اليهود والمدنية (18)
عبد الله أوجلان
2010 / 2 / 4 - 21:13
قد يَستغرِب البعضُ لِتناولي قسماً خاصاً بذلك. لكني على قناعةٍ بأنه أمرٌ ضروري وفي مَحَلِّه تماماً. ذلك أنّ الخروجَ خارجَ حدودِ الوطن، واعتقالي، والروابطَ بين الإبادةِ العرقية لليهود وبين القومويةِ باعتبارها الدينَ العصريَّ للرأسمالية؛ كلُّها مبرارتٌ تؤكد أهميةَ تناولِ هذه القصة كموضوعٍ بِحَدِّ ذاته. فضلاً عن مواقفِ المتنورين التي لا تروي الظمأ، وبالأخص عدم تقديمِ الأيديولوجيين اليهود نقداً ذاتياً من الصميم بهذا الخصوص، أو عدم رؤيتي أو مطالعتي إياه إنْ كانوا فعلوا. كلُّ ذلك يَفرض عليَّ ضرورةَ تخصيصِ جزءٍ جِدِّ هامٍّ لسردها في مرافعتي. هذا وآمل أنْ أتناولَ وأُقَيِّمَ الموضوعَ بتفاصيله الدقيقة في المجلَّدَين الرابعِ والخامس اللاحقَين، واللذَين أسميتُهما: "دمقرطة ثقافةِ الشرق الأوسط" و"إنشاء العصرانية الديمقراطية في كردستان
كلُّ مفكرٍ معنيٍّ بتاريخِ الحضارة والمدنية، ينتبه فوراً إلى عدمِ مقدرته على طرحِ تقييمٍ قدير، ما لم يَلتفتْ إلى دورِ اليهود فيها. ونظراً لكوني التمستُ الموضوعَ بين الحين والآخر على شكلِ مسودة في مرافعتي السابقة بسببِ معلوماتي المحدودة، فإني مضطرٌّ للاكتفاءِ بموجزٍ جِدِّ مختزَل.
كلُّ البَيِّنات تشير إلى أنّ الهويةَ المسماةَ إبراهيم (المعلومات المتعلقة بهويةِ سيدنا إبراهيم، والمُجْمَعُ فيها على أنه سَلَفُ الأديانِ الإبراهيمية، إنما تَلُفُّها الحياكةُ الميثولوجية مثلما الحالُ في سيدنا عيسى وسيدنا موسى. لذا ثمة حاجةٌ للبحوثِ السوسيولوجية الشاملة لإظهارِ الحقيقة بسطوعٍ أكثر) لم تتفاهم براديغمائياً مع نماردةِ بابل (وهم أشبَه بوالي الإقليم)، الذين يُشَكِّلون حُكّامَ أورفا الحالية، أو على الأقل، وإنْ كان ثمة أسبابٌ أخرى، فقد عُكِسَ الأمرُ على هذه الشاكلة. تَسرد القصةُ الميثولوجية الموضوعَ على النحو التالي: يَقومُ سيدنا إبراهيم بتحطيمِ هياكلِ الأصنامِ الوثنية الموجودةِ في مجَمَّعِ الآلهة إشارةً منه إلى استحالةِ أنْ تَكونَ آلهة، ومن ثم يُعَلَّق بالرافعة على قلعةِ أورفا لِرَميِه في النار المندلعةِ في أكوامِ الحطب، لكن، وبمجردِ رميِه تَتَحَوَّلُ النارُ إلى بحيرةِ ماء، ومنها تَشَكَّلَت بحيرةُ السمك Balıklı Göl الحالية.
