاج الوحيد من ذلك الرأي الذي يشاطره الماركسيون و الذي يقول ان نظرية ماركس هي حقيقة موضوعية ، يتلخص فيما يلي : بالسير على طريق النظرية الماركسية ، سنقترب اكثر فاكثر من الحقيقة الموضوعية ( دون ان نستنفذها أبدا ) " 5
ان هذا الكلام الواضح للينين هو على النقيض تماما من تلك الادعاءات الصبيانية التي تصدر عن بعض المناضلين " اللينينيين" الذين يصرخون بان الماركسية اللينينية قد اجابت على كل شيء و لا يكفي سوى استيعابها و تطبيقها ، فهي لا تحتاج الى تطور لقد وصلت الى الحقيقة الموضوعية "كلها ".ان هذا الكلام الذي بينا في الماركسية هو مثالي في شكله و مضمونه و يردد نفس الاخطاء المثالية لهيغل حول " الفكرة المطلقة " و طبعا اصحابه لن يكونوا احسن من سابقيهم .
ان ماو قد اكد على نفس فكرة لينين عند مجابهته للدغمائيين اصحاب الجمود العقائدي و الذاتيين حين كتب في مؤلفه في الممارسة العملية :
" ان الماركسية اللينينية لم تختم الحقيقة ، بل إنها تشق دون توقف الطريق لمعرفة الحقيقة خلال الممارسة العملية " 6.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه بالحاح هنا ، هل المعرفة التي نكتسبها هي معرفة صحيحة هل تعكس بالفعل الحقيقة الموضوعية الى هذا الحد أو ذاك ؟ ما هو مقياس موضوعية و حقيقة و صحة معارفنا ؟
ان الماركسية قد اجابت عن هذا السؤال في نضالها ضد كافة المدارس التي سبقتها انه مقياس النشاط العملي و هكذا تكون الماركسية بإدخالها لمقياس الواقع العملي و الممارسة العملية في قلب نظرية المعرفة قد أحدثت ثورة على هذا الصعيد .ادخال عنصر النشاط العملي في نظرية المعرفة يعكس بكل تأكيد الطابع المادي لنظرية ماركس و انجلز . ان ما يحدد صحة افكارنا او عدم صحتها انما هو الممارسة العملية و هكذا يردد لينين ضد اللاعرفانيين " بنظر المادي يثبت " نجاح "الواقع العملي البشري تطابق تصوراتنا مع الطبيعة الموضوعية للاشياء التي ندركها "7.
بالنسبة للينين دائما : " يقول الماركسي : اذا ادرجنا مقياس الواقع العملي في اساس نظرية المعرفة فاننا نحصل على المادية " 8.
و هكذا فان ما يثبت صحة معرفتنا انما هو الممارسة العملية هو النشاط العملي الملموس ، و ليس البرهنة المنطقية و العقلية المفصولة عن الواقع .
" يعتبر الماركسيون ان الممارسة العملية التي يباشرها الانسان في المجتمع هي وحدها المقياس الذي يختبر به ما إذا كانت معرفة الانسان لا تثبت صحتها إلا عندما يتوصل من خلال ممارسته العملية الاجتماعية ( خلال الانتاج المادي و الصراع الطبقي و التجربة العلمية ) الى احراز النتائج المنشودة" 9.
ان ماو هنا يؤكد مقولات انجلز و لينين لكنه في نفس الوقت يكشف الجواب عن سؤال من اين تاتي و تتطور المعرفة . ان ماو هنا لم يقف عند حدود القول بالنشاط العملي و الممارسة العملية بل انه حدد المجالات الثلاث التي " تخلق "المعرفة و تطورها : (1) الانتاج المادي .(2) الصراع الطبقي .(3) التجربة العلمية .
بالنسبة للماركسيين نقطة الانطلاق في تكون المعرفة ليس هي العقل و الفكر و انما الواقع و النشاط العملي ، فبالنسبة للينين " الممارسة العملية اعلى من المعرفة ( النظرية ) لانها لا تمتاز بصفة الشمول فحسب ، بل تمتاز كذلك بصفة الواقع المباشر " 10 .
كذلك يؤكد دائما لينين : " يجب ان تكون وجهة نظر الحياة ، وجهة نظر الواقع العملي . وجهة النظر الاولى و الاساسية في نظرية المعرفة " 11 .
إن هذا التصور المادي لنظرية المعرفة يوصلنا الى خلاصة اساسية هي حزبية العلم و حزبية الماركسية نفسها ، لا توجد هناك افكار مجردة ان كل فكر و كل معرفة تعبر عن مصلحة طبقية محددة و تعكس الى هذا الحد أو ذاك مصالح طبقية معينة .
