قراءة في كتاب باقر ابراهيم اليسار والاحتلال والمرتدون الجدد !
جمال محمد تقي
2010 / 2 / 8 - 10:48
" كم هي غريبة التقلبات في عالم السياسة عندنا في العراق ، فالاوهام الوردية التي راودت البعض ايام عز الجبهة والتحالف ، انقلبت الى اشد التطرفات المضحكة المبكية نحو ـ اليسار ـ وتطرفات ـ اليسار ـ هي نفسها انتهت مؤخرا بذلك البعض الى الانقياد لاسترضاء اكثر الاعداء خطورة في الغرب وقبول التنسيق معهم وتلقي العون منهم " من مقالة السقوط وتطلعات للنهوض التي احتواها الكتاب !
اطلعت على كتاب الاستاذ الفاضل باقر ابراهيم من خلال الشبكة الالكترونية ، وهو اخر مؤلفاته حيث صدر عام 2009 عن دار الشهد ، ويحتوي على جملة تصوراته ومواقفه التحليلية والنقدية لاوضاع حشع وما انحدر اليه وكذلك فهمه لما يجري في العراق والمنطقة ، باقر ابراهيم لا يحتاج لتعريف وخاصة بالنسبة لسياسيي العراق ومنتسبي حشع وقادة التنظيمات اليسارية العربية ، فهو شخصية وطنية ويسارية مرموقة ومواقفه وتشخيصاته نتاج لخبرة طويلة ومخضرمة ونظرة مبدئية ثاقبة نابعة من تربيته النضالية الاصيلة ، فهو من القلة القليلة من القادة السابقين لحشع الذين يقفون بصلادة ونشاط ضد عملية احتلال العراق وما رافقها من تداعيات واجراءات تخدم المشروع الامريكي فيه وفي الشرق الاوسخ الجديد ، لذلك كله فان لوقع ما يصدر عنه صدى لا يجب ان يفوت المتابعين والمعنيين الذين يهمهم تلمس خريطة المواقف السياسية والفكرية لمثقفي ومناضلي العراق ومدى جدته واتجاهاته لاسيما وان هناك مخاض عسير وارهاصات تلف حركة اليسار وصفوفها عموما وتجليات لصراع فكري وسياسي وتنظيمي جارف يتصير داخل وخارج العراق حول حاسمية المسألة الوطنية وعدم انفصالها باي حال من الاحول عن جوهر النضال الطبقي ـ التحرر السياسي والاقتصادي ببعديه الداخلي والخارجي ـ كعمود فقري لقضية اليسار في عراق اليوم كما كانت في عراق الامس مع فارق كبير هو ان العولمة الامبريالية اخذت تستعين باسلوبها القديم الاحتلالي المباشر وخاصة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ليس بردة نحو الشكل الكولونيالي وانما لاختصار المعادلات في اعادة تخليق الاوضاع داخل البلدان العاصية اوالمشعة وتفتيتها ليسهل هضمها امبراطوريا ، والتركيز على الوسائل الناعمة قبل الخشنة لترويض وتهجين وشراء ذمم اليسار المتهافت ومسخه ليبراليا ليكون دعامة محلية للهيكلة الجديدة ، وهذا ما يتجسم في حالة اليسار الانتهازي العراقي وفي مقدمته قيادة حشع الرسمية التي جعلت من تحالفها الخدمي مع المشروع الامبريالي في العراق حلقتها المركزية للبقاء على قيد الحياة ثم تصاهرها مع المتعاونين الاخرين من طائفيين وعنصريين وليبراليين ممسوخين ضمن عملية سياسية تابعة ومشوهة تلحق ابلغ الاذى بالطبقات الكادحة ومصيرها لان هذه العملية تغلب السياقات المتخلفة والرجعية ـ العشائرية والمناطقية والطائفية والعنصرية ـ على السياق الوطني والطبقي !
