زمان الحداثة الرأسمالية (21)
عبد الله أوجلان
2010 / 2 / 12 - 16:34
ليس خطأً تقسيمُ التاريخِ الحضاري إلى ثلاثِ مراحل على شكلِ العصور الأولى والوسطى والعصرِ الحديث. لكنّ الاختلافَ يَكمن بالأغلب في مضمونِ التعاريف. وأنا على قناعةٍ بأنّ شكلَ ومضمونَ السرد الذي اعتمدتُ عليه في مرافعتي إنما هو منيرٌ وساطع. لقد دارت النقاشاتُ حول كونِ الرأسمالية مدنيةً أم لا. أما نقاشي بشأنِ المدنية، فيستند إلى حقيقةِ كونها تشكلت ككلٍّ متكامل، وتتميز بنظامٍ متدفقٍ على نحوِ "النهر الأم". وهي تتحرك على مثلثِ المدينة والطبقة والدولة. وكلُّ شكلٍ يَتَّخِذُه المثلثُ يُحَدِّدُ ملامحَ المدنية وشكلَها أيضاً. بإمكاننا القول أنّ المدنيةَ السومريةَ والمصرية تؤلِّف الشكلَ الكلاسيكيَّ الأول، وعصرُ الإغريق – الرومان والإسلامِ والمسيحية هو مرحلةُ النضوج، في حين أنّ عصرَ المدنيةِ الأوروبية هو مرحلةُ الانهيار والفوضى.
التقسيمُ الآخَر الذي اضطررتُ لِعَمَلِه هو بُعدُ الحضارةِ الديمقراطية. فرغم تواجدها ضمن النهر الأم، إلا أنه لا يُمكِن مطابقتَها بالأخريات. علماً أنّ الحضارةَ والمدنيةَ كلٌّ متناقضٌ لأبعدِ الحدود. والتناقضُ الأولي يكمن فيما بين المدنيةِ الاحتكارية والحضارةِ الديمقراطية للمجتمع غيرِ المتدول. ونتلمسُ التناقضَ فيما بين المدنيةِ الدولتية والحضارةِ ذات الطابعِ الديمقراطي متجسداً بأفضلِ صُوَرِهِ فيما بين المدينتَين الإغريقيتَن في العصرِ القديم. أي، بين إسبارطة المُدارة بالمَلَكية، وأثينا المُدارة بالديمقراطية. وقد شوهدَ تناقضٌ محتدمٌ مشابهٌ لدى تطورِ المدنية الأوروبية أيضاً. فالتناقضاتُ الحادةُ القائمة بين ديمقراطيتَي الدولة والمدينة منذ القرن الرابع عشر حتى أواسطِ القرن التاسع عشر، ليست في جوهرها سوى تناقضاتٌ بين المدنية الدولتية والحضارة الديمقراطية.
هذا ومن أهمِّ نواقصِ الماركسية تناولَها لهذه التناقضات ضمن المحورِ الطبقي الضيق. فالصراعاتُ الطبقية المباشرة تحليليةُ الطابع. في حين أنّ الصراعَ الملموسَ يَدور بين الجُذُوعِ الاجتماعية، أي بين مجتمعِ الدولة والمجتمعاتِ الديمقراطية. ونتائجُ وجهةِ النظر الطبقية الضيقة معلومة. بَيْدَ أنّ الأصلَ هو وضعُ الوعي وثقافتُه المعاشةُ بالنسبة للطبقات، التي يستحيل التمييز بينها بخطٍّ فاصلٍ لأنها تَشهَدُ العبورَ والتنقلَ اليومي فيما بينها. فالطبقةُ العاجزةُ عن معرفةِ حضارتها أو تشييدها، تتخبط في العدمِ طبيعياً. وما مِن صراعٍ طبقي بلا مدنية. وقد شوهد بأمِّ العين في التجربةِ السوفييتية مدى فداحةِ الصراع بين طبقتَين تعيشان تحت سقفِ مدنيةٍ واحدة. فبسببِ عجزها عن تحطيمِ قوالبِ المدنية الدولتية الأوروبية، لم تتمكن من تشييدِ حضارةٍ سوفييتيةٍ خاصةٍ بها. وكونها اتَّخَذَت قوالبَ الحداثةِ الرأسمالية أساساً بنسبةٍ كبرى، فلم تستطع إنقاذَ نفسها من أنْ تَكُون مِثلَها في نهايةِ المآل. وقد شَهِدَ التاريخُ الكثيرَ من الحالاتِ المشابهة. فعندما تحارب بأسلحةِ الآخَرين (نمط حياة المدنية)، ستصبح مثلهم. إنّ ظهورَ هذه الأوضاع للوسط متعلقٌ بعجزِ الثورات عن تحديدِ أشكالها الحضارية الخاصة بها.
