5_إميل دوركايم و الإصلاح الاجتماعي .
لطفي الإدريسي
2010 / 3 / 11 - 02:51
تمكنا حتى الآن من المرور على معظم أنواع الحقائق الاجتماعية غير المادية لدوركايم – الأخلاق، الضمير الجمعي، التمثلات الجمعية، التيارات الاجتماعية والدين. هذه المفاهيم تقع في مركز تفكير دوركايم وبالتأكيد ازدادت أهميتها مع تطوره المهني. سبق أن أشرنا إلى أهمية الحقائق الاجتماعية المادية في أعمال دوركايم لكن من الواضح أنها لم تكن في نفس درجة أهمية الحقائق الاجتماعية غير المادية. إنها تحتل دور الأهمية العرضية ( الكثافة الحيوية في تقسيم العمل مثلاً ) أو تمثل مؤشرات موضوعية للحقائق الاجتماعية غير المادية، معدلات الانتحار في (الانتحار) أو القانون في (تقسيم العمل) مثلاً. لكن مازال هناك دور هام تلعبه الحقائق الاجتماعية المادية في نسق دوركايم، إنها حلول بنيوية للمشاكل الأخلاقية التى نعانى منها .
لقد كان دوركايم إصلاحياً اجتماعياً يرى أن المشاكل في المجتمع الحديث طارئة وليست صعوبات أصلية. في اتخاذه لهذا الموقف يقف في معارضة للمحافظين والراديكاليين في عصره. المحافظون مثل لويس دى بونالد وجوزيف دى ما يستر رأوا أن ليس هنالك أمل في المجتمع الحديث ودعوا للعودة إلى الحياة البدائية. الراديكاليون مثل الماركسيين في عصر دوركايم وافقوا على أن العالم لا يمكن إصلاحه، وكانوا يأملون أن الثورة ستأتي بمجتمع اشتراكي جديد. خلافاً لكل ذلك تابع دوركايم تحليله بين العمليات الاجتماعية والبيولوجية وذكر أن مشاكل وقته عبارة عن "أمراض" يمكن معالجتها بواسطة الطبيب الاجتماعي الذى يعرف الطبيعة الأخلاقية لمشاكل العالم الحديث ويتخذ إصلاحات بنيوية للتخفيف منها. مثلاً، في( تقسيم العمل) تحدث دوركايم عن ثلاثة أشكال غير طبيعية أو مرضية لتقسيم العمل. هذه تتسبب فيها قوى مؤقتة وطارئة وليست أصلية في المجتمع الحديث. الأمراض التى وصفها دوركايم هى اللامعيارية وعدم المساواة في بنية عالم العمل، الناس الخطأ في المكان الخطأ، التنظيم غير الكافئ وعدم التناسق. كان دوركايم إصلاحياً وليس راديكاليا أو ثوريا. لقد كان واضحاً حول موقفه السياسي في مناقشته لاهتمامه بدراسة الحقائق الاجتماعية " إن تحليلنا ليس ثورياً، وإنما نحن في الأساس محافظون بما أننا نتعامل مع الحقائق الاجتماعية كما هى، نقر بمرونتها لكننا نتصور أنها حتمية وليست اعتباطية. كم هو خطير المذهب الذى يرى في الظواهر الاجتماعية فقط نتائج الاستقطاب غير المقيد والذي يمكن قلبه في لحظة بواسطة الخداع الجدلي ." لم يكتف دوركايم في المقتطف أعلاه بدعوتنا إلى مذهبه السياسي وإنما هاجم في الجملة الأخيرة النظريات الثورية (الخداع الجدلي ) لدى ماركس واتباعه.
الجمعيات المهنية:
العلاج الرئيسي الذى افترضه دوركايم للأمراض الاجتماعية هو قيام الجمعيات المهنية. وعندما تمعن في المنظمات التى كانت موجودة في زمنه، لم يقتنع دوركايم بأن هنالك صراع مصالح أساسي بين مختلف الناس الموجودين في تلك المنظمات – الملاك، والإداريين والعمال. في هذا إنه يأخذ موقفاً معارضاً لماركس الذى يرى أن هنالك صراعاً أساسياً بين الملاك والعمال. يعتقد دوركايم أن مثل ذلك التصادم في المصالح موجود في ذلك الوقت لأن مختلف الناس داخل تلك المنظمات تنقصهم الأخلاقية العامة وذلك النقص في الأخلاق يمكن إرجاعه إلى النقص في البنية التكاملية. اقترح دوركايم أن البنية الضرورية لإيجاد تلك الأخلاقية التكاملية هى الجمعيات المهنية والتي يمكن أن تشمل " كل العناصر في نفس الصناعة موحدين ومنظمين في مجموعة واحدة "مثل هذه المنظمة اعتبرت مختلفة عن اتحادات العمال وجمعيات الموظفين وتتفوق عليها، ويرى دوركايم أن تلك الجمعيات و الاتحادات تعمق الاختلافات بين الملاك، الإداريين والعمال. بدخولهم في منظمة عامة سيعرف الناس في كل تلك الفصائل مصالحهم العامة وكذلك حاجتهم العامة إلى نظام أخلاقي تكاملي. وسيعمل ذلك النسق الأخلاقي على مقاومة الاتجاه نحوالاتممة في المجتمع الحديث من خلال قواعده وقوانينه المستقاة كما سيساعد على وقف تدهور الأخلاق العامة.
