|
رواية جفاف الحلق -8 -
غريب عسقلاني
الحوار المتمدن-العدد: 2935 - 2010 / 3 / 5 - 09:08
المحور:
الادب والفن
غريب عسقلاني
رواية جفاف الحلق -8 -
- 8 –
صادر الوجع خطوات جدي، ولم يعد قادراً على المشي ولا الجلوس خلف دف النول، واضطربت أحوال القاعة والدار.. جدي الطويل مثل عود الزان، تدلى رأسه حتى وصل إلى سرته، لم يعد منتصباً مثل النشاب، وبات قوساً مشدوداً على الألم، لا يعرف النوم ليلاً ولا نهاراً.. خالي وأبي يكسران عناده، يمضيان به إلى الطبيب، ويعودان به محمولا.. جدتي تستقبله تسنده على صدرها، وتمدده في فراشه "بسم الله حولك وطولك.. ايش اللي هدك"، تشهق مع دمعة خالي التي نزت على خده دون مشورة.. يقذف قلة حيلته وحيلة الطبيب: - الدكتور عندوش علاج - هو في علّة ملهاش علاج؟! - عرق النساء ما له علاج عند الدكاترة.. كل اللي كتبه الدكتور شوية مسكنات وأوصاه بالراحة. تمدد جدي على فراشه، التقط أنفاسه وهدأ صدره، مسح المكان بعينيه، وحط على جدتي: - جهزي لي فرشة رقيقة على البلاط، الوقعة في الظهر، ايش بدو يعمل فيه الطبيب.. "ربنا اللي حط هو إللي بيرفع.." وتفرغت جدتي لرعايته وخدمته، وتنازلت عن أعمال الطبخ والعجين لكنتها، وغضت النظر عن نساء الدار، تحفظاً وتخوفاً من تقريع جدي العصبي من طول الرقاد، يتدخل في الصغيرة والكبيرة ويهتاج من ضوضاء الصغار من حوله. حصة جدتي من المواسير تطوعت بها حسنة.. أبو رباح وأبو حسنة لا يشكوان مع شح المواسير مثل أحمد شمعة ورضوان العتيق اللذين يتخاطفان المواسير عن دولاب زوجة خالي، الموزعة بين دولابها وأعمال الدار ومراعاة الصغار، جدي يصرخ على أمي: - على ايش بتتفرجي، ساعدي امرأة أخوك.. والله الرحمة صدقــة يا ناس - حاضر.. بس ارتاح.. انت في وجعك ولا في الشغل وتقوم متثاقلة إلى الدولاب تبرطم " كل واحد همه على قده"، مش بكفي البنات انفرن قبل ما يطلعن على الدنيا.. بكرة بياكلن وبيشربن من القاعة والنول... أبو رباح وأبو حسنة يقضيان معظم وقتهما حول جدي يسليانه, يتذكران معه أيام زمان، وكيف كان يقطع البلاد طولاً وعرضاً يجلب الزيت من الجبل، ويبيعه إلى فلاحين في السهل.. يقطع صحراء سيناء ليبيع زيته على بدو بلبيس.. وفي يوم اشتد عليه الألم ،ولم يعد قادراً على كبح صياحه قرر: - هي موتة ... الكي ...الكي - وحد الله شدة بتهون، الوجع ما بيقدر إلا على البدن العفي وبعد ظهر الخميس حاسب خالي العمال في القاعة، وانطلق مع أبي حسنة وأبي رباح إلى جباليا حيث مضارب البدو وعادوا آخر النهار بالبدوي.. رجل قليل اللحم والعظم، غائب في عبائته، رأس صغير مدور، وذقن بيضاء نافرة من جلد مشدود جاف، أصابعه رفيعة طويلة.. جلس ولف من علبته المعدنية سيجارة أشعلها وقدمها لجدي: - مش عيب عليك تقع يا زيات.. سقى الله على أيامك.. عاين هالدخان شهق جدي السيجارة حتى ابيضت زهرتها، واحتفظ بالنفس في صدره طويلاً قبل أن ينفثه من منخريه: - دخانك عايز رجال تقدر عليه يا بدوي. - من الشعف أرض حَمار بعل ما ذاق ماء. - الشعف بيظل ثراها رطب طوال الصيف. - تقوم بالسلامة ،وتلحقني ،عمرك ما "تخرم" مددوه على بطنه عارياً، سلسلة ظهره تنبض تحت جلده، تتقلص وتنبسط مثل عربيد العوسجة، تتوقف أصابع البدوي عند مواقع معينة، تضغط، فيجأر جدي.. تزحف الأصابع النحيلة تستقر عند الفخذ، تندس في اللحم فيعض المبطوح الوسادة.. قلبوه على ظهره، وثبتوا كتفيه، وفردوا الساقين على طولهما، قصع البدوي إبهام القدم اليسرى، جحظت عينا جدي لدرجة الإغماء.. قال البدوي: - غطــوه.. بيلزمه ثلاث كيّات صار الحطب جمراً، دس البدوي ثلاثة أسياخ مفلطحة النهايات.. ولف سيجارة وأخذ ينفث الدخان بهدوء، يتجاذب أطراف الحديث مع أبي رباح وأبي حسنة، خالي "ملخوم" بين أبيه وجمر النار في الموقد، أبي يراقب الأمر شزراً، ويكظم غيظه فهو يرى في الكي جنوناً، عرض على خالي أن يأخذ جدي إلى مصر، يعرضه على طبيب يعرف علته، لكن الجد أخذ قراره: - عرق النسا ماله غير الكي.. وفروا قروشكم لعيالكم .. - الدنيا اتغيرت يا حاج، وفي مصر تلاقي كل شيء - زمان ما كان غير الكي.. ربنا يقدرني عليه سحب البدوي الأسياخ من النار، صارت بلون الدم، بصق على نهاياتها فطشت اللعاب، ولم تنطفئ.. أعادها إلى النار وأوعز لأبي حسنة وأبي رباح: - اقلبوه على بطــنه أبو حسنة يزجر خالي صارماً: - خذ أمك وابعد عنا همد أبو حسنة على كتفي جدي، وثبت أبو رباح القدمين، وجلس على الركبتين، خاطفة جرت العملية، سحب البدوي الأسياخ تباعاً، ولطع في ثلاثة مواضع حددها بأصبعه.. صرخ جدي مع الكيّة الأولى، وهمد ، لم يُصدر صراخاً ولا أنيناً.. نقع الرجل قطعة قماش نظيفة في الزيت ومسح اللحم المشوي - غطوه ويبقى على بطنه ثلاثة أيام بلياليها.. وقضى البدوي ليلته يتسامر مع الرجال حول الكي والبشعة، وعلاج القوباء والدرن، وقضاء البدو والفلاحين، أحداث ومواقع ووقائع توارثها أباً عن جد.. وعن أرض الشعف الحمراء التي يزرعها دخاناً بعلياً، خالي صامت مشغول بجدي الذي غاب عن الدنيا، لا يظهر منه غير شهيق وزفير واهن، وأبي انسحب من المجلس يصب غضبه على أمي التي تبكي أباها المقتول: - يرضيك عمايل أخوكِ؟ مع الفجر مضى البدوي بصرّة تحتوي قماشات شروال وقمباز وحطة، وجنيهاً ورقياً كاملاً ومضى قبل أن يتناول افطاره.. ثلاثة أيام والمبطوح على بطنه لا يصد ولا يرد، لا طعام ولا شراب اللهم الا قطرات ماء تقطرها جدتي فاطمة في فمه من شاشة مبلولة، تنظف رغوة بيضاء تفور من فمه وتتجمع عند شدقيه، في اليوم الرابع فتح عينيه وطلب الماء فابتهجت الدار، وطيرت جدتي الزغرودة، فتبعتها أمي وزوجة خالي، وامتلأت الدار بنساء الحارة، وبعد أسبوع نملّه ظهره، وراود جدتي أن تقشر ما جف من جلد مشوي، فردته بحكمة: - ظهرك جلدة على عظمة بكرة ينشف ويقشر لوحده وبعد أسبوعين جلس منتصب الظهر، وبعد أربعين يوماً بالكامل أخذ حمّامه ،وهبط إلى القاعة،ونزل في جورة النول.. فهاجت جدتي، واحتج رفيقاه بصرامة وصلت بأبي رياح أن هجم على المسدية، وخرطها بموسه الكباس، حتى يفوت عليه إمكانية حذف مكوك بين بوابات نفسيها - هو انت لقيت حالك في الحارة.. يلعن الشغل ويوم الشغل مستعجل على الشقا..؟! - إن شاء الله عايزني أقعد جنبك أسليّك؟! ولا أقعد ورا الدولاب مع النسوان ألف لك مواسير..؟! وعندما استوى اللحم عند مواضع الكي، وترك لطعات برصاء على الجلد، طلب جدي من خالي أن يرافقه إلى الدكتور: - خــير ما انت طبت والحمد لله!! - عايــز أشوفــه وحدثنا خالي أن جدي شد على يد الدكتور بقوة وبادره: - كيف شايفني يا دكتور؟ - زي الغزال ماشاء الله عليك - وانت الصادق مثل الحصان.. أنا جيت أسأل سؤال - تفضــل يا حــاج - أنت دكتور واتعلمت الدكترة في بلاد برة جــاراه الدكتور ضاحكــاً: - بالإنجليزي كمان مش بالعربي - كل غــزة تتحكــم عــندك - اللي بيصلنا بنحكمــه - وأنا مقدرتش تطيبني، وخلقة بدوي قد الكبشة لا تاخذ العين فيه ولا تعطي طيبني.. كيف بتشوفها؟! - كل واحــد وعلامــه يا حــاج - إيش رأيك أعرفك على البدوي علشان تحول عليه عيانين عرق النسا قال خالي ان الدكتور "كيّف" على الختيار، وودعه عند باب العيادة، وشد على يده، وأعاد له نقود الكشفية. - أمانة يا حاج كل ما تشوف حالك فاضي تعال نتسلى وفي يوم الجمعة صحا مبكراً، وتناول إفطاره، وطلب من خالي مرافقته إلى سوق الجمعة في الشجاعية : - المشوار بعيد عليك، وانت طالع من رقدة طويلة - طيب روح اشتري لي اوقية دخان عربي من البدوي ورجع خالي من السوق بدون الدخان: - البدوي بيقول لك دخان الشعف خلصّ وبعد يومين كان البدوي عند جدي، وقد أحضر معه كيس دخان يكفيه حولاً.. وذهبت بينها صداقة، ولم يدخن جدي دخاناً غربياً إلا بعد موت صديقه، وظل يتهم تجار الدخان بالغش وخلط الدخان، وتحول إلى الأرجيلة يملأ رأسه بأنفاس التمباك التركي الأصفر يعلق على ما آلت اليه أحواله: - علشان غش الدخاخنية صرنا أفندية ونشفط على الشيشة ومات جدي عن ثلاثة أراجيل عالية الأعناق طويلة الخراطيم، جلبها له أبي من مصر في سفرياته..
#غريب_عسقلاني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
روية جفاف الحلق -7 -
-
رواية جفاف الحلق – 6 –
-
رواية جفاف الحلق – 5 –
-
رواية جفاف الحلق -4 –
-
رواية جفاف الحلق – 3 –
-
رواية جفاف الحلق – 2 –
-
رواية جفاف الحلق – 1 -
-
.. في سر العسل
-
- قراءة في رواية أوجاع الذاكرة للكاتبة الجزائرية جميلة طلباو
...
-
طقوس امرأة بريئة – 5 –
-
طقوس امرأة بريئة – 4 –
-
طقوس امرأة بريئة – 3 –
-
طقوس امرأة بريئة – 2 –
-
طقوس امرأة بريئة – 1 -
-
الجمر والحريق
-
كلما حضر.. حضر الوطن - شهادة
-
رواية نجمة النواني - 21 - والأخير
-
رواية نجمة النواتي 19,20
-
نجمة النواتي - 19 -
-
رواية نجمة النواتي 17 ,18
المزيد.....
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
-
معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا
...
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
-
مايكروسوفت تطلق تطبيقا جديدا للترجمة الفورية
-
مصر.. اقتحام مكتب المخرج الشهير خالد يوسف ومطالبته بفيلم عن
...
-
محامي -الطلياني- يؤكد القبض عليه في مصر بسبب أفلام إباحية
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|