الثورة الصناعية وعصر الصناعة (22)
عبد الله أوجلان
2010 / 2 / 14 - 21:52
غالباً ما يُساوى بين السياقِ الصناعي والثورة الصناعية، علماً أنّ الصناعةَ طالما وُجِدت على مَرِّ التاريخ. بل حتى أنّ أولَ صقلٍ للحجر يُعتَبَر صناعة. واكتشافُ الزراعة بمثابةِ ثورةٍ صناعيةٍ ضمن مجالها. والحِرَفِيَّةُ أيضاً صناعة. بمعنى آخر، فكلُّ وسيلةٍ أو أداةٍ أو معرفةٍ أو أسلوبٍ جديدٍ معنيٍّ بالإنتاج يكافئُ تطوراً في الصناعة. والنوعُ البشري هو الكائنُ الوحيدُ الذي يُحقِّقُ إنتاجَه بالوسائلِ في سبيلِ تأمينِ المأكل والملبس والمسكن. الصناعة، أي الإنتاجُ بالوسائلِ والأدوات، أمرٌ منحصرٌ بالإنسان ويخصه هو.
إنّ الظاهرةَ المتحققة، أو بالأحرى التي تَتَزَعَّمُها إنكلترا باعتبارها البلدَ المهيمنَ في أوروبا في أواخرِ القرن الثامن عشر، هي حلقةٌ هامةٌ من التجديداتِ الجارية باستمرارٍ على المدى الطويل. وتدويرُ عجلةِ الآلةِ بالطاقةِ البخارية ليس سوى تعبير رمزيٌّ عنها. حيث أنّ قوةَ البخار والآلات كانت معروفةً وتُستَخدَمُ منذ زمنٍ سحيق. كانت الريادةُ في ميدانِ الزراعة والغزل والنسيج قد استولت عليها هولندا وإنكلترا سابقاً. ما كان يَتَحَقَّقُ هو الإنتاجُ الأكثر شعبيةً وبُخساً. وكان ذلك يُعتَبَر ثورةً صناعية. ولم يَكُن لفرنسا وإيطاليا بدايةً أيةُ جوانب متخلفة في المجال الصناعي، لأنّ الرخصَ والشعبيةَ كانا يُشَكِّلان عاملاً مساعداً. وهذه الظاهرةُ هي التي تتخفى وراء الهيمنة. تتجسد أهميةُ الصناعة المُحَقِّقة انطلاقةً ملحوظةً مع حلولِ القرن التاسع عشر في الربح، أي تربعِ رأسِ المال في المقام الأول من حيث المكسب. والحدثُ المسمى بالثورة ما هو إلا تضخمُ الأرباح التي يَدُرُّها الإنتاجُ الصناعي بسرعةٍ مذهلة، نسبةً للمكاسبِ والأرباح التي تُجنى من التجارة والزراعة. كان الإنتاجُ الصناعي يستلم زمامَ الريادةِ لأولِ مرةٍ في التاريخ. هذه هي الظاهرةُ القابعةُ في جوهرِ ثورته. ففي السابق كانت الزراعةُ والورشةُ ميدانَين للإنتاج التقليدي. والتجارةُ كانت على شكلِ تبادلِ السلعِ اعتماداً على فائضِ الإنتاج في كِلتا الساحتَين. هكذا كان جوهرُ النشاطاتِ التي تسمى اقتصاداً.
من غير الممكن استخلاص الكثير من العِبَرِ من الثورةِ الصناعية، في حالِ نَظَرنا إليها من الزاويةِ الإنتاجية وحسب. فقد وُجِدَت ظاهرةُ الإنتاج في كلِّ زمان، من حيث التنوعِ والوفرة على السواء. بل وبالمقدور القول أنه ما مِن ثورةٍ بَلَغَت المستوى الذي أَحرَزَته الثورةُ التي شَهِدَتها المجتمعاتُ مع الثورةِ الزراعية، سواءً من حيث الفترةِ الزمنية التي شملتها، أو من حيث الأهمية. إذن، ينبغي البحث عن أهميةِ الثورة الصناعية في مكانٍ آخَر. بل إنها تَكمُن في عدةِ أماكن، وليس في مكانٍ واحدٍ فقط.
1- لأولِ مرةٍ في التاريخ يَتَقَدَّمُ الإنتاجُ المديني على الإنتاجِ الريفي. فقد كان المِهَنِيُ الضاربُ بجذورِ إنتاجه في المدينة منتجاً معاوناً للريف طيلةَ آلافِ السنين، ومرتبطاً بالريف الذي كان بمقدوره الاستمرار بوجوده حتى من دونه. لكنّ الثورةَ الصناعية للقرن التاسع عشر قد قَلَبَت هذه المرحلة رأساً على عقب بعدَ آلافِ السنين. وإذا ما اعتَبَرنا الفترةَ ما بين القرنَين الخامس عشر والتاسع عشر على أنها قرونَ التوازن، فالقرنُ التاسع عشر قد أَخَلَّه لصالحِ المدينة كلياً. هذا التطورُ تجديدٌ سيسفر عن نتائجَ هامة.
2- الجديدُ الأهم هو في الميدانِ الاجتماعي. فمجتمعُ المدينة يتقدم مرتبةً على مجتمعِ الريف. وبينما كانت المدنُ سابقاً ملحقاً بسيطاً مرفَقاً بالمجتمع الريفي، فالثورةُ الصناعية ضاعفت من قدراتِ وقوةِ المجتمع المديني بنسبةٍ استثنائيةٍ خارقة. كان المجتمعُ الريفي يندرج تحت إطارِ تَحَكُّمِ وسيطرةِ المجتمع المديني، بكلِّ بُناه الفوقيةِ والتحتية. كان يتأسسُ ضربٌ من ضروبِ الدياليكتيك الاستعماري على شاكلةِ المدينة – القرية، حيث بدأ مجتمعُ القريةِ يُستَعمَر على يَدِ مجتمعِ المدينة، الذي كان يَبسط حاكميتَه الاستعماريةَ البارزة على القرية، بدءاً من الميدان الأيديولوجي إلى وسائلِ الإنتاج، ومن الأخلاق إلى الفن. والثورةُ الذهنيةُ تَفتح البابَ على مصراعَيه أمام تفوقِ المدينة بأقصى سرعتها.
3- ثمة تحولاتٌ تاريخيةٌ على الصعيد الطبقي أيضاً. فالبورجوازيةُ كانت قد بَلَغَت مع الثورة الصناعية وضعاً يُخَوِّلُها لإعلانِ تفوقها على جميعِ الطبقات والشرائح الأخرى. هذه البورجوازيةُ التي أرفَقَت الطبقةَ العاملةَ أيضاً بذاتها، قد أَعلَنَت نفسَها إزاءَ الشرائحِ المتبقية من العصر الإقطاعي والحِرَف اليدوية بأنها الأكثر تقدمية، الوحيدةُ القائلةُ بالصواب والحقائق، العالِمةُ بنمطِ الحياة العصرية، وذات البراديغما الجديدة. كما أَعلَنَت أنها بميثولوجيتِها ودينها وفلسفتِها وعلمِها تمثلُ المجتمعَ والأمةَ والتاريخَ بِرِمَّتِه. أما الآخَرون، فقد عَلِقوا في الماضي القديم، ولا قيمةَ لهم أكثر مِن أنْ يُوضعَوا في المتحف الأثري.
4- بمقدورنا الحديث عن مشاركةِ العلم بمنهجيةٍ وتخطيطٍ في الإنتاجِ لأولِ مرةٍ مع الثورةِ الصناعية. فتقنياتُ العلم والإنتاج كانت سابقاً تتطور منفصلةً عن بعضها، لكنها تكاتفت واتحدت لأولِ مرةٍ في الثورةِ الصناعية. وبذلك كان العلمُ قد خرجَ من كونه هدفاً لِيَسقط إلى منزلةِ الأداة. إنّ أداتيةَ العلم جَلَبَت معها تَرَدِّيَ المجتمع وتهاويه أيضاً.
5- ضاعف الربحُ الصناعي من نسبته أكثر مما هو عليه في كلِّ الميادين الأخرى. الصُّنَّاع باتوا الممثلين الجددَ للمجتمع. والصناعةُ كانت تعني التفوقَ الاستراتيجي في كلِّ حقل. ومن يُمسِكُ بهذا السلاح في قبضته بشكلٍ مؤثر، لا يمكن قهرَه أو بَطحَه أرضاً على الإطلاق. حتى التجارةُ كانت خَسِرت تفوقها، في حين تهاوى المزارعون إلى منزلةِ المنبوذين.