بالنسبة للينين " ان العلم لا حزبي في نضال المادية ضد المثالية والدين .و هذه هي الفكرة المفضلة لا عند ماخ وحده ، بل ايضا عند جميع البروفسورات البرجوازيين المعاصرين " 12 .
لذلك بالضبط نجد ماو يؤكد " ان للمادية الديالكتيكية – الفلسفة الماركسية ميزتين بارزتين : أولاهما صفتها الطبقية ، فهي تعلن بصراحة ان المادية الديالكتيكية هي في خدمة البروليتاريا ، و الثانية صفتها العلمية ، فهي تؤكد على تبعية النظرية للممارسة العملية ثم تعود لخدمة الممارسة العملية "13 .
لكن كيف تتم هذه العملية ، كيف تنشأ المعرفة عن طريق الممارسة العملية و تعود لتخدم الممارسة العملية مجددا ؟ هكذا يطرح الرفيق ماو السؤال . لكن قبل الاجابة عن هذا السؤال لابد من وضعه في سياقه التاريخي .
ان لينين قد اشار في تطويره لنظرية المعرفة ابان نقده لللاعرفانيين انه " في نظرية المعرفة ، كما في جميع ميادين العلم الاخرى ، تجب المحاكمة بصورة ديالكتيكية " و في نقده لبليخانوف بعد ذلك في مقاله حول الديالكتيك الذي عمق من خلاله فهم الماركسية لقوانين الجدل كتب يقول :
" ان الديالكتيك هو حقا نظرية المعرفة ( عند هيغل و ) عند الماركسيين . ان هذا "الجانب " من الامر( و هو ليس " جانبا "انما هو جوهر الامر ) قد اهمله بليخانوف ، فضلا عن الماركسيين الآخرين " 14 .
ان إثبات صحة هذا الجانب و تقديم البرهان عليه سوف يقوم به الرفيق ماوتسي تونغ في خضم صراعه ضد الدغمائية و الجمود العقائدي الذي برز داخل الحزب الشيوعي الصيني .
لقد اوضحنا في الدراسة الاولى حول الديالكتيك قانون وحدة و صراع الاضداد باعتباره يشكل جوهر الديالكتيك و باستحضارنا لهذا البعد في نظرية المعرفة يطرح السؤال عن خاصية التناقض.
ان للتناقض صفته العمومية أي انه موجود في كل عملية تطور الاشياء من البداية حتى النهاية ،و هذا يعني ان عملية نشوء و تطور المعرفة هي ايضا محكومة بقانون التناقض . لكن التناقض له ايضا طابعه الخاص ،
" ان كل شكل من اشكال الحركة يحتوي في ذاته على تناقضه الخاص . و هذا التناقض الخاص يشكل الجوهر الخاص الذي يميز الشيء عن الاشياء الاخرى ".
اذا ما هو الشكل الخاص الذي يظهر به التناقض في تطور المعرفة ؟ انه التناقض بين النظرية و الممارسة العملية . انهما يشكلان طرفا التناقض . الوحدة بين النظرية و الممارسة و الصراع بينهما . انه الشكل الخاص لقانون وحدة و صراع الاضداد في صيرورة تطور المعرفة .
إذن كيف يدخل هذان الضدان في وحدة بينهما ، و كيف يصارع كل طرف الآخر و يعتمد عليه في نفس الوقت ؟
ماو يحدد ثلاث مراحل في صيرورة تكون المعرفة و تطورها .
المرحلة الاولى هي مرحلة المعرفة الحسية و تتكون هذه المعرفة لدى الانسان في احتكاكه الاولي بالشيء ، ان هذه المعرفة التي يسميها ماو بالمعرفة الحسية تنطلق من الممارسة العملية و من النشاط العملي و لا تعبر الا عن ظواهر الاشياء و علاقاتها الخارجية .
" ان الانسان لا يرى في بداية عملية الممارسة العملية سوى ظواهر الاشياء و جزئياتها و الروابط الخارجية التي تربطها " 15
و هذه المرحلة هي مرحلة الاحساسات و الانطباعات . أي ان الاشياء تترك آثارا في حواس الناس و "تثير أحاسيسهم و تترك في أذهانهم انطباعات عديدة و صور عامة عن الروابط الخارجية "16
ان هذا التحديد الذي قدمه لنا ماو حول المرحلة الاولى لتكون المعرفة و انطلاقها من الممارسة العملية هو استحضار قوي لمفهوم المادة الذي طوره لينين " ان المادة مقولة فلسفية للاشارة الى الواقع الموضوعي الذي يعطى للانسان في احساساته ، و الذي تستنسخه ، تصوره ، تعكسه احساساتنا . و هو موجود بصورة مستقلة عنها " 17 .
