|
المتقاعد
نضال الصالح
الحوار المتمدن-العدد: 2940 - 2010 / 3 / 10 - 12:07
المحور:
الادب والفن
رن جرس المنبه في الساعة السادسة صباحا كالمعتاد، نهض من فراشه وذهب إلى الحمام، وقف تحت الدوش طويلا ثم نشف نفسه، حلق لحيته وسرح شعر رأسه وعاد إلى غرفته. أخرج من الخزانة قميصا أبيضا نظيفا وبدلة داكنة وانتقى ربطة عنق ملائمة، لبس القميص وربط ربطة العنق ثم لبس البدلة . نظر إلى نفسه في المرآة وابتسم إبتسامة الرضى ثم خرج من غرفة النوم بهدوء حتى لا يزعج زوجته. سمعها تناديه سائلة: "إلى أين أنت ذاهب في هذا الوقت المبكر؟" أجابها متعجبا من سؤالها: " إلى العمل". صاحت من داخل الغرفة المغلقة:" ولكنك أحلت على التقاعد وانت الآن متقاعد والمتقاعد لا يذهب إلى العمل ولكنه ينام إلى وقت متأخر ولا يقوم مبكرا. إرجع إلى السرير يا رجل وأرح جسدك فلقد عملت أعواما طويلة وآن لك أن ترتاح." صمت قليلا ثم قال: " لقد طلب مني المدير الحضور، يريد أن يستشيرني بأمر هام وعلي أن أذهب ولا أريد أن أتاخر". خرج من البيت واضعا حقيبة العمل تحت إبطة، لاعنا نفسه على كذبه على زوجته وهو الذي لم يكذب عليها في حياته أبدا. تذكر كيف طلبه أمس المدير وقدم له ضمة ورد وعلبة حلويات وشكره على خدماته، تمنيا له تقاعدا سعيدا. جاءه زملاءه في العمل وودعوه وتمنوا له الخير والصحة والسعادة وعلق بعضهم أنهم يحسدوه، فلم يعد مضطرا للقيام في الصباح الباكر والتنقل في الباص المزدحم بالموظفين المسرعين إلى وظائفهم وأضاف " نيالك يا عم." ركب باص البلدة، إشترى تذكرة من السائق وجلس على مقعد في الخلف. كان يشعر كأنما جميع من في الباص يراقبونه ويتسائلون،" ما الذي يفعله هذا المتقاعد في باص الصباح وأين هو ذاهب؟ وقف الباص كالمعتاد في المحطة المقابلة لمكان عمله، قام من مقعدة وتوجه نحو باب الباص وخرج متسللا وتوجه نحو مكان عمله. وقف مترددا وشعر بالرجفة في ساقيه وأن ساقية ماعادت قادرة على حمله. " ماذا تريد، فلم تعد تعمل هنا؟" سأل نفسه وحاول أن يجد لزيارته تبريرا. " زيارة ودية للزملاء، أكيد أنهم سيرحبوا به." جمع قواه، فتح الباب ودخل إلى القاعة الصغيرة حيث مكتب الإستعلامات والحارس. سأله موظف الإستعلامات عن هوية العمل ولكنه لم يكن يحمل هوية العمل فلقد سلمها عند مغادرته العمل بعد إحالته على التقاعد. سأله الموظف عن هويته الشخصية وسبب زيارته وإسم الموظف الذي يرغب في زيارته. أجاب بأنه يعمل هنا منذ ثلاثين عاما. سأله الموظف عن إسمه وطلب من جديد هويته الشخصية فقدمها له. نظر الموظف في الهوية وبحث في الحاسوب الذي أمامه ثم نظر إلى صاحبنا وقال:" أنت متقاعد وما عدت موظفا هنا، إن كنت تريد زيارة أحد هنا أعطني إسمه وسأتصل به ليأتي إليك." نظر صاحبنا إلى موظف الإستعلامات بإستغراب ثم خطف من يده هويته الشخصية وهرول خارجا إلى الشارع ودموعه تنهمر من عينيه. " كل تلك السنين لم تسمح له بالدخول وزيارة زملائه." وقف في وسط الشارع تائها محتارا وكان الناس يمرون من حوله في كل الإتجاهات، كل مسرع إلى عمله. وجدته جالسا على مقعد خشبي في الحديقة العامة. كان الطقس باردا وكان ملتفا بمعطفه، محني الظهر، متكئا بلحيته على عصا. طرحت عليه السلام فأشار لي أن أجلس دون أن ينطق بكلمة، فجلست إلى جانبه. سألته ما الأمر وإن كان مريضا لأنني شعرت من صوته حين هاتفني بأنه في مشكلة لم أدر