6- كانت النتائجُ السياسيةُ التي أسفرت عنها الثورةُ الصناعية أكثر أهمية. فبينما أفسحت الطريقَ أمام الدولةِ القومية، كانت ستبتدئ بمرحلةِ الإمبريالية المتجهة صوب الخارجِ أيضاً. كان ثمة مسيرةٌ صوبَ العالَم أكثر منهجيةً من الاستعمار. هكذا باتت الدولةُ (أو الدول) الصناعية، التي تلعب دورَ المفتاح، في وضعٍ يُخَوِّلُها لفرضِ الحملةِ العالمية الكبرى الثانية على العالَم. فالاستعمارُ، الذي يمثل الحملةَ الأولى، كان يواجه المصاعبَ والمشقات، بقدرِ ما صار أسلوباً عقيماً في التحكمِ والسيطرة. كان الاستعمارُ يعزز مكانتَه بتصديرِ رأسِ المال وبالمتواطئين المحليين. بينما كانت إمبرياليةُ الرأسماليةِ ممكنةً اعتماداً على الثورةِ الصناعية.
مثلما نشاهد، فنتائجُ الثورة الصناعية كانت شاملة. وكانت محصلاتُ الثورةِ الاجتماعيةُ والسياسيةُ مؤثرةً بقدر نتائجها الاقتصاديةِ على الأقل. هكذا حَسَمَت الحملاتُ الصناعية للقرن التاسع عشر بانتصارِ المدنية الأوروبية.
من المهم بمكان انتقاد بعضِ المفاهيم لدى تقييمِ الثورة الصناعية. أولها؛ المساواةُ بين الرأسمالية والثورةِ الصناعية، والنظَرُ إليها وكأنها الثمرةُ المباشرة للرأسمالية. ينبغي تحطيم هذا المفهوم. فمثلما هي حالُ حركاتِ النهضة والإصلاح والتنوير، فللثورةِ الصناعية أيضاً سياقُها التاريخي والاجتماعي الخاص بها. إنها ثمرةُ تراكمٍ تاريخي واجتماعيٍّ طويل الأمد.
إنّ احتكارَ الدولة عموماً، والاحتكاراتِ الرأسماليةَ خصيصاً مؤسساتٌ تُرَكِّزُ كلَّ اهتمامها دائماً على فائضِ الإنتاج والقيمة. فأينما تواجَدَ فائضٌ مدَّخَر، تَشُمُّ رائحتَه على الفور كغربانِ الجيف، وتتسللُ إلى هناك. أُنُوفُها حساسةٌ جداً بهذا الصدد، وتَشُمُّ الرائحةَ بأفضلِ الأشكال. كان من المحال عدم التفكير فيما ستأتي به الطاقةُ والآلةُ من أرباحٍ طائلةٍ بسببِ عملها الآلي التلقائي وتطبيقه في حقلِ الإنتاج. الشيءُ الذي بَرعَ فيه رأسُ المال فيما يتعلق بالصناعة، هو إلحاقُ هاتَين الظاهرتَين بأكثرِ حقولِ الربح عطاء.
كانت الطاقةُ تتحرر من تبعيتها للقوة العضلية لأولِ مرة. وأصبحَ للآلاتِ جهازٌ محركٌ قادرٌ على القيامِ بأعباءِ الساعِدِ بنسبةٍ هامة. وتَحَقَّقَت ثورةٌ حقيقيةٌ بتحويلِ الفحمِ والبترول والكهرباء والماء إلى مصادرَ جديدةٍ للقوة بالإضافة إلى البخارِ كمصدرٍ للطاقة. كان اتحادُ نظامِ الآلات الميكانيكية مع أنواعِ الطاقة الجديدة يُشَكِّلُ الأرضيةَ الخصبةَ للانفجار الإنتاجي. أنظمةُ الآلات والطاقة تلك، والتي وَصَلت الملايين من الأنواع والأشكال في يومنا، وتتسارع بنمائها بحيث لا تزال النقطةُ التي ستبلغها مجهولةً من حيث تأثيراتها السلبيةِ بالأغلب على الطبيعة والمجتمع، على صعيدِ تفكيكها وتمزيقها وتشتيتها إياهما. ورأسُ المال، الذي يَعتَبِر ذلك الفرصةَ الأعظمَ في تاريخه، يَعمل على وضعِ تصوراته بشأنِ أشكالِ السلطة والتحكم، وتطبيقها على المجتمع والطبيعةِ بأبعادٍ لا نظيرَ لها. أي أنّ المجتمعَ والطبيعةَ وجهاً لوجه أمامَ اعتداءاتِ رأسِ المال الفريدةِ من نوعها. من هنا، فالدفاعُ عن المجتمع والطبيعة قد تَعَدّى نطاقَ الكفاحِ الطبقي وحتى الاجتماعي، لِيَغدوَ قضيةً وجودية (أنطولوجية). بمقدورنا إضفاء الشفافيةِ والوضوح على فرضيتنا هذه من خلالِ بعضِ الأحداث كأمثلةٍ بارزة.
أ- ما يُعاش هو تَسَرطُنُ المدينة وانهيارُ الريف. كما أُخرِجت ثنائيةُ المجتمعِ والطبيعة من كونها شكلاً للحياة، سواءً داخلَ كلِّ واحدٍ منهما، أو فيما بينهما. نحن نواجه الحدثَ المسمى بالمجتمعِ المريض والطبيعةِ البيئوية (الأيكولوجية) التي لا يُطاق استمرارها. فعوضاً عن أنْ يَكُون المجتمعُ شكلاً من الوجودِ الممكنِ العيش داخله، يتم تحويله إلى جزءٍ وامتدادٍ لنظامِ الآلات ضمن ترتيباتِ التحكم والاستغلال. ومثلما يتم الإبقاء على المجتمع والفرد من جهةٍ والطبيعة من جهةٍ أخرى على تنافرٍ وتضادٍّ فيما بينهما بنحوٍ لا نشهد مثيلَه في أيةِ مرحلةٍ من مراحلِ التاريخ الحضاري، فقد أُقحِمَت الفردانيةُ والطبيعةُ ذات التوازنِ الأيكولوجي المختلِّ في مكانةٍ غَدَتا فيها عواملَ الهجومِ المضاد، وكأنهما تنتقمان من المجتمعِ والبيئة الأيكولوجية. أصبح الطبُّ يبرهن عبر المئاتِ من الأمثلة اليومية على أنّ السرطانَ الشخصي ذو جذورٍ اجتماعية. فإذا ما وَضعنا نصبَ العين أنّ السيجارةَ وحدها من أهمِّ أسبابِ السرطان، إذ باتت عادةً اجتماعية (تجارةُ التبغ مصدرُ ربحٍ رأسمالي تُحَرِّضُه الحداثة)؛ سندرك على نحوٍ أفضل مدى صوابِ الحديث عن اصطلاحِ السرطانِ الاجتماعي. هكذا بات المجتمعُ خارجاً عن كونه إطاراً للحياة.
الخطرُ الأكبر الذي تُلَوِّح به الصناعوية (وجهةُ النظر إلى الصناعة على أنها مصدرُ الربح فقط) هو بلوغُها أبعاداً مناهِضةً للمجتمعية. وهو أحدُ المواضيع التي بَقِيَت فيها الماركسيةُ تعاني النقصانَ الفادح. فنظراً لِبُنيتها الوضعية، فهي تَقبَلُ بالمجتمعِ الصناعي على أنه الظاهرةُ المثلى دونَ أيِّ اعتراض، بل وتُؤَلِّهُه، لأنها تَفتَرِضُ أصلاً استحالةَ وجودِ الطبقةِ العاملة أو عيشها من دونه. هذا ما يتواجد في مضمونها النظري. وإلى جانبِ عدمِ توجيهِ أيِّ نقدٍ ولو بسيطٍ للصناعة، فهي بالمقابل تَسمو بشأنِ نظامِ الآلات والمعامل بلا حدود. بالتالي، بمستطاعنا القول – وبكل سهولة – أنّ نصيبَ الماركسيين في نشوءِ الدين المسمى بالصناعوية يُعادِلُ ما للرأسماليين منه بأقلِّ تقدير. لقد بَلَغَت الصناعويةُ حالةَ اللوياثان الكوني منذ زمنٍ طويل، وبما يَكُون نداً لِلُوياثان الدولةِ القومية على الأقل.