المرحلة الثانية في تكون المعرفة هي المرحلة العقلية و هذه المرحلة ترتكز على المرحلة الاولى و تنطلق منها ، فبتكرار المرحلة الاولى أي الممارسة العملية و اخضاع الافكار و الاحاسيس التي تركتها فينا علاقتنا بالشيء للدراسة و التحليل يتوصل الانسان الى المعرفة العقلية او المنطقية التي تتميز بادراك جوهر الاشياء و علاقاتها الباطنية " و باستمرار الممارسة العملية الاجتماعية ، تتكرر مرارا الاشياء التي تترك احاسيس و انطباعات في حواس الانسان في مجرى ممارسته العملية ، و عندئذ يحدث في ذهن الانسان تبدل مفاجئ ( قفزة ) في عملية المعرفة و تتكون المفاهيم " 18.
" ان المفهوم و الاحساس لا يختلفان كميا فحسب بل كيفيا ايضا " 19
ان هذه المرحلة الثانية من تكون المعرفة أي مرحلة المعرفة العقلية تتأسس على التراكم ، تراكم المعرفة الحسية من جهة و على الدراسة المنطقية و العقلية لمختلف الاحساسات التي تركها الواقع الموضوعي فينا.
بالنسبة لماو فالاحساس لا يحل سوى مسالة الظواهر ، و النظرية وحدها تستطيع حل مسالة الجوهر ، لكن في نفس الوقت " ان هاتين المسالتين لا يمكن حلهما باي حال من الاحوال بمعزل عن الممارسة العملية .فاذا اراد أي شخص ان يفهم أي شيء من الاشياء ، فليس له من سبيل الى ذلك سوى الاحتكاك بهذا الشيء ،أي العيش ( الممارسة العملية ) في محيطه " 20.
من هنا نستنتج مجموعة من الخلاصات الاساسية :
1- ان معرفة الانسان هي مشروطة بالظروف التاريخية التي يكتسب فيها هذه المعرفة . فمثلا لم يكن بامكان أي مفكر في عصر الاقطاع ان يدرك قوانين الراسمالية ، فهي لم تكن قد ظهرت بعد . كما هو الشأن بالنسبة لماركس ، فهو لم يكن في مقدوره اطلاقا ان يدرك بعض القوانين المحددة للامبريالية لانه عاش في مرحلة المنافسة الحرة . نفس الشيء يمكن قوله عن قوانين المجتمع الاشتراكي فلم يكن بوسع لينين ان يدرك كل قوانينه (*) لانه لم يعش سوى فترة ضئيلة جدا في ظله ،و هذه الفترة القصيرة جدا من الناحية التاريخية هي اولا لم تسمح بتكرار و تراكم الظواهر الحسية التي تشكل شرط و اساس تطور المعرفة النظرية . يقول لينين حول نظرية المعرفة " جميع المعارف تنشأ من التجربة ، من الاحساسات ، من المدركات هكذا هو الحال "21.
ثانيا ان بناء الاشتراكية بعد ثورة اكتوبر شكل اول تجربة في التاريخ البشري و هو الشيء الذي يبرر صعوبة ادراك قوانينها دفعة واحدة .
و على خلاف بعض" الماركسيين اللينينيين " الذين يعتقدون ان اللينينية قد اجابت على كافة قوانين المجتمع الاشتراكي فاننا نحن الماركسيون اللينينيون الماويون نردد مع انجلز قوله "ان ما يسمى " المجتمع الاشتراكي " ليس ، حسبما اعتقد ، شيئا ما اعطي مرة واحدة و الى الابد ، بل ينبغي اعتباره مثله مثل كل نظام اجتماعي آخر قابلا لتغيرات و تحولات دائمة "22.
إن اصحاب مقولة " ان الماركسية اللينينية هي ماركسية العصر الامبريالي و سوف تبقى مادامت الامبريالية قائمة " لا يستطيعون ادراك هذه الحقائق و يقفون هنا موقف اصحاب الجمود العقائدي و يميلون الى المثالية اكثر منها الى المادية . و على كل حال سوف نعود الى هذا الموضوع عندما نتطرق الى اضافات الماوية في الاشتراكية العلمية .
2 – الخلاصة الثانية التي يمكننا استنتاجها ايضا من كلام ماو السابق ، هي ارتباط المعرفة العقلية نفسها أي ارتباط الوعي بالنشاط العملي و بالممارسة العملية .
