المدرسة كوسيلة للتنشئة الإيديولوجية .
لطفي الإدريسي
2010 / 3 / 1 - 07:12
لقد تبين لنا من خلال الممارسة الميدانية وكذلك من خلال الفلسفة التربوية التي تتبعها كل دولة اتجاه مدارسها، أن للمدرسة وظيفة أخرى تكتسي طابعا إيديولوجيا لكونها تعتبر أداة للإدماج وقنطرة تمرر من خلالها الدولة سياساتها الأمنية وهي أداة لهيمنة الوظيفة الرسمية لنقل المعارف ... وهي كما قال السوسيولوجي الفرنسي بيير بورديو في كتاب مع باسرون : إعادة الإنتاج:
reproduction la أداة لإعادة إنتاج الثقافة والنظام السائد ، وهي جهاز إيديولوجي مهمته نقل وترسيخ أفكاره المهيمنة وذلك لإعادة إنتاج تقسيمات المجتمع الرأسمالي وجعل النخبوية عملا مشروعا ، وبالتالي إعادة إنتاج القيم والعلاقات الاجتماعية السائدة . وهكذا فالنظام التربوي في نظر بورديو يشكل عنفا رمزيا قصدي لكنه مفروضا من طرف سلطة ذات نسق ثقافي سائد ، وهكذا فالوظيفة الإيديولوجية للمدرسة تتجلى في كونها مؤسسة للترويض الاجتماعي وإعادة إنتاج نفس أنماط الفكر والسلوك المرغوب فيهما من طرف المجتمع .
إن للمدرسة عدة وظائف رئيسية يرتبط بعضها ببعض خاصة في عصرنا الحاضر الذي يمتاز بالتغييرات الإجتماعية السريعة والتقدم المطرد في ميدان العلم والاختراع، والتشابك المتزايد في أساليب المعيشة وعادات الناس وتقاليدهم ،إلا أن المدرسة الوطنية التي تضع مهمة التربية والتعليم في مقدمة أولوياتها، تحاول التوفيق بين مختلف الوظائف دون أن تطغى وظيفة على أخرى وأن تضع مستقبل المجتمع برمته كغاية كبرى. ولهذا فنجد أن من ابرز الأدوار التي يجب على المدرسة ، ان تقوم بها سعيا لتحقيق أهدافها كمؤسسة تربوية واجتماعية نجد :
1- نقل الثرات الثقافي: إن تحليل معنى المجتمع والثقافة وعلاقة الشخصية بهما يبرز لنا أهمية العملية الاجتماعية التي تنتقل بها آداب السلوك العامة والقيم والمعاني والأنماط الثقافية من جيل إلى جيل. وطبيعة الحياة الاجتماعية للأفراد من حيث الاختلاف في أعمارهم واختفاء بعضهم وظهور بعضهم الآخر يجعل عملية النقل عملية اجتماعية ضرورية لاستمرار النضج الاجتماعي.
غير أن هذه العملية ليست آلية، فالمجتمعات المتمدنة قد تسير إلى الوراء إن لم تبدل جهودا حقيقية في سبيل نقل التراث الثقافي من جيل إلى جيل. لهذا يبدو أن الحاجة إلى التعليم أمر بديهي في المجتمعات لاستمرار وجودها وتطورها. فالناس يعيشون في جماعة بفضل ما يشتركون فيه من أشياء عامة وبفضل عملية الاتصال والنقل التي يحصلون بها على الأشياء المشتركة العامة التي تجعل منهم جماعة، وهذه الأشياء المشتركة العامة هي الأهداف والمعتقدات والآمال والمعارف والمفاهيم المشتركة، وهذه كلها تساعد على إيجاد عقلية متشابهة بين أفراد الجماعة لأن النقل والإيصال الذي يتضمن مشاركة الأفراد في تفهم مشترط هو الذي يحقق اتجاهات عقلية وانفعالية متشابهة. أي طريقة متشابهة للاستجابة لتوقعات الحياة ومطالبها.
إن قيم المجتمع على التماسك في إطار أهداف مشتركة يعني هذا أكثر من التعاون بهم، وفهم متطلباتهم وحاجاتهم ومساعدتهم على فهم أعراضه وحاجاته، ومعنى هذا كله ضرورة توافر ما نسميه "بالإجماع" الذي لا يمكن وجوده إلا عن طريق عمليات النقل والاتصال الاجتماعي. فعملية النقل قد تتم بطريقة واعية الذي نعمله ويمكنه عن طريقها أن يواجه مواقف الحياة على أساس من التبصر والمعرفة وتزويده بما يلزم من المواقف المختلفة من معارف ومهارات سبق أن تثبت صحتها من خبرات أجيال أخرى. وقد تتم هذه العملية بالضغط الاجتماعي أو الدعاية أو بأي نوع آخر من التعليم، ولهذا فإن المدرسة وبجانبها مختلف المؤسسات المكلفة بالتربية ، تواجه عدة مشكلات لقيامها بهذه الوظيفة. ومن الأمور التي ينبغي مراعاتها بالنسبة لهذه الوظيفة هي اختيار الجوانب التي لها قيمة في التراث الاجتماعي بالنسبة للشخص وكذلك اختبار العناصر التي تضمن تكاملا في اتجاهات الفرد ومفاهيمه.