بهذا المعنى، فالمدنيةُ الرأسمالية اصطلاحٌ ضيقُ النطاق. لكنّ عكسَ مدنيةٍ مثل المدنية الأوروبيةِ – والتي تشتمل في ثناياها على العديد من العناصر الديمقراطية المنيعة للغاية – وكأنها المدنيةُ المشترَكةُ لطبقتَين وحسب (العمال – الرأسماليون)، إنما يحتوي معانيَ خاطئةً جداً. لذا، سيَكُون من المفيد أكثر التمييز بين أوروبا الديمقراطية وأوروبا الرأسمالية، بدلاً من القول بوجودِ حضارةٍ أوروبيةٍ وحيدة. وما الاتحادُ الأوروبي الحالي سوى مساعٍ لتطويرِ أوروبا تَكُون فيها الحضارةُ والمدنيةُ على وفاقٍ فيما بينهما. إنها تجربةٌ مثيرةٌ وخليقةٌ بالبحث والتمحيص. فالضرورةُ الماسةُ لتأمينِ توازنِ مدنيةِ أوروبا الدولتية المتصلبة مع التقاليد الديمقراطيةِ الحصينة للغاية، ومع القوى المرنةِ كالمنطقِ والحقوق؛ إنما يتماشى وتعريفَنا بصددِ المرحلةِ الأخيرة من المدنيةِ الدولتية (أي، تداخُل المدنية مع الأزمات). وما الحروبُ الضاريةُ المتواصلةُ على مدى أربعةِ قرونٍ بِحالها سوى برهانٌ آخَر على البنيةِ المتأزمة. هذا وبالإمكان اعتبار مثالِ النظام السوفييتي برهاناً آخَر على النقاشات الدائرةِ على قَدَمٍ وساق بشأنِ النظام القائم. وبُنيةُ الاتحاد الأوروبي، وجدالاتُه بشأنِ المستقبل كافيةٌ لعكسِ تَرَدُّدِ الحداثةِ وعجزها عن النفاذِ من الأزمةِ لوحدها.
يتعلقُ السببُ الأساسي في بلوغنا هذا الحكمَ ببنيةِ الاحتكار الرأسمالي. ومثلما بَرهَنَ ماركس في كتابه "رأس المال"، فالأزمةُ متعلقةٌ برأسِ المال، أي بكونها بنيويةً بهدفِ الاحتكار. فالنجاحُ في تكديسِ رأسِ المال والربح لا يتحقق بلا أزمة. ونظراً لاستحالةِ جمودِ رأسِ المال دون ربح، فهو لا يَكُون إلا بالأزمة. وكون الثوراتِ والدمقرطةِ وحقوقِ الإنسان قائمةً في جدولِ الأعمال باستمرار، إنما ينبعُ من الحاجةِ للبحث عن جوابٍ للأزمة، وليس من القضايا الداخلية وحسب. إنها حالةُ العجزِ عن إدارةِ العالَم. ورأسُ المال العالمي لم يتحكمْ بالعالم في كلِّ مراحله، بل حاربَ العالَم. وبسببِ الأزمةِ الموجودةِ في طبيعته، فقد استشرت الحروبُ على الصعيد العالمي. وتواجدت الجيوشُ المحترفة، واندلعت الحروبُ على الدوام تزامناً مع ولادةِ المدنية. فانطلاقاً من طبيعتها، محالٌ أن تتطورَ مدنيةُ الدولة ما لَم تهيمنْ على المجتمع. والهيمنةُ بدورها تعني السلطة. والسلطةُ لا تتحقق دون سيادةٍ وتحكم. والأخيرُ بدوره لا يتحققُ إلا بالعنف والقوة. ولهذا السبب شَبَّه هيغل التاريخَ بـ"المذبحة الدموية".
الفارقُ بين كِلتا المدنيتَين السابقتَين والرأسمالية متعلقٌ بِكَمِّيةِ بنيةِ الطبقةِ والمدينة والدولة. حيث كانت المدائنُ صغيرة، والطبقاتُ محدودة، والدولُ أقلَّ وأصغر. بالتالي، كانت الحروبُ قليلةً وقصيرةَ الأجَل. العنفُ أيضاً هام، انطلاقاً من الطابعِ البنيوي للمدنية. لكنْ، ومثلما ابتَلَعَت المدينةُ والطبقةُ والدولةُ المجتمعَ برمته في الرأسمالية، كذلك هي تبتلع البيئةَ وما تحت الأرضِ وفوقَها أيضاً. وتلتحف حالاتُ الفوضى المجتمعَ والبيئةَ على السواء. يَعرضُ إيمانويل والرشتاين حُكماً يَذكر فيه أنّ الرأسماليةَ وَلجَت مرحلةَ الأزمة البنيوية بعد أعوامِ 1970، وأنها قد تَدُوم حوالي 25 – 50 عاماً. وعندما يَقول أنّ النتيجةَ تُحدِّدها نوعيةُ العلم + التنظيم + الممارسة، فهو يتطرق نسبياً إلى الظواهرِ وعلاقاتها. إنه عاجزٌ عن الخلاصِ بعد مِن المفهومِ الماركسي بشأنِ الأزمة الدورية. إذ أرى أنه من الأصحِّ الافتراضَ بِكَونِ الرأسماليةِ تعني الأزمةَ من حيث زمانها بأكمله. سأَجهَدُ في هذا الفصل باقتضاب إلى تقسيمِ زمانِ الرأسمالية، وسأتناول بالخطوط العريضة بُنيتَها وحالتَها المتأزمةَ وقضاياها في التغير والتحول.