فلا يمكن ان نفهم جوهر الشيء الا بالعيش في محيطه و الاحتكاك به بشكل مادي و ملموس . مثلا معرفة شخص معين لم تسنح له الفرصة للذهاب الى البحر بالامواج . ان مثل هذا الشخص يستطيع ان يحدثنا عن البحر و عن الاسماك و عن الأمواج و عن الرمال و الصخور البحرية ...الخ انطلاقا مثلا مما قرأه عن الموضوع او انطلاقا من ما سمعه او شاهده على التلفاز و هكذا فبالرغم من انه لم يذهب يوما ما في حياته الى البحر ، لديه معرفة بهذا الاخير .
ان هذه المعرفة هي ما اسماها ماو بالمعرفة غير المباشرة أي المعرفة التي تنقل عبر اشخاص آخرين و عبر أجيال آخرين لكن رغم ذلك فان هذه المعرفة ذاتها هي ناتجة عن الممارسة العملية للاشخاص الذين عرفوا البحر و الامواج ...الخ .بمعنى آخر ان المعرفة المباشرة او المعرفة غير المباشرة كلاهما يتكون انطلاقا من النشاط العملي الحي . " و هكذا فان معرفة الانسان لا تعدو هذين القسمين : التجربة المباشرة و التجربة غير المباشرة . و فضلا عن ذلك فان ما هو تجربة غير مباشرة عند شخص معين هو عند غيره تجربة مباشرة . و هكذا فان المعرفة من أي نوع كانت ، اذا اعتبرنا المعرفة ككل ، لا يمكن ان تنفصل عن التجربة المباشرة " 23.
لكن هل يمكن ان تكون معرفة المرء عن البحر بالرغم من انه لم يحتك به اطلاقا معرفة صحيحة .نعم يمكن ان تكون معرفة حقيقية اذا كانت الكتب التي تعرف من خلالها على البحر تحمل معرفة حقيقية و صحيحة . لكن و مع ذلك فان معرفته تظل معرفة مجردة غير ملموسة ، و إذا ما سألنا صيادا في البحر او غواصا فربما نجد لديه معرفة ادق بالامواج و حركة المد و الجزر و الاسماك ...الخ .و لكي تصبح المعرفة ملموسة و يصبح الوعي وعيا ملموسا لا بد من الاشتراك في التجربة المباشرة .
لنأخذ مثالا آخر مثال المعرفة بقوانين بناء الحزب الثوري ، العديد من الماركسيين عندنا بالمغرب اذا سالتهم عن الحزب الثوري فسوف يتكلمون بدون انقطاع و نجد ان معرفتهم مستقاة من ما صاغه ماركس و لينين و غيرهم من الماركسيين حول مسالة الحزب ، لكن ما صاغه هؤلاء العظماء من قوانين و موضوعات و توجيهات كانت عبر التجربة المباشرة و عبر الممارسة العملية الهادفة الى بناء الحزب و تطويره ، موضوعات لينين حول الحزب لم يستقيها من الكتب او من الكتب اساسا ( كتب ماركس ، انجلز ..) بل من الممارسة العملية من النشاط المباشر في بناء الحزب .
لكن هل بالفعل ان المعرفة التي نجدها عن كل من يتحدث عن الحزب هي معرفة صحيحة حقيقية ؟ و هل هذه المعرفة هي معرفة ملموسة ام مجردة .
هناك طبعا العديد من "الماركسيين "الذين يتحدثون عن الحزب الثوري من خلال مؤلفات لينين و ماركس...الخ لكن معرفتهم تلك هي معرفة خاطئة اذ يربط مثلا بعضهم بناء الحزب انطلاقا من النضال داخل الاطارات الجماهيرية او يهملون مثلا النضال الفكري و يعتبرونه " ترف مثقفين " ...الخ . ان هؤلاء بالرغم من انهم قرؤوا ماركس و لينين ...الخ فانهم لم يستطيعوا ادراك ما قاله هؤلاء المفكرين .
و هناك ايضا بعض المناضلين (ات) الذين لديهم معرفة بعملية تشكل و تطور الحزب الثوري ، معرفة أخذوها من كتب الماركسيين الكبار لكن معرفتهم تلك تظل مع ذلك ، حتى و ان استوعبوا ما قاله هؤلاء المفكرين ، معرفة مجردة ، بل يمكن القول خصوصا في هذا الموضوع ، معرفة ناقصة و ناقصة جدا و من اجل استيعاب اطروحات ماركس و لينين و ماو حول بناء الحزب لا يجب دراسة تلك الموضوعات و حسب بل يجب الانتقال الى الممارسة العملية أي يجب التقدم العملي في بناء الحزب ، ففي هذه العملية المباشرة تتحول اولا المعرفة المجردة الى معرفة مباشرة و تتطور هذه المعرفة و تنضج .ان معرفة عملية بناء الحزب و تطوره بل حتى معرفة الاشكالات الحقيقية لهذه العملية لا يمكن ان نصل اليها الا بالتقدم العملي لانجاز هذه المهمة بالذات أي بناء الحزب نفسه .
