الحداثة الرأسمالية والدولة القومية (20)
عبد الله أوجلان
2010 / 2 / 11 - 02:03
بقدرِ ما تَكُون الدولةُ القومية من أكثرِ المصطلحات تخبطاً في الظلمات الدامسة، فهي أيضاً في مقدمةِ الاصطلاحات تعرضاً للتحريف والتشويه. ولا ينفكُّ الإصرارُ المتعنت قائماً في الهروبِ من تحديدِ وظيفتها الحقيقية ودورها الرئيسي. بالمقدور القول أنها استُخدِمَت للأهداف الدعائية بالأرجح. ونخص بالذكر العنايةَ الفائقة في إخفاءِ روابطها الوجودية مع الفاشية والقوموية، تماماً مثلما الحالُ في الإصرار على غضِّ الطرفِ عن الأواصرِ المتداخلة للفاشية والقوموية مع الحداثة الرسمية. هذا الموقفُ ليس مقتصراً على الليبراليين البورجوازيين وحسب، بل حتى الاشتراكيين أيضاً، إما أنهم يتظاهرون بالدفاع عن الدولة القومية، أو أنهم يُمَرِّرون الموضوعَ باختزاله إلى عدةِ كلماتٍ وجُمَلٍ بخسةٍ وبسيطةٍ وكأنها بلا شأنٍ أو بال. بَيْدَ أنّ الدولةَ القومية من المصطلحات المفتاح لِفَهمِ عصرنا والقدرة على تغييره. وقد وجدتُ أنطوني غيدنز يسلط الضوءَ على أهميةِ طرحِ هذا الموضوع حقاً، وإنْ كان بقيَ ناقصاً في ذلك.
بالإمكان تقييم المواضيع التي سعيتُ لسردها حتى الآن على أنها تمهيدٌ لتعريفِ الدولة القومية ووظيفتها. ذلك أنّ تحديدَ دورِ الدولة القومية لن يَكُون تحليلياً كثيراً، ما لم يتم تعريف عواملِ ومؤثراتِ ولادةِ الرأسمالية، أي مصطلحات الحداثة، السلطة، الأمة والدولة، حتى وإنْ كان على شكلِ مسودةِ مخطوطٍ عام. وقيامي ببسطِ المسألةِ اليهودية على شكلِ عناوين رئيسية ضمن مخطوطٍ عام له صلاتٌ وثيقةٌ بالموضوع. فكيفما أنّ تحليلَ الدولة القومية يُشَكِّلُ الاصطلاحَ المفتاح للتمكن من تحليلِ القضايا الاجتماعية الراهنة، كذلك فتناولُ المسألةِ اليهودية ارتباطاً بالمدنيات، أو على الأقل تعريفُها من النواحي التاريخية والاجتماعية، سيَكُون مفيداً وتعليمياً، ويعرض مثالاً قَيِّماً للغاية في سبيلِ تحليلِ الدولة القومية. بالمقابل، فعدمُ تحليلِ المسألة اليهودية والدولة القومية، فسوف يُبقي إضفاءَ المعاني على الإبادة العرقية اليهودية ناقصاً وخاطئاً للغاية. ومأساةُ الشرق الأوسط الراهنة تؤيد صحةَ التحليلات المقدَّمة هنا.
1- الدولةُ القومية هي الشكلُ الذي تَحَقَّقَ فيه الاحتكارُ الرأسمالي. فشكلُ الدولة الذي كان لازماً لإنكلترا وهولندا منذ القرن السادس عشر لأجلِ تحطيمِ آمالِ إسبانيا وفرنسا في الإمبراطورية، كان ضرباً بدائياً من ضروبِ الدولة القومية. فقد كانت إمارةُ هولندا ومَملَكة إنكلترا ستعملان على ضمانِ تفوقهما بالتوجه قُدُماً صوبَ الدولة القومية. ومع بروزِ العامل القومي بين الدول بعدَ إبرامِ معاهدةِ واستيفاليا عام 1649، تسارعت وتيرةُ المستجدات نحو الدولةِ القومية. كما أنّ عملَ الدولِ بالمركنتلية أساساً باعتبارها تعني الاقتصادَ السياسي، وإبرازَ السوق القومية للمقدِّمة بات عاملاً آخر في تعزيزها وتسريعِ وتيرتها. هكذا أضحت نشاطاتُ اللغة الوطنية والفن الوطني والتاريخِ الوطني تتأطر أكثر فأكثر ضمن احتكارِ الدولة. وغدت مختلفُ النزاعات والحروب بين الدول مستحيلةَ التطبيقِ دون اللجوءِ إلى النزعة القوموية والسلطة بنموذجها في الدولة القومية. وقد لَعِبت حروبُ نابليون دوراً ريادياً في هذا السياق. حيث ما كان له إدارةَ رَحَى الحرب دون جعلِ فرنسا دولةً قومية. أما الأيديولوجيون الألمان، الذين يتابعون المستجدات عن كثب، فكانوا قد اكتَشَفوا كلَّ رؤوسِ الخيط اللازمة لتأجيجِ النزعة القوموية الألمانية والدولتية القومية الألمانية، متجسدةً في شخص نابليون. هكذا كانت القومويةُ الألمانية المُأَجَّجة ستلعب دورَ الرافعة في توحيدِ ألمانيا بسرعةِ البرق، وإبرازِ نمطِ الدولة الذي تبحث عنه الحداثة. وكانت المرحلةُ التي ستُوَلِّد هتلر ستخطو أُولى خطواتها فيما بعد، في مستهلِّ القرن التاسع عشر.
في الحقيقة، الموضوعُ أكثرُ عمقاً، ومعنيٌّ بركائزِ الحداثة (المدنية) الرأسمالية. فهذه الحركة، التي تشتمل في أحشائها على النزوعِ لإنجاحِ وانتصارِ الاحتكار الاقتصادي في مركزها، سوف لن تقتصر على تحريفِ مسارِ التقدم الوطني، بل كانت مضطرةً لإضفاءِ النزعة القوموية على كلِّ العوامل التي تُحَقِّق كينونةَ الأمة. ذلك أنه كان عسيراً على الاحتكار الاقتصادي بسط هيمنته على السوق، ما لم يُشحَن الدينُ بالنزعة القومية. والنزعةُ القومية في الثقافة والفن أيضاً متعلقةٌ بالتموضع الاحتكاري المشابه. وكانت وطنيةُ الحروبِ ستُشَكِّلُ آخِرَ، ولكنْ أهمَّ تلك العوامل. فشحنُ جميعِ هذه العوامل بالطابع الوطني كان سيُوَلِّدُ معه الروحَ الوطنية، والتي كانت ستنتهي في نهايةِ المآل بالنزعة القوموية. ورجالاتُ الأيديولوجيا كانوا قد أَعَدّوا منذ زمن بعيد الدعائمَ الفكريةَ اللازمة لنشاطاتِ الأمة والدولة. واضحٌ جلياً أنّ مجموعَ هذه العوامل يعني السوقَ الوطنية، والرأسماليةَ الاحتكارية التي تتنازع وتخوض الحروبَ الضارية لإحكامِ قبضتها على السوق، حتى ولو دفعَت حياتَها ثمناً لذلك.
2- أما الثورةُ الصناعية، فقد مَدَّت كلَّ هذه المراحل بالدفع اللازم. حيث أنّ التصنيعَ كان سيُشَكِّل موضوعَ التحولِ الوطني الأساسي، من حيث احتلاله المرتبةَ الثانية بعد التجارة الكبرى، بل وتقدمه عليها مع الوقت في إنتاجِ فائضِ القيمة. والصناعةُ الوطنية كانت تعني جنيَ الربحِ الأعظم بالنسبةِ لكافةِ الرأسماليين الناشطين في إطارِ الأمة. لقد كان القرنُ التاسع عشر مصيرياً بجانبه هذا. فالصناعويةُ كأيديولوجيا على صلةٍ وثيقةٍ بالوطنية. إذ من غير الممكن التفكير بدوافعِ ارتقاءِ القوموية إلى مستوى الأيديولوجيةِ والعمل السياسي الأفضل والأمثل للقرن التاسع عشر، دون التفكير بالصناعوية. فالبورجواوزيةُ التجارية غيرُ قادرةٍ من حيث الحجم على حملِ عبءِ الأمة لوحدها. والمركنتليةُ بمفردها بعيدةٌ عن نوعيةِ الاحتكار الاقتصادي القادر على جرفِ الأمة. في حين أنّ البورجوازيةَ المزداد حجمها مع الاحتكاراتِ الصناعية، باشرت برؤيةِ أنَّ لديها حقُّ التحدث باسمِ الأمة برمتها. فشرعت بكتابةِ تاريخها مجدداً، وحسمت ميولَها الفلسفية، وجعلت الثقافةَ الوطنية جزءاً من تاريخها هي، وتَرَكَت بصماتِها على الجيش الوطني والتعليم الوطني. كانت سيادةُ البورجوازيةِ الوطنية الصناعية والرأسمالية، وكذلك نصرُهما المظفر على النطاق الوطني، أمراً راسخاً لا يتزعزع.
من هنا، فالمصطلحُ المسمى بالثورة البورجوازية، سيكون ذا معنى إذا ما احتضن كلَّ هذه السياقات في ثناياه. وإلا، فالثوراتُ المنفردة كالإنكليزية والفرنسية وغيرها، ليست بثوراتٍ بورجوازيةٍ ممنهَجةٍ ومخططةٍ كما يُعتَقَد. ما فَعَلَته البورجوازيةُ هو استثمارُ هذه الثورات لصالحها. كذلك من الخطأ النظرَ إلى الثورةِ الصناعية على أنها نصرُ الطبقةِ البورجوازية. فهذه الثورةُ أيضاً ثمرةُ الخبرةِ العظيمةِ المتراكمة على طولِ التاريخ.
ما حصل هو إحكامُ البورجوازيةِ الأنانية والاحتكارية قبضتَها على هذا الميدان، مثلما هي في باقي الميادين، وفرضُ نفسها ومصالحها وأرباحها عليه. فمثلما أنّ الاقتصادَ ميدانٌ اجتماعي لا يقتضي بالضرورة وجودَ البورجوازية كطبقة، كذلك الصناعةُ أيضاً ميدانٌ اقتصاديٌّ لا يتطلب وجودَ البورجوازية الصناعية سلفاً لظهوره. في حين أنّ ما قامت به الاحتكاراتُ التجارية، كان إحكامَ القبضة على هذا الميدان، الذي يَدُرُّ الأرباحَ الطائلة بنسبةٍ أكبر مما كانت تجنيه التجارةُ على مرِّ التاريخ. أما أصحابُ الثورة الحقيقيون، فلا أحدَ منهم كان بورجوازياً. البورجوازيةُ كانت غائبةً أثناءَ الاستعداد للثورة الصناعية، سواءً في مرحلةِ التنظير لها، أو لدى تطبيقها على أرض الواقع. لقد كانت الثورةُ الصناعية إحدى أهمِّ الطفرات التي حققها الاقتصادُ ضمن سياقِ تناغمه مع التطورات التاريخية والاجتماعية. إنها تماماً كالثورةِ الزراعية في العصر النيوليتي. وكان الإنتاجُ الاقتصادي المتنامي في كلِّ مرحلةٍ من مراحلِ التاريخ، سيُحَوِّل الدولةَ (كونها جوهرياً تعني الاحتكارَ الاقتصادي) والمتواطئين معها إلى احتكاراتٍ جديدةٍ تبسط سيادتَها على ميدانِ الإثمار والإنتاج الجديد هذا بكلِّ جشع، ودونَ أيِّ رادع، بل ودون الترددِ في استعمالِ القوة إذا تَطَلَّبَ الأمر. وكانت الدولةُ القومية ستجد ركائزَها الماديةَ أساساً في هذه الاحتكارات. بل وكانت ستبتكرها إنْ لم تَعثر عليها.