أ- رأسمالية التجارة الاحتكارية:
التجارةُ هي الميدانُ الأقدمُ لرأسِ المال. تاريخياً، بالإمكانِ الحديث عن وجودِ عصرٍ تجاريٍّ ملتفٍّ حولَ مدينةِ أوروك فيما بين 4000 – 3000 ق.م. نحن على علمٍ بأنَّ الآشوريين شادوا المستوطناتِ التجاريةَ من بلادِ الأناضول إلى بلادِ الهند. والفينيقيون هم أولُ قومٍ أبدى مهارتَه في بناءِ أُولى المستوطناتِ التجارية المتراميةِ على أطرافِ البحرِ الأبيض المتوسط. أما التوسعُ والأمانُ في الإمبراطورية البرسية، فكانا مشحونَين بأوسعِ معاني العولمة على الصعيدِ التجاري. كما حافظت التجارةُ على وزنها الكليِّ في المدنيةِ الإغريقية – الرومانية. ذلك أنه من العسير على المدن أنْ تَصمدَ دون التجارة. أي، المدينةُ الضخمةُ تعني التجارةَ الضخمة. أما الحضارةُ الإسلامية، التي تُمَثِّلُ القوةَ العالمية في العصور الوسطى، فتُعَدُّ المرحلةَ الأخيرةَ الكبرى على الطريق المتجه صوبَ التجارةِ الغربية، وكأنّ جميعَ التقاليدِ اللازمة للتجارة قد تَكَوَّنَت. فالعناصرُ من قَبيل النقود، القروض، البنوك، السندات، السوق، والنقل قد غدت القطاعَ الطاغيَ بوزنِه وشأنِه في الحضارةِ الإسلامية، باعتبارها تُشَكِّلُ العواملَ القديمةَ والجديدة في الوقت نفسه. أما المدنُ التجاريةُ الإيطالية، فَوَرِثَت أساساً التقاليدَ التجاريةَ لشرقي البحرِ الأبيض المتوسط والإسلام وبيزنطة.
ينتقل التفوقُ التجاري في القرن الثالث عشر إلى القارةِ الأوروبية عن طريقِ إيطاليا. تحافظ المدائنُ التجاريةُ الإيطالية على تفوقها فيما بين القرنَين الثالث عشر والسادس عشر، لِيَنتقل بعدها إلى الاحتكاراتِ في مدائنِ هولندا وإنكلترا. وبَعدَ القرن السادس عشر يتحقق انتصارُ الرأسمالية التجاريةِ بنسبةٍ كبرى في عاصمتَي هذَين البلدَين، أي في لندن وأمستردام. أما اكتشافُ أمريكا وجنوبِ شرقي آسيا عن طريقِ المحيط الأطلسي ورأسِ الرجاءِ الصالح، وانخراطُهما في الطرقِ التجارية، فَيُعَدُّ إحدى أعظم الثوراتِ التجارية. ومع بروزِ هذه الطرقِ التجارية، خَسِرَ الشرقُ الأوسط سيطرتَه على الطرقِ الواصلةِ بين الشرقِ والغرب، وبين الشمالِ والجنوب، ليتلقى ضربةً كبرى اعتباراً من القرن السادس عشر، ويَفقِدَ أهميتَه القديمة. وتَراجُعُ حضارةِ الشرق الأوسط طردياً منذ القرن السادس عشر على صلةٍ كثيبةٍ بهذه الطرقِ التجارية المُكتَشَفةِ حديثاً. ومع الثورةِ الصناعية تَلحَق به الضربةُ الاستراتيجية، لِيَعجَزَ عن لَمِّ شمله أو استردادِ قوته إلى يومنا الراهن.
أدى التراكمُ الرأسماليُّ الأولُ الكبيرُ لأوروبا دوراً رئيسياً في القرنَين الخامس عشر والثامن عشر. حيث يَبسط هيمنتَه لأولِ مرةٍ على الزراعة والمِهَنِ الحرة المتنامية في المدينةِ منذ القرن العاشر. وغلبةُ الطابعِ الاحتكاري على المصانع باعتبارها أولَ حركةٍ صناعيةٍ جدية، وانتشارُها، وتضخُّمُ حجمها ذو صلاتٍ وثيقةٍ بهيمنةِ الاحتكار التجاري. هذا وصانت شركتا الهند الشرقية والغربية مكانتَهما الرياديةَ مدةً طويلةً من الزمن، كونهما الشركتَين التجاريتَين الأضخم خلالَ عهدهما في هولندا وإنكلترا. أما الوسائلُ المؤثرةُ لرأسِ المال من قَبيل البنوك، السندات، القروض، العُملة الورقية، المحاسبة، والمعارض؛ فتحولت في هذه المرحلة إلى مؤسساتٍ وطيدة.