لكن ماو في تحديده لصيرورة تطور المعرفة لا يقف في حدود المعرفة العقلية او النظرية بل هناك ايضا مرحلة ثالثة و هي مرحلة حاسمة انها مرحلة الانتقال من المعرفة الى الممارسة العملية من جديد .
المرحلة الثالثة : الانتقال من المعرفة العقلية الى الممارسة العملية .
" ان الدور الفعال للمعرفة لا يتجلى في القفزة الفعالة من المعرفة الحسية الى المعرفة العقلية فحسب ، بل ينبغي ان يتجلى ايضا – و هذه اكثر اهمية – في القفزة من المعرفة العقلية الى الممارسة العملية الثورية"24.
ان هذه القفزة من جديد الى الممارسة العملية هي شرط ضروري لإتمام عملية تكون المعرفة العلمية .
اولا انها ضرورية لان معيار صحة معرفتنا العقلية ليس سوى شيء آخر غير الممارسة العملية و النشاط العملي المباشر . ان مسالة ما اذا كانت نظرية ما منطبقة مع الحقائق الموضوعية ام لا ، لم تحل تماما ، و لا يمكن ان تحل تماما ، اثناء تطور المعرفة من المرحلة الحسية الى المرحلة العقلية التي تحدثنا عنها آنفا.
و الطريقة الوحيدة لحل هذه المسالة هي اعادة المعرفة العقلية الى الممارسة العملية الاجتماعية ، و تطبيق النظرية على الممارسة العملية ، لمعرفة ما اذا كانت هذه النظرية توصلنا الى الهدف المنشود " 25.
و هكذا تتكون المعرفة العلمية انطلاق من التجربة العملية ، ان الماركسية اللينينية الماوية هي نظرية علمية و تعكس الى حد كبير الحقيقة الموضوعية ( دون طبعا ان تستنفذها ) و علمية هذه النظرية لا تستمد من النظرية في حد ذاتها بل من النتائج التي تم التوصل اليها عبر الممارسة الثورية إبان النضال الثوري الذي خاضه الشيوعيين ببلدانهم و على الصعيد الاممي ، نجاح الثورة البلشفية يؤكد ذلك ، نجاح الثورة الصينية يؤكد هو الآخر ذلك.
لكن ماذا يعني فشل الثورة و المشروع البروليتاري بكل من روسيا بعد وفاة ستالين و بالصين بعد وفاة ماو ؟
ان معنى ذلك هو معنى مزدوج .
أولا لانه يدل على ان هذه المرحلة الثالثة من المعرفة لا تختم عملية تكون المعرفة بشكل نهائي . فعند الانتقال من المعرفة العقلية الى الممارسة العملية غالبا ما تظهر شروط جديدة و وقائع لم تأخذ و لم يكن من الممكن ان تأخذ بالحسبان ابان مرحلة تكوين المعرفة العقلية .
فنادرا ما" تتحقق الافكار و النظريات و الخطط و المشاريع التي صاغها الناس سلفا ، دون ادنى تغيير ، سواء اكان ذلك عند الممارسة العملية الرامية الى تغيير الطبيعة ام تغيير المجتمع " (26) .لماذا ؟ " لان الذين يباشرون تغيير الواقع يخضعون لكثير من القيود فهم مقيدون عادة لا بالامكانيات العلمية و التكنيكية فحسب ، بل مقيدون كذلك بدرجة تطور العملية الموضوعية و انكشافها ( أي ان اوجه العملية الموضوعية و جوهرها لم تكشف بعد بصورة تامة ) 27 .
و هكذا ، و في مثل هذه الحالات لابد من الرجوع من الممارسة العلمية الى المعرفة و تعديل الافكار و الخطط و المشاريع تعديلا جزئيا او كليا في بعض الحالات ، أي الرجوع الى المعرفة من اجل طرح ما ظهر خاطئا و اغناء النظرية بالجوانب الأخرى التي لم تؤخذ بعين الاعتبار قبلا .
و هكذا تتطور المعرفة الى مرحلة اعلى ، ان هذه العودة من الممارسة العملية الى المعرفة تتم ليس عبر الرجوع الى الوراء بل بالتقدم نحو الامام ، فبعد ان تغتني النظرية و المعرفة يتم مجددا العودة الى الممارسة العلمية لكن ليست بالمعرفة النظرية السابقة بل بعد اغناء هذه المعرفة و تطويرها ، ان هذا الخط في تطور عملية تشكل و تطور المعرفة هو خط حلزوني.