تُشَكِّلُ المدينةُ النسيجَ الأساسي للسرطنةِ الاجتماعية. وإلى جانب تَطَرُّقِنا تكرراً لوظيفةِ المدائن وتاريخِ تأسيسها، فنحن مرغَمون على التقييمِ المتواصلِ لعلاقتها مع التطور الاجتماعي أيضاً. بقدرِ ما تَكُون المدينةُ شكلاً للمجتمع، فهي بمثابةِ ظاهرةٍ للتحولِ الطبقي ومقرٍّ للتدول. والرأيُ المُجمَع عليه عموماً هو أنّ هذه الظواهرَ الأساسيةَ الثلاث تعني التمدن (المجتمعات الطبقية والمدينية والدولتية). ولم تأتِ تسميةُ "المدنية" من فراغ، فهي تعني الحياةَ الخاصةَ بالمدينة، أو المدينية، أو المتمحورةَ حول المدينة. واصطلاح Civilisation في الأجنبية يَحمل المعنى القريبَ من المدنية.
من جانبٍ آخَر، فالنظرُ إلى المدينة على أنها مجردُ ظاهرةِ الحضارة هو تناولٌ ضيقٌ لها. إذ ليس بالضرورة أنْ تعنيَ المدينةُ التحضرَ أو مكانَ التحضر. فكيفما أنّ تأسيسَ القريةِ ظاهرةٌ تاريخيةٌ في بناءِ الحياة الاجتماعية، فبالإمكان تقييم المدينة أيضاً على هذه الشاكلة. والمجتمعُ – بطبيعةِ الحال – لا يمكن أنْ يأويَ دائماً إلى الكهوف أو فجواتِ الأشجار، ولا هو مرغَمٌ على البقاءِ في حالةٍ من عدمِ الخروج من القرية. لقد كان مضطراً لإنشاءِ الحياة والأماكنِ التي تتخطى نطاقَ الكهوف والقرى. وقد وَجَدَت المدينةُ مكانَها في التاريخ حصيلةَ مثلِ هذا البحث. ودورُ المدينة هامٌّ وبارزٌ في تطورِ العقل التحليلي. فالمدينةُ باعتبارها مكانَ المجتمع المعقد، تقتضي عملَ العقل التحليلي، وتُرغِمه على ذلك. فنظراً لأنّ القضايا والمشاكلَ الاجتماعية المتزايدةَ ستبحث في العقلِ عن مكانٍ لِحَلِّها، فإنّ تطورَ القسمِ المعني من الدماغ وفقَ المنوالِ التحليلي أمرٌ مفهوم. وبالطبع، فالمجتمعُ نفسه يتطلب مثلَ هذا النوعِ من الذكاء. والمدينةُ تُحَقِّقُ نقلَه إلى مستويةٍ أعلى. فضلاً عن أنه بالمقدور تعريف المدينة بأنها مكانُ تلبيةِ الاحتياجات المشتركة لمجموعاتِ القرى أيضاً.
هذا الأمرُ مهمٌّ جداً، حيث نعثر على فلسفةِ تأسيسِ المدينة في هذه الظاهرة. إذ من المحال التفكير بالمدن على أنها كياناتٌ بلا قرى. هذا المفهومُ المستفحلُ وغيرُ المسمى، والذي بمقدورنا نعته بالمدينوية، إنما يتمثل جوهرُه في موضعةِ القرية في المكانِ المقابل والمضادِّ للمدينة. والكوارثُ ذات صلةٍ كثيبةٍ بهذا المفهوم. إنّ مَوضَعَةَ القريةِ على أنها ضدّ المدينة، ليس مجردَ مفهومٍ وحسب، بل ويتجاوزه لِيَكُون نزعةً طالما نصادفها بكثرةٍ ضمنَ السياق التاريخي. أي، النظر إلى المدينة وتقييمها كظاهرةٍ مضادةٍ للقرية والريف. في الحقيقة، هذه النزعةُ، التي لا تتواجد في فلسفةِ تأسيسِ المدينة أو أساسِها التاريخي، إنما تَعكِسُ المفهومَ الطبقيَّ والدولتي المحدودَ النطاق. هذا المفهوم، الذي يعني في الوقت نفسِه المزيدَ من فائضِ الإنتاج والسلطةِ على حسابِ القرية، قد احتلَّ مكانَه في أغوارِ المدنية أيضاً. والنعوتُ التي تزدري القريةَ والريف، وتحتقرهما، وتنعتهما بأنهما مثقلتان بالجهلِ والفظاظة، وتفتقران للإدراكِ والدقة والرقة؛ إنما تنبع من الموقفِ الذي يَسلكه هذا المفهومُ على مرِّ التاريخ. إذ يَضَعُ الدولةَ والمدينةَ وكأنها متنافرةٌ مع الريف والقرية، وبالتالي، فكأنهما أَبرَمَتا تحالفاً تاريخياً فيما بينهما تجاه الوحداتِ القبائلية والعشائرية القاطنة بالأغلب في الساحةِ الريفية. هكذا وصلَ هذا المفهومُ بالتناقضات والحزازيات فيما بين مجتمعِ القرية ومجتمعِ المدينة إلى يومنا الراهن، بتأجيجها دون وجهِ حق، وبإبعادِ المدينة عن فلسفةِ تأسيسها الحقيقية، وتحريفها، وتصييرها منبعَ المشاكل والأزمات.
بَيْدَ أنه بالإمكان إنشاء المدينة والقرية – الريف بمنوالٍ متوازنٍ ومتناغم، كمكانَين يغذيان بعضَهما البعض (تكافليان)، وكساحتَين لا غنى عنهما في الحياةِ الاجتماعية. كان بالمقدور تحديد نسبةٍ معينةٍ لتأمينِ التوازن الأيكولوجي بينهما خصيصاً وضمنَ المجتمع عموماً، من حيث الموازنةِ البيئية بين تعدادِ سكانِ القرية والمدينة؛ وكان ذلك سيَكُون الأمثل. من أفظع التخريباتِ الأخرى التي تَسَبَّبَت بها المدنيةُ هي تضخيمُها الدائمُ للمدينة على حسابِ القرية والريف، والإبقاءُ عليها مَركزاً ومكاناً للتحكمِ والاستعمار والاستغلال، وتحريفُ دورها بالتأسيس على ذلك، وإبعادُ المدن عن وظيفتها الأساسية. إنّ الوصولَ بهذه الساحة فقط إلى فلسفتها الحقيقية في التشييد، يقتضي ممارسةً اجتماعيةً عظمى.
النتيجةُ الأخرى التي علينا استخلاصها من تاريخِ المدينة، هي تضخمُها كَوَرَمٍ سرطانيّ، دونَ الاكتراثِ بعلاقتها مع البيئة. حيث ما مِن جوابٍ على السؤال: "أين يجب رسم حدودها وتحديد مكانها؟". إنّ منطقَ المدينة المُحَرَّف، والمدنياتِ المتصاعدةَ تحت ظله ليست دليلاً على العقل، بل على اللاعقل، أو بالأحرى – وبعكسِ ما يُعتَقَد – هي منتوجُ العقلِ التحليلي الأشبه بصوتِ صفيحةٍ تَنَكِيّة، وقد بَتَرَ أواصرَه مع الحياة والعواطفِ وخسرها. واليوم ندرك على نحوٍ أفضل أبعادَ الكوارث والفواجع، التي ربما يستحيل التراجع عنها أو الحيلولة دونها. رغم ذلك، فالمدنُ كانت بُنى أكثرَ عظمةً وبهاءً في العصور الأولى، ولم تَكُن قد افتقدت فِطرتَها السليمة بعد. كما لم تَكُن التناقضاتُ بين الطبيعة والمجتمع الريفي – القروي قد تَجَذَّرَت بعد في المدنيةِ السومرية والمصرية. بل كان التوازنُ لا يزال ذا طابعٍ ريفي. أما المدنُ المتعاظمةُ حول القلاعِ الداخلية والخارجية، فكانت ضمن تكاملٍ مع الزراعة من حيث الموقع. ونادراً ما كان تعدادُ سكانها يتجاوز مئاتِ الآلاف. ربما تمكنت عدةُ عواصم من الوصول إلى هذا المستوى. كما لَم تَكُن مشكلةُ تلوثِ البيئة قد بلغت أبعاداً ثقيلةَ الوطأة. هذا وكانت تتميز بعمارٍ قَيِّمٍ مشحونٍ بالمعاني، وكانت كُلاًّ عضوياً متكاملاً. كانت المعابدُ، الأسواق، المجالس، وقاعاتُ المسارح والصالاتُ الرياضية اعتمدت عَمَاراً بهياً متناسقاً ومتناسباً في المدنية الإغريقية – الرومانية. كما كانت السطوحُ والرَّدَهَاتُ والحدائقُ ونظامُ المنازل ذات ماهيةٍ عضويةٍ متكاملةٍ ومتممةٍ لبعضها. ولا تنفكُّ بقايا تلك المدن تَبعَثُ على الخشوع والانفعالِ من الصميم. لقد كانت أمكنةً تحتضن بين طواياها مسحةً من القدسية، ومشحونةً بالمعاني الفلسفية.