نتلمس مرةً أخرى الوحدةَ الوطيدةَ فيما بين الاحتكاراتِ التجارية الخاصة واحتكاراتِ الدولة خلال هذه المرحلة. وبالأصل، من غير الممكن الحديث عن الاحتكارات التجارية، دون وجودِ الدولة باعتبارها احتكاراً. فاحتكارُ الدولة ظَلَّ يتزعم المكانةَ منذ العصر التجاري الأول إلى العصرِ التجاري الأوروبي. أما القولُ بالليبرالية رغماً عن الدولة، فهو مجردُ سفسطةٍ ولَغَطٍ فادح. فالمعنى الأوليُّ لِلِّيبراليةِ هو تسخيرُ الدولةِ لخدمةِ الاحتكار الاقتصادي كلياً، وتصييرُ الدولةِ السياسيةِ دولةً اقتصادية. الليبراليةُ بلا دولة كالبستانِ بلا ناطور. والثقلُ التجاري على الدولة في هذه المرحلة، أو بالأحرى علاقاتها مع الاحتكار التجاري، تحتل مرتبةَ الصدارة.
وبسببِ هذا العامل، تُسَمَّى الفترةُ ما بين القرنَين الخامس عشر والثامن عشر بالمرحلةِ المركنتلية. وهي من حيث الجوهر تعني لمَّ الدولةِ شملَها عن طريقِ التجارة، وتخصيصَ جُلِّ ميزانيتها لها. بالإمكان وصفها بالقومويةِ التجارية أيضاً. فالبيعُ أكثر من الشراء هو السبيلُ الأمثل نحوَ دولةٍ متفوقة. هذا وتُعرَفُ الدولةُ الوطنية أيضاً بأنها مرحلةُ انتقالِ المونارشية إلى الانتعاشِ والنماء. وهي نفسها المرحلةُ التي يتداخل فيها انكبابُ الأرستقراطية على التجارة من حيث المخططِ الاجتماعي مع أرستقرطةِ التاجر، وتَكتَسِب فيها البورجوازيةُ تقاليدَها الأولى كطبقةٍ عصريةٍ حديثة. وهي تَشهَدُ الإصلاحاتِ الجذرية، بدءاً من الأيديولوجيةِ البورجوازية إلى نمطِ حياتها، ومن مفهومها في الموضة إلى معمارِ المدن.
لقد تَحَقَّقَ الإصلاحُ والتنوير في هذا العصر، لكنه من الخطأ الجسيم الاعتقاد بأنَّ كلاً منهما حركةٌ بورجوازية. فالإصلاحُ في مضمونه يعني إضفاءَ الطابعِ الوطني على الدين، وافتتاحَ فروعه الوطنية. وما مِن علاقةٍ سببيةٍ بينه وبين البورجوازية. بل هو يهدف إلى تحديثِ القوالبِ التي عفا عليها الزمن، وتجديدها ضمن الشروط المرحلية المستجدة. إنه حركةُ أقلمةِ الدين مع الزمن. وهذا بدوره جزءٌ من الثورةِ الفكرية. أما التنوير، فهو ثورةٌ فكريةٌ أشملُ نطاقاً. وهو يفيد بِتَخَطّي البراديغماتِ الفكريةَ القديمةَ بنسبةٍ كبرى، وطبعِ العصرِ بطابعِ البراديغما الجديدة، وتحديثِ الأنماط الفكرية من جميعِ المناحي. وله عُراه مع ثورةِ العلم والفلسفة باعتبارهما الميدانَين الهامين. تزامُنُه مع العصرِ التجاري محضُ صدفة، ولكننا نرى الطبقةَ البورجوازية تتبناه وتجعله حِكراً لها، نظراً لطبائعها المعلومة. إنها تجعل من كِلا الميدانَين رأسمالاً فكرياً بِيَدِها. ولسلوكها هذا أهميتُه القصوى، حيث تحظى بالمقابل بِلَقَبِ طبقةٍ شرعية. لِمُفكِّري حركةِ التنوير نصيبُهم الوافرُ في التغاضي عن الماهيةِ الطفيلية للاحتكار، والتي تُماثل ما لدى المطلقيةِ والأرستقراطية بأقلِّ تقدير. ولأنّ البورجوازيةَ كيانٌ طبقيٌّ حديثُ العهد، فلم تُحسَب النتائجُ التي ستتمخض عنها بدقة، بل وأُلقِيَ حملُ جميعِ السلبيات على كاهلِ الطبقات القديمة. لقد لعبت البورجوازيةُ دوراً رئيسياً في أنْ تَترُكَ ماهيةُ الطبقة الوسطى بصماتِها على العصر.