3- يُعَدُّ منتصفُ القرن التاسع عشر من المنعطفات التاريخية الهامة. فإما أنْ يَكُون النصرُ حليفَ الدولة القومية كونها نواةَ البورجوازية، أو حليفَ الحركةِ الكونفدرالية الديمقراطية لجميعِ الشرائح الاجتماعية الباقيةِ خارجَ إطارِ هذه الاحتكارات والأرستقراطية الجديدة. كانت الثوراتُ الإنكليزية المندلعةُ فيما بين 1640 و1688 وقوى الانقلاب في الثورة الفرنسية 1789 تلعب الدورَ الأساسي كنزعتَين بارزتَين آنذاك، وإنْ لَم يَكُ ثمة حدودٍ فاصلةٍ واضحةٍ بينهما. كان الكومونيون (الشيوعيون) في الثورة الفرنسية، واللويون في الثورة الإنكليزية ممثلي الميولِ الديمقراطية، التي كان سيُقضى عليها فيما بعد. أما ثوراتُ 1848، فكانت ثوراتٍ شعبيةً بكلِّ معنى الكلمة. كانت نشاطاتُ كارل ماركس وفريدريك أنجلز بشأنِ عصبةِ الشيوعيين والبيان الشيوعي حتى عام 1848 خطواتٍ تاريخيةً وفي محلها. تَجَسَّدَت أولُ خسارةٍ استراتيجيةٍ للثورات في تَعريضها للفشلِ الذريع حصيلةَ خيانةِ البورجوازية بوفاقها مع شتى أنواعِ القوى الرجعية. كان ربيعُ الشعوب قصيراً، لِيَعُودَ الشتاءُ القارس مجدداً. إذ كانت ثوريةُ البورجوازية أيضاً مُعَلَّقةً على مصالحها الآنية. فلو كانت انتصرت، لاستطاعَت تحويلَ سلطتها السياسية مبكراً إلى احتكارٍ اقتصادي. لكنها عَرِفَت كيف تحافظُ على ما في حوزتها، وتَقنَعُ بالمنجزات المحدودة، بدلاً من خسرانِ كلِّ شيء. علاوةً على أنّ الموالين للمَلَكية القديمة، والأرستقراطيين أيضاً عجزوا عن العثور على ما كانوا يأملونه. وكانت الدولةُ القومية ستتوطد أركانُها في هذه المرحلة أكثر فأكثر، باعتبارها ضرباً من قوةِ التوازن. أما تحالفاتُ الدولة القومية كمركزٍ للاحتكاراتِ الاقتصادية والسياسية، فكانت ستُحَدِّدُ إطارَ المرحلة اللاحقة. كانت أعوامُ 1861 و1870 تشهد إعلانَ الدولتَين القوميتَين الإيطالية والألمانية رسمياً. وكان الدورُ سيأتي على إعلانِ الدول القومية الأخرى.
وعندما لم تأتِ موجةُ الثورة الجديدة كما كان مرتَقَباً، تراجَعَ ماركس إلى لندن، منكبّاً فيها على البحثِ في رأس المال. وتجربتُه الأممية كانت نشاطَ جمعية. وقبولُ الشيوعيين الألمان للدولة القومية المركزية أساساً (بما فيهم ماركس وأنجلز)، كان يعني الاعترافَ موضوعياً بالهزيمة. وأُعِدَّت دروسُ المنهاج والتنظيم والاستراتيجية والتكتيك بموجبِ نظرياتِ الأزمة وسقوطِ الرأسمالية، لتتوافقَ مع الرأسمالية ضمن قوالبِ الحداثة نفسها (قبول شرعية الصناعوية والدولة القومية) في مواجهةِ المجتمع، متحولةً بذلك إلى حركةٍ تسعى لِنَيلِ حصتها من الاحتكار المسمى بالاقتصادوية. والاقتصادويةُ بدورها تعني الاعترافَ بالاحتكار الاقتصادي الصناعي وبمنهاجِ الدولة القومية. هكذا عجزت الثورةُ الروسية – مثلما هي حالُ سابقاتها – عن تلافي تَحَوُّلِها إلى آلةٍ بِيَدِ رأسماليةِ الدولةِ الاحتكارية + منهاجِ الدولة القومية. الثورةُ الصينية أيضاً، وبعد التخبطِ في فوضى عارمةٍ طويلةِ الأمد، لم تَنجُ من اقتسامِ العاقبةِ نفسها، والسيرِ في الوجهةِ عينها بالوفاق بين الدولة القومية الصينية + الرأسمالية الاحتكارية الصينية + الاحتكار العالمي.
من هنا، فالصنفُ الذي ندعوه بالثوراتِ التحررية الوطنية، لم يَعُد سوى ثوراتٍ تَدُور على محورِ ذهنيةِ الحداثةِ الأكثر سقماً وضحالة، وتَقبَل بالتصنيعِ والدولة القومية على أنهما منهاجها الأعظم. كان ذاك المنهاجَ المشتركَ لجميعها، وإنْ كانت تحتضن بين طواياها عدداً جماً من أمثلةِ الاشتراكية المشيدة. إذن، فالسببُ الأولي لفشلِ وهزيمةِ الحركة القائمة باسمِ الاشتراكية العلمية على مدى قرنٍ ونصف، يكمن في عجزها عن كسرِ طوقِ الحداثة التنويرية، وعن إبداءِ القدرةِ والمهارة اللازمة لتكوينِ نظريةِ العصرانية الديمقراطية ومنهاجها واستراتيجيتها وتكتيكها، وقوةِ تسييرها. أو بالأصح، لأنه لم تَكُ لها نوايا من هذا القبيل. كلُّ المؤشرات تَتَّحِدُ في النَّظَرِ إلى هذه الحركة على أنها ذات طابعٍ بورجوازيٍّ صغير، ضيقةُ الآفاق، وسهلةُ الاستسلام للنظام القائم، بقدرِ سهولةِ إصابتها بنشوةِ النصر.
كان الفوضويون قد احتَجّوا على هذه المرحلة. لكنْ، ورغمَ أهميةِ الانتقادات التي وَجَّهَها كلٌّ من باكونين، برودهون، وكروبوتكين بشكلٍ خاص، ورغمَ اقتراحاتهم بشأنِ المنهاج؛ إلا أنّ بقاءهم قاصرين عن تنظيمِ أنفسهم، وضِيقَ آفاقهمِ الأيديولوجية، ومعرفتَهم السطحيةَ القاحلة للمجتمع، علاوةً على مفاهيمهم في العمل الفردي؛ كلُّ ذلك حالَ دون تَحَوُّلِهم لبديلٍ سياسيٍّ وإحرازهم النجاحَ المؤزر المأمول بِتَدَخُّلِهم في توجيهِ مجرى المرحلة التاريخية. أما نقطةُ الضعف الأولية لِكِلا التيارين، فكانت تتجسد في امتثالهم للفلسفةِ التنويرية كما هي عليه، وارتباطهم الدوغمائي بالعلموية الوضعية. كان الفشلُ مُعَلَّقاً بالأرجح على الأسبابِ الأيديولوجية.
أما موراي بوكين، فكأنه يَطرحُ تشخيصاً أكثر صواباً للمجريات الحاصلة في الميدانِ الاجتماعي، عندما قال بأنّ الكادحين في المدن والقرى الأوروبية كانت ميولُهم للكونفدرالية الديمقراطية وطيدةً للغاية حتى أعوام 1850، وأنّ هذه الفرصةَ ذهبت أدراجَ الرياح مع استسلامِ الاشتراكيين لمفهومِ الدولة القومية المركزية.
4- كان الفيلسوفُ العظيم نيتشه (إنّ نعتَه نفسَه بِنَبِيِّ المعارَضة الأعتى إزاءَ العصرِ الرأسمالي تشخيصٌ في مَحَلِّه) من أولِ المدركين للمخاطرِ الكارثية الكامنة في إعلانِ الدولة القومية الألمانية في 1870. فبينما كان جميعُ المتنورين، بما فيهم الديمقراطيون الاجتماعيون، يُصَفِّقون ويُهَلِّلون لهذا التطور، كان هو يرى فيه الخسرانَ الأفدحَ للبشرية. يتجسد فحوى تفسيرُه – على ما أعتقد – كالتالي: "الدولةُ المتألهة تعني الكادحين والأفرادَ المتنملين والمجتمعَ المستأنَث المخصي".
انتقادُ برودهون بشأنِ المواطَنة أكثرُ لفتاً للأنظار، وكأنه تَنَبَّأَ بحالِ الفرد في راهننا منذ زمنٍ بعيد. وماكس فيبر يُعَرِّف المجتمعَ القابعَ تحت تأثيرِ الحداثة بأنه "المجتمعُ المقفولُ عليه في القفص الحديدي". كما صيغَت التعريفاتُ الأكثر إثارةً للذعر في عالَم الروايات. وسوف تتزايد التفسيراتُ المشابهة، ما دام المجتمعُ محاصَراً في مصيدةِ الدولة القومية. إلا أنّ كلَّ هذه الانتقاداتِ والتنبؤاتِ بعيدةٌ عن طرحِ الحل الملموس وتقديمِ منهاجِ الحريةِ للمجتمع. ومنذ القرن السادس عشر إلى نهاياتِ القرن العشرين، أَبدَت الشعوبُ والمثقفون المتنورون مقاوماتٍ باسلةً لا نظيرَ لها في التاريخ. وأَحرَزَت العديدَ من الانتصارات المرحلية المؤقتة. لكن، وما دامت الهيمنةُ العالمية للرأسمالية جاثمةً بِكُلِّ جبروتها في عصرِ الاحتكارات المالية، فهذا برهانٌ قاطعٌ على عجزِ ميولِ العصرانية الديمقراطية عن تطهيرِ نفسها من نواقصها الفادحة في التحليل، وعن الخلاصِ من أخطائها ونقاطِ ضعفها في تحديدِ مسارِ المنهاج والاستراتيجية والتنظيم والممارسة العملية.
5- المَهَمَّةُ الحياتية، التي لا غنى عنها، ولا تحتملُ التأجيلَ أو المماطلة في كلِّ مرحلةٍ حضارية، هي تحليلُ العواملِ الثلاثة الأولية للحداثة على قِدَمِ المساواة، والقيامُ تأسيساً على ذلك بإدارةِ وتوجيهِ شتى أنواعِ الحركات الثقافية والتنويرية والاجتماعية العظمى كعناصرَ أساسيةٍ للعصرانية الديمقراطية البديلة. ونظراً لتوجيهِ الانتقادات اللاذعة للرأسمالية (رغم نواقصها وأخطائها الزائدة عن الحد)، فموضوعُ توجيهِ رأسِ الحربةِ إلى الدولة القومية، وإكمالُ ذلك بانتقادِ الصناعوية لا يزال يحافظ على وزنه وشأنه المتزايد على دربِ الكفاح لأجلِ المجتمع الديمقراطي والحر والمتساوي في ظلِّ العصرِ المالي الاحتكاري الثالث. ونحن نُقَدِّمُ ما يقع على عاتقنا.
لم يَعُد عسيراً تحديد وظيفةِ القوموية بشتى أنواعها في أداءِ دورِ الصمغ اللاصق، سواءً أثناءَ إنشاءِ الدولة القومية أو تأمينِ ديمومتها. أَوَدُّ لفتَ الأنظار إلى أننا نُقَيِّم القومويةَ في هذه الحالة على أنها عنصرٌ أيديولوجي ينفرد بدوره الخاص به. وقد يَكُون من الأنسب القول بأنها تعني تديينَ الأيديولوجيةِ الوضعية – العلمانية. لقد لَعِبَت المواقفُ الوضعية والعلمانية دوراً إيجابياً في تجاوزِ الدوغمائية التقليدية خلال مرحلةِ ولادةِ النظام القائم، وإنْ كانت على مسافةٍ شاسعةٍ من ذهنيةِ العصرانية الديمقراطية. كما لها نصيبُها في تنامي التفسير العلمي. لكنْ، منذ أواسطِ القرن التاسع عشر، وبسببِ إحرازِ النظامِ القائم النصرَ السياسيَّ والاقتصادي المأمولَ من جهة، واستمرارِ وجودِ خطرِ الممارسات والنشاطات الديمقراطية من جهةٍ أخرى؛ انزلق النظامُ بمساره الأيديولوجي صوبَ التدين، مثلما نصادف ذلك في كلِّ مدنية. وكانت القومويةُ تُلَبّي مقتضياتِ هذه الحاجة كفايةً، بل ويزيد.
بعدَ هذه الإيضاحاتِ التمهيدية للدخولِ في موضوعِ الدولة القومية، سيَكُون من المفيد، بل والضروري، الشروع بتحليلٍ ملموسٍ وبتفاصيلَ أدقّ بشأنه، بناءً على أهميته.