" ان الماركسيين يعترفون بان تطور كل عملية محددة ضمن نطاق عملية التطور العام المطلق هو تطور نسبي ،و لهذا فان معرفة الناس بكل عملية محددة اثناء مرحلة معينة من التطور لا يمكن ان تكون سوى حقيقة نسبية في مجرى الحقيقة المطلقة اللامحدود " 28.
ثانيا . ان تطور حركة المعرفة البشرية مرتبط بتطور العملية الموضوعية أي بتطور الواقع الملموس ،" ان شجرة الحياة خضراء في حين ان النظرية رمادية اللون " و هذا يعني ان المعرفة التي يكتسبها الانسان هي معرفة مرتبطة بالواقع الملموس الذي أنتجت فيه ، في حين ان هذا الواقع الملموس ليس واقعا جامدا بل واقعا حيا ، واقعا مليء بالمتناقضات التي قد تدفع العملية الموضوعية أي تدفع الواقع المادي الى الامام فاذا لم نستطع تطوير معرفتنا وفقا لتطورات الواقع الموضوعي فان معرفتنا به تظل في مرحلتها القديمة و نسقط في شتى الوان الانتهازية و هذا هو حال اولئك الذين ينفصل تفكيرهم عن الممارسة العملية الاجتماعية من اصحاب الجمود العقائدي و القوالب الجامدة .
و هو حال بعض المناضلين عندنا اليوم الذين لا يزالون يعتقدون بامكانية تجميع الماركسيين المغاربة على ارضية مجموعة من الشعارات العامة و لم يدركوا بعد ما تحقق في الواقع من نضج وسط الحركة الشيوعية ببلادنا .
و هو ايضا حال بعض التحريفيين الذين يبشرون بالتخلي عن لينين لان التجربة العملية ( هزيمة ديكتاتورية البروليتاريا بالاتحاد السوفياتي ) تثبت ذلك . هكذا مثلا طرح مصطفى البراهمة السؤال حول اللينينية و هو في حقيقة الامر لا يفعل شيئا سوى ابراز الجوانب الانتهازية التي وضعها ابراهام السرفاتي حول لينين و حول نظرية الحزب اللينيني **.
و على كل حال فان " جميع الحركات الديالكتيكية في العالم الموضوعي يمكن ان تنعكس عاجلا ام آجلا في المعرفة البشرية . و نظرا لان عملية النشوء و التطور و الفناء في الممارسة العملية الاجتماعية هي عملية لا متناهية ، فان عملية النشوء و التطور و الفناء في المعرفة البشرية هي ايضا كذلك ،و بما ان الممارسة العملية التي يقوم بها بعض الناس لتغيير الواقع الموضوعي وفقا لافكار و نظريات وخطط و مشاريع معينة هي في تقدم مستمر ، فان معرفتهم بالواقع الموضوعي تتعمق كذلك اكثر فاكثر . و نظرا لان حركة التغيير في عالم الواقع الموضوعي لا تنتهي ابدا ، فان المعرفة التي يكتسبها الناس عن الحقيقة خلال ممارستهم العملية لا تنتهي ابدا كذلك ."29
و هكذا ففي هذه المرحلة الثالثة من تكون المعرفة ، يبرز دائما التناقض بين المعرفة النظرية التي ننطلق منها لتغيير الواقع ( سواء الطبيعة او المجتمع ) و بين الممارسة العملية المحكومة بشروط هذا الواقع نفسه ، ان هذا التناقض و الصراع بن الضدين ( نظرية – ممارسة ) هو الذي يدفع المعرفة الى التطور لكن ليس في خط مستقيم بل عبر سلسلة من التطورات ، من الاخفاقات و الانتصارات . و مع كل اخفاق تتم العودة الى المرحلة الثانية و خلال هذه المرحلة ايضا يشكل التناقض جوهر عملية تطور المعرفة عبر الصراع بين الافكار و النظريات التي تقدم الاجابة عن اسباب الفشل و سبل تجاوزه ، فإذا اخذنا مثلا الخط الفكري و السياسي لحزب ثوري ، فان تشكله لا يتم دفعة واحدة و لا يمكن ان يتشكل على ضوء ما قاله الماركسيون السابقون و فقط بل انه يتشكل و يتطور عبر الصراع و عبر التناقض الذي يحكم تطور اية صيرورة و منها صيروة تطور المعرفة ، فهذا الحزب بعد ان يحدد خطه الفكري و السياسي و يصيغه في شكل برنامج ثوري تصبح الممارسة العملية هي الطرف الرئيسي في التناقض بينها و بين النظرية أي يصبح التطبيق هو المحدد في تطور خط الحزب ، لكن بمجرد ان يمنى هذا الحزب بالاخفاق إلا و يصبح السؤال حول تفسير اسباب الاخفاق و شروطه ...الخ ، ذو ملحاحية كبيرة وتصبح الاجابة على هذا السؤال هي المحدد في تطوير خط الحزب و ممارسته الثورية أي ان النظرية تصبح تحتل مركز الطرف الرئيسي وسط هذا التناقض . فتطور خط الحزب و ممارسته يصبح رهين بمدى تقديم الاجابة السديدة على سؤال الفشل .في هذه المرحلة و هي مرحلة العودة من الممارسة الى النظرية ، يشكل الصراع بين الافكار و التصورات في صفوف الحزب هو التناقض الرئيسي في صيرورة تطور خط الحزب و ممارسته الثورية . ان هذا الصراع ليس مستحبا بل انه ضرورة موضوعية مستقلة عن ارادة المناضلين( ات ) و رغباتهم فهو يعكس من الناحية المادية الموضوعية انعكاس العملية الموضوعية في ذهن المناضلين (ات) و بما ان العملية الموضوعية هي محدد في آخر التحليل بصراع الطبقات فان مواقف هذه الطبقات و مصالحها تنعكس في شكل افكار لدى مناضلي الحزب و قيادييه .