ترمي البورجوازيةُ من دعمها للقوموية كأيديولوجيا إلى تأسيسِ احتكارها على السوق الوطنية. وقد أدت القومويةُ دوراً مؤثراً في تصفيةِ منافسيها والقضاءِ عليهم. فَنَبذُ ودحضُ أصحابِ رأسِ المال التجاري من الأمم والقوميات الأخرى، بات الأرضيةَ الخصبةَ لِنُمُوِّ شتى أنواعِ العِداء العِرقي، الوطني، الأثني، والديني. وهذا ما أجَّجَ النزعةَ القوموية بشكلٍ متبادل. ولهذا السبب تصاعدت مشاعرُ الكراهية حِيال اليهود في سائرِ العالم، وبات اليهودُ مصدرَ السيئاتِ والرذالة، والعائقَ الأكبرَ أمامَ الآمال الوطنية. مقابل ذلك، شَرَعَ اليهودُ بتأسيسِ التشكيلات الماسونية بغرضِ الدفاع عن ذاتهم دولياً، ومضاعفةِ تعدادِ أصدقائهم، والقضاءِ على أعدائهم. وبالرغم من أنّ أصولَها تَرجِعُ إلى العصور الوسطى، إلا أنّ دورَها الأساسي قد اكتَسَبَ معناه وشأنَه في هذه المرحلة. وكان لها حصةٌ في العديدِ من الحركات الانقلابية. لقد أفسحت القومويةُ اليهوديةُ المجالَ أمام ظهورِ الصهيونية.
إذا ما وضعنا نصبَ العين روابطَ العلاقةِ بين التجارة والاستيطان مع عصرِ الولادة، ومسارَ التطورِ اللاحق، لَكَان من المنتظر تحقيق طفرةٍ في عهدِ المركنتلية. استيطانيةُ هذه المرحلة تبرز أمامنا بالطابعِ الاستعماري. فالقارتان الأمريكيةُ والأوسترالية اللتان لم تتعرفا على المستوطنات قط طيلةَ تاريخهما، إضافةً إلى آلافِ الجُزُرِ المماثلة لهما، نجدها تتعرفُ على الاستعمار في هذه المرحلة. أما جميعُ القارات القديمة الأخرى في العالم، وعلى رأسها أفريقيا وآسيا، فكأنها اكتُشِفت لِتَوِّها بغرضِ تحويلها إلى قاراتٍ مستعمَرة. وبناءً على هذا المَرام تَمَّ الشروع بأنشطةٍ من قَبيل الاستشراق (العلم المعني بالشرق) والأنثروبولوجيا (علم الإنسان). بالإمكان اعتبار ذلك مثالاً جيداً من حيث العلاقاتِ الكائنة بين العلم والمجتمع الجديد. في هذه المرحلة تَجِدُ نظرياتُ العِرقِ الأسمى أيضاً فرصةً للتصاعد. وسُعِيَ لتطبيقِ الداروينية على المجتمع. إنّ أعمالها بشأنِ الجغرافيا والتاريخ، وإنجازاتِها وفقَ منظورِ البراديغما الجديدة إنما ترمي للهدف عينه. فانفتاحُ العالَمِ على الرأسمالية يُشبِهُ فعالياتِ الكشف.
الاستيطان، أو الاستعمارُ ذو النتائجِ الأكثر منهجية، هما أساساً سياسات الاحتكارات التجارية في التوسع. إنهما الشكلُ الأكثر عصريةً للنهب والسلب. فالرأسماليةُ التجارية الأوروبية قد تَكَوَّنَت بدرجة ٍكبرى اعتماداً على سلبِ المستعمَرات ونهبها. وبينما كانت الفضةُ والذهبُ الأمريكي يُسلَب، كانت المنسوجاتُ الزهيدةُ من الأدواتِ الهامة في هذا السلب بأثمانٍ لا نظيرَ لها. لم تَشهَد التجارةُ التكويناتِ المختلَّةَ الأسعار وحسب، بل وطالما مَرَّت بمراحلَ تُحَدَّدُ فيها الأسعارُ بالذات من طرفٍ واحد. لقد لَعِبَ الاستيطانُ دوراً أولياً في تَحَكُّمِ الاحتكاراتِ التجارية بالأسعار، وبالتالي جَنيِها أرباحاً طائلة. وبالأصل، فمكاسبُ التجار ترتكز على الاستفادةِ من فارقِ الأسعار بين الأسواق، أو العملِ على تكوينِ هذا الفارق بمختلفِ الأساليب (تخزين السلع، ندرة السلع).
يَقول فرناند بروديل أنّ الحركاتِ المضارِبةَ للتجارةِ الكبرى لعبت دوراً مصيرياً في نشوءِ الرأسمالية. ويوضح أنّ المقايضةَ العادية في السوق لا دورَ لها، لأنها تندرجُ في قائمةِ النشاطات الاقتصادية الطبيعية. كما يَبتدئ الاقتصادَ بتطورِ عمليةِ المقايضة. هذا ولا يَعتَبِر إنتاجَ السلع بهدفِ الاستعمال اقتصاداً. بل إنّ بلوغَ حافةِ مرحلةِ المقايضة يعني بدايةَ الاقتصاد. ليس ثمة مكانٌ للربحِ في هذا الميدان. فقد تتحدث الأطرافُ عن مكاسبِ المقايضة والتبادل، لكنّ هذا ليس موضوعاً للمضارَبة. فالمضارَبةُ الحقة موجودةٌ في ميدانِ التجارة الكبرى، والتي تسمى بيت الرأسمالية. ففارقُ الأسعار يتحقق بالذات بالتلاعب بالأسعار. بالتالي، فهو ليس اقتصاداً، لكنْ، وكأنه ما مِن رغبةٍ في كشفِ النقاب عن هذا "الشيء" المفروضِ من الخارج. لكنّ الخطأَ الجَسِيمَ الذي يرتكبه هو عدم تعريفه لما يأتي بعدَ ذلك، مُخَلِّفاً وراءه إشارةَ استفهامٍ كبرى.