أ- إذا ما صِغنا تعريفاً أشمل، فسيَكُون بالمقدور القول أنّ الدولةَ القومية في عصرِ الحداثة الرأسمالية هي مجموعُ أجهزةِ السلطة المستفحلة ضمن الوجودِ الكلي للمجتمع بِرِمَّتِه، واتحاد الأفراد المُسَمّين بالمواطنين ضمن الإطار الحقوقي. المصطلحُ المحدِّد هنا هو ظاهرةُ السلطة المستشرية في المجتمع بأكمله. فشرعيةُ جميعِ الدول التي قبلها كانت مؤطَّرةً بمؤسساتها وكوادرها. لكنّ هذا الإطار يتم خرقه في الدولة القومية. يتجسد صُلبُ الدولة القومية في تدويلِ الأفراد الذين تسعى الدولةُ لتكوينهم بما يتواءم ومصالحَها الأيديولوجيةَ والمؤسساتية والاقتصادية، والذين يسمون بالمواطنين، وكأنّ كلَّ واحدٍ منهم عضوٌ يتمتع بحقوقِ الدولة وواجباتها، له ما لها، وعليه ما عليها. يحتلُّ تكوين المواطِن مرتبةَ الصدارة بين المواضيع التي تهتم بها الدولةُ القومية بعناية. ولهذا الغرض، فهي تسعى للاستفادة من الكثير من العناصر كالأيديولوجية، السياسية، الاقتصادية، الحقوقية، الثقافية، الجنسية، العسكرية، الدينية، التعليمية، والإعلامية.
1- الأداةُ الأكثر تأثيراً هي القوموية. إنها بمثابةِ الدين الجديد. تَخلَعُ القومويةُ على الدولة القوميةِ مسحةً من القدسية، وكأنها "حالُ الإله على وجهِ الأرض". ومن متطلباتِ الدين الجديد الارتباطُ بالدولة حتى الموت، وقَبُولُها كأسمى وأجلِّ قيمة.
2- تُستخدَم جاذبيةُ السلطة السياسية وقوتُها المؤثرة بكثافة في تصييرِ الفرد مواطناً. والأحزابُ السياسية بشكلٍ خاص تلعب دورها لهذا الغرض. فالتطلعُ إلى السلطة، والقول بأنّ "الدولةَ لي" هي الطريقُ المختصرة المؤدية إلى الأمانِ والاعتبار بالنسبة للفرد.
3- نظراً لاستفحالِ ماهيةِ الدولة في الاحتكار الاقتصادي بنسبةٍ أكبر مع الثورة الصناعية، ولأنّ الاحتكارَ الصناعي قد تنامى بدرجةٍ كبرى؛ فإنّ ما يقارب نصفَ المجتمع يُستخدَم في مؤسساتِ الدولة كعامِلٍ أو موظف. هذا الوضعُ بِحَدِّ ذاته يُقحِم سوادَ المجتمعِ في حالةٍ من التنافس لِيَكُونوا أعضاء، أي مواطنين، في الدولة القومية. ويغدو من العصيب تمييز ما يسمى بالاحتكارات الخاصة عن احتكاراتِ الدولة القومية. ذلك أنه ثمة حالةٌ من الوحدة والشراكةِ الوطيدة للغاية فيما بينهما. أي، من العسير التفريق بين مكانِ بدءِ وانتهاءِ احتكارِ الدولة، وموقعِ الاحتكار الخاص منه. فبينما تُقدِّم الاحتكاراتُ الخاصة ما يزيد عن نصفِ معدَّلِ أرباحها إلى الدولة، فالدولةُ أيضاً تؤَمِّن لهم التسهيلاتِ اللامحدودةَ كنوعٍ من الالتزامات العصرية. بالتالي، أحياناً يَكُون سعيُ الاحتكاراتِ الخاصة في تصييرِ الفردِ مواطناً أكثر رجعيةً من الدولة نفسها. ذلك أنه يَتَيَسَّر لها تعليمُه وتدريبه بالوجهة التي تشاء، بذريعةِ تركه عاطلاً عن العمل. وبروزُ التكتلات والأقطاب بين النقابات، وتَبَنّيها الدولةَ القومية في الآونة الأخيرة إنما على صلةٍ كثيبةٍ بهذه التطورات. ومع الاشتراكية المشيدة يكاد يَكُون العمالُ بمثابةِ مناضلي الدولة القومية.
4- علاقةُ الحقوق بالمواطَنة أمرٌ مشخَّص وملموسٌ للغاية. فكلُّ فردٍ راغبٍ في العمل، عليه أنْ يَكُون صاحبَ هويةٍ شخصية. والهويةُ الشخصية بِحَدِّ ذاتها تعني مواطَنةَ الدولة. أي أنها التعبيرُ الرمزي عن عضويةِ الدولة.
5- واضحٌ جلياً أنّ وعيَ السلطة والدولة، أي تقاليدَها التي يُحافَظ عليها حيةً منتعشةً على مرِّ التاريخ، تُقَدِّم مساهماتِها الهامةَ في تشكيلِ المواطَنة.
6- يتأتى تأثيرُ التمييز الجنسي من نظرِ الأب لِنفسه وكأنه ممثلُ الدولة داخلَ خليةِ الأسرة. فكلُّ رجلٍ في البيت يعني الدولةَ بالنسبة للمرأة. هذا النمطُ من الإدراك يَسري على مستوى المجتمع بِكُلِّيَتِه أيضاً. والدولةُ القومية بدورها تعملُ على تلقينِ هذا الإدراك وأقلمته بما يوافق مصالحَها.
7- تحتلُّ المؤسسةُ العسكرية المرتبةَ الأولى من بين مؤسساتِ الدولة التي تُنقَش في ذهنِ وعقلِ ومشاعرِ هويةِ الفرد باعتبارها القيمةَ الأوليةَ في الدولة القومية، فتُعاد تنشئته بناءً عليها. لكلِّ مؤسسةٍ في الدولة القومية وظائفُ مشابهةٌ للأخرى، لكنّ أياً منها لا يَصِلُ في مستواه إلى تأديةِ دورِ المؤسسة العسكرية.
8- الدينُ هو الأداةُ التي استخدمَتها القومويةُ أكثر من غيرها في مرحلةِ الدولة القومية، وحَوَّلَتها إلى دينِ الدولة القومية مباشرة. يُحَطُّ شأنُ الدين في عهدِ الدولة القومية من خلالِ إضفاءِ الطابع الوطني والنزعة القوموية عليه، فيُحَوَّل إلى مؤسسةٍ اجتماعيةٍ هي الأكثر تناقضاً مع جوهره الأخلاقي. أما شرائحُ المجتمعِ الباقيةُ خارجَ نطاقِ القوموية الدنيوية، فيتم توحيدها مع القوموية الدينية، أي مع الهيئةِ الجديدة للإله القديم، وتُصَيَّر حشداً من العِباد الذين يعيشون ما هو أَشبَه بالخيانة الباطنية، سواءً عن وعي أو تلقائياً. والصراعُ بين الدين والعلمانية على صلةٍ وثيقةٍ بهذه الخيانة.
9- مؤسسةُ التربية والتعليم هي مؤسسةُ الحداثةِ الأكثر تأثيراً في جعلِ الفردِ مواطناً، بدءاً من المرحلةِ الابتدائية إلى الجامعية. وهي في تنافسٍ مع المؤسساتِ العسكرية ضمن هذا المضمار. يتجسد الهدفُ الأولي لهذه المؤسسة في تنشئةِ المواطن البالغِ ذورةَ الحماقة، بعد أنْ تُسَربَل كافةُ قِيَمِه المتكونةِ بالتغير والتحول على مدى سياقِ التطور التاريخي والاجتماعي وتُمَرَّر من غربالِ الدِّيانَوِية ثم القوموية، وتُعجَن في بوتقةِ الأيديولوجية الرسمية. والتعصبُ في هذا الخصوص قد خَلَّفَ سكولاستيةَ العصور الوسطى وراءه بفراسخ شاسعة.
10- الإعلامُ أداةُ غسلِ العقول والأفئدة الأكثر فعاليةً في الحداثة. هذه الأجهزةُ تُؤَمِّن نسبةً كبيرة من التيسير للدولة القومية المستفيدةِ من الإمكانيات التي تمنحها تكنولوجيا التواصل في تنشئةِ المواطن الذي تشاء. ونخص بالذكر الدورَ الرئيسي الذي تؤديه الأجهزةُ والوسائل الإعلامية في تأجيجِ ثالوثِ الجنس والرياضة والفن، والترويج له، وعرضِه على المجتمع بعدَ إفراغه من محتواه، وبالتالي، تكوينِ المواطن الأكثر بلاهةً وسذاجةً وتخديراً.
هكذا تتم تنشئة نموذجِ مواطِنٍ لا مثيل له في أيةِ مرحلةٍ من مراحلِ التاريخ عن طريقِ هذه الأدوات والوسائل، التي بإمكاننا الاستطراد فيها والإكثار منها على شكلِ بنودٍ أساسية. المَرامُ الأساسي لهذا المواطِنِ من الحياة هو أنْ يَكُون صاحبَ سيارةٍ + عائلة (العثور على زوجة أو زوج، وإنجاب طفل أو اثنين) + شقة سكنية، ومستهلكاً يومياً نموذجياً. أما معاني المجتمعية، فبالإمكان وضعَها جانباً، والتخلي عنها بكلِّ سهولةٍ كَرمى لِعَينِ الجشعِ الفردي الأكثر دناءةً وانحطاطاً. كما أنه مبتورٌ من التاريخ لأنه مسلوبُ الذاكرة. أما ما يُعتَقَد أنه التاريخ، فليس سوى قوالبُ وكليشيهاتُ الوطنيةِ والقوموية. إنه عديمُ الفلسفة، أو لا يؤمن بأيةِ فلسفةٍ للسعادة عدا تلك المرتكزة على المنفعة المحدودة للغاية. هو عصريُّ المظهر، وخالي المضمون. ما هو موجود في الوسط ليس إلا الفرد، أو بالأحرى اللافرد المنتمي إلى "قطيع المواطنين" أو "مجتمع الحشد الجماهيري" المهيَّأ للهرع دون كللٍ نحوَ الآمالِ السوداوية الدامسة (الفاشية).
لقد دُوِّنت العديدُ من الروايات القَيِّمة بشأنِ الدور الذي أدّاه هذا النمط من المواطن في التوجه صوبَ الفاشية. وثمة الكُتَّابُ اللامعون في هذا الصدد. ونخص بالذكر الرواياتِ المفيدةَ جداً، والتي تَدور حول تحليلِ الإبادات الجماعية. علاوةً على أنّ الانتقاداتِ الموجهةَ مؤخَّراً بشأنِ "المواطن" بتأثيرٍ مِمّا وراء الحداثة، تُنير الأمرَ بما فيه الكفاية.
إنّ الدولةَ القومية بمجتمعها الذي ينتج مثلَ هذا النمط من المواطن، تتصدر لائحةَ العراقيل الأولية التي تعترض دربَ العصرانية الديمقراطية. انطلاقاً من ذلك، فمِن أولى المهام التي تقع على كاهلِ الدمقرطة هي تحليلُ الدولة القومية ومجتمعها المُوَلِّد لهذا النمط من اللافرد (لأنّ الفردَ يُعتَبَر معدوماً في الواقع)، وتنشئة الأفراد (المواطن الحر) العادلين والأحرار والديمقراطيين القادرين علىِ بناء الحضارة الديمقراطية.
ب- من المهم بمكان رؤيةَ الخيوط الأنطولوجية بين الدولة القومية والفاشية. أحدُ أهمِّ الأخطاءِ المرتَكَبة بخصوصِ الفاشية هو؛ إما العجز عن رؤيةِ وإيضاحِ روابطها مع نظامِ الدولة القومية، أو التغاضي عنها أو تمريرها بجرةِ قلم، عندما يَكُون إقحامُ المزراق (الرمح) في الكيس مستحيلاً. علماً أنه حتى تحليلُنا هذا، الذي هو بمثابةِ مسودةِ مخطوط، قد سَرَدَ للعيان علاقاتِ القرابةِ الجذرية القائمة بين الفاشية والأيديولوجية التنويرية (بما فيها الأيديولوجيات الوضعية العلمانية). فمثلما أنّ الدولةَ القومية هي شكلُ السلطةِ الأساسي للحداثة الرسمية، كذلك فالقومويةُ دينُها الجديد. والمجتمعاتُ المارَّةُ من غربالِ قومويةِ الدولة القومية، مجتمعاتٌ جاهزةٌ دائماً لإثمارِ الفاشية. من المحال التفكير بالفاشية بلا دولةٍ قومية. تماماً مثلما يستحيل التفكير بالدولة القومية بشكلٍ منفصلٍ عن التعبيرِ المكثَّفِ للاحتكارِ الاقتصادي (التجارة + الصناعة + التمويل المالي).