ان هذا المضمون هو الذي عبر عنه ماو كما اشرنا سابقا بصراع الخطين ، فعبر هذا الصراع و بالوعي به و قيادته بشكل صحيح يتم تطوير الخط الفكري و السياسي للحزب الثوري .
" ان تضاد الافكار المختلفة و الصراع بينهما في صفوف الحزب ينشأ على الدوام ،و هو انعكاس داخل الحزب للتناقضات بين الطبقات و التناقضات بين القديم و الجديد في المجتمع ، و لا شك ان حياة الحزب ستتوقف إذا خلا من التناقضات و من الصراع الإيديولوجي من اجل حل هذه التناقضات "30.
ان حصيلة هذا الصراع الفكري داخل الحزب تكون ليس الاجابة و فقط على سؤال لماذا الفشل ؟ بل غالبا ما تؤدي الى ابراز العديد من الافكار الاخرى الصحيحة و الخاطئة و على قضايا في غاية التنوع بالرغم من انها انطلقت من سؤال محدد . و هنا ايضا يتحقق مبدأ و قانون الواحد ينقسم الى اثنان ، و بعد الوصول الى خلاصة حول اسباب الفشل ...الخ ، تتم صياغتها في خطط و برامج لتعود مجددا الى الممارسة العملية لكن في هاته المرحلة تتم العودة الى الممارسة و قد نضج خط الحزب و تطور و تستمر هذه العملية الى ما لا نهاية .
ماو يلخص هنا رؤية البروليتاريا لنظرية المعرفة على الشكل التالي : " اكتشاف الحقيقة عن طريق الممارسة العملية ، و إثبات و تطوير الحقيقة عن طريق الممارسة العملية مرة ثانية ، الانطلاق من المعرفة الحسية و تطويرها بصورة فعالة الى المعرفة العقلية ، ثم الانطلاق من المعرفة العقلية لتوجيه الممارسة العملية الثورية بصورة فعالة في سبيل تغيير العالم الذاتي و العالم الموضوعي .
الممارسة العملية ، ثم المعرفة و العودة الى الممارسة العملية ثانية ، ثم المعرفة ايضا ، وهكذا تتكرر العملية و المعرفة الى مستوى اعلى . هذه هي كل النظرة المادية الديالكتيكية عن المعرفة ، و هذه هي النظرية المادية الديالكتيكية عن وحدة المعرفة و العمل "31.
ان هذه الرؤية المادية الديالكتيكية لتشكل و تطور المعرفة التي طورها الرفيق ماوتسي تونغ تعتبر سلاحا في يد الشيوعيين و الشيوعيات . و من هذا المنظور سوف نحاول تناول و نقد بعض الافكار و المواقف التي يعبر عنها بعض المناضلين و التيارات .
اولى هذه الافكار هي تلك التي تتناول واقع الحركة الشيوعية ببلادنا و ازمتها الراهنة او ما يسميه البعض ازمة "اليسار الجذري" و سبل تجاوزها .