كنهها. قال: " لقد أحالوني على التقاعد." قلت له: مبروك"، فأجابني بحدة: " أي مبروك هذا الذي تقوله. لقد عملت طيلة حياتي والآن لا أدري ماذا أعمل وكيف أقضي وقتي." قلت له بأنه وقد أحيل على التقاعد، يمكنه القيام بكل هواياته الخاصة التي لم يسمح له إنشغاله بعمله بالقيام بها. أجابني بأنه ليس لديه أي هوايات خاصة غير عمله، فلقد كان عمله هوايته الوحيدة والآن ليس لديه ما يقوم به. أجبته بأنه يمكنه زيارة أحد نوادي المتقاعدين وهي كثيرة. ضحك بتهكم وقال لي:" يا صديقي أنسيت أن الإشتركية قد زالت وزال معها نوادي المتقاعدين وكل المكتسبات التي كانت للمتقاعدين مثل الذهاب مجانا لدور النقاهة والعلاج الطبيعي، لقد ألغته كله هذه الرأسمالية الجديدة المتوحشة." لم أكن أعرف أن الأمر بهذا السوء، فلقد كنت أعرف أن كثيرا من المكتسبات قد ألغاها النظام الرأسمالي الجديد ولكن لم أكن أعرف أنها طالت حتى نوادي المتقاعدين ومكتسباتهم. نظرت إليه وسألته ما هذه العصا ومنذ متى يحمل عصا؟ فأجابني، منذ اليوم وأنها تمثل المرحلة الجديدة، مرحلة التقاعد. كان البرد قد بدأ يدخل عظامي فطلبت من صديقي أن نذهب إلى مقهى ونحتسي بعض القهوة أو الشاي. هز رأسه وقال: " هل نسيت أنني متقاعد وأن تقاعدي البسيط لا يسمح لي بزيارة المقاهي." أجبته بحدة: " أنا أدعوك يا صديقي وعلى حسابي." أجاب:" اليوم على حسابك وماذا سافعل غدا وبعد غد والذي بعده؟ لم أعد أطيق البرد فوقفت قائلا:" قم يا صديقي ودعنا نتمشى فالبرد قارس وستمرض." ولكنه هز رأسه رافضا وقال لي: " إذهب أنت، فأنت إبن الشرق الدافئ ولم تعتد على البرد أما أنا فلقد إعتدت على البرد وسأبقى قليلا ثم أغادر." ودعته قائلا:" أنا أدعوك لشرب القهوة العربية في بيتي، وبيتي مفتوح لك في أي وقت، فقط إتصل بي حتى تتأكد من أنني في البيت." شكرني وقد بان الإنشراح على وجهه ثم تركته وغادرت. بعد أن سرت عدة أمتار إلتفت ناظرا إليه. كان جالسا محني الظهر، زائغ النظرات، لحيته متكئة على يديه القابضتين على العصا الجديدة، العصا التي أخذت بعدا فلسفيا عند صديقي والتي تعلن أن حياته اليوم قد تغيرت إلى الأبد وأنها أصبحت مربوطة بهذه العصا.
د. نضال الصالح/ فلسطين
#نضال_الصالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الإسلام والمسيحية، صراع عقائد أم مصالح؟
-
رقة الغزل وعفة السلوك
-
ذئاب بلحية ومسبحة
-
جنَ الفلم فاحترقا
-
دفاعا عن الحائط
-
هل ماتت الإشتراكية وإلى الأبد؟
-
طوشة الموارس
-
الجدل العقيم: ديني أفضل أم دينك؟
-
رسائل وردود
-
رسالة إلى المقاتلين بإسم الله
-
قارئة الفنجان
-
الجنس بين العيب والحرام والإحتكار الذكوري
-
ضائعة بين عالمين
-
رسالة إلى المرحومة أمي عادت لخطأ في العنوان
-
ما بين ساقيها وعقلها
-
يساريون لا يزالون يعيشون في الماضي
-
في الذكرى الثامنة لتأسيس الحوار المتمدن
-
كيف رفع الشيوعيون القدماء في الدول الإشتراكية شعار العداء لل
...
-
لمن نكتب وهل من يقرأ؟
-
الحقائق التاريخية والعلمية مقابل النص المقدس
المزيد.....
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
-
معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا
...
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
-
مايكروسوفت تطلق تطبيقا جديدا للترجمة الفورية
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|