ليس عسيراً العثور على جذورِ فاشيةِ هتلر في الأيديولوجيةِ الألمانية. فالمَنفَذُ الوحيدُ للبورجوازية الألمانية كان بالتركيز والتكثيف الاحتكاري كدولةٍ قومية. من أهمِّ الأعمالِ والانتصارات التي أنجزتها البورجوازيةُ الألمانية وأيديولوجيوها في غضونِ القرن التاسع عشر، هو إنتاجُ هذا النمط من الدولة في الميدانَين الأيديولوجي والمادي على السواء. الحكايةُ طويلة، ولا أفكر بِسَردها. كما لا يمكن الاستخفافَ بِحِصّةِ الرأسمالِ اليهودي والأيديولوجيين اليهود في ذلك. فكيفما أنّ المئاتِ من البحوثِ تؤيد صحةَ وجودِ الروابط الجدلية فيما بين اليهودي واليهودية من جهة، والقومويةِ الألمانية والفاشية من جهةٍ أخرى داخلَ ألمانيا؛ كذلك فمعالجتُنا النظريةُ للموضوع قد بَرهَنَت وجودَ هذه العلاقة.
وفيما بعد، بات النموذجُ الألماني منبعَ الإلهام لجميعِ القومويات والحركاتِ المنادية بالدول القومية. نقطةُ الضعف الأفدح التي تَمَيَّزَ بها جميعُ المناهضين للفاشية، وعلى رأسهم الاشتراكيون، هي عدم ملاحظتهم للروابطِ النظامية الكامنة فيما بين الدولة القومية + الاحتكارات (احتكار الدولة والاحتكار الخاص) + الفاشية. بل والأنكى هو عجزهم عن تحليلِ الأواصر الوجودية بين الحداثةِ الرأسمالية والفاشية.
ج- الدولةُ القومية والاتحادُ السوفييتي هي المسألةُ الأخرى التي لا تزال تحافظ على أهميتها وتَنتَظِرُ التحليل. إنّ قَبولَ الدولةِ القومية المركزية الألمانية بأنها إطارُ الكفاحِ الأساسي لأجلِ الطبقة العاملة منذ أيامِ ماركس وأنجلز، أصبحَ المنبعَ العينَ لكلِّ الأخطاءِ اللاحقة. فمِن بينِ آراءِ ماركس وأنجلز بالذات تلك التي تَعتَبِر الكياناتِ الكونفدراليةَ الديمقراطيةَ المعتمدةَ على تمرداتِ المدن والقرى، والتي كانت وطيدةَ البنيانِ في ألمانيا حتى أواسطِ القرن التاسع عشر، بأنها رجعية، وتَدعَم وتؤازرُ الدولةَ القومية المركزية. حسبَ رأيي، لا تزال انتقاداتُ باكونين وكروبوتكين في هذا السياق ذات خاصياتٍ مرحلية. فمثلُ هذه التثبيتات التي قامَ بها ماركس وأنجلز، كانت السببَ الأساسي في إجهاضِ الأمميتَين الأولى والثانية مبكراً. ذلك أنه ثمة تحالفٌ موضوعي مع البورجوازيةِ الصناعية الألمانية. وقد كُتِبَ هذا الأمر علانية. والنتيجة، الانصهارُ في بوتقةِ الدولة القومية. إنّ قصةَ القرنِ ونصفِ القرن للماركسية هي قصةُ ذهابها ضحيةً لهذا الخطأ.
والتجربةُ السوفييتيةُ ووضعُ الصين الحالي خيرُ مثالَين على ذلك. لقد أُنهِيَت البنيةُ الديمقراطية في روسيا حتى قبلَ بلوغِ عامِ 1920. وما تَبَقّى هو طريقُ الإنشاء الاشتراكي بنموذجِ الدولة القومية تحت سقفِ الوطن الواحد. لذا، قُضِيَ على جميعِ المعارضين، وكُسِحَت القرويةُ التي تتصدر قائمةَ القوى الديمقراطية، وكُتِمَت أصواتُ المتنورين. وما ظهرَ للوسط كان "اشتراكية فرعون" العصرية. أما العصرانيةُ الديمقراطية، فلم تَخطر حتى على البال. أو بالأحرى، أُعِيقَت. تلك الديمقراطيةُ نفسها سوف تدخل جدولَ الأعمال ثانيةً بعد أعوام 1990، ولكنْ، بحالتها المجهَضةِ مجدداً. لا أوافق الرأيَ القائلَ بسيادةِ فاشيةِ ستالين مقابلَ فاشيةِ هتلر في تلك المرحلة. فكِلاهما حركتان تنبعان من مسارَين مختلفَين. لكنّ مثالَ الاتحادات السوفييتية تجربةٌ تاريخيةٌ ملفتةٌ للأنظار بحِدّةٍ تشيرُ إلى عدمِ كونِ التجربة السوفييتية اشتراكية، وإلى استحالةِ تحقيقِ اشتراكيةٍ لا تَأخذ الحضارةَ الديمقراطية أساساً.
اهتمَّ ماو بالديمقراطية. وانتقادُه للسوفييت هام. والثورةُ الثقافية التي رادَها بُرهانٌ على الوجهةِ الخاطئة لبعض الأمور. إلا أنّ آفاقَ الوعيِ لدى ماو، والوسائلَ والأساليبَ التي اتَّبَعَها لم تَمده بالقوةِ الكافية لِتَخَطّي الخطأِ الماركسي والتجربةِ السوفييتية. والصينُ الحالية تُوَضِّحُ الكثيرَ من الأمور في هذا المضمار.
أغلبُ الحركاتِ التحررية الوطنية المتصاعدة على نهجِ الاشتراكية المشيدة، اعتَبَرَت الدولةَ القومية الهدفَ الأقصى لمنهاجها. وإذا ما وضعنا نصبَ العين أنّ هذا النمطَ المتحققَ على أرضِ الواقع، لا يُمكِنه الصمود إلا بالتعاملِ والشراكة مع الاحتكاراتِ الرأسمالية الأساسية، مِن قَبيل الولاياتِ المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وصندوقِ النقد الدولي والبنكِ العالمي؛ فعلينا بعدمِ الذهول إزاء بُناهم المناهضةِ للديمقراطية، بل والمزدادةِ تعصباً وتحجراً مع الزمن.
والمثالُ الأكثر إيلاماً هو اشتراكيةُ البعث الصَّدَّامية. إنها حَدَثٌ وعِبرةٌ بثمنِ الذهب لِمَن يَوَدُّ الفهم.
أما "دولةُ الرفاه" التي نادى بها الديمقراطيون الاجتماعيون، فلا يُمَيِّزها عن الدولةِ القومية شيء. والديمقراطيون الاجتماعيون الألمان، الذين يتزعمون العالَم في هذا الأمر أيضاً، جَنَوا أرباحاً طائلة باقتصادويتهم، وانتفعوا من الأضرار التي أَلحَقَها هتلر بِدَولتهم القوميةِ في إحكامِ منزلتهم وصونها إلى الآن. لكنهم فعلوا ذلك مَقابلَ "إخصاءِ" الحركاتِ الديمقراطية العالمية، وتصييرها قوةً احتياطيةً لبورجوازييهم!
د- إحدى أفدحِ النتائجِ الأخرى التي أَسفَرَت عنها الدولةُ القومية هي حركةُ التدمير والتصفيةِ والصهر التي مارستها على الإرثِ الثقافي بما لا نِدَّ له في التاريخ. فمِن إحدى خصائصِ الدولة القومية التي تنفرد بها عن غيرها هي الاعتمادُ على الأثنيةِ القومية الحاكمة، وتجاهلُ كلِّ الأثنيات الأخرى بإرثها الثقافي المعمرِ آلافَ السنين، وتدميرها وتصفيتها وصهرُها بناءً على ذلك (اللغة الواحدة، الأمة الواحدة، الوطن الواحد، والدولة الواحدة كان الشعار الرئيسي لهتلر). هذه الحركاتُ التي لم تَلجَأ إليها أيةُ قوةٍ قمعيةٍ وأيديولوجيةٍ في التاريخ، إنما هي متعلقةٌ ببنيةِ الدولة القومية. ويتجسد صُلبُ سياستها الثقافية في البدءِ مِن الأحادية، وخلقِ صحراءَ قاحلةٍ يَعُجُّ فيها المواطنون والمؤسساتُ الأحاديةُ اللونِ المشابهةُ لبعضها البعض، يَسُودها إما السوادُ الحالك أو البياضُ الناصع. وقد سُعِيَ لتطبيقِ الداروينية، أي الأحيائية، على المجتمعِ أيضاً. وإحدى الجرائمِ الشنيعةِ الأخرى التي ارتكبَتها الوضعيةُ تتعلق بهذا الميدان. حيث اعتَبَرت صهرَ الثقافةِ الأمنع والأقوى لكافةِ الثقافات الأخرى في بوتقتها وكأنه قانونُ التطورِ الطبيعي. وذلك – بالطبع – بتجاهلِ سياقِ التطور الطبيعي للإنسان على مر ملايين السنين، أو بالقضاء عليه!
وما ازديادُ قحلِ وجدبِ الثقافة طردياً في يومنا، وافتقادُها جاذبيتَها وسحرَها، وسقوطُها في وضعِ العجز عن إبداءِ مكنونها، وخروجُها من كونها منبعَ الإلهام؛ إلا بسببِ حركةِ الجَرف التي طبقَتها الدولةُ القومية على التقاليدِ والشرائع الثقافية. هكذا غدت آلافُ اللغات، عشراتُ الآلافِ من القبائل والعشائر والأقوام، زخمُ الإرثِ الأركولوجي، وشتى أشكالِ الحياة (أي الثقافات) ضحيةً دائمةً لسياسةِ الإبادة الثقافية الأحادية تلك. وليسَ معلوماً بعد أين ستَحُطُّ هذه السياسةُ رِحالَها. إنّ ثقافةَ الدولةِ القومية والفردِ القومي والمجتمعِ القومي ذات النمطِ الواحد واللونِ الواحد، لا تقتصر على إثمارِ الفاشية وحسب؛ بل وتُجدِب الحياةَ مقحِمةً إياها في مرحلةٍ من الوحشية التي لا مأربَ لها سوى البحث عن هدفٍ لمحاربته. والمحصلةُ هي الحروبُ الأثنيةُ والدينية واللغوية وغيرها من الحروبِ الثقافية التي لا مخرجَ لها. وحاضرنا يتخبط ويئن تحت وطأةِ هذه الحروب. وهتلر هو القيمةُ الرمزية لبدايةِ هذه الحروب الثقافية. إنّ حاضرنا شاهدٌ على تَحَوُّلِ هذه الرمزيةِ إلى حقيقةٍ واقعة. ومرةً أخرى، فالعراقُ وما يجري فيه مليءٌ بالعِبَرِ النفيسة لِمَن يعتَبر.
الدولةُ القومية ليست مجردَ حركةِ حربٍ سياسيةٍ وعسكريةٍ مندلعةٍ تجاه الدولِ والثقافات البارزة، مثلما حصلَ في الحرب العالمية الثانية. بل وهي حركةُ حربٍ اجتماعيةٍ حاشدةٍ تجاه التقاليدِ التاريخية والاجتماعية برمتها، وتجاهَ كلِّ كيانٍ جديدٍ مغايرٍ ومبشرٍ بمستقبلٍ واعد. ذلك أنّ منطقَ تأسيسِ الدولة القومية – الذي يحتضن في صُلبه مفاهيمَ الأمةِ الواحدة، الدولةِ الواحدة، اللغةِ الواحدة، الوطنِ الواحد وغيرها من الاصطفافاتِ والمستوِيّات الأحاديةِ ذات المآربِ الاقتصادية والاجتماعية والسياسية – لا معنى له سوى سيادة حالةِ الحربِ الدائمة وعلى جميعِ الجبهات، بحيث تَكُون سريةً أحياناً وعلنيةً أحياناً أخرى، دمويةً حيناً وديماغوجيةً حيناً آخر!