تقديس الفرد:
أخيراً نجد أن الإصلاح البنائى اختزل في عقل دوركايم إلى التغيرات في الأخلاق العامة. كان يعتقد أن مشاكل المجتمع الحديث الأساسية في الأصل أخلاقية وأن الحل الوحيد والواقعي يكمن في إعادة تأكيد قوة الأخلاق العامة. وبالرغم من أن دوركايم كان مقتنعاً أنه ليس من سبيل إلى العودة إلى الضمير الجمعي القوى الذى يميز مجتمعات التضامن الآلي، كان يحس أن نسخة حديثة منه، رغم ضعفها بدأت تظهر. وقد أطلق على الشكل الحديث للضمير الجمعي تقديس الفرد. هذا مفهوم غريب لدوركايم بما أنه يبدو وكأنه يدمج قوى الأخلاق والفردية ذات التعارض الواضح. متضمن في هذا المفهوم فكرة أن الفردية قد أصبحت النظام الأخلاقي للمجتمع الحديث. وبرفعها إلى مكانة نسق أخلاقي قبلت الفردية لدى دوركايم. لكنه واصل معارضة الأنانية، وبما أن هذه الفردية بدون أساس جماعي فهي مذهب متعة متفشٍ. حسب الافتراض، فإن الفاعل الذى يتبع أخلاقية فردية يكون بإمكانه السيطرة على نزواته. بشكل مثير للسخرية، متناقضاً وغير مقنع على الإطلاق اقترح دوركايم تقديس الفرد كحل للأنانية الحديثة. يبدو أن دوركايم أقر أنه ليس هنالك سبيل لوقف نمو الفردية في المجتمع الحديث وبدلاً عن مواصلة محاربتها خرج بالأفضل من موقف سيئ وذلك برفعه بعض أشكال الفردية إلى مستوى نسق أخلاقي. واحدة من العديد من المشاكل حول هذه الرؤية هى الصعوبة الفعلية في التمييز في الحياة الواقعية بين الأفعال المبنية على الفردية الأخلاقية وتلك التى بنيت على الأنانية.
الفاعل في فكر دوركايم:
معظم هذا الفصل موجهه إلى اهتمام دوركايم بالحقائق الاجتماعية. لكن كان لدوركايم رؤى في الجوانب الدقيقة للواقع الاجتماعي. وسنتناول بعضها هنا، فعلى القارئ أن يتذكر أن الكثير من الذى قدمه دوركايم على هذا المستوى مشتق من اهتمامه بالحقائق الاجتماعية ولا يمكن فصله عنها. أفكار دوركايم المتحمسة لعلم الاجتماع ضد علم النفس قادت العديدون للقول أن له القليل الذى يعطيه عن الفاعل الإنساني وطبيعة الفعل. زعم العديدون أن لدوركايم القليل الذى يقوله عن وعى الفرد لأنه لم يحس أنه قابل للتحليل العلمي .
بالرغم من وجود بعض الحقائق في هذا الزعم لكنه يبالغ في ابتذال الواقع الموجود في أعمال دوركايم. وفى حين أن دوركايم وضع بعض المقولات ضد دراسة الوعي، لكنه تعامل معه في مواقع وبطرق مختلفة. مع ذلك تبقى الحقيقة أنه تعامل مع الفاعل والعمليات في عقل الفاعل كعوامل ثانوية أو عوامل متغيرة بشكل عام تشرح من خلال العوامل المستقلة أو الثابتة – الحقائق الاجتماعية.
انتقد دوركايم التعامل مع الوعي لكنه أوضح إدراكه لأهمية العمليات العقلية وضمنها مباشرة في أعماله. فيما يلي مقولة توضح اهتمامه بالعمليات العقلية "عموماً، نعتقد أن علم الاجتماع لم يحقق مهمته بشكل كاف طالما أنه لم يتخلل عقل الفرد من أجل ربط المؤسسات التى يسعى لتوضيحها مع ظروفها النفسية. الإنسان بالنسبة لنا نقطة وصول أكثر من نقطة انطلاق " يبدو أن دوركايم ركز على الحقائق الخارجية، معدلات الانتحار،القوانين وما إلى ذلك لأنها قابلة للتحليل العلمي، لكنه لم يقر بأن التركيز على المستويات الكبرى كافٍ في نفسه. الهدف النهائي هو دمج فهم العمليات العقلية في نسقه النظرى. وعلى الرغم من أنه لم يحقق ذلك الدمج الكافي لكنه تناول موضوع الوعي بطرق مختلفة.