إنّ فرناند بروديل متنبهٌ للفرقِ بين الدولة والسلطة. لكنه لا يُحَدِّدُ مدى تأثيرهما، وإنْ لم يَكُن مثلَ ماركس الذي يَعتَبِر وظيفةَ الدولة والسلطة غيرَ ذاتِ شأن. وعندما تُعَرَّف الدولةُ في الماركسية بالاقتصادِ المُرَكَّز، تَكُون أقربَ إلى الحقيقة في بعضِ الأحيان، لكنه تعميمٌ مُجَرَّدٌ للغاية. فالسلطةُ والدولة أساساً هما "الاقتصادُ الذي ليس اقتصاداً". أي أنها تَنظرُ للاقتصاد على أنه ميدانُ تسريبِ واختلاسِ فائضِ الإنتاجِ والقيمة، وبموجبِ ذلك تؤسس الاحتكارَ في هذا المجال. وهي – بهذا المعنى - تفيد بالمجال الذي يَعلو الاقتصادَ مباشرة، ومعنيةٌ به كثيراً. كلُّ آلياتها مسخَّرةٌ للاستيلاءِ على فائضِ الإنتاج والقيمة بشتى الأساليب والسبل. تأتي الزراعةُ والتجارة والصناعة في مقدمةِ الميادين التي يتأسس عليها الاحتكار. وعلى سبيل المثال، فالضرائبُ غير المباشرة هي ساحةُ العلاقة التي تتحرك فيها الدولةُ مباشرةً باعتبارها الاحتكارَ التجاري. الدولةُ هنا تاجرٌ بكلِّ معنى الكلمة. هي ليست تعبيرَه المُرَكَّز، بل تاجرٌ بشكلٍ مباشر. فالحصةُ من تلك الضرائب، مثلما هو معلوم، تُشَكِّلُ القسمَ الذي يَزيد عن نصفِ الواردات.
علاوةً على ذلك، وانطلاقاً من مكانةِ الدولة في تحديدِ المَزارع، والأسواقِ الزراعية وأسعارها؛ فهي احتكارٌ اقتصادي كلياً. لكنّ العلاقةَ بين الدولة والاقتصاد والسلطة يُخلَع عليها هالةٌ من الإبهامِ والغموض الدائمِ في مَراجعِ الاقتصاد الأوروبي. فبالرغم من إصدارِ الاشتراكيين والليبراليين على السواء عشراتِ الآلافِ من الكتب والمجلدات، لكنهم لا يزالون بعيدين عن إنارةِ هذا الميدان. إنّ عدمَ معالجةِ ماركس هذا الميدان، أو عدمَ إسعافِ عُمره له في تناوله، يُعَدُّ نقصاً جدياً له نصيبُه الوافر في الفوضى والبلبلة العارمة.
أياً كانت الزاويةُ التي ننظر منها، ينبغي الاعترافَ بالدور الأولي الذي لعبته الآلياتُ الخارجة عن الاقتصاد في إحرازِ العصر التجاري نصرَه الظافر فيما بين القرنَين الخامس عشر والثامن عشر. إذن، والحالُ هذه، ما هي الدولة، إنْ لَم تَكُ اقتصاداً؟ إنّ استخدامَ أيةُ قوةٍ هذه الساحةَ كما تشاء أمرٌ عصيب – إنْ لَم يَكُن مستحيلاً – ما لَم تَتواجد السلطةُ عموماً، أو الدولةُ خصوصاً كونها التعبيرَ الحقوقي عن السلطة. قد يَكُون بالإمكان الحديث عن مختلفِ زمرِ القوى الاحتكارية، لكنّ تلك القوى مرغَمةٌ في نهايةِ المطاف على عقدِ العلاقةِ مع السلطة، أو مع تعبيرها الملموس المُشَخَّص في الدولة. أحياناً ما تسمى بالمجال المالي أيضاً. فإذا ما خَرَجَ المالُ من كونه وسيلةً بسيطةً للتبادل، فبمقدوره – حقيقةً – أداءَ دورِه كقوةٍ قاطعةٍ كَحَدِّ السيفِ على الأقل. إنّ عبارةَ نابليون بشأن الجيش: "المال، ثم المال، ثم المال" لَم تَكُن عن عبث. ولكنْ، أيُّ مالٍ ذاك؟ إنه ليس المالَ كأداةٍ للمقايضة، بل المالُ الذي ليس اقتصاداً. هو المالُ التجاري الضخم، والمالُ كوسيلةٍ للمضارَبة. المالُ في هذه الميادين سيدٌ وحاكمٌ إداريٌّ بكلِّ ما للكلمة من معانٍ. وقد خَصَّت البورجوازيةُ المالَ بدورٍ عظيم، نظراً لاستيعابها الأمثل لهذه النقطة. ولِكَي يغدو المالُ القوةَ الحاكمةَ والقائدةَ للمجتمع، فقد مُزِّق المجتمعُ إلى أشلاءٍ متناثرة، وكأنّ سكينَ القصابِ جزَّأته. لقد زُجُّ المجتمعُ – بل وحتى الدولة نفسها – في حالةٍ يستحيل عليه العيش دون المال.