هـ- تحرص الدولةُ القوميةُ على النمط الأحادي في الميدان السياسي أيضاً. فمثلما أنه لا مكانَ للهوياتِ الوطنية المختلفة، كذلك لا تَسمَحُ بوجودِ الكيانات السياسية المغايرة. أي أنّ المقصودَ من الدولةِ المركزية – أو بمعنى آخر الدولة المسماة بالبنية الأحادية – هو تجفيفُ إمكانياتِ وفرصِ مزاولةِ السياسةِ على أساسِ التعددية، التي تُعَدُّ مِن الشروطِ الأساسية للدمقرطة. إذ تَعتَبِرها خطراً مُحيقاً بِكُلِّيَةِ بنيانِ الدولة. بل وتنظر بعينِ الشك حتى للاعترافِ بالحدِّ الأصغرِ من الصلاحياتِ للإدارات المحلية في هذا السياق. أما البيروقراطيةُ المركزية، فتُشَكِّل منهلَ قوتها وبنيانَها الأساسي. إذن، فالدولةُ القومية هي الدولةُ التي خَلَقَتها البيروقراطيةُ الحديثة. وهي تضع المجتمعَ برمته تحت المراقبة داخلَ القفص الحديدي. وشرطُها الأساسي للأحزابِ السياسية ومنظماتِ المجتمع المدني، هو الحراكُ بما يتماشى وسياساتِ الدولة. بالتالي، فهي ترى في انتعاشِ وتطورِ مختلفِ التنظيمات السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية بموجب مبدأِ التعددية (الذي هو مبدأ لا غنى عنه في الديمقراطية) خطراً يهددها، فتُحكِم رَقابتَها الصارمةَ عليها. وهي لا تَسمَح البتة بفرصةِ تشكيلِ الخيار البديل، أو احتلالِ مكانها في الإدارة والحكم. ونظراً لطبيعةِ بنيةِ الدولةِ القومية المناهضة للتعددية السياسية، فهي مضادةٌ للديمقراطية. إذن، فعجزُ مفاهيمِ الديمقراطية والاشتراكية (الاشتراكية المشيدة وأمثالها) عن الانتعاشِ والازدهار ضمن إطارِ الدولة القومية، بل وتَعَرُّضُها للتصفيةِ والزوال؛ إنما ينبع من دفاعها عن الدولة القومية، أو استسلامها لها، مثلما بَيَّنّا سابقاً. لا يمكن الحديث عن بنيةٍ منفتحةٍ للديمقراطية، إلا في حالِ عقدِ وفاقٍ مبدئي بين الدولة القومية والديمقراطية كوحدَتَين مختلفَتَين ومتمايزتَين.
و- لا تقتصر الدولةُ القومية على خلقِ النمط الأحادي في إطارِ الفرد وحسب، بل وتُطَعِّم جميعَ التكاملات والكليات الاجتماعية بالذهنيةِ والمشاعر الأحادية. وهكذا تَكُون قد عَمَّمَت سلطتَها على المجتمع برمته من جهة، وخلقَت المجتمعَ الأحادي، أي مجتمعَ الدولةِ القومية من جهةٍ أخرى. إنها تهدف لبناءِ مجتمعٍ نقابيٍّ مُرَكَّز (نموذج مجتمع الفاشية). ينبغي عدم فهمِ تَحَوُّلِ المجتمعِ إلى سلطةٍ بشكلٍ خاطئ. فالعكسُ هو الصحيح. فالدولةُ القومية تَقُوم أساساً على موضعةِ عملائها ورجالاتها من الشخصيات والمؤسسات في كافةِ مساماتِ المجتمع، بغرضِ تعميمِ سلطتها شاقولياً وأفقياً بين صفوفه. وبهذا الأسلوب فقط يتحقق بناءُ المجتمع المُوجَّه. أي أنّ استفحالَ السلطةِ بين المجتمع برمته يعني إعلانَ الحرب تجاه المجتمعِ أجمع، لا تَحَوُّلَه إلى سلطة. إنّ ميشيل فوكو يُعنى بهذه النقطة. ويرى أنّ الرجولةَ المهيمنةَ على الزوجة تؤدي هذا الدورَ وكأنها مؤسسةٌ متواطئةٌ عميلة. فالتعصبُ الجنسوي الاجتماعي يُعلِن الحربَ تجاه المجتمع، باستشرائه بين صفوفه كالطاعون عبر سياساتِ الجنس. وتُستَعبَد المرأةُ على وجهِ الخصوص حتى النخاع. إنّ الاعتقادَ بِكَونِ الاسترجالِ حرية، ليس سوى أنوثةٌ مهزومةٌ حتى النخاع!
لقد تَحَوّلَت وظيفةُ الرياضة والفن أيضاً إلى مؤسساتٍ عميلةٍ مسخَّرةٍ في خدمةِ الدولة القومية لِشَنِّ أعتى أشكالِ الحرب على المجتمع. ونخص بالذكر البرامجَ الثقافية والرياضية المعتمدةَ على الصرعةِ والاستثارة، والتي تُستخدَم لهذا الغرض على أوسعِ نطاق. إنّ إفراغَ ميادينِ ثالوثِ الجنس والرياضة والفن من محتواها بشكلٍ مقصودٍ وممنهجٍ على يدِ رأسِ المال العالمي، وتحويلَها إلى مؤسساتٍ اجتماعيةٍ عميلةٍ متواطئة؛ قد أفسحَ المجالَ لتصييرها حركاتِ حربٍ ضروسٍ مسلَّطةٍ على المجتمع. لا ريب أننا لا نَرمي من خلالِ سردِ هذا التفسير إلى إدانةِ الجوهرِ الأصلي لوجودِ أنشطةِ الميادين الجنسية والرياضية والفنية. وعلى النقيض، فمِن أولى مهامِ الحضارة الديمقراطية هي تسخير هذه الميادين لخدمةِ المجتمع حِرصاً على سلامته، وذلك تأسيساً على إيلائها قيمةً أخلاقية عظمى.
فبينما تَكُون الرياضةُ وسيلةً تربويةً تَصُبُّ في خدمةِ بناءِ المجتمعِ القويم السليم، نرى أنها اختُزِلَت إلى أداةٍ لترويجِ شرفِ ومجدِ الدولة القومية. حيث تَحصرها السلطةُ ضمن نطاقِ ثنائيةِ النصر أو الهزيمة، فتُحَوِّلها إلى أداةِ حربٍ بِيَدِها، وكأنها تخوض غمارَ حربٍ ضروس. ونخص بالذكر رياضةَ كرةِ القدم، التي تَستخدِمها الدولُ القومية لهذا الغرض كاحتكارٍ للسلطة. لقد أضحت الرياضةُ مُتَدَوِّلةً قوموية، وساحةَ حربٍ طاحنةٍ معلَنةٍ تجاه المجتمع.
الفنُّ هو ساحةُ الحربِ الاجتماعيةِ الثانية الهامة، التي أَحكَمَت الدولةُ والاحتكاراتُ الخاصة قبضتَها عليها. وبالأخص لَعِبَت ثقافةُ التهييج والاستثارة الشعبوية، وثقافةُ الأرابيسك دوراً مؤثراً في أَسرِ المجتمعِ تحت يافطةِ ثقافةِ اللهو والتسلية، وكأنّ جيشاً من النجوم Star يقصف المجتمعَ بنيرانه. هكذا يُحَطُّ من شأنِ الفن التقليدي، ويُحَوَّل إلى أداةٍ تؤدي دوراً معاكساً بإبعادها الثقافةَ الشعبية عن وظيفتها الأساسيةِ المتميزة بها على مدى آلافِ السنين، وصبغها بطابعِ الصرعة، وبالتالي، القضاءِ عليها. هذا وصُيِّر الجنسُ موضوعَ حربٍ محتدمةٍ مع المجتمع بما لا نِدَّ له في التاريخ. وما مِن أداةٍ تؤدي دورها الفعال في محاربةِ المجتمع بقدرِ ما عليه الجنس.
سأكتفي الآن بالقول ما بين قوسين أنّ كلَّ عمليةٍ جنسيةٍ بالنسبة لكلِّ رجلٍ قد تحولت إلى عمليةٍ سلطوية؛ آمِلاً أنْ أتناولَ هذا الموضوعَ باستفاضة، وأطرحه للنقاش في قسمِ الفوضى وسوسيولوجيا الحرية. لقد جُرِّدَت عمليةُ الجنس، أو بالأحرى حُرِّفَت، من وظيفتها البيولوجية الرامية لتأمينِ استمرارِ الحياة والجنس البشري، لِتتحول إلى وظيفةٍ فاعلةٍ في تحقيقِ الإكثار والانتشار اللامحدودَين للسلطة الرجوليةِ المهيمنة في الميدانَين الاجتماعي والسياسي. كما تحولت العمليةُ الجنسية إلى عمليةٍ سلطوية. حيث أدت علاقةُ السلطة دوراً مُعَيِّناً ومصيرياً في كافةِ أشكالِ العلاقات الجنسية، اللواطيةِ منها والشّبَقية. ورغم اتساعِ نطاقِ الأساس التاريخي لمثلِ هذه العلاقات، إلا أنها لم تتكاثر بهذا الإفراط، ولم تُطَبَّق بهذه المنهجيةِ النظامية، ولم تُمارَس بهدفِ السلطة (بالتالي بهدف الاستعباد)، ولم تَستفحِل أفقياً وعامودياً في أيِّ شكلٍ من أشكالِ الدولة والمجتمع بقدرِ ما هي عليه في الدولةِ القومية ومجتمعها. أي أنّ التعصبَ والتحكم الجنسوي الاجتماعي يعني حَدَثَ وعلاقةَ وظاهرةَ السلطة الاجتماعية والسياسية.
أدت السياساتُ المتعلقة بالجنس، والتي طَبَّقَتها الدولةُ القومية داخلَ الأسرة وخارجَها على السواء، إلى شذوذِ السلطة والسيادةِ بكلِّ ما للكلمةِ من معانٍ. إذ تتحول المرأةُ إلى سلعةٍ جنسية، ويصبح الرجلُ أداةً للسلطةِ والسيادةِ الجنسية. وهم بذلك لا يَجُرّون أنفسَهم والمجتمعَ إلى الأزمة والتفكك الأخلاقي وحسب، بل ويصبحون هم والمجتمع ضحيةَ حربِ السلطة والسيادة.
الإعلامُ هو الأداةُ الأكثر تأثيراً في الحربِ المندلعة ضمن هذه الميادين الثلاثة. بل ولم تُؤَدِّ أيةُ أداةٍ أخرى دوراً تدميرياً في هذه الحربِ المعلَنة تجاه المجتمع بقدرِ ما هو عليه الإعلامُ القابعُ تحت رقابةِ الاحتكارات. في حين أنه لو استُخدِمَ من جانبِ الحضارة الديمقراطية، فلا ريب أنه سيؤدي دورَه كوسيلةٍ هي الأكثر تأثيراً في الدمقرطة.
هذا وتُشَرَّع سياساتُ السجون والمشفيات بعنايةٍ فائقةٍ في الدولة القومية، لِتُؤَدّيَ دوراً بارزاً في أَسرِ المجتمع وتعزيزِ سلطةِ الدولة. فالذين تقع وِجهَتُهم صوبَ السجون أو المشفيات، يَرَون أنفسَهم وجهاً لوجه أمامَ خسرانِ العديدِ من قيمهم المادية والمعنوية مقابل السلطة.
في الحقيقة، عندما تَفرض الدولةُ القومية سيادتها وسلطتها على المجتمع حتى أدقِّ شرايينه الشعرية، إنما تَعتَرِف بذلك ببلوغِها نهايةَ النهاية. والسلطةُ البالغةُ هذه الحالة، لا خيارَ أمامها سوى التسمر في النقطة الأخيرة. ما يلزم هنا هو قيامُ الحضارة الديمقراطية بتعميمِ وتطبيقِ مفهومها القدير والمؤثر بشأنِ الدمقرطة والتنظيم والعمل بين كافةِ كُلِّيَّاتِ المجتمع، أي بين جميعِ ميادينه.