استمرَّ هذا التكاملُ في غضونِ العصور الوسطى، وإنْ كان قد اختلَّ لحدٍّ ما مع التجارةِ المتنامية. فالتأثيرُ الطاغي للثقافةِ المعنوية قد أَبرزَ العمارَ الديني إلى الصدارة، لكنّ حجمَه لم يبلغ الأبعادَ المهدِّدةَ بالخطرِ أبداً. كما كان أقربَ إلى التوازن مع الساحةِ الريفية، حيث تَرجحُ كفةُ إتمامِ البعض. فضلاً عن أنّ أهميةَ الزراعة ارتقت بالحِرَفِ اليدوية في المدينة إلى مستوى قطاعٍ متطور. كان الحِرَفِيُّ محتاجاً للقروي، كما القرويُّ محتاجٌ إليه. كانوا ضمن تكاملٍ عضوي، أكثر من التناقض. الخطرُ الوحيدُ الذي يهددهم كان يتجسد في الكوارثِ الطبيعية (الزلازل، الجفاف والشح) والحروب. كما كانت نُظُمُ الأسوارِ والقلاع محافِظةً على زُهُوِّها وفخامتها. ولم تَكُن التجارةُ الكبرى بلغت أبعاداً تبتلعُ معها الحِرَفِيَّ والقروي. بل كانت التجارةُ في مسارِها الطبيعي كقطاعٍ من الاقتصاد. كانت المدنُ الإيطالية، وبتأثيرٍ من النهضة، الممثلَ الأخيرَ لهذه المرحلةِ فيما بين القرنَين الثالث عشر والسادس عشر. في حين كانت مدنُ البندقية وجنوى وفلورنسا بمثابةِ الجسرِ الواصلِ بين المدنيةِ الكلاسيكية ومدنيةِ العصر الحديث.
شَرَعَت المدينيةُ تكتسب معانيَ مختلفةً مع العصرِ الحديث. إذ كانت هيمنةُ السوق تَلُوحُ في الأفق، والتجارةُ تُضاعِفُ وزنَها مع الوقت، لِيَختَلَّ التوازنُ التاريخيُّ رويداً رويداً على حسابِ الريف – القرية. حيث كان ثمة عَمَارٌ مديني يَبرز للمقدمة لتلبيةِ احتياجاتِ التجار، وقد بَتَرَ أواصرَه مع الحياةِ والبيئة، وصارت ذهنيةُ الربح هي التي تُحَدِّدُ مكانةَ كلِّ شيء. كانت العديدُ من مدنِ العهدِ الحديث، وفي مقدمتها باريس ولندن وأمستردام وهامبورغ، يَطفح فيها طابعُ المركنتلية. كانت مدنُ العصر التجاري تُزِيد من الهوة بينها وبين مفهومِ المدينة الكلاسيكية من جهة، وتَطفو تناقضاتُها مع المجتمع الريفي والطبيعةِ على السطح بسرعةٍ ملحوظةٍ من جهةٍ أخرى. كانت المدينةُ باشرت بِمَدِّ مخالبها إلى جميعِ ميادينِ المجتمع والبيئة، كونها باتت القاعدةَ المركزيةَ لِلّوياثان العصري. إنّ عصرَ الصناعوية يعني موتَ المدينة. فالجانبُ الأكثر إثارةً وغرابةً في الموضوع هو كون داءِ السرطانِ البيولوجي داءً منحصراً بالمدينة بالأغلب. أي أنّ السرطانَ متعلقٌ – وبكلِّ تأكيد – بتصييرِ المدينةِ لمجتمعها مجتمعاً مريضاً.
ألحَقَت الثورةُ الصناعيةُ المتناميةُ بسرعة مع القرن التاسع عشر الضربةَ الحاسمةَ بالمجتمع في مراكزِ ولادته أولاً. فنظراً لطبيعتها، كانت المؤسساتُ الصناعيةُ المتفاقمةُ كالتيهور في المدينة تنبع من الحاجةِ للربح، لا للحياة. أما مناطقُ المخالَفات والضواحي التي تَعُجُّ بالبروليتاريا (العبيد العصريين) المقحَمين فيها للإقامةِ والسكن؛ لم تَكُ سوى أوساطاً دخيلةً على المدينة، وتُمَثِّلُ استعمارَ الريف. هكذا شُيِّدَت مناطقُ المخالَفات والضواحي كغزوٍ استيطانيٍّ داخليٍّ أنكى من الغزوِ الاستيطاني لعصرِ التجارة. لقد كانت هذه الأماكنُ مستودعَ الجهد والكدحِ لأجلِ الصناعة، سواءً أكان الشخصُ المعني صاحبَ عملٍ أم لَم يَكُن. وما يمثله المستودعُ بالنسبة للتجارة هو نفسُه ما تُمثله مناطقُ المخالَفات والضواحي بالنسبة إلى الصناعيّ. وإلى جانبِ هذه الظاهرةِ اختُلِقَت أكوامٌ من الظواهرِ الجانبية الأخرى. فأصحابُ المعاملِ يستولون على المدينة من أجلِ المعمل، ولم يَعُدْ مفهومُ نموذجِ العصر الكلاسيكي يخطر على البال، لأنّ المدنَ باتت مركزَ ابتلاعِ المجتمع. كانت سياسةُ المدينة التي رسمتها الصناعوية في نهاياتِ القرن التاسع عشر تتنفس بصعوبةٍ تحت طبقةِ الضباب التي تَحُفُّها. ولأولِ مرةٍ في التاريخ ظَهَرَت المدنُ التي تحتوي مليون نسمة. بينما المعلوماتُ المعمارية تتنبأ سلفاً باستحالةِ قيامِ المدينة بوظائفها وواجباتها في حالِ تجاوزت نصفَ المليون. أما المليون وما يتجاوزه، فيفيدُ بأبعادِ أزمةِ الوباء.
إنّ الظاهرةَ المسماةَ بالتَّسَرطُنِ عبارة عن تضخمِ خليةٍ إلى درجةِ الاستفحال في البنيةِ كلها. وفي هذه الحالة تَعجَزُ الخلايا العضويةُ الأخرى عن القيامِ بوظائفها، فيموت المريض. وتَضَخُّمُ المدينةِ يَنُمُّ عن نتائجَ شبيهةٍ بالنسبة للمجتمع. للظواهرِ التاريخيةِ الاجتماعية أيضاً أبعادُها. فإذا ما تعاظَمَ أحدُ تلك الأبعاد كالتيهور، فذلك يعني أنّ التسرطنَ قد بدأ. إنّ تجاوُزَ المدينةِ للمليون نسمة، ولا سيما العشرة ملايين، دليلُ خروجِها عن كونها مجتمعاً، وتَحَوُّلها إلى مجتمعِ الرعاع (القطيع) المسمى بالجماهير. فكيفما أنّ القطعان تُحشَرُ في الحظائر، فـ"التحظير" أفضلُ كلمةٍ تُعَبِّر عن المجتمعِ البشري داخلَ المدينة. فالناسُ المُصَيَّرون قطيعاً تَعُجُّ بهم الحظائرُ المسماةُ بالمدينة. وقد جَرى إرضاؤهم منذ زمنٍ بعيد، ليصبحوا جمهوراً مستهلِكاً ساذجاً. والقطيعُ في الحظيرة هم كذلك. بل ووُضِعَ قطيعٌ من العاطلين عن العمل إلى جانبهم، لِتَهدِئتهم من خلالهم. لكنّ اصطلاحاتِ المراكزِ الإدارية، الفيلات الخاصة، والبيوتِ ذات الحدائق لا تتناسب مع روحِ المدينة. لذا؛ بالإمكانِ تأسيس المراكزِ الإدارية على ذرى الجبال. كما أنّ المنازلَ والفيلات ذات الحدائق لا تقتضي المدينةَ حصراً، بل يُمكِن تشييدها في أيِّ مكانٍ كان.