يَبدو فيما يَبدو أنّ الطفحَ إلى هذه النقطة هو الثورةُ الحقيقيةُ للبورجوازية. فالمجتمعُ والدولةُ المحتاجان للمال، يعنيان امتثالَهما لأوامرِ البورجوازية. هذه المكانة، التي بمستطاعنا نعتها بالاحتلال المالي، قد تَمَّ بلوغها بهذه الشموليةِ لأولِ مرةٍ في التاريخ في هذا العصر الأوروبي. فمثلاً، لا داعيَ لإتباعِ عاملٍ ما كعبدٍ أو قِنٍّ كما قديماً، لأنه – بالطبع – سيبقى جائعاً إنْ لَم يقبضْ أَجرَه اليومي. الجوعُ سيُحَتِّم عليه التبعيةَ للمال. لقد أُقحِم العاملُ في وضعيةٍ لا خيارَ أمامه فيها سوى الاستسلامَ للمال. بالتالي، لا داعي للحراك بالنمط الكلاسيكي العبودي أو كسيدٍ إقطاعي تقليدي لإحكامِ القبضة على العامل وتوجيهه. فضلاً عن أنه نمطٌ باهظُ التكاليفِ ويتطلب مسؤوليةً أكبر. أما الرأسمالي، فيكتفي بإبرازِ قوةِ المال وحسب، لِيَتَمَكَّنَ من الحظيِ بالعامل واستخدامه كما يهوى.
يمكننا ذكر الخواصِّ المشابهة فيما يتعلق بموضوعِ البضائع أيضاً. فالبضائعُ كمُلك وصلت مكانةً لا تستطيع فيها الحراكَ من دون المال. أي أنّ كلَّ أنواعِ حِراك البضائع على عُرىً وثيقةٍ بالمال. إذ يستحيل إنتاجها أو نقلها أو استهلاكها من دونه. هذه أيضاً ثورةٌ كبرى للرأسمالية: انصياعُ الاقتصاد لسيادةِ المال المطلقة. لقد بات الاقتصادُ بمثابة لعبةٍ بِيَدِ المال، تابعاً له بما لا مثيلَ له في أيِّ عصرٍ من العصور. المالُ هنا دولةٌ بكلِّ معنى الكلمة. ليس شبيهاً بها، بل هو الدولة! بل حتى إنّ الدولةَ ضمن ضربٍ من ضروبِ التبعية للمال. فالدولةُ بلا مال، كالعاملِ بلا مال، أُقحِمَت في منزلةِ البضاعة. في الحقيقة، حتى ولو تَبَدّى وكأنه مفارَقة، لكنّ المال هو دولةُ الدولة. وإيصالُ الدولة إلى هذه الحال هو من ابتكارِ هولندا وإنكلترا في القرن السادس عشر. حيث خُلِقَت الدولةُ القوية، لكنها دولةٌ تابعةٌ للمال. والمؤرخون يقولون أنّ هزيمةَ فرنسا أمام إنكلترا وهولندا في صراعِ الهيمنة والسيادة، لأنها لم تُبدِ قدرتَها على النجاحِ في هذا المجال. مزيدٌ من النقاش حول المال في خضمِّ عصرِ التمويل سيَكُون أكثرَ تنويراً.
بالمقدور الشروع بنقاشٍ موسعٍ بصددِ ظهورِ البورجوازية التجارية كأهمِّ عاملٍ مؤثرٍ في التطور الحضاري فيما بين القرنَين الخامس عشر والثامن عشر، وتأثيرها على المجتمع برمته. خصائصُ المجتمع التجاري معلومة. والإفراطُ في التشبث بالمال، المُراباة، جني الفوائد، وامتلاك البنوك؛ إنما يحتل مكاناً سلبياً لأبعدِ الحدود في ذاكرةِ المجتمع. وفي صدارةِ المواضيع التي تناولَتها الفنونُ (وفي مقدمتها الآداب) في تلك القرون، هو أنّ هذه العناصرَ هي التي أوقَعَت الضربةَ القاضيةَ بالأخلاق. وكأن فيروساً استشرى في المجتمع، ينخر فيه ويَفتِكُ به. إنه يُعتَبَر المسؤولَ عن مستوى التَّرَدِّي العامِّ والبلادةِ في المجتمع، لأنه يُجَمِّد العلاقاتِ الحميمةَ والإنسانيةَ القديمة بسببِ الطابعِ الجليدي للمال. وكأنّ مَن لا مالَ له قد خَسِرَ فرصَتَه في الحياة. فضلاً عن أنه، ولِرَسمِ صورةٍ من العظمة، لم يَعُد ثمةَ داعٍ – مثلما كان في الماضي المنصرم – للعروشِ الذهبية، الأطباق الفضية، القصورِ المطلية بالذهب، إظهارِ الأبهة، استعراضِ القوة الفظة، الأزياءِ المُبهِرة، وموائد الترف. فقط، لِيَكُن لديك مكانٌ تُخَبِّئ فيه المال، ستَغدو أنت الأعظمَ بلا جدل. من المحال اعتبار وصولِ البشرية إلى هذه الحالة رُقِيّاً. حيث لا يشتمل على أيِّ تحديث، حتى لو كان اسمُه العصرَ الحديث. إنه بِحَدِّه الأقصى يعني بدايةَ أزمةِ المدنية. إذ لا يُمكِن لشخصٍ لَم يَفقِدْ احترامَ المجتمع أنْ يَتَصَوَّرَ وضعاً أكثرَ تأزماً أو سفالةً وتردياً من هذا.