ز- تُراهِنُ الدولةُ القومية أساساً على الطبقةِ الوسطى. أي أنها تتخذ من الوسطِ أساسها الطبقي. إذ من المحال تحقيقَ تطورها على أرضِ الواقع بغيرِ ذلك، حتى ولو تَبَدّى أنه ممكن نظرياً. الدولةُ القومية هي الإلهُ العصري للطبقة الوسطى. حيث تعيش على خيالِ اللجوء الدائم لهذا الإلهِ عقلياً وعاطفياً (بتأمين المهام والمصالح). وكيفما كان المجتمعُ يخشع لربه ويعبده دون أنْ يدرك وجهَه الباطني، فالطبقةُ الوسطى الحديثةُ الراهنة أيضاً لا تعرف إلهَها (المبني على الحداثة الرأسمالية)، ولكنها مدركةٌ أيضاً أنه لا خيارَ آخر أمامها. فتَحَمُّلُ مسؤوليةٍ أو مَهَمَّةٍ في بيروقراطيتها أو احتكاراتها (بموجب التشكيلات المِهَنِيّة) يعني الخلاصَ بذاته. وتَعتَبِر أنها هي المجتمع، لا غير. إنها طبقةٌ أنانيةٌ بإفراط. يَنظر الليبراليون إلى الطبقة الوسطى على أنها من أهمِّ شروطِ الديمقراطية. لكنّ العكس هو الصحيح. فالطبقاتُ الوسطى هي المستودعُ الذي تُخَزِّن فيه الفاشيةُ – لا الديمقراطية – أدواتِها ومستلزماتِها. ومثلما أنّ العلاقةَ بين الفاشية والدولة القومية بنيوية، كذلك العلاقةُ بين الفاشية والطبقةِ الوسطى بنيويةٌ أيضاً. وكون العلاقةِ بين الفاشية والاحتكار الرأسمالي بنيوية، لا يُغَيِّر من هذا الحكم شيئاً. ووجودُ الحالات الاستثنائية لا يفيد إلا في تأييدِ صحةِ النزعة الأساسية.
وبينما تُعَوِّل الديمقراطيةُ الليبرالية على الطبقةِ الوسطى أساساً، فإنها تَهدِفُ في ألعوبتها الديمقراطية الأعظم إلى إفراغِ الديمقراطية من فحواها، بتعزيزِ فوقيتها على قوى المجتمع الديمقراطي الحقيقية. ولا يمكن للبورجوازية الليبرالية والديمقراطيين الليبراليين أنْ يلعبوا دوراً إيجابياً إلا كجناحٍ يساريٍّ في الأجواء التي تشهد الانتعاشَ الديمقراطي الوطيد. وما ينبغي تَوَخّي الحيطةَ منه هو شذوذُ الطبقة الوسطى. فقد اكتَسَبَت الرأسماليةُ تجاربَ كبرى في استخدامِ الطبقة الوسطى ضد كفاحِ المجتمع لأجلِ الدمقرطة. حيث تمارس سياستَها الداخلية إزاءها بأنْ تُقَدِّمَ لها التنازلات، وتُوقِظَ فيها الأحلامَ والأوهام، وتُخِيفَها تجاهَ البنية التحتية للمجتمع على الدوام. بهذا المعنى، فالدولةُ القومية هي الحربُ المُرَكَّزة للطبقة الوسطى. كذلك، وتأسيساً عليه، فالدولةُ القومية هي إلهُ الحرب لدى الطبقة الوسطى. هكذا تفهمها، وهكذا تتوهمها، وهكذا تعبدها بخشوع. ومقابلَ هذا الإله والحربِ المُرَكَّزة المعلَنة، لا خيارَ أمام القوى الديمقراطية سوى خلق ذهنيتها وممارساتها الذاتية الجوهرية. كما أنّ الخيارَ الوحيدَ مقابلَ هذا الإله هو تحويلُ الحياةِ الحرة إلى الخيار الأقدس والأنبل!
ح- إنّ مقارنةَ الدولة القومية مع بعضِ أشكالِ الدولة الأخرى لدى تقييمها، والتعرفَ على النماذج المختلفة ضمنها، سيُنِيرُ الأمرَ أكثر. من المهم عدمَ النظر بعينِ المساواة بين الدولة القومية كاصطلاحٍ ومؤسسةٍ وبين الجمهورية. فكلُّ جمهوريةٍ ليست بدولةٍ قومية. بل قد تَكُون المَلَكيات أيضاً دولاً قومية، وقد تتحول بعضُ الجمهورياتِ إلى دولةٍ قومية. فالجمهوريةُ منفتحةٌ على الديمقراطية أكثر. وعلاقاتُها مع المجتمع ليست على منوالِ الدولة القومية. إذ تَكُون على مسافةٍ أبعد من الاحتكارات. وبينما تَكُون الجمهوريةُ نظامَ التحالف والوفاق، فالدولةُ القوميةُ هي نظامُ الإرغامِ الأحاديِّ الجانب، وبناءِ المجتمع كما تريد الدولة. وبينما تتوخى الجمهوريةُ الدقةَ اللازمةَ في تحالفاتها وفي توازنِ المجتمع، فإنّ الدولةَ القومية تهدف إلى إفسادِ شتى أنواعِ التحالف والتوازن، وتصعيدِ الانفراد بالذات والسيادةِ المركزية إلى أقصاها، وصهرِ جميعِ القيم والمفاهيم السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية المختلفة في بوتقتها. قد تَحصل المشاركةُ في الجمهورية. فبينما تَجدُ العديدُ من الآراء والثقافات والأثنيات والكياناتِ السياسية والإدارات المحلية والمناطقية مكانَها تحت سقفِ الجمهورية، فإنّ الدولةَ القومية ضد مثلِ هذه التعدديات والكليات ذهناً وبنيةً.
لَطالما يَدور الحديثُ عن ثلاثةِ أمثلةٍ بخصوصِ نمذجةِ الدولة القومية.
مثالُ فرنسا هو النموذجُ الأول للدولةِ القومية. فمكانُ ولادةِ الدولة القومية هو فرنسا. أما خالِقُها وإلهُها، فهو نابليون. تَتَّخِذُ فرنسا من الهويةِ السياسية أساساً، وتُرَسِّخُ الميدانَ السياسي والحقوقي، وتَسلك مواقفَ أكثر تقليدية حتى لا تنزلقَ نحو فاشيةٍ من الطراز الألماني. وهي ليست متعصبةً فيما يتعلق بالعِرقِ والأثنيةِ الحاكمة. فكلُّ مَن يتشاطر لغةَ وثقافةَ فرنسا، بإمكانه احتلالَ مكانِه في الدولةِ القومية الفرنسية. وقد استَلهَمَ الأتراكُ لأنفسِهم من هذا النموذج. كما له مُقتَفُوه في العالَم أيضاً.
أما النموذجُ الألماني، فيَأخذ الثقافةَ أساساً. فالثقافةُ الخاصةُ بالأمةِ الألمانية هي شرطُ وجودِ مواطَنتِها ودولتِها القومية على السواء. ونزوعُها بالأغلب إلى الفاشية متعلقٌ بتطورِ الدولة القومية الألمانية على هذا الأساس. وقد أَثَّرَت في العالَمِ أجمع. وقد تأثرَ الأتراكٌ بهذا النمط في التطبيق أيضاً، لكنّ الألمان يتجاوزونه.
في حينِ أنّ المثالَ الإنكليزيَّ هو الأكثرُ مرونةً وسلاسة. فالإنكليز، لا يَتَّخِذون الوحدةَ السياسيةَ أساساً كالفرنسيين، ولا الوحدةَ الثقافيةَ أساساً كالألمان. بل يَعرِضُون مثالاً من الدولة القومية المنفتحةِ أكثر للكياناتِ السياسية والثقافات الأخرى المغايرة.
ط- يتسم تناولُ الدولة القومية من حيث التوقيتِ بأهميةٍ خاصة من حيث استيعابِ تطورها وتحولاتها. إنّ التشديدَ المتواصلَ على كونها صيغةَ الدولةِ الأساسية للحداثة الرأسمالية، وعدم تناولها ضمن سياقِ تطورها التاريخي، سيجعلنا قاصرين عن إدراكِ دورها بشكلٍ كامل.
إنّ نزوعَ كلٍّ من هولندا وإنكلترا إلى تحطيمِ آمالِ إسبانيا وفرنسا في الإمبراطورية قد دفعهما للبحث عن مفاهيمِ الدولة الأكثر تأثيراً، وهذا ما جرَّهما نحو نمطِ الدولة القومية. فسواءً من النواحي المالية والسياسية، أو من حيث إعادةِ إنشاءِ الجيش على وجهِ الخصوص، قد بَرهَنَ هذا النموذجُ تَفَوُّقَه القاطعَ مع الزمن مقارنةً بالبُنى السياسيةِ والعسكرية القديمة. من هنا، حَقَّقَتَا تفوقَهما البحري أولاً، بحيث انتقلَ زِمامُ السيادة، وبالتالي الهيمنةِ على البحر، إلى يَدِ هولندا وإنكلترا مع حلولِ نهاياتِ القرن السادس عشر. وفي غمارِ الحروب التي خاضتاها في فرنسا وإسبانيا حول السلالة في مستهلِّ أعوام 1700، حسمتا تفوقَهما البري أيضاً. لكنّ الأُسَرَ الحاكمةَ في فرنسا والنمسا كانت لا تتخلى بأيِّ شكلٍ من الأشكال عن أطماعها في الإمبراطورية، فدَفَعَت ثمنَ ذلك باهظاً، حيث خَسِرَت فرصتَها في تكوينِ الدولة القومية، علاوةً على أنّ التكاليفَ الماليةَ لِبُنى الدولة لديها كانت باهظةً بنسبةٍ أعلى بكثير.
أما هولندا وإنكلترا، فدعمتا إنشاءَ الدول القومية على الصعيدِ السياسي تجاه آمالِ الإمبراطورية تلك. ونخص بالذكر هنا سياستَهما المؤثرةَ بإبرازهما دولةَ بروسيا كدولةٍ قومية منيعةٍ تجاه فرنسا والنمسا. والسياسةُ الأخرى المؤثرة تجسدت في مؤازرتهما ومساندتهما الدائمةِ لكلِّ المعارِضين في أوروبا، وبالتالي لكلِّ النازعين للدولة القومية، حتى أَنهَكَتا منافسيهما. ذلك أنّ تَغَلُّبَهما على الدولةِ القومية كان يَبدو وكأنه مستحيل. من هنا، كانت معاهدةُ واستيفاليا ثمرةً لهذه التطورات. فأوروبا الدولةِ القومية كانت تتسعُ أرضيتُها وتُحَقِّقُ تفوقَها تصاعدياً إزاء أوروبا الإمبراطورية. فمَرامُ إنكلترا من الثورة الفرنسية كان خلعَ المَلك الذي يأبى الوفاقَ معها، ودعمَ معارضيه، وجَرَّهم لجدولِ الأعمال الذي تشاءه هي. بالتالي، ساندت كلَّ مَن كان على تناقضٍ مع المَلِك. في الحقيقة، فالثورةُ بمعنىً من المعاني (وليس كلياً) كانت مؤامرةً من إنكلترا. لكنّ المَلَكية فيما بعد أَفسَدَت حساباتِها مع الجمهورية ونابليون فيما يتعلق بالانتقالِ إلى الدولة القومية، فأَنقَذَت إنكلترا نفسَها مقابلَ نابليون بِقَيدِ شعرة. فضلاً عن أنّ سياستَها بشأنِ بروسيا أيضاً كانت وجهاً لوجهٍ أمامَ محصلةٍ مشابهة.
نصادف مثالاً مشابهاً لنابليون في إنشاءِ جمهورية تركيا. فبدعمِ إنكلترا للموالين لها تجاه الاتحاديين الألمان، انسلَّ مصطفى كمال باشا مستفيداً من ذلك، لِيَكُون تكراراً مطابقاً لنابليون. وبذلك خَسِرَ مواليه الإنكليز والألمان على السواء. لإنكلترا تجاربُها السياسية المشابهةُ الكثيرة، وهي خليقةٌ بالبحث والتمحيص بعناية. علاوةً على أنه ينبغي عدمَ النسيان بأنها مارسَت السياسةَ بالاشتراك مع الماسونيين أيضاً.