بين دفتي الكتاب مجموعة مقالات تحمل مواقف متتابعة ومتكاملة حول الوضع الراهن في العراق وماهية جذور الموقف الارتدادي عند ملالي حشع وتنكرهم عمليا وليس شعاريا عن جوهر الفكرة ـ الشيوعية ـ ومتطلباتها في عراق اليوم ، المقالات لا تكتفي بهذا فقط ولكنها ترسم ملامح لتحول جديد وهو قادم لا محال استدلالا بتعثر المشروع الامريكي واستيقاض الوطنية العراقية ومقاومتها الباسلة ثم بحث اليساريين العراقيين الاصلاء عن الاسلوب الانسب لاسترداد اليسار العراقي لجوهره المفصول عنه قسرا ،، ورغم كل الاختلاطات والاغبرة المثارة طائفيا وعنصريا ومناطقيا ، ورغم التفرد الامريكي بقرار استخدام القوة المفرطة كوسيلة لحل منازعاتها عالميا ، ورغم اختلال موازين القوى محليا واقليميا وعالميا ، رغم كل ذلك الا ان الماركة المسجلة لطبيعة الصراع الدائر ما تلبث ان تبرز للعلن وبشكل صارخ معلنة عن نفسها بانها هي هي ذاتها ومنذ ايام لجنة مكافحة الاستعمار والاستثمار ولجنة مكافحة الصهيونية وحتى ايام التحاف الاممي النزيه مرورا بجبهة الاتحاد الوطني والجبهة الوطنية والتاميم والتنمية المتحررة هي هي فطبيعة العناصر لا تتغير الا اذا تفاعلت مع عناصر اخرى ، الصراع في العراق اليوم صراع طبقي بامتياز بل هو قمة هذا الصراع لانه اخذ بعدا مسلحا دمويا بين قوى امبريالية محتلة غاشمة استخدمت في طريقها المتهافتين على السلطة من اليائسين والمتساقطين والذين اعياهم طول الانتظار في مقاومة الاستبداد المحلي ، بالضد من شعب منهك واعزل ومحاصر لاكثر من عقد بحصار ظالم قذر اراد ترويضه وقلع اظفاره قبل الانقضاض عليه ، شعبنا لن يغفر للمتخادمين مع اعدائه اثناء الحصار واثناء الاحتلال واثناء تمرير مسرحية الاستقلال الكاذب الذي لا ينتج بالنتيجة غير ديمقراطية كاذبة مهما حاول المسفسطون من ايجاد تخريجة تبريرية له ، فالمسالة في الاساس ـ هي هي ـ وكما كانت صراع طبقي في ذروته ، طبقات رجعية تتلبس بلبوس الطوائف والاعراق ، ووعاظ للسلاطين من اليسار المنهار بمقابل عمال وفلاحين وكسبة ومثقفين احرار وعسكريين وطنيين ، ماذا تحقق للعمال والفلاحين والكسبة ؟ ماذا غير الانحطاط غير البطالة غير التشويه الطبقي بمحاولة تحويلهم الى متلقين للاعانات من فتات عوائد النفط ، بعد ان بيعت معاملهم ومصانعهم واحلامهم بسوق الخردة وبعد ان اصبح العراق سوقا لتصريف فضلات ما يسوقه الاخرون ، لا زراعة ولا صناعة ولا قطاع عام ولا هم يحزنون ، اية كارثة اعظم لحقت بالطبقات المنتجة في عراق اليوم ـ العراق المحرر ـ العراقيون ليسوا باغبياء انهم يعرفون ان الستينات والسبعينات هي عقود مثالية للبنية الاساسية في المجتمع العراقي خلال القرن الماضي ويدركون ان نهج التنمية الوطنية المتحررة كان مثمرا لولا متاهات الاستبداد وعدم استقرار السلطة ، لذلك يتطلع العراقيون ويحنون بل يقارنون ويريدون عودة التنمية الوطنية بشحمها ولحمها متعافية من الاستبداد والحكم الفردي وهذا لا يمكن ان تحققه العملية السياسية التابعة لقوى المنطقة الجرباء ـ الخضراء ـ لذلك فان مقاومته ستزداد ولا تنقص بعد الانسحابات الامريكية الثقيلة من العراق !
ماذا حصل لعمال النفط في البصرة او كركوك او طقطق او زاخو او العمارة ؟ ماذا تحقق للكسبة والمعدمين في اربيل والسليمانية ومدينة الثورة والحرية ، في شمال ووسط وجنوب العراق ؟ ماذا حل بالعراق ؟ بزراعة العراق بري العراق بكهرباء العراق بالتعليم في العراق بالصحة في العراق بالماء الصالح للشرب في العراق ؟ لا شيء ليس لان الوقت قصير ـ سبع اعوام من الاحتلال ـ لانه حتى ولو بعد مئة عام سوف لن يحصل شيء غير التراجع والتقهقر وذلك لسبب بسيط وهو ان العراق لا يقاد بطريق التنمية الوطنية التي يعرفها العراقيون جيدا ويعملون لاستعادتها ، ولان الفساد الطائفي والعنصري والتبعي الطفيلي سيسود بسبب العملية السياسية المشوهة الجارية برعاية المحتل الامريكي الذي يريد خصصة العراق وبيعه بالمزادات العلنية المزوقة باغراءات الاستثمارات الاجنبية التي تريد تغييب المنتجين العراقيين باغراق البلاد بالصناعات الاستخراجية المعتمدة على الكادر والعامل الاجنبي بالترافق مع رفع الحماية عن المنتج المحلي وكذا رفع الدعم الحكومي لاسعار السلع الاساسية بحسب توجيهات البنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي الخاضعة لمشيئة الدول الاحتكارية ، بعد كل هذا وبعد تحويل الشعب العراقي الى متلقي اعانات سيسهل حتما سوقه الى حيث يراد له !