يُشاهَد أنّ رأسَ المال التجاري في هذه المرحلة غيرُ راغبٍ أو متحمسٍ للميادين الأخرى، لأنّ مُعَدَّلَ الربح الذي تَعرضُه لا يروي ظمأَه. وما مِن ميدانٍ تتوازى أرباحُه مع أرباحِ التجارة الكبرى. ثمة فقط قطاعا الزراعة والصناعة، القادران على دَرِّ أرباحٍ قريبةٍ من مُعَدِّلِ أرباحِ التجارة الكبرى، ولهذا لَقِيا الاهتمام. وبالتالي، وجدا لنفسَيهما فرصةَ النمو، ولو بِحدود.
عانت هذه المرحلةُ من تخبطاتٍ جديةٍ على صعيدِ التاريخ السياسي. فكلٌّ من إسبانيا وفرنسا والنمسا، التي تَشهَدُ منازعاتٍ ومشاداتٍ محتدمةً فيما بينها لأطماعها في أنْ تَكون استمراراً للإمبراطورية الرومانية العظمى، كانت لن تنجوَ من اجترارِ الفشل والخسران لأنها مثقلةٌ بالنزوع إلى النمطِ الإمبراطوري القديم. وللعلاقةِ بين المال والدولة دورٌ كبيرٌ في ذلك. أما مَن وصلَ بهولندا وإنكلترا على التوالي إلى الهيمنة، فهي قوةُ الزعامةِ لِمالِ التجارة الكبرى. فبينما عَزَّزَتا دولتَيهما بالقروضِ التجارية، قامتا بالحراكِ كالتُّجار مباشرة. يمكن الإشارة هنا إلى دولةٍ وسياسةٍ متطلعةٍ إلى الربح. فقد بَرهَنَتَا قوةَ السيادة المالية، وخاصةً بإنشائهما الجيوشَ والأساطيل. والنصرُ الرأسمالي في اقتصادهما ليس سوى الإنتاجُ الرخيص، الذي يعني بدوره التفوقَ التجاري. وهذا الأخير يفيد بهزيمةِ المنافسين في الساحةِ الدولية (الدول التي سَعَت كِلتاهما إلى إركاعها). علماً أنهم قد خَسِروا بالأغلب في الميدان العسكري. أما التدخلُ التآمري لهولندا وإنكلترا باسم الثورة، فقد بَرَهَن تفوقَهما في الميدان السياسي أيضاً. واضحٌ جلياً أنّ تفوقهما على منافِسيهما في جميعِ هذه الميادين سيشير إلى تفوقهما في الهيمنةِ والسيادة. وقد بَرهَنَتا ذلك سابقاً أثناءَ تَبَدُّلِ زمامِ المبادرة والتفوق في مستعمَراتِ إسبانيا والبرتغال. أما تفوقُهما في الهيمنةِ داخلَ آسيا وأفريقيا بمنوالٍ مشابه، والتفوقُ التجاري، فجاءا متعاقِبَين. ومن خلالِ التحالفات التي أبرمتاها في القارةِ الأوروبية، استطاعتا تحييدَ الفرنسيين وشلَّ تأثيرهم، وتحطيمَ آمالِ النمسا في طمعها بالإمبراطورية الألمانية، والاستفادةَ من روسيا القيصرية كما تشاءان. هذا وأَقحَمَتا الإمبراطوريةَ العثمانية في وضعيةِ شبهِ مستعمَرة، رغم أنها من الإمبراطوريات القوية في عهدها. ذلك أنّ إمبراطوريةَ العثمانيين أيضاً كانت كالإمبراطورياتِ السلالاتية الأخرى قد أَكَلَ عليها الدهرُ وشَرِب مقابِل شكلِ الدولةِ والإنتاج الرأسماليَّين. أما العاقبةُ التي تنتظر الإمبراطوريتَين الصينية والهندية، فكانت التحولَ إلى مستعمَرةٍ وشبهِ مستعمَرة. لقد دَخَلَ موضوعُ تصفيةِ المدنيات القديمةِ جدولَ أعمالِ التاريخ بسرعةِ البرق. والجديدُ كان يتجسد في السيرِ قُدُماً نحو الأمام، ولو أنّ الغموضَ يَلُفُّه. المهمُّ هو الإيمانُ به، مثلما هي الحالُ في كلِّ دينٍ جديد. ذلك أنّ دِينَه كان التجارة، وإلهَه المال.