لقد تم الجزم بانتصارِ الدولة القومية على النطاق الأوروبي مع إعلانِ ولادةِ الوحدةِ القومية الإيطالية في 1861 والألمانية في 1871. وانتقلت ساحةُ صراعِ الهيمنة هذه المرة لِتَكُون بين إنكلترا وألمانيا. ومَرَّت السنواتُ الخمسةُ والأربعون فيما بين 1870 – 1914 بالبحث عن تحالفٍ بين الطرفين. لكنّ الحربَ العالميةَ الأولى أَلحَقَت ضربةً ساحقةً بآمالِ ألمانيا في الهيمنة والسيادة، فكانت الحربُ العالميةُ الثانيةُ بمثابةِ ضربٍ من ضروبِ الانتقام لهذا الأمر. والمحصلةُ كانت الانهيارَ الأليمَ للدولة القومية الألمانية.
سَعَت روسيا لملءِ فراغِ الهيمنة الألمانية من خلالِ ثورةِ أكتوبر 1917. ولذلك تَمّ تحويل السوفييتات إلى دولٍ قوميةٍ بسرعة. لكنّ تحالفَ إنكلترا الخبيرة مع الولايات المتحدة الأمريكية ذهبَ بآمالِ روسيا في الهيمنة أدراجَ الرياح، تماماً مثلما حصلَ للفرنسيين والألمان. وانهيارُ السوفييتات الرسمي في 1989 كان يفيد بالتخلي عن طموحاتها في الهيمنة. فمع حلولِ 1945، انتقلت هيمنةُ إنكلترا المعمرة ثلاثةَ قرونٍ بِحالها إلى الولايات المتحدة الأمريكية، مقابل أنْ تبقى إنكلترا حليفاً صغيرَ الشأن لها. وما سياسةُ السوفييت في دعمِ ومؤازرةِ حركاتِ التحرر الوطنية تجاه الهيمنة الأمريكية سوى حصيلةً للحربِ الباردة الجارية خلالَ أعوامِ 1949 – 1989 بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي في غضونِ العصر الذهبي للدول القومية. فالتوتراتُ والحزازياتُ التي بينهما هَيَّأَت الأرضيةَ لولادةِ الدول القومية وتكاثرها كالتَّيهُور. من هنا، فمرحلةُ تشييدِ الدولة القومية المكتملة في أوروبا حتى 1914، كانت قد اكتملت على الصعيدِ العالمي أساساً في بدايات 1970. وكانت الحربُ العالميةُ الثانية أولَ أزمةٍ جديةٍ خانقةٍ للدولِ القومية الأوروبية. فوُلِد الاتحادُ الأوروبي كمنتوجٍ لهذه الأزمة.
الموضوعُ الجديرُ بتسليطِ الضوءِ عليه هو دوافعُ الحداثةِ الرأسمالية في تطويرِ الدولة القومية نموذجاً. إلى جانبِ كلِّ ما سردناه من دوافع، نضيف باقتضاب سببَ عدمِ سماحِ هذا النمط بتطوراتٍ من قَبيلِ الطراز الإمبراطوري بسهولة. فلو كانت الإمبراطوريةُ انتصرت، لَكانت فرصةُ الاحتكارات الرأسمالية ستغدو مجدداً أقربَ إلى حالها في العصور الوسطى. ولذلك عَضّوا عليها بنواجذهم، وحاربوا بلا هوادة أطماعَ الإمبراطورياتِ العظمى الأربع. وهكذا أُفرِغَت آمالُ إسبانيا فيما بين 1500 – 1600، وفرنسا فيما بين 1600 – 1870، وألمانيا فيما بين 1870 – 1945، وروسيا فيما بين 1945 – 1990 في أنْ تَكُون إمبراطورياتٍ عظمى (ينبغي إضافة طموحاتِ العثمانيين والنمسا في الإمبراطورية إليها أيضاً)، وذلك بوساطةِ سياساتِ الدولة القومية.
رغم أنه يُنظَر إلى الدولةِ القومية على أنها خليقةٌ بعنوانِ البورجوازية الوطنية، إلا أنّ الواقعَ البارزَ للعيان يشير إلى كونها أساساً منتوجَ الاحتكاراتِ الرأسمالية الطامعةِ في بناءِ نظامٍ عالميٍّ دولي. فحتى مثالُ تركيا، التي تتظاهر بالنزعةِ الوطنية المتعصبة بإفراط، لم يَكُ لها أنْ تَقِفَ على قدمَيها دون مصادقةِ إنكلترا وتحالفها مع الولايات المتحدة الأمريكية. أي، من المحال التفكير بولادةِ وتنامي الدولة القومية دون وجودِ النظام الرأسمالي العالمي، بما في ذلك دول السوفييت والصين القومية أيضاً. من أُولى المؤثراتِ المصيرية في بنائها وبقائها هو كونُ رأسِ المالِ الجوابَ السياسي الأمثلَ لِضمانِ الربح. وعندما فَقَدَت الدولُ القومية خصائصَها هذه، تم تحويلها رويداً رويداً، لِتَقُوم بالحفاظِ على وجودها واستمراريتها تحت ظلِّ السيادةِ الإنكليزية ومن ثم الأمريكية. فبدون دعمِ سياسةِ النظام العالمي (الحداثة الرأسمالية وهيمنتها)، ما كان لأيةِ دولةٍ قومية أنْ تَصمدَ مدةً طويلة، لأنّ ذلك كان يعني الشذوذَ عن منطقِ النظام القائم. وما هو شاذ، إما أنْ يحيا بصعوبةٍ بالغة، أو أنْ ينهار. والحاجةُ الماسة التي تَفرض نفسَها حتى على السوفييتات والصين بضرورةِ الوفاق مع الولايات المتحدة الأمريكية للنجاح في الصمودِ والحفاظ على الوجود، إنما هي مثالٌ وبرهانٌ قاطعٌ آخَر ظهرَ للعيان.
إذن، والحالُ هذه، بمقدورنا الآن استيعاب النهايةِ المأساوية لِصَدّام حسين على نحوٍ أفضل. ذلك أنه لَم يَعرِفْ، أو لم يرغب في معرفةِ النظام القائم. لم يَكُن أمامه سوى خيارٌ وحيدٌ للحفاظ على وجوده متماسكاً، ألا وهو تحويلُ العراق إلى نظامٍ ديمقراطيٍّ شامل. لكنه لم يستغل هذه الفرصة، بسببِ إيمانه الذي لا يتزعزع بإلهِ الدولة القومية. ولدى إمساكه بِكِلتا يدَيه بالقرآنِ الذي يُدَوِّن كلامَ الإله القديمِ كتابياً، وهو يَتَوَجَّهُ صوبَ مِنَصّةِ الإعدام، تَبَدّى للعيان وبشكلٍ مأساويٍّ أليم، أنّ إلهَه القديمَ لَم يأتِ لنجدته، وأنّ قُوَتَّه لَم تَكفِه لإنقاذِه تجاه إلهِ النظام الجديد. لكنّ إلهَ النظامِ القائم، أي اللوياثان الجديد، يتخبط ويتفجع ألماً في مستنقعِ العراق، وفي حالةٍ عويصةٍ ضمن منطقةِ الشرق الأوسط برمتها.
تبحث أوروبا لنفسها عن إلهٍ جديد. ومن المحتمل أنْ تُنشئ إلهاً أكثرَ سلماً وأكثرَ انفتاحاً تجاه الحقوق. فتسعى لتطويرِ الاتحاد الأوروبي كَرَدِّ فعلٍ إزاء ماضيها الحربي برمته، وعلى رأسه الحرب العالمية الثانية، التي كانت آخِرَ الحروبِ المروعة التي خاضتها طيلةَ تاريخِ التحول الوطني وبناءِ الدولة القومية على مدى أربعةِ قرونٍ بحالها. أي أنها تَجهَدُ لِتَخَطّي الجوانبِ المُدَمِّرةِ الفظيعةِ والمُهَوِّلة البارزة للوسط مع بناءِ الدولة القومية، وذلك بأساليبِ التطور التدريجي، وبالأفكارِ والعقائد والمؤسساتِ الجديدة في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتاريخية بالتأسيس على المواطَنةِ الأوروبية. إنه أَشبَهُ ما يَكُون بتقديمِ النقد الذاتي. إنها مرحلةٌ تقتضي متابعتَها بكلِّ حساسيةٍ وحذر، حيث من المحال التعويل على نتائجها أو التكهنَ بها مسبقاً. أما الولاياتُ المتحدة الأمريكية، فأبدت مواقفَها الصارمةَ الراديكالية تجاه الدولة القومية التي لا تتوافق ومصالحَها، وذلك بهدمِها لِصَدَّام ونظامِه، كونَه بمثابةِ لويس السادس عشر في مدنيةِ الدولةِ القومية في العراق (وهو المَلَك المُعدَم بالمقصلة أثناء الاحتلال الفرنسي). فمهما يَكُن، بمقدورها اختبارَ أسلوبِ إعادةِ إنشاءِ الدولةِ القومية على الطراز الفيدرالي بالأرجح (بنية الولايات المتحدة الأمريكية نفسها).
إنّ انحصارَ أطماعِ أمريكا فيما بين الإمبراطورية والهيمنة برهانٌ جازمٌ على عُسرِ المرحلة التي تَمُرُّ بها. فالتحكمُ بالدول القومية بسيادةٍ هزيلةٍ أمرٌ صعب، كما هي الحال في العلاقاتِ مع تركيا على سبيلِ المثال. وفي حالِ فَضَّلت الإمبراطوريةَ قد تُعزَل عن العالَم، إذ لا يزال انهيارُ روما حياً في الأذهان. لكنّ غيابَ أيةِ قوةٍ أخرى تتجرأ على التطلع إلى الإمبراطورية يُعَدُّ بمثابةِ فرصتِها السانحة. كلُّ شيءٍ يشير إلى أنها وجهاً لوجهٍ أمامَ مأزقٍ وخيم. فالسيادةُ والهيمنة عبر الدولة القوميةِ الكلاسيكية قد أوصلتها بِشَقِّ الأنفس إلى بداياتِ القرن الحادي والعشرين. الاتحادُ الأوروبي هو الخطوةُ الأولى، ولكنه لا يزال في حالةِ التكون، ولا يزال الغموضُ يَلُفُّ مستقبلَه. ونظامُ هيئةِ الأمم المتحدة يشير إلى المأزق، وكأنه مرآةُ الدولةِ القومية. فهو يكاد يَكُون جهازاً يُزيد من وطأةِ المشاكل، عوضاً عن تخفيفها وحَلِّها. أما الوحداتُ الإقليمية والقارية الأخرى، فكأنّ إمكانياتِها في الحل معدومة، نظراً لعدمِ رجاءِ أيِّ أملٍ منها في تَخَطّي عائقِ الدولة القومية. لقد خَرَجَت الدولةُ القوميةُ من كونها نموذجاً لِحَلِّ القضايا الاجتماعية منذ زمنٍ بعيد، سواءً في الداخل أو الخارج. علماً أنها أثناءَ تشييدها كانت نموذجاً مناسباً، سواءً تجاه حملاتِ الغزو والاحتلال، أو لأجلِ أولِ تكديسٍ لرؤوسِ الأموال. لكن، وبالرغم من ذلك، فحاضِرُنا شاهدٌ على مئاتِ الأمثلة من الحوادث البارزة للوسط، والمشيرةِ إلى كونها نموذجاً معرقِلاً ومعيقاً تجاه الانتعاشِ المتجدد لجميعِ القضايا التاريخية والاجتماعية والثقافية والأثنية والبيئية والفامينية والسياسيةِ التي عملت على قمعها داخلياً من جهة، وتجاه حالاتِ سوءِ التفاهم والنزاعات الدولية من الجهة الثانية.