ما الذي يتبقى من المدينة حينذاك؟ فالمعابدُ والمسارح والمجالس والرياضة والسوق قد تَخَلَّت عن منزلتها منذ زمن لِنُسَخٍ تقليدية زائفةٍ ومُشَوَّهةٍ منها. لذا، سيَكُون من الأصح نعتها بأماكنِ التنفس الاصطناعي. ومستقبلُ المدينة بحالتها هذه يكتنفه الغموضُ والضباب. وتأمينُ المأكل لمدينةٍ تعدادها عشرةُ ملايين يعني موتَ منطقةٍ بِحالها على صعيدِ المجتمع الأيكولوجي. فتغذيةُ هذه المدينة وحدها تقتضي إبادةَ المجتمع والبيئة. ولقتلِ بلدٍ ما، يكفي أنْ يَكُون لديه عدةُ مدنٍ ذات خمسةِ أو عشرةِ ملايين من الأنفس. فتَلَوُّثُ الهواء بسببِ المرور وحده، كافٍ لموتِ المدينة. لقد فَقَدَت المدينةُ معانيها بِتَخَطِّيها المعدَّلَ المعقول بفارقٍ شاسع. ولا يمكن الحديث عن الحياة في مكانٍ يخلو من المعاني. هذا إنْ كنا لا نَعتَبِر عمليةَ التنفس وحدَها حياةً بالطبع.
كانت المدنُ سابقاً الساحاتِ التي تُكتَشَف فيها الحقائقُ وتصاغ فيها الفلسفة. أما ما هو قائمٌ في مدنِ الصناعوية المنهارة، فليس سوى المراعي التي يتحقق فيها التحولُ إلى قطيعٍ رعاعٍ من خلالِ إفراغِ ثالوثِ الجنس والرياضة والفن من جوهره كلياً. فإنْ كان هذا ليس بموتِ المدينة، فما هو؟
ب- الجانبُ المُفني الآخَر للصناعوية هو علاقتُها مع الحياةِ والبيئة. فبينما تُسَرطِن المدينةُ المجتمعَ داخلياً بالأغلب، فالصناعويةُ تَعتَدي على محيطِ الحياة بكامله. والسياسةُ الصناعوية، التي لم تَفقُد أهميتَها بعد في الدولةِ القومية، تقتضي إرفاقَ كلِّ مواردِ البلد والمجتمعِ بالصناعة، وتَرى ذلك سبيلاً إلى النماء. في الحقيقة، لا علاقةَ لهذه السياسةِ مع غِنى البلد ونمائه وتعزيزِ شأنه. بل السببُ الأولي هو تحقيقُ رأسِ المال أعلى نسبةٍ من "الربح" في هذه الساحة. الصناعويةُ غزوٌ تُسَيِّره إدارةُ الربح. وما المصطلحاتُ من قَبيلِ الاستثمار أو التنميةِ سوى أرديةٌ تُخفي الهدفَ الأصلي. إنْ تَوَفَّرَ الربح، فسيتواجدُ الاستثمارُ والنماء. وإلا، فلا معنى البتة للاستثمارِ والتنمية بدونه. الصناعويةُ لصوصيةٌ تضاهي المُلكِيةَ بآلافِ المرات. بل هي لصوصيةٌ تَطالُ شعبَ وبيئةَ كلِّ بلد.
لِنُنَوِّهْ إلى أننا لا نَنبذُ أو نُدِينُ الاستثمارَ أو الإنتاجَ المعتمدَ على المصنع بِحَدِّ ذاتَيهما. إذ بالمقدور تطوير نماذجَ من الاستثمارِ والمعامل المناسبةِ التي تَتَّخِذُ من رفاهِ المجتمع وسلامةِ البيئة أساساً في كلِّ وقت. فهي لا تَنثُرُ السيئاتِ لوحدها، بينما تفتحُ الطريقَ للسرطنة عندما تَأتَمِرُ بأمرِ الربح. فالصناعةُ بغرضِ الربح لا تَهدفُ إلى تلبيةِ الاحتياجات الاجتماعية. أي أنّ قاعدةَ الربحِ الأعظمي لا تنبع من الحاجة، بل لها منطقُها الخاص بها، ولا تُعنى بحقلِ الحاجةِ إلا إذا دَرَّ لها الربح. وإلا، فتتركه للموت. وإذا ما طُبِّقَت وطُوِّرَت التقنياتُ التكنولوجية الموجودةُ بشكلٍ سليم، فلن تبقى مشاكلُ اجتماعيةٌ من قَبيلِ البطالةِ والفقر والمرضِ والجهل. والأهمُّ من كلِّ ذلك، لن تبقى حاجةٌ لتدميرِ البيئةِ بالتقنية والمعاملِ من أجلِ العثور على الموارد.
ثمة الآلافُ من الميادين التي ليست مُربِحة، ولكنها بالتأكيد تستطيع تلبيةَ الاحتياجات الحياتيةِ بكلِّ يُسر. لكنها متروكةٌ للعطالة لأنها – فقط وفقط – لا تَدُرُّ الربح. بالمقابل، يتم هدر المصادر، التي تَشَكَّلَ بعضُها حصيلةَ التطورِ التدريجي على مدى ملايينِ السنين، واستهلاكها خلالَ فترةٍ وجيزةٍ في سبيلِ جنيِ الربح. فسياساتُ النفظِ والبحرِ والغاباتِ والمعادن قد حَوَّلَت البيئةَ إلى ميدانِ صراعٍ بين الموت والبقاءِ بسببِ نزعةِ الربح. ما مِن ظاهرةٍ قادرةٍ على الكشفِ عن البُعدِ الوحشيِّ لِما يُسمى بالربح، بقدرِ ما هي إبادةُ البيئة. الآلافُ من رجالِ العلم يؤكدون على أنه في حالِ استَمَرَّت نزعةُ الربح بهذا المنوال، فالكوارثُ البيئيةُ ستَكُون على الأبواب بعدَ عدةِ عقود، وليس قرون.
الصناعويةُ انتصارٌ بامتياز لأجلِ العقل التحليلي. لكنها أيضاً فشلٌ ذريعٌ تَكَبَّده العقلُ العاطفي. الصناعويةُ هي عودةُ الوحيِ الإلهي الأقدمِ عمراً، والذي يُسَخِّر كلَّ الكائناتِ الحية في العالَم لخدمةِ الإنسان. من الخطأ القول بأنه لخدمةِ الإنسان. بل إنه يُضَحِّي بكلِّ الكائناتِ الحية كَرمى لعينَي حفنةٍ من الطامعين بالربح. وآنئذٍ يَكُون تقديمُ الإنسانِ نفسِه ضحيةً لهم مسألةَ وقت، لا غير. ما مِن مثالٍ يتناسب والتعاريفَ المدونةَ في الكتبِ المقدسة بشأنِ السوءِ والرذالة بقدرِ ما عليه الصناعوية.
ج- من الضروري عدم النظر إلى الصناعوية بأنها قضيةُ إنتاج. فالربحُ واحتكارُ رأسِ المالِ المُسَلَّطَين على الإنتاج يمنحاننا معناها الأصلي. ما دامت الصناعةُ لم تَندرجْ في خدمةِ احتكاراتِ الربح، فبالإمكان تَصَوُّر سياسةٍ للإنتاج، وبالتالي للاستثمار في كلِّ وقت، بحيث تُراعي الاحتياجاتِ الاجتماعيةَ الأساسيةَ والشروطَ البيئية، وتُطَبَّقُ بموجبِ الإمكانياتِ العلمية والتكنولوجية. وكونها معتمدةً على الآلاتِ أم لا، لن يُغَيِّرَ من فحوى الأمرِ شيئاً. الفرقُ الوحيد هو أنّ إحداهما تُنتِجُ ببطء، والأخرى بسرعة. علماً أنّ العاملَ المحدِّدَ هنا هو شروطُ الاحتياجاتِ الاجتماعية والتناغمُ والتوافقُ مع البيئة والأيكولوجيا. البطءُ أو السرعةُ ليسا هدفاً بِحَدِّ ذاتَيهما. بالتالي، فالمَكْنَنَةُ أيضاً بمفردِها ليست جيدةً أو سيئة. فعندما بدأَ هدفُ الربح يَترك بصماتِه على الظاهرةِ المسماة بالصناعوية منذ القرن التاسع عشر حتى راهننا، ويَطغى على كافةِ مراحلِ الاستثمار والإنتاج والاستهلاك، سواءً كانت تَسير بالآلاتِ أم بدونها؛ من حينها باشرَ كلُّ شيءٍ بالتحول إلى مشكلةٍ مستفحلةٍ كالغرغرينا. ولهذا السبب تَضَخَّمَت المدنُ بنحوٍ غيرِ اعتيادي، وتطورت الأسلحةُ بشكلٍ مُهَوِّل، وتأسست الجيوشُ العملاقة، واندلعت الحروبُ المروعة على الصعيد العالمي، وبدأت الإباداتُ البيئية تُعاش، وابتُكِر وحشُ الدولةِ القومية، وأُفرِغَت الحياةُ كلياً من مضمونها، وقُضِي على السياسة. فعندما تَترُكُ الرأسماليةُ بصماتِها على الإنتاجِ الآلي باعتبارها احتكاراً، حينئذ يُبتَكَر وحشُ الصناعوية. هذا هو الجانب المصيري.
