|
جدل الأصل والصورة : الاجتثاث العراقي والمكارثية الأمريكية.
علاء اللامي
الحوار المتمدن-العدد: 2937 - 2010 / 3 / 7 - 14:26
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تعرَّف المكارثّية بأنها تلك الممارسة التي ترتكز على اتهام الناس بصلات تربطهم بمنظمات سياسية، هي هنا "الحزب الشيوعي الأمريكي "، دون إثباتات وأدلة كافية تدعم الادعاء.ومعروف أن مبتكرها هو السناتور الجمهوري اليميني جوزيف مكارثي الذي ادّعى عام 1950، و الحرب الباردة بين الشرق الاشتراكي والغرب الرأسمالي على أشدها، أن مائتي شخص تقريبا من موظفي وزارة الخارجية الأمريكية هم من المتعاطفين مع الشيوعية، وأن 57 آخرين هم أعضاء في الحزب الشيوعي الأمريكي. تبعت هذا الإعلان حملة سياسية وأمنية شعواء هدفها التشكيك و إضعاف الثقة في أعضاء بارزين في الحزب الديموقراطي. وعندما أصبح مكارثي رئيساً " للجنة الفرعية الدائمة للتحقيق " سنة 1953 تكثفت هجماته فوجّه اتهامات بحق وزير الحربية الأمريكي ستيفنز، وبحق العديد من المثقفين والرسميين، نتج عن هذه الحملة ولادة " لوائح سوداء" بأسماء المتهمين والمشكوك في ولائهم، وتم القضاء على الحياة المهنية والثقافية لكثيرين من الأمريكيين. في عام 1954 أدان مجلس الشيوخ نشاطات مكارثي وحملته تلك، فتمادى هذا الأخير وهاجم هذه المرة الرئيس أيزنهاور، ويستخدم هذا المصطلح حالياً عندما يقوم شخص ما أو جهة بترهيب الناس ثقافيا. الكاتب البريطاني المتخصص بالتاريخ الأمريكي هارولد إيفانز يعطي تعريفا جامعا مانعا للمكارثية مؤلفا من كلمة واحدة هي " الخوف"، بل هو يتساءل سؤالا لا يخلو من المكر وليس التبرير المباشر فيما إذا كان ممكنا بروز نسخة جديدة من المكارثية في أمريكا ذاتها تستبدل الخطر الأحمر الشيوعي بالخطر السلفي الجهادي الإسلامي. التطورات السياسية الأخيرة في العراق، وخصوصا تلك المتعلقة بالانتخابات القادمة وقوائم الأحزاب والشخصيات الممنوعة من المشاركة فيها بموجب قانون "اجتثاث البعث" الذي تغير اسمه إلى قانون "المساءلة والعدالة" تنبئ عن أن نسخة عراقية من المكارثية أخذت بالتكرس والرسوخ ، ويبدو أنها تفاقمت في الآونة الأخيرة مع اقتراب الاستحقاق الانتخابي. فما وجه الشبه والعلاقة بين المكارثية الأمريكية ونتوئها أو امتدادها العراقي، وما دلالات نشوء وتكرس هذه الممارسة، وما الآفاق التي يمكن لنا استشرفها لها، وهل يمكن ان نعتبر الحكم العراقي المسنود من قبل الاحتلال مسؤولا مباشرا ووحيدا عنها؟ هذه بعض الأسئلة التي نحاول الإجابة عنها ههنا: ضمن استراتيجية الحذف والشطب والتدمير المنهجي، باشر الاحتلال الأجنبي للعراق عهده بقرارات خطيرة منها: حلّ الجيش العراقي والحزب الحاكم " حزب البعث " والعديد من المؤسسات المكوِّنة للدولة العراقية، الأمر الذي أظهر أن مهمة الغزاة الحقيقية لم تكن الإطاحة بنظام صدام حسين حصرا، بل هي في مخطط شامل لتدمير الدولة العراقية الهشة والتي أثقلتها ممارسات ذلك النظام الشمولي المتخلف بالجراح والديون والخسائر والدمار. وبهذا، فإن الاجتثاث كممارسة سياسية وأمنية، لم يكن بضاعة عراقية خالصة، رغم أن له جذور مشابهة قديمة سنتطرق لها بعد قليل، بل هو،ومن حيث المنطلق والمسار والنتائج، بضاعة أمريكية بحتة، لولاها، ولولا غيرها من ممارسات لما تمكن المحتل من " تصنيع وتركيب" نظام الحكم الطائفي العرقي بمواصفاته المعروفة اليوم. ثم أنه بضاعة أمريكية لها ما يطابقها في التاريخ الأمريكي الحديث، ألا وهي المكارثية، و إقدام المحتل ونظام الحكم المتحالف معه على إطلاق نسخة شوهاء منها. وبتدقيق أكثر يمكن لنا أن نتبين أن الاجتثاث العراقي قد يختلف بكونه أكثر اتساعا وعمقا من المكارثية الأمريكية من حيث حساب أعداد الضحايا في التجربتين، وبتحليل الإجراءات العملية والوثائق القضائية والسياسية لكليهما. لقد قال أحد أقطاب الحكم العراقي كلمة حق أراد بها الباطل كله، فقد قال – الطالباني - إن صدام حسين هو من قام باجتثاث البعث وليس نحن، أ ليس هو من قتل المئات من القيادات والكوادر البعثية في الحزب والدولة، بل وبدأ حكمة بمجزرة دموية للعشرات من رفاقه بتهمة التآمر مع سوريا ضده في بداية الثمانينات؟ وهذه الواقعة صحيحة، وهي تتعلق بالتراث القمعي لنظام شمولي قتل مئات الآلاف من العراقيين، من بينهم المئات وربما الآلاف من أعضاء حزبه، فما علاقتها بخطة الاجتثاث التي وضعها الاحتلال الأجنبي وأخذت بها حكومة محلية متحالفة معه؟ نعم، يمكن اعتبار ما اقترفه صدام حسين بحق رفاقه، حين قتلهم دون محاكم شرعية ودون أن يتمتعوا بحق الدفاع الأساسي عن النفس، جرائم، ولكن هل تبرر هذه الجرائم مخططات الاجتثاث، خصوصا إذا أخذت شكل حملة سياسية وأمنية تشمل البلد من أدناه إلى أقصاه؟ إن هذه الجرائم وسواها، وسواء ارتكبت في عهد صدام حسين، أو في عهد الاحتلال، مكانها الطبيعي هو ميدان القضاء والمحاكم، وحين يدان المتهمون وتصدر بحقهم أحكام قضائية ويتم تنفذها فسيكون تمجيدهم والترويج لنهجهم وأفكارهم ممارسة مدانة و إهانة كبيرة للضحايا العراقيين الأبرياء، أما المنع والحظر والإقصاء السياسي للأحزاب والأشخاص فهو أمر مرفوض، أو ينبغي أن يكون مرفوضا من لدن الديموقراطيين الحقيقيين في دولة تزعم ديموقراطية. بكلمات أخرى: ينبغي التفريق بين الاجتثاث السياسي لحزب البعث كممارسة وقوانين مرفوضة ديموقراطيا، وبين ممارسة أخرى مدانة، تنتج عنها، أو بالتساوق معها، هي تمجيد مجرمين مدانين مهما كان موقعهم في الدولة وإهانة وتدنيس ذكرى وأرواح الضحايا الشهداء. إن انتقاد تجربة البعث في الحكم لقرابة الأربعة عقود، والاعتذار للشعب العراقي عما فعلوه وما نتج عن تلك التجربة، هما من مسؤوليات وإشكالات البعث والبعثيين، وكلما رفض هؤلاء القيام بأي نقد لتجربتهم أو تقديم اعتذار عنها، واستمروا يعتبرون تلك التجاوزات والأخطاء والجرائم "انتصارات" و"بطولات" لحزبهم وقيادتهم، فهم يتحملون المسؤولية التامة عن ذلك. غير أن تراث نظام البعث القمعي هو في الوقت نفسه مشكلة وطنية أيضا، تهم الشعب بأسره، وليس حكرا على البعث والبعثيين، أما حصر معالجة هذا الشأن من قبل الحكم بالأسلوب الجنائي والقمعي المضاد فهو أمر لا طائل منه ويزيد من تعقيد الأمور، مع أن نقد تلك التجربة والاعتذار عن نتائجها المأساوية يبقى شرطا لا بد منه على الديموقراطيين الحقيقيين اشتراطه لقيام أي حوار أو تعامل سياسي مع البعثيين كحزب سياسي. ويبدو أن قيادة الاحتلال،حاولت مؤخرا إضفاء نكهة عراقية على هذا المخطط على يد نائب الرئيس الأمريكي جوزف بادين الذي حاول أن يحل، أو يحلحل، مشكلة قوائم الأحزاب والشخصيات الذين شملهم الاجتثاث من المرشحين للانتخابات القادمة فاقترح أن يقدم المهددين بالاجتثاث " براءة من البعث وجرائمه وقيادته ". وتقليد البراءة في العراق نوع من انتزاع القناعات على طريقة محاكم التفتيش في القرون الوسطى، يتعهد بموجبه المتهم بالتبرؤ من الحزب أو الفكر السياسي الذي يتهم به، وقد أخذ به الحكم الملكي الهاشمي ضد الشيوعيين وجاراهم فيه نظام البعث ضد الشيوعيين أيضا في العهد الجمهوري، وهو تقليد معيب ومرفوض أخلاقيا وسياسيا في الذاكرة الجمعية العراقية. إن هذا الأسلوب الذي اقترحه بايدن وتبنته حكومة المحاصصة القائمة ينتمي إلى ترسانة التراث القمعي الذي يتوجب دفنه ورفضه وليس إعادة إطلاقه من جديد في عراق يروم الخروج من دوامات القمع والشمولية. إن الاستمرار بالتغني اللفظي بما