هذا المشروع سيفشل ليس لان نوايا قوى العملية السياسية لا تجاري كل هذا الشر وانما لان شعب العراق مجبول على انتزاع حقوقه بيده حتى ولو بعد حين فكيف اذا كانت ذاكرته حية وهي تستنطق الماضي الذي يعتبره مثاليا وممكنا مع بعض التحسينات ، ماضي ان يكون شعبا منتجا متعلما طموحا متطلعا يبحث في الارض والسماء وبين الاشلاء عن مخارج للانسدادات التي توضع بوجهه !
من هنا نقول ان المقاومة هي وطنية وطبقية في ان واحد وستستمر كذلك !
يقول باقر ابراهيم : " هناك ثلاث عوامل تضافرت من اجل ان تدمر قرطاجة ـ الحزب ـ ويتحقق السقوط المنشود وهي اولا ـ دور المخابرات المعادية ، اي اجهزة الامبريالية والصهيونية والرجعية العالمية وثانيا ـ دور القمع الحكومي الذي يخشى ليس المباراة الحرة فقط بل حتى المشاركة في مسؤولية النضال لتطوير العراق وثالثا ـ دور اخطائنا السياسية ، حد التهيئة للسقوط ، حد الانتحار " !
اعتقد ان هناك شيء ما غائب عن هذه العوامل وربما هو فيما بينها او يحيط بها او في داخل كل واحدة منها ، انه غياب العقلية النقدية التي لا يمكن ان تحضر دون تمرس ينبذ التلقينية والتواكلية ، فليس غريبا وهذا واقع الحال ان يظهر حشع وعبر كل تاريخه بشحة العطاء النظري المتميز وقلة منظريه المبدعين والمميزين محليا وعربيا ناهيك عن الامميين ، ومن ناحية اخرى كثرة قادته وكوادره اللامعة في مجالات التنظيم والعمل السري والعمل الصحفي والاستنساخ الفكري ، هناك محاولات كانت بدائية ومشوشة ليوسف سلمان يوسف ـ فهد ـ قائد الحزب نفسه ، مبثوثة في كراساته الحزبية ، كان لها ان تعطي ثمارا ربما لو اتيح لها ان تستمر ، وومضات عديدة في تميز مواقفه تشير لهذه الحقيقة كموقفه المتميز من قضية تقسيم فلسطين ، وموقفه من العمل الوطني ، والربط ما بين النضال الوطني والاممي بالاصرة الطبقية ، وهناك حالات اخرى لكنها لم تاخذ مداها !
ربما كان عزيز السيد جاسم واحدة منها ـ مشروعا قد شطح بفراره الى فضاءات الفكرة القومية قبل ان يعطي ثماره شيوعيا ـ !
مع اهمية دور الفرد في تنضيج العطاء الفكري والنظري لحركة اليسار العراقي ، الا انه من المفيد التأكيد على حقيقة ان مهمة هذا الابداع صارت تنهض به الان وربما منذ فترة مضت تجمعات المناضلين المقاومين ، وهذا ما يمكن ان نلمسه بصورة واضحة في دور اليسار الشيوعي الوطني على تعدده وتنوعه !
المهم اعتقد ان التربية الفكرية تلعب دورا مهما في صياغة العقل النقدي المتجاوز والجرئ نحو مسلمات الابداع التي تشيع حتما جسورا متينة من التحصين السياسي والتنظيمي لاية حركة ثورية كانت ، وليعبر عليها المسافرون في النضال الوطني والطبقي والاممي !
في الكتاب بعض من الاستعارات المضيئة والمفيدة والمفاصل الموحية ساختار ثلاثة منها بحكم المزاج لا اكثر : يقول قس بن ساعدة : اذا رأيت حربا جبانها يجروء وشجاعها يجبن فاذهب الى رابية وترقب الاحداث ، ترى ان في الامر خيانة " في معرض حديثه عن ثورجية البعض اثناء فترة العمل المسلح في شمال العراق وهو المعروف بجبنه ايام المواجهات الصعبة في الداخل !
اشار لينين الى موقف ملك افغانستان اثناء مقاومته لتقدم القوات البريطانية في اراضي بلاده قائلا : بانه اكثر ديمقراطية من اعتى الديمقراطيات الاستعمارية لكونه يدافع عن استقلال بلاده !
كتبت جريدة المانيفستو الايطالية في تاريخ 2 / 7 / 2003 على الشيوعي العراقي ان يأخذ الامور بيده ويحمل السلاح ويوقف اللصوص . . لكن بدلا من ذلك فهم يقعدون في مكاتبهم فماذا ينتظرون ؟
عرب وين حشع وين ؟
في الختام العمر المديد للسيد باقر ابراهيم ليمد القراء بالمزيد من الكتابات الجميلة والمؤثرة !