وسط هذه الافكار يبرز اتجاهان : الاول اتجاه يقلل من الايديولوجيا بل انه يذهب الى حد ابراز العداء للنضال الإيديولوجي و ينظر الى الحل باعتباره مرتبط بتطوير الاداء السياسي " لليسار " و هكذا تصبح المهمة بالنسبة له هي النضال الجماهيري و التنسيق بين المناضلين داخل الحركات و الاطارات الجماهيرية و الاتفاق بينهم على خطوات و مواقف معينة . ان هذا الاتجاه لا يعي ضرورة العودة من الممارسة الى النظرية من اجل توجيه الممارسة العملية ذاتها و تسقط في آخر المطاف في مقولة " الحركة هي كل شيء و الهدف النهائي لا شيء " ، ان مثل هذا الاتجاه ليس خاصا بالمغرب فقد ظهر تاريخيا داخل الحركة الشيوعية العالمية و أثبتت التجربة العملية الملموسة فشل هذا التصور و قصوره على قيادة الحركة او حتى التأثير داخلها بشكل ايجابي .
أما الاتجاه الثاني فهو عكس الاول و تشكل كرد فعل على الاول ، فهو يقلل من شأن الممارسة العملية و الممارسة السياسية و ينظر الى النظرية بمعزل عنها ، ينظر اليها بوصفها مجموعة من النصوص و المواقف و المقولات . و هكذا تصبح المهمة بالنسبة له هي دراسة هذه الكتب و المقولات و استيعابها و بعد ذلك تأتي الممارسة و الى ذلك الحين ( الذي لن يأتي بطبيعة الحال ) تصبح عنده الممارسة السياسية هي ترديد الشعارات و المواقف .
ان هذا الاتجاه هو ايضا لا يرى أي دور للممارسة في تطوير المعرفة و مصيره لن يكون احسن من مصير الاول .
ثاني هذه الافكار هي تلك التي يعبر عنها بعض الرفاق الذين يرفضون اعتبار الماوية تطوير خلاق للماركسية اللينينية . وسط هؤلاء يمكن ان نميز بين من يحملون العداء لماو و يعتبرون الماوية " تحريفية "و هؤلاء لا داعي لان نتناولهم هنا ، فبالاضافة الى انهم لا يعرفون شيئا عن " الماوية "فقد اثبتوا للجميع في "نقد"هم للماوية انهم ليسوا ماركسيين حتى .
اما الاتجاه الثاني فهم أولئك الرفاق الذين يعتبرون ماوتسي تونغ ماركسيا لينينيا لكن انتاجاته لم تكن سوى تطبيق للماركسية اللينينية او في احسن الاحوال يقفون حد فكر ماوتسي تونغ او افكار ماوتسي تونغ و حجتهم في ذلك هي "ان اللينينية هي ماركسية المرحلة الامبريالية و سوف تبقى كذلك مادامت هذه المرحلة قائمة " .
_________________________
1- انجلز :فيورباخ و نهاية الفلسفة الكلاسيكية الالمانية ص 23.
2- انجلز .انتي دوهرينغ ص68.
3- لينين. المادية و نقد المنهج التجريبي ص168-169 .
4- لينين .نفس المرجع السابق ص 171.
5- لينين .نفس المرجع السابق ص 180.
6- ماو . في الممارسة العملية ص 450.
7- لينين .نفس المرجع السابق ص 175 .
8- لينين .نفس المرجع السابق ص 175.
9- ماو .نفس المرجع السابق ص 434 .
10 - لينين .نفس المرجع السابق .
11- لينين .نفس المرجع السابق ص 179 .
12- لينين .نفس المرجع السابق ص 174 .
13 – ماو .نفس المرجع السابق ص 434 .
14 –لينين .حول الديالكتيك .
15 – ماو . في التناقض ص 465 .
16- ماو في الممارسة العملية ص 435 .
17 - ماو في الممارسة العملية ص 435 .
18 – لينين . المادية .ونقد المنهج النقدي التجريبي ص 161 .
19 - ماو في الممارسة العملية ص 435
20 - ماو في الممارسة العملية ص 435 .
*- طبعا لينين قد قدم لنا العديد من القوانين الت يتتحكم في تطور المجتمع الاشتراكي شق منها بشكل ملموس و آخر مجرد.
21 – لينين نفس المرجع السابق ص 158 .
22- انجلز . رسالة الى أوتو بوينغك .
23 – ماو نفس المصدر السابق ص 439 .
24 –ماو نفس المرجع ص445 .
25 –ماو نفس المرجع السابق ص 445 .
26- ماو نفس المرجع الاسبق ص 447 .
27 – ماو نفس المرجع السابق ص 447.
28 – ماو نفس المرجع السابق ص 449 .
** - انظر هنا على الخصوص تأملات نظرية لصاحبها أبراهام السرفاتي .
29- ماو نفس المرجع السابق ص 449/450 .
30- ماو في التناقض ص 462 .
31- ماو نفس المرجع السابق ص 451 .