يسمونه "المصالحة الوطنية" من قبل الحكم القائم لا يعني شيئا ذا قيمة حقيقية، بل هو ليس إلا نوعا من الدجل السياسي البعيد كل البعد عن أي مسار حقيقي ومفيد ومثمر لمصالحة مجتمعية وسياسية تقوم على أسس التسامح وإحقاق الحقوق الدستورية والإنسانية للمواطنين العراقيين، ولنا أن نتوقع أن مسارا كهذا الأخير والذي أخذت به شعوب كثيرة منها شعب أسبانيا بعد زوال الفرانكوية وجنوب أفريقيا بعد الانتصار على الأبارتهايد وتشيلي بعد كنس دكتاتورية بينوشيت هو أبعد ما يكون عن أن يتجرأ على الأخذ به سياسيون في حكم طائفي عرقي متحالف مع احتلال أجنبي ومعارضون لهم من بقايا نظام شمولي دموي منفصل عن الواقع و يريد ورثته إعادة عقارب الساعة إلى الوراء حتى إذا أدى ذلك لسفك المزيد من الدماء . كلمة أخيرة : إذا كانت المكارثية قد لفظت أنفاسها وأدينت من قبل الكونغرس الأمريكي بعد عام واحد تقريبا على تفشيها، فإن الاجتثاث سيبقى متجذرا لفترة قد تطول كثيرا في نفوس أغلب السياسيين العراقيين من الجيل الذي عاصر الأنظمة الشمولية وعهد الاحتلال، ويبدو أن الجانبين، في حكم المحاصصة كما ورثة الحكم البعثي الصدامي، حريصان حتى الآن على إدامة بقاء هذه الشجرة المرة .. الاجتثاث!
#علاء_اللامي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ماذا لو فاز الطائفيون أو المدافعون عن النظام الصدامي في الان
...
-
كتاب جديد عن الطائفية في العراق بعنوان - السرطان المقدس -
-
خفايا حملة الاجتثاث وإحباطها أمريكا: نرفض الاجتثاث ونحتقر مَ
...
-
تفاقم الصراع الكردي الداخلي : خلافات حول الماضي والحاضر والم
...
-
ترهات حسن العلوي - أبو طاسة - الفكرية وسذاجة تحليله للظاهرة
...
-
بين حماقات الاجتثاثيين وسماجة أكاذيب المتضامنين مع صالح المط
...
-
نهاية الفيتو الرئاسي الطائفي والحكم التوافقي وآفاق الانتخابا
...
-
وظيفة حكومية بعنوان - محرم- والخمور بين منع وإباحة!
-
رائحة البعث تفوح من دماء الضحايا في تفجيرات بغداد
-
-الحركة الوطنية لعلاوي-..الاسم والمسمى.
-
ج2/ هارون محمد والشينات الثلاثة .. شتائم ديناصورات طائفية فا
...
-
ج1/ ساوينا بين الطائفيين من الشيعة والسُنة، فاتهمتنا بالطائف
...
-
ج8/ الدعوة لرفض المشاركة في الانتخابات مع احترم إرادة ملايين
...
-
ج7 / هل يختلف الجعفري عن سواه من طائفيين وما حقيقة خيار النض
...
-
ج 6/ بين دعوة القلمجي للحرب الأهلية وعموميات هيثم الناهي.. م
...
-
ج5 /من أجل هزيمة الطائفيين لا بد من تحالف شامل: أسس وركائز م
...
-
ج4 /من أجل هزيمة الطائفيين في الائتلاف والتوافق والكردستاني
...
-
ج3/من أجل هزيمة الطائفيين لا بد من تحالف شامل: نرجسية علاوي
...
-
ج2/من أجل هزيمة الطائفيين لا بد من تحالف شامل: النزعة الثأري
...
-
ج 1/ من أجل هزيمة الطائفيين في الائتلاف والتوافق والكردستاني
...
المزيد.....
-
موزة ملصقة على حائط.. تُحقّق 6.24 مليون دولار في مزاد
-
تقارير عن معارك عنيفة بجنوب لبنان.. ومصدر أمني ينفي وجود قاد
...
-
قوات كييف تعترف بخسارة أكثر من 40% من الأراضي التي احتلتها ف
...
-
إسرائيل تهاجم يوتيوبر مصري شهير وتوجه له اتهامات خطيرة.. وال
...
-
بوليتيكو: الصين تتجاوز الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في
...
-
وسائل إعلام عبرية: اختفاء إسرائيلي في الإمارات والموساد يشار
...
-
غرابة الزمن وتآكل الذاكرة في أعمال عبد الله السعدي
-
فوائده كثيرة .. ابدأ يومك بشرب الماء الدافئ!
-
الناطق باسم -القسام- أبو عبيدة يعلن مقتل إحدى الأسيرات الإسر
...
-
-تحليق مسيرة ولحظة سقوط صواريخ-.. حزب الله يعرض مشاهد استهدا
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|