أَمسَك احتكارُ الدولة بزمامِ فائضِ الإنتاج في الزراعة أولاً والتجارةِ ثانياً. وبتأسيسِ الاحتكار على الإنتاجِ الصناعي بما لا مثيلَ له، وبالطبعِ تزامناً مع اكتشافاتِ الطاقةِ والآلات الجديدةِ مع حلولِ القرن التاسع عشر؛ جُنِيَت الأرباحُ – وبمعنى آخَر رؤوسُ الأموال مقابل فائضِ الإنتاج – التي لَم تحصلْ في أيةِ مرحلةٍ في التاريخ. عندما يُفرَضُ الربحُ على التصنيع، يَخرجُ كلُّ شيءٍ من أصوله. إذن، والحالُ هذه، فالصناعةُ والصناعويةُ الهادفةُ لجنيِ الأرباح اصطلاحان مختلفان جداً. فضلاً عن أنّ الصناعويةَ ليست اقتصاداً. بل هي احتكارُ الاقتصاد. وهي الاحتكارُ المفروض على الإنتاجِ الصناعي، سواءً أكان احتكارَ الدولةِ أم احتكاراً خاصاً، لا فرقَ بينهما. لا نناقشُ هنا حولَ ميادينِ الإنتاج التي انشغلَ بها المجتمعُ وزاوَلَها بالجهدِ اليدوي طيلةَ آلافِ السنين دون أنْ يَغتَربَ عن ذاته، سواءً أكانت في المعاملِ أم المتاجرِ أم المَزارعِ أم المانيفاكتورات. المشكلةُ لا تنبع من القيامِ بالإنتاج في هذه المجالات، مثلما لا تتأتى أيضاً من مرورها بالمقايضةِ في السوق. بل، عندما يُشرِعُ البعضُ من الدولة أو المتحدثين باسمها بالمراقبةِ والسيطرةِ الخارجية على تلك الميادين القائمةِ لتلبيةِ احتياجاتِ الإنسان، واختلاسِ الزيادةِ الفائضةِ منها بأساليبِ الضرائبِ والنهبِ والسطوِ والربح؛ حينها، وفي هذه النقطةِ بالضبط، تَتَوَلَّدُ المشاكلُ الاقتصاديةُ والاجتماعية المعقدةُ والجادة. منذ القرنِ التاسع عشر وحتى يومنا الحالي، أي بعدَ العصر الذي سمَّيناه بالثورةِ الصناعية، ومع تَحَوُّلِ الإنتاجِ إلى مجالٍ لِجَنيِ الأرباحِ الطائلة غيرِ المألوفة، وحصيلةَ إرغاماتِ الاحتكار؛ تَجَذَّرَت النزاعاتُ والصراعات، سواءً داخلَ المجتمع، أو تجاه المجتمعاتِ الأخرى خارجه، أو تجاه الطبيعة، تتصدرها في هذا المضمار الحروبُ الطبقيةُ والوطنية المثيرةُ للذهول. ويَشهَدُ المجتمعُ سلطتَه التحكميةَ بما لَم يَجرِ سابقاً البتة. فالكلُّ يتصارعُ مع الكل. وبمعنى من المعاني، فاللوياثان، وحش هوبز، لا يُنهي "حربَ الكل ضد الكل". وعلى النقيض، فهي تتحولُ إلى حربِ "الكل تجاه الكل"، تجاه الطبيعة، وتجاه نفسه. وهي نفسُها المرحلةُ الأخيرةُ التي يعيشها أو يأتي بها مجتمعُ الوحشِ أو وحشُ المجتمع.
د- مصطلحُ المجتمعِ الصناعي أيضاً لا يَحملُ أيِّ معنىً لوحده. فلدى تأسيسِ الاحتكارات الصناعية، غالباً ما يتم إتباع المجتمعِ بالتبضيع والإنتاج المعروضِ للمقايضة، ويُلحَق الإنتاجُ بالصناعة. وما الرأسماليةُ الصناعيةُ الاحتكارية سوى الوصول بساحاتِ الإنتاجِ الأخرى إلى حالةِ التبعيةِ للصناعةِ الاحتكارية. وتأسيساً عليه، فالمجتمعُ الصناعي يَجِدُ معناه كمرحلةٍ مختلفةٍ من المدنية. ومن الواقعي القول بأنّ مرحلةً مدينيةً كهذه قد تَرَكَت بصماتِها على القرن التاسع عشر. وبالإمكان أيضاً القول أنه العصرُ الباهرُ للرأسمالية، نظراً لإتاحته الفرصةَ لتسريبِ الربحِ أكثر من أيةِ مرحلةٍ أخرى، لدرجةِ أنّ هَوَسَ الربحِ يَلُفُّ المجتمعَ برمته. وتصبحُ الرَّسْمَلَةُ هدفَ الحياة، وتُسقَطُ إلى منزلةِ النمط الطبيعي للعيش. وبهذا المعنى بالضبط يَكُون المجتمعُ الصناعي هو الأول من نوعه. إنه مجتمعُ الرسملةِ القصوى. وهو المجتمعُ الذي يَصِير فيه المَلِكُ عارياً، أي – ولأولِ مرة – يَغدو فيه الرأسماليون المتقدمون على غيرهم مجموعةً من الملوك الجدد، ولكنهم مختلفون عن القدماء منهم، إذ تَكُون ألبستُهم وزينتهم اعتيادية، ويُظهِرون أنفسَهم كأيِّ مواطِنٍ آخر. هكذا يَكتَسِبُ المُلوكُ وجوداً جديداً بالتكاثر، وبالتجردِ من أحوالهم القديمةِ في الزينة والزهوِّ والفخامة. وبهذا المعنى، فالمجتمعُ الصناعي هو مجتمعُ الملوكِ العُراة.
تستشري حالةُ العاملِ المرتبطِ بالأَجرِ في هذا المجتمع، لِيَغدوَ – بمعنى من المعاني – بمثابةِ طبقةٍ مبتورةٍ من المجتمع. الفارقُ بينه وبين العبوديةِ الكلاسيكية هو ارتباطُه بعبوديةِ الأجرة. من غيرِ الصحيحِ أخلاقياً القول: أيٌّ منهما أفضلُ حالاً. وأحدُ أهمِّ أخطاءِ الماركسيين هو إعلانُ البورجوازيةِ الصناعية والطبقةِ العاملة في هذا المجتمع بأنها تقدمية، ووصمُ باقي المجتمعِ بالرجعية. علماً أنّ العكسَ هو الصحيح. قد تَكُونُ وحدةُ الطبقةِ العاملة مع الصناعةِ من خصائصِ الحداثة، لكنها تَندرجُ في إطارِ الدولة الاحتكارية الشمولية على صعيدِ المساواة والحرية والدمقرطة، لأنها تَسلك مواقفَ أقرب ما تَكُون إلى مناهضةِ المجتمعية. وتَعاهُدُ المتنورين مع هذا التحالفِ الطبقي كان الانحرافَ الأسوأَ حظاً على صعيدِ الاشتراكية. إنّ مجتمعَ الاحتكاراتِ الصناعية هو مجتمعُ الحربِ الدائمة اصطلاحاً. حيث لَم تصبح الدولةُ القوميةُ شكلَ الدولةِ السائدَ في هذه المرحلة عبثاً.
هـ- إنّ سياسةَ ودولةَ الاحتكارِ الصناعي ليست سوى الدولةُ القومية، التي هي الحالةُ المُرَكَّزةُ القصوى للقوموية، والمبنيةُ على أساسِ تمازُجِ وتلاحُمِ الدولة مع المجتمعِ الوطني بأكمله. فالدولةُ القومية مثالٌ نموذجيٌّ وواقعٌ ملموسٌ في هذه المرحلة بالأكثر. الدافعُ الأساسي وراء ذلك هو الربحُ المفرط لرأسِ المال، واستفحالُه في المجتمع. فتعاظُمُ الأرباحِ يقتضي ربطَ المجتمعِ برمته بالاحتكاراتِ الصناعية. وهذا بدوره ما مفاده الحربَ الداخلية. ولم يَكُ بالإمكان قمع هذه الحربِ الداخلية إلا بالقومويةِ المُرَكَّزة وبالدولةِ القومية التي تتكثف فيها السلطةُ بأعلى درجاتها، وبالتالي أَمكَنَ ضمانُ نظامِ المعدلِ الأعظمي للربح. من هنا، فالتنامي التدريجيُّ للفاشيةِ كنظامٍ في هذه الفترة ليس حدثاً خاصاً بذاته. فهي تَعني تحويلَ المجتمعِ إلى قطيع، واستشراءَ السلطة حتى أدقِّ مساماتِه وبُناه، والذي لا يتحقق إلا بِتَديين القوموية.