2- التبسيط: لما كانت المدينة الحديثة (الحضارة) تمتاز بالتعقيد فإن من العسير أن تنتقل عناصرها إلى الصغار الناشئين، لهذا فعلى المدارس تقسيمها إلى أقسام وتصنيفها وتبسيطها. ووظيفة المدرسة التربوية هي ان توفر بيئة مبسطة تناسب أعمار التلاميذ واستعداداتهم فتختار العناصر الأساسية التي يتمكنون من الاستجابة إليها وتنظم برامجها بحيث تزودهم خلال أطوار نموهم المختلفة بالمعارف والمهارات التي تزيد من بصرهم في مواقف الحياة.
3- الانتقاد والاختبار: من وظائف التربية والمدرسة ان تختار بين الاتجاهات والقيم والعادات والمعارف التي توجد في المجتمعات على أساس التمييز بين المرغوب فيه وغير المرغوب فيه ذلك ان كل مجتمع يتضمن الكثير من العناصر المختلفة والأفكار المتنوعة والقيم المتعارضة، ولما كانت المدرسة هي أداة المجتمع في تنمية اتجاهات وقيم مرغوب فيها في ضوء أهداف معينة كان من وظيفتها القيام بتدعيم الجيد من العناصر والقيم وتزويد الصغار الناشئين بها لمواجهة مواقف حياتهم في بيئتهم الاجتماعية، وكلما ارتقى المجتمع وتعددت مصالحه أدرك أمامه مسؤولية مزدوجة:
الأولى: العمل على نقل العناصر الطيبة في تراث وما حققته الأجيال السابقة.
الثانية: استخدام العناصر الجيدة الملقاة لبناء مستقبل أفضل.
4- الاقتصاد الثقافي: المدرسة في هذا العصر تجد نفسها أمام وظيفة جديدة تفرضها عليها طبيعة التغييرات الجدرية التي يتميز بها هذا العصر. فقد تراكم التراث الثقافي بشكل لم يسبق له مثيل، واتسع نطاقه باتساع نطاق الخبرات الإنسانية وتشابكها وسهولة انتقال نتائجها وتفرع فروع المعرفة المختلفة. وليس معنى الاقتصاد الثقافي اختزال التراث الثقافي لسهولة نقله والاقتصار على جانب منه دون جوانب أخرى، بل أنه يعني الاختيار والتمييز بين العناصر القديمة والجديدة وتحقيق التكامل السليم بين فروع المعرفة، مع جعل هذا الرصيد بعد ذلك سهلة التناول. وعلى هذا فالمدرسة مطالبة لقيامها هذه الوظيفة بابتكار الوسائل والأساليب الجديدة وتنظيم المادة الدراسية وتقديمها وتوصيلها للناشئين.
5- التماسك الاجتماعي وتدويب الفوارق بين الطبقات: ومن الوظائف الاجتماعية للمدرسة (عكس الوظيفة الإيديولوجية المعتمدة ) إيجاد حالة من التوازن بين عناصر البيئة الاجتماعية، وذلك بأن تتبع المدرسة لكل فرد الفرصة لتحرير من قيود طبقته الاجتماعية التي ولد فيها وأن يكون أكثر اتصالا وتفاعلا مع بيئته الشاملة، ذلك أن المجتمع الحديث يتضمن في الواقع جماعات كثيرة وهناك أيضا الطبقات الاجتماعية والمذاهب الدينية ولكنها تتفاوت في العادات والتقاليد والآمال والقيم بين أفراد المجتمع الواحد وكل هذه الطبقات لها تأثير على اتجاهات الأطفال الناشئين.
6- تنمية أنماط اجتماعية جديدة: إن أول خطوة لتحقيق المدرسة لهذه الوظيفة هي تنمية الوعي بين الأطفال والشباب بالفرق بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون، وتتطلب هذه الوظيفة أساسا مبنيا وافرا من المعرفة ومن المعلومات عن الوسائل الاجتماعية الأخرى المختلفة، وتكوين اتجاهات علمية جديدة متحررة من التعصب والجمود لتقويم هذه المعارك واستنباط أساليب ومفاهيم جديدة تكون أساسا لتصور مستقبلي فعال.
7- تنمية الإطار القومي: فالمدرسة بطبيعتها الاجتماعية والخلقية تحمل دائما في الإطار القومي والذي منه تستمد فلسفتها واتجاهاتها والتي على ضوئه ينبغي أن تختار خبراتها التعليمية التي تعني المواطنين الناشئين. فعلى المدرسة أن تحافظ على الإطار القومي كما عليها أن تساهم في تطوير هذا الإطار وتنميته لإخضاعه للدراسة والفكر في ضوء ما يشهده المجتمع من تغيرات سياسية واقتصادية واجتماعية.
8- الابتكار والخلق: إذا كانت نقطة البداية للمدرسة هي الإنسان: الفرد. فإن موضوعها هو طبيعة الفرد من حيث نموه، فطبيعة الفرد ليست ثابتة محددة بعوامل بيئية ثابتة أو أنها فطرية تحكمها عوامل غريزية جامدة، وإنما هي طبيعة مرنة متكاملة في تفاعلها. ووظيفة المدرسة هي أن تمكن الفرد من الخروج عند حدود جماعته الأولية إلى حدود الجماعات الكبيرة مع قوة في تغيير هذه الجماعة والإضافة إليها والمشاركة فيها مشاركة ايجابية وذلك بفكر خلاق ومبدع في ثقافته وبيئته. وقد تعد هذه الوظيفة أعلى وظائف التربية المدرسية خاصة في المجتمعات التي تعيش تغيرات سريعة تحتاج من الأفراد خلقا وإبداعا وابتكارا وتجديدا في أساليب حياتهم.