القضيةُ الإسرائيليةُ – الفلسطينية مليئةٌ بالعِبَرِ من هذه الناحية. فكِلا الطرفَين متشبثان بموديلِ الدولة القومية بِتَحَجُّرٍ صارم. فَلِكَي يَحُلّوا قضيةَ القدس وحسب، إما أنْ يُمَزِّقوا المدينةَ إرباً إرباً، أو أنْ يَفنوا بعضَهم عن بِكرَةِ أبيهم. من العسيرِ حقاً العثور على مثالٍ آخَر أفضل من هذا ليسلطَ الضوءَ بكلِّ سطوعٍ على مأزقِ النظام القائم وأزمته الخانقة العقيمة. علماً أنّ وضعَ العراقِ وأفغانستان ولبنان أمام الأنظار. وقد تَكُون إيران وغيرها في جدولِ الأعمال أيضاً. إذن، ومع مرورِ كلِّ يومٍ يَتَّضِحُ بكلِّ جلاء أنّ هذا النمطَ ليس عادلاً أو إنسانياً، ولا سياسياً أو ديمقراطياً، كما تتضح أيضاً استحالة فرصته في الاستمرار.
بعدما بَلَغَت الدولةُ القومية أَوجَها في السبعينيات، عانت من أزمةٍ غائرةٍ في أعماقها مع انهيارِ الاتحاد السوفييتي خاصةً. ومع عجزها عن التجاوب مع الأزمةِ وقضايا النظام، بل وتشكيلِها حجرَ عثرةٍ مع الزمن، بدأ اعتبارُها يتهاوى في عيونِ الاحتكارات الرأسمالية. فمساعي النفاذِ من الأزمة بالتطورات التدريجيةِ لا تبعث على الأمل، مثلما في موديلِ الاتحاد الأوروبي. فالأزمةُ الكونية العامةُ على عُرىً وثيقةٍ بالحداثة الرأسمالية. والشرق الأوسط هو ميدانُ الأزمةِ المتصاعدةِ لدرجةِ الفوضى العارمة. ما يجري يَصِلُ بأبعاده إلى حربٍ عالميةٍ ثالثة. ونموذجٌ ثانٍ من الاتحاد الأوروبي أو مشروعِ الشرق الأوسط الكبير بعيدٌ كلَّ البُعدِ عن تأديةِ متطلباتِ المنطقة. لذا، من المنتظَر أنْ تَدُومَ حالةُ الفوضى على المدى الطويل. وقد يسعى النظامُ القائم لإعادةِ إنشاءِ الدولةِ القومية بكساءٍ من الديمقراطية المزيفة. لذا، فالسبيلُ الأنسبُ للردِّ على ذلك، هو شروعُ القوى المنادية والمكافحةِ في سبيلِ المساواة والحرية والديمقراطية بتطويرِ الحضارة الديمقراطية.
سأسعى للنقاش حول مشروعِ الكونفدرالية الديمقراطية في المنطقة، وذلك في مرافعتي التي سوف أطرحها باسم "حل الثقافةِ الديمقراطية في الشرق الأوسط والعصرانية الديمقراطية في كردستان".
ي- إنّ الالتفاتَ عن الدولةِ القومية دون النقاشِ حول جانبها الأبستمولوجي (نظرية المعرفة) كبراديغما متجذرةٍ لأبعدِ الحدود، سيَكُون نقصاً فادحاً. تشير الأوصافُ والتسمياتُ الجارية حتى الآن إلى استنادها على براديغما مغايرةٍ جداً لأي نمطٍ آخر من الدولة. إنّ أعمالَ توماس كوهن بشأنِ نظريةِ المعرفةِ تَسردُ للعيان مدى أهميةِ هذه البراديغما. والخاصيةُ التي أَرغَبُ توضيحَها في السياقِ المتعلق بالبراديغما هي قوةُ الدولةِ القومية في التحريفِ الكبير. فالزاويةُ العلمية للشخصِ المترعرع في الأوساطِ الاجتماعية للدولة القومية تَكُون مضادةً للحقائق بنسبةِ تسعين بالمائة (التخميناتُ الفظة تشير إلى صحةِ قناعتي). والعِلَّةُ الأساسيةُ الكامنةُ وراء ذلك هي إنشاءُ البراديغما الدولتيةِ القوموية لِوَعيِها الخاصّ بصددِ التاريخ والمجتمع، بدءاً من نمطِ بناءِ المواطَنة، والترويجِ لذلك وبَسطِه على جميعِ مستوياتِ المجتمع. ونخص بالذكر تاريخَ الأمة والدولة الذي أنشأَته (بشكلٍ متداخل)، والذي ينكر التاريخَ العام، مثلما ينكر تاريخَ الأمم والدول والمجتمعات الأخرى بنسبةٍ كبرى، أو يَعرضه بعدَ تحريفه وتسخيره لخدمةِ تاريخه.
وأيُّ مواطِنٍ لا يَمُرُّ من تلقينِ هذه البراديغما، لا يمكنه أنْ يَكُون رجلَ علمٍ مثمر. وإنْ لَم يَكُ ذلك مستحيلاً، فعِلمُه يُعتَبَر منحرفاً بإفراط، وعاجزاً عن التحلي بالقدرةِ اللازمة لتطويرِ تفسيراتٍ قَيِّمة. لماذا؟ أولاً: لأنها تعصبيةٌ تنظر إلى كلِّ شيءٍ من زاويةِ منفعةِ الدولة القومية، ولا يمكن لكلِّ الظواهر أنْ تَكتَسِبَ معانيها ما لَم تَمُر من عَيِّناتها القوموية. وما مِن إمكانيةٍ لاستيعابها علومَ الاجتماع. فمثلما أنّ منظورَها الفاشي للأمة قد ضَيَّقَ الخناقَ على إمكانيةِ إحرازِ العلم، فهي غيرُ قادرةٍ على فهمه، إلا عندما يتكافأ ووجهاتِ نظرها. وما مِن ظاهرةٍ أو علاقةٍ أو حدثٍ منبوذٍ من قِبَلها قادرٌ على إفسادِ حفظياتها. وفي هذه النقطةِ بالذات تَبرز أمامنا التخريباتُ والأضرارُ التي تَسَبَّبَت بها القومويةُ كَدِين. فواقعُ أيِّ شيءٍ لا يَخدم قومويتَها، لن يَكُون له أيُّ معنى أو شأنٍ لديها. حالتُها الروحيةُ وعقلُها منغلقان. ولهذا، فهي تَنظر إلى الوقائعِ الاجتماعية المفعمة بالمعاني الخارجةِ عن نطاقِ ظواهرِ الدولة القومية على أنها مضادةٌ لها. ذلك أنّ كلَّ شيءٍ في ميدانِ الواقع الاجتماعي مُرغَمٌ على الانعكاسِ في منظارِ الدولتيةِ القومية، حتى لو كان كمنظارِ الحِصان. إنّ هذا المنظارَ عاجزٌ عن التفكير الموضوعي في التاريخِ والفلسفة، وغيرُ مناسبٍ لاستيعابِ العلم. علاوةً على تَصَلُّبِ ذهنيتها كعائقٍ جدي بِحَدِّ ذاته.
هذا وهي عاجزةٌ عن التفكير بالمجتمعاتِ خارجَ مجتمعها الدولتي القوموي. والتحجرُ في هذا المضمار، إما أنْ يُحَرِّفَ ويُشَوِّهَ الملاحظةَ الموضوعية، أو أنْ يَجُرَّها إلى وجهةِ نظرٍ لا صِلَةَ لها بها. وعندما تَنظر إلى الآخَرِ بهذه البراديغما التعصبيةِ بما يضارِعُ أكثر المتدينين تعصباً، فإما أنها لن تراه، أو ستراه عدواً لدوداً. هذا هو السببُ الذي يجعل عالَمَ الدولةِ القومية يسفر دائماً عن الحروب. ومثالُ هتلر ملفتٌ للأنظار في هذا السياق أيضاً. فإما أنْ تَكُون أوروبا والعالم مثلما يراها هو من منظوره، أو لا تَكُونَ فتُباد. وليس عسيراً إثبات كيفيةِ تَحَوُّلِ هذه البراديغما إلى عاملِ عنفٍ وتعسفٍ مؤثرٍ من خلالِ عددٍ كبيرٍ من الأمثلة.
واضحٌ تماماً أنّ الحروبَ الدينيةَ أيضاً متعلقةٌ ببراديغماتٍ مختلفة. فتكاثُرُ الحروبِ الناجمة عن القوموية لهذا الحدِّ إنما مرتبطٌ ببراديغماتِها ووجهةِ النظرِ الأساسية التي رَسَّخَتها الدولةُ القومية. فالقُصورُ عن الإدراكِ السليم للمعرفةِ والمعلومة، سيؤدي بطبيعةِ الحال إلى اكتسابِ المعارفِ الخاطئة. وهذا ما يجلب بدوره القراراتِ والممارساتِ العمليةَ الخاطئة.
مِن غيرِ المنتظَر أنْ يَكون أيُّ رجلِ عِلمٍ مسلَّحٍ بوجهةِ نظرِ الدولةِ القومية العميقة (براديغمائيتها) قادراً على طرحِ تفسيراتٍ وشروحٍ قَيِّمَةٍ بشأنِ جميعِ العلوم، وعلى رأسها علومُ الاجتماع (علينا ألا نغفل عن كونِ جميعِ العلوم الأخرى لها جذورُها وأسسها الاجتماعية).
هذه الذهنيةُ التي تصبغ كلَّ شيءٍ بطابعِ "الأنا"، تقول "أنا" في كلِّ شيء: "حدودي"، "مجتمعي"، و"وطني"؛ تَغرَقُ في أنانيةٍ فظيعة، وتُغالي في تضخيمِ نفسها. بالتالي، من المستوعَب جلياً أنه ما مِن قوةِ قرارٍ أو علاقةٍ أو عمليةٍ سليمة يمكن أنْ تَصدر مِن شخصيةٍ كهذه. ومن غير المأمولِ أنْ تَسمَحَ بفرصةِ السلم والتضامن والتكافل، سواءً وطنياً أو دولياً، كونها تضع نفسَها في كفة، والدولةَ ومجتمعَها وتاريخَها وآفاقَها ومصالحَها وطموحاتِها في الكفة الأخرى.
إذن، من المحال أنْ نحظى بفرصةِ العلمِ الصحيح أو القرارِ الصائب أو العلاقة السليمة، ما لَم نخترقْ إطارَ وجهةِ نظرِ الدولةِ القومية في هذه البراديغما، التي سَعَينا لتعريفها على شكلِ مسودةٍ بخطوطها العريضة. فكلُّ المؤشراتِ تَدُلُّ على أنّ الأجواءَ الديمقراطية تمنحنا الشروطَ الأكثرَ ملاءمةً للثورة العلمية. وإذا ما أَلقَينا نظرةً على معارفِ المرحلة الممتدة من 6000 – 4000 ق.م (الهلال الخصيب)، إلى إيونيا وأثينا في 600 – 400 ق.م، وصولاً إلى أوروبا بمرحلتها المبتدئة مع النهضة والإصلاح والتنوير منذ القرن الخامس عشر؛ سنجد أنّ المراحلَ التي تَسارَعَ فيها انتعاشُ ونموُّ العلوم، إنما هي ذات أواصر كثيبةٍ مع مستوى حريةِ المجتمعات. وإنْ كانت أوروبا لا تزال عُرضةً للانتقاداتِ الصارمة إلى الآن – رغم منجزاتها العظيمة – فهذا يَرجِعُ إلى منفعيةِ الدولة القومية الأنانية. وسببُ قصورِ الحداثة عن إيجادِ الحلول للقضايا الراهنة، إنما يَعُودُ إلى نظامِ الدولة القومية التي تَعمل به أساساً، تماماً مثلما هو السببُ في كلِّ الحروبِ الهامة الفريدةِ من نوعها، والتي سادت القرونَ الأربعة الأخيرة.
أما وجهةُ نظرِ الحضارة الديمقراطية، فهي فرصةٌ عظيمةٌ ورائعةٌ من حيث إنتاجِ العلم السليم. ونخص بالذكر الحاجةَ الماسةَ لعلمٍ جديدٍ في خضمَّ أجواءِ الأزمة والفوضى العارمة، والتي لا يمكن تلبيتها إلا بسيادةِ براديغما المجتمع الديمقراطي فقط.
ونظراً لاستحالةِ ظهورِ الحلول العملية دون حلِّ وتفكيكِ القضايا الأبستمولوجية، فإنّ تحطيمَ طوقِ براديغما الدولةِ القومية، والتحلي ببراديغما العصرانيةِ الديمقراطية سوف يَصِلُ بنا إلى القدرةِ على إيجادِ الحل اللازم والمرتقب.