تَكتَسِب الحداثةُ الغربيةُ المؤلَّفةُ من ثالوثِ الصناعة والدولة القومية والرأسمالية ماهيةً تفيد بكونها أكثرَ عصورِ التاريخ ومدنياته دمويةً بسببِ شموليتها هذه. تلك الحداثةُ ذات الأبعادِ الثلاثية المتداخلة، تَسقُطُ في وضعٍ تندلع معه الحروبُ الداخلية (الفاشية) داخلَ المجتمع، والحروبُ الوطنية والإقليميةُ والعالمية فيما بين الدول على السواء. ويكمن في أساسِ ذلك – كما نذكر مِراراً – شكلُ نشوءِ وتقاسُمِ الأرباح. فبينما تُحدِّد الدولةُ القوميةُ هدفَها في التصنيع، فهي تضع ماهيتَها أو رغبتها في الرسملة ضمن الأجندة. وعندما يُبَيِّن الرأسماليون الدولةَ القوميةَ هدفاً سياسياً لهم، إنما يُظهِرون بذلك أنّ إمكانيةَ تشييدِ الدولةِ القومية تَمُرُّ مِن لصقِ وَرَصِّ صفوفِ الأمة بالنزعة القوموية، وأنّ هذا هو نظامُ الدولةِ الأكثر ضرورةً في سبيلِ ترسيخِ نظامِ الربح. هكذا يَكُون مصيرُ القرنَين التاسع عشر والعشرين قد تَبَيَّن مع تَحَوُّلِ الصناعةِ إلى هدفٍ رئيسي للدولة والرأسمالية على حدٍّ سواء. الصناعةُ أيضاً عصرٌ إنتاجيّ، مثلما هي الزراعةُ والمانيفاكتورة. وهي تَعتَمِدُ على الإرثِ الحضاري، إلا أنه ما مِن عصرٍ إنتاجيٍّ مَدَّ الدولةَ والاحتكارَ الرأسمالي بقدرةِ الإكثارِ من الأرباح والسلطات بقدرِ ما عليه عصرُ الصناعة. لذلك تَبدأُ الدولةُ والرأسمالي بالتنافس في موضوعِ التصنيع، ويُظهِرون هذا الحبَّ الأعمى السوداويَّ له، لا لِتفكيرهم الجديِّ بالمجتمع والفرد، ولا لاحترامِهم الكبيرِ للأمة؛ بل لأنهم حَظوا بفرصةِ ربحٍ تاريخية.
على الصعيدِ التاريخي، يُعَدُّ المجتمعُ الصناعي على علاقةٍ كثيبةٍ مع طموحاتِ الحربِ والهيمنة. فكلما لاقى التحالفُ بين إنكلترا وهولندا المشقاتِ على يدِ فرنسا، تَسَلَّحَت هاتان الدولتان بِدِرعِ الإنتاجِ الرخيص مجدداً كي لا تَخسرا مكانتَهما السلطوية. يشير التاريخُ إلى أنه لولا ريادةُ إنكلترا للثورة الصناعية، لَكان من المحتمل أنْ تَخسَرَ هيمنتَها في بداياتِ القرن التاسع عشر، وخاصةً تجاه نابليون. كما ويُقال بوجودِ فرصةِ بسطِ الهيمنةِ أمام الولاياتِ المتحدة الأمريكية وروسيا القيصريةِ المتصاعدتَين لِتَوِّهِما بالقربِ من فرنسا. ومن ثَمَّ كانت ألمانيا ستنضم إلى هذا التنافس. ويَنحَصِرُ حظُّ إنكلترا في الثورةِ الصناعية، التي ربما كانت الحلَّ الوحيد أمامها. هذا الوضعُ يفيد مرةً أخرى بأنّ الحاجةَ أمُّ الاختراع. فالآلةُ البخاريةُ وآلةُ النسجِ تُديران عجلةَ التاريخِ لصالحِ إنكلترا مرةً أخرى. أما التجديداتُ السياسيةُ والعسكرية، فتَكتَسِبُ السرعةَ والقوةَ مع الإنتاجِ الصناعي الجديد. وهذا ما يَجلب معه الانتصاراتِ العسكريةَ المتتالية.
عندما تتأسسُ السلسلة، فمِن الصعوبةِ كسرها. إذ يرجح احتمالُ أنْ تَكُونَ هزيمةُ نابليون حصيلةَ الثورةِ الصناعية أساساً، إلى جانبِ المؤثرات الأخرى. والهيمنةُ الإنكليزيةُ تَمتَدُّ آفاقُها لِتَغدوَ إمبراطوريةً عالميةً عملاقةً بفضلِ ثورتها الصناعية خلالَ القرنِ التاسع عشر، الذي هو قرنُ إنكلترا الأزهى والأبهى. فلأولِ مرةٍ تنال إنكلترا شرفَ "الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس" خلالَ هذا القرن. إنها ليست إمبراطوريةً تقليدية. فمثلاً، ما مِن تطبيقٍ على النمطِ الروماني أو العثماني فيها. ووجودُ العديدِ من الكياناتِ السياسية على مستوى الدول تحت سقفها، لا يتسبب بأيِّ خللٍ أو إفسادٍ لإمبراطوريتها. إنها تَعرِفُ كيف تعيش كنموذجٍ يضمُّ بين ثناياه الكياناتِ السياسيةَ المتعددةَ المتمتعةَ بخصوصياتها، بل ولا تزالُ قائمةً في يومنا باسمِ تَجَمُّعِ الأمم الإنكليزية (دول الكومنولث) ، وإنْ كانت تعاني الهزلَ طرداً.
يتحقق تصديرُ الثورةِ الصناعية إلى العالم بطرازٍ شبيهٍ بكلِّ شكلٍ من أشكالِ المدنيات. فبعدَ إثباتِ جدارتها، تنتشر أولاً في أوروبا الغربية، لِتَعُمَّ أوروبا برمتها مع نهاياتِ القرن التاسع عشر، وتُسَرِّعَ من وتيرةِ انفتاحها على العالمِ أجمع في مستهلِّ القرن العشرين. هذا الخللُ في الانفتاح، والذي قامَ الاحتكارُ الإنكليزي والألماني خلاله بِريادةِ المنافسةِ القائمة بين الاحتكاراتِ الصناعية؛ تَسَبَّبَ باندلاعِ الحربَين العالميتَين الكبيرتَين وعددٍ جمِّ من الحروبِ الإقليميةِ والمحلية. مرةً أخرى يَتَبَدّى لنا أنّ الربحَ الصناعيَّ ليس إلا احتكاراً، وأنّ الاحتكارَ هو الدولةُ القومية، والدولةُ القومية تعني الحرب. فإذا ما وضعنا نصبَ العين أنه ما مِن دولةٍ قوميةٍ تأسست بدونِ حرب، فسنَلتَمِسُ في معمعانِ هذه الحروب – وبشكلٍ ضاربٍ للنظر – التاريخَ الدمويَّ والرِّبحِيَّ الهادفَ للحظيِ بالمناطقِ الصناعية ومناطقِ تصديرِ التصنيع. واضحٌ جلياً أنّ الربحَ يتخفى في جوهرِ تلك الحروب والدول القومية.
اكتسابُ العصرِ الصناعي معانيه على شكلِ الإمبريالية، إنما هو على صلةٍ بهذا التصدير للخارج. فتحقيقُ تَطَوُّرٍ محدودٍ للتصنيع في المستعمَرات وأشباهِ المستعمَرات، وفي المناطق التابعةِ أيضاً؛ إنما يعني نشوبَ الحربِ الداخلية والخارجية، مثلما هو مرتَقَب. وحروبُ التحرر الوطني، التي تُعَدُّ ظاهرةً وطيدةً في القرن العشرين، لها أواصرُها المنيعةُ جوهرياً مع برنامجِ تصنيعِ ساحاتِ المستعمَرات وأشباهِ المستعمَرات. وأياً كانت مكانتُها، فإبرازُها جميعُها للدولةِ القومية إلى الأمام، وإبرازُ الدولةِ القومية بدورها للتصنيعِ إلى المقدمة؛ إنما يُشَكِّلُ حجرَ الزاويةِ في التوجهِ قُدُماً صوبَ الرأسمالية العالمية. وبهذا المعنى، فالثورتان الروسيةُ والصينيةُ ليستا في نهايةِ المآل سوى ثورةُ الدولةِ القومية والتصنيع. والمستجداتُ تؤكدُ صحةَ هذه المرحلةِ بنحوٍ صاعقٍ للأنظار. إذن، والحالُ هذه، فالقرن العشرون هو عصرُ تصنيعِ دولِ خارجِ أوروبا بالأغلب، سواءً عبر حروبِ التحرر الوطني أو بأساليبَ أخرى.
يُعاش هذا العصرُ بخطوطه العريضةِ وبكلِّ وطأته حتى الرُّبعِ الأخير من القرن العشرين. أما ما جرى بعدئذ، فهو مرحلةُ تصديرِ الصناعة إلى الخارج، كونها لَم تَعُدْ تَدُرُّ الربحَ الوفيرَ على أوروبا، بل وبدأت تُصبح عبئاً يُثقِل كاهلها (تلوث البيئة، الأجور المرتفعة). هكذا نُقِلَت إلى العالَمِ على شكلِ تصديرِ البضائع أولاً، ثم البضائعِ ورؤوسِ الأموال في القرن التاسع عشر، ثم على شكلِ الآليةِ المُكَوَّنةِ من ثالوثِ البضائعِ ورؤوسِ الأموال والصناعة في القرن العشرين. بات وكأنه لم تَبقَ منطقةٌ في العالم إلا وتَعَرَّفَت على التصنيع وشهدته. هكذا يغدو بإمكاننا التبيان بأنّ العصرَ الصناعيَّ قد خسرَ وزنَه الأساسي، أو بالأصح، إنه أنابَ عنه الصناعةَ المعتمِدةَ على الرأسمالِ المالي. والمدنيةُ الأوروبيةُ التي خطَّت مسارَ عهدِها الأول بالتجارة، والثاني بالثورةِ الصناعية، قد شَهِدَت عصرَ التمويل العالمي باعتباره المرحلةَ الثالثةَ والأخيرة. وبدأ عصرُ التمويل بلعبِ دوره الريادي في الفترةِ اللاحقة لأعوامِ السبعينيات بالأرجح، وهو موضوعٌ متعلقٌ بالفصل اللاحق.
لا يَقُومُ أيُّ عصرٍ بإفناءِ سابقِه، بل يُسقِطه إلى المرتبةِ الثانية. لقد استمرت التجارةُ في القرن التاسع عشر، لكنها حافظت على مكانتها بالتراجعِ إلى المرتبة الثانية، لافتقادها قدرتَها القديمةَ في تأمينِ الربحِ المطلوبِ نسبةً إلى الصناعة. كانَ عصرُ التمويل قد رَسَّخَ ركائزَه منذ زمنٍ طويل. فجمهورياتُ المدنِ الإيطالية كانت ضرباً من ضروبِ الجمهورياتِ المالية، حيث رَبَطَت العديدَ من المَلَكياتِ بنفسها بالتمويل. كما كانت عاليةَ الوتيرةِ وكثيفةَ المساعي في شؤونِ المال والقرضِ والاقتراض خلال العصرِ التجاري أيضاً. وكانت القروضُ باباً مهماً لانتزاعِ المكاسب، لكنها كانت قطاعاً من الدرجةِ الثالثة من حيث الأرباح التي تأتي بها.
ازدادَ المنتقِدون وتضاعفَت الانتقاداتُ بشأنِ الصناعةِ مع بلوغِ تخريباتِها البيئيةِ أبعاداً خطيرةً مرئيةً بالعَينِ المجرَّدَةِ على صعيدِ الكوكب بأكمله. والموضوعُ الذي يَغلب حوله الجدلُ هو كيفيةُ التغلبِ على الكوارثِ الناجمة عن الصناعوية، حيث بَلَغَ إجماليُّ تناقضاتِها مع الحياة أبعاداً لا تُطاق. بل وبات الجدلُ دائراً حول أنّ استخدامَ العلمِ والتقنية بهذه الدرجةِ من اللامبالاة يعني قيامَ القيامة.
تَربضُ علاقاتُ الربحِ والصناعة وراء كلِّ المشاكلِ والقضايا القائمة. حيث شوهدَ أنّ الاتحادَ المختلَّ لكليهما، دعكَ من تأمينِه للارتقاءِ والتنمية، بل يتحولُ إلى كومةٍ من المشاكلِ المتعاظمة. أما تَحَكُّمُ الصناعةُ بالميدانِ الاجتماعي بأكمله، وعدم بقاءِ أيِّ ميدانٍ اجتماعي إلا وتَحَوَّلَ إلى موضوعٍ سِلَعيّ؛ فقد بَلَغَ بالمشاكلِ الاجتماعية حدوداً قصوى لا نظيرَ لها. فالعديدُ من التطوراتِ الناجمة عن الصناعةِ مخالِفةٌ ومناقِضةٌ لطبيعةِ المجتمعاتِ بقدرِ تنافرها مع البيئةِ أيضاً. واليوم نواجه حديثاً النتائجَ النابعةَ من الابتلاعِ الذي يكاد يَكُون تاماً للساحةِ الريفية، مثلما بَدَأَت بوادرُ تَحَوُّلِ المدينةِ إلى مسارٍ مضادٍّ لها ذاتها بالظهورِ على السطح حديثاً. أما الجدلُ الدائرُ بخصوصِ ماهيةِ البدائل الممكنة، فلا يتعدى نطاقَ النقاش. لا ريبَ في استحالةِ عيشِ المجتمع بلا صناعة، ولكنْ، لا يمكن تَحَمُّل ما يجري باسمِ الصناعة. قد تتقوى نزعةُ مناهَضةِ الصناعوية طرداً، حيث احتَضَنَت نشاطاتُ المدينةِ والبيئة العديدَ من التياراتِ في هذا الاتجاه. بل ويَكثُرُ الحديثُ عن انتقالها إلى الميدانِ السياسي أيضاً. في حين أنّ انتظارَ استردادِ كِلتا الطبيعتَين توازنَهما المختلّ، وعقدَ الأملِ في ذلك على تلك النشاطات التي لا تتخطى حدودَ الإصلاح؛ ليس إلا سذاجة. إذ، من المحال انتظار ظهورِ نتائج أبعدَ من التغييراتِ الشكلية، ما دامت تتخبط في إطارِ براديغما المدنية القائمة.
ربما زادَ العصرُ الصناعيُّ لوحده من السلبيات أضعافَ ما حَمَلَته المدنيةُ المعمرة خمسةَ آلافِ عامٍ بِحالها. إنه رأيٌ يُجمِع عليه جميعُ الراصِدين للأمر. وما الاحتباسُ الحراريٌّ سوى مثالٌ واحدٌ من بينها. فالدمارٌ الجاري أعمقُ وأشملُ مما يُعتَقَد بكثيرٍ جداً. بالتالي، لا يجب الاقتصار في النقد على العصرِ الصناعي وحسب، بل ينبغي توجيهه للمدنيةِ بأكملها. إنّ تضييقَ الماركسيين وغيرِهم من المعارِضين الخناقَ على المشاكلِ بتناولها بوجهةِ نظرٍ اقتصادويةٍ طبقيةٍ ضيقة، أو بتصنيفاتٍ كالبيئوية والثقافويةِ والفامينية؛ قد أفسحَ المجالَ لِبَسطِ بعضِ النتائج الإيجابية. لكنّ عجزَهم عن البلوغِ إلى منهجيةٍ سياسيةٍ وعملياتيةٍ جدية، متعلقٌ – على أيةِ حال – بنواقصهم الجذرية.
كلما زادَ التعمقُ في خَيارِ الحضارةِ الديمقراطية، يتبدى على نحوٍ أسطع وأفضل مع مرورِ الأيام أنه خيارٌ صائب. لكنْ، وعندما تَتَّحِدُ خَياراتُ الحضارةِ الديمقراطية الجذرية مع البرامجِ المنهجية والانتقاداتِ الشاملة للغاية، بقدرِ اتحادها مع التنظيماتِ والنشاطات العملية اللازمةِ بأقلِّ تقديرٍ لتطبيقها على أرضِ الواقع؛ فحينئذٍ يمكننا النظر إلى الطبيعةِ والحياة بوجهةِ نظرِ براديغما المجتمعِ الحرِّ والمتساوي والعادل والديمقراطي، وقطع المسافات على دربها.