يُرجَّح احتمال أنْ يَكُونَ خطُّ الوصل بين أورفا والقدس بمثابةِ منطقةٍ حدوديةٍ محايدةٍ تتوسط أراضي القوتَين العظيمتَين في ذاك العصر: مدنيةُ السلالةِ المصرية الجديدة، وسلالةُ حمورابي البابلية السومرية. ولأولِ مرةٍ في التاريخ تبلغ التجارةُ مستوى قطاعٍ اقتصاديٍّ مُتَنامٍ ومتصاعد. وربما كانت التجارةُ فيما بين كلتا المدنيتَين تؤدي دورها على السياسة، حيث تتسارع وتيرةُ وفود التجار بينهما. هذا ويتقاطع عصرُ الآشوريين التجاري بكلِّ بهائه مع هذه الفترة. علاوةً على أنّ خطَّ أورفا – القدس – دمشق – حلب يمثل مساراً بالغَ الأهمية منذ العصور الأولى (منذ ولادة النيوليتية وتأسيس أول مدينة) من حيث الهجرة، التجارة، الاحتلال والغزو. والأهمُّ هو أهميته من حيث التبادل الديني، حيث ليس مصادفةً أنْ تَكُون هذه المناطقُ هي التي شهدت انطلاقةَ سيدنا إبراهيم وأولى هجراته. ومعروفٌ بشكلٍ ملفتٍ أنها خطُّ الانطلاقات الأولى لكلٍّ من المسيحية والإسلام أيضاً. سيدنا إبراهيم (يُعتَقَد أنّ المصريين هم الذين أَطلَقوا هذا الاسمَ عليه كَلَقَب. كما أنّ المصريين كانوا يُسَمّون الوافدين عن طريقِ صحراءِ سيناء بـ"العابيرو" إشارةً منهم إلى الغبار والوسخِ الذي يُلَوِّث ملابسَهم. بالتالي، يغلب الظنُّ أنْ اسمَي العبرانيين وإبراهيم مشتقان من لفظِ عابيرو مع إطراءِ التحوير والتحويل عليه) يسعى أولاً للإقامةِ والمكوث بالقرب من القدس، التي تُشَكِّل أراضيَ إسرائيل وفلسطين اليوم. لكنّ الإداراتِ المحليةَ لا تأذن له بهذه السهولة. يُقال أنه امتلك مُلكاً زهيداً، وهناك لَقِيَ حتفه. ومن أراد، بإمكانه من خلالِ الكتب المقدسة (العهد القديم، العهد الجديد، والقرآن) متابعةَ القصة المبتدئة بأقاصيصِ سارة، هاجر، إسماعيل، إسحاق، ويعقوب، والمستمرةِ مع سيدنا موسى وعيسى ومحمد، والحلقةِ المستمرة بمئاتٍ من الأنبياء الآخرين. وقد تَكُون الآلافُ من الكتب التاريخية والقصص والرواياتِ الجانبية أيضاً مفيدة. لكني أكتفي بعدةِ مراحلَ بخطوطها العامة جداً للإشارة إلى ما أرمي إليه:
أ- المرحلة الأولى: قصةُ إبراهيم في أورفا والانطلاقة والخروج، حيث هو رئيسُ قبيلةٍ وتاجر. يُحتَمَل أنها الفترة فيما بين 1700 – 1600 ق.م.
ب- مرحلةُ الأسر في مصر فيما بين 1600 – 1300 ق.م.
ج- الخروجُ والانطلاقة بزعامةِ سيدنا موسى فيما بين 1300 – 1250 ق.م.
د- السكنُ والاستقرار في أرضِ الميعاد فيما بين 1250 – 1200 ق.م (مرحلة القائد وسيدنا يشوع النبي).
هـ- مرحلةُ الزعماء والحكام فيما بين 1200 – 1000 ق.م. وهي فترةُ العلمانيين والقادة الدينيين (الكهنة) الذين لم يتحولوا بعد إلى ملوكٍ أو أنبياء، والمستمرةُ حتى عهدِ المَلِك الأول صاؤول.
و- مرحلةُ ملوكِ اليهود وإسرائيل فيما بين 1000 – 700 ق.م. وهي الفترةُ المبتدئة مع صاؤول، داوود، وسليمان، والمنتهية مع حزقيال (الاحتلال الآشوري).
ز- مرحلةُ الاحتلال والاستعمار والغزو والتحكم والمقاومة والنفي فيما بين 700 ق.م – 70 م (عصر هيمنة وسيطرة وغزو الآشوريين، البابليين، الإسكندر، والرومان).
في هذه المرحلة تنهار المملكةُ اليهودية أو الإسرائيلية، لِتَحُلَّ مَحَلَّها مجموعتان بارزتان، إحداهما مقاوِمة، والأخرى متواطئة. تتبين ملامحُ المتواطئين كمجموعتَين أساسيتَين مواليتَين للإغريق والبرسيين. والسبيُ البابلي الثالث (535 – 495 ق.م) المستمر أربعين عاماً في عهدِ نبوخذ نصر مَلِك البابليين هو الأكثرُ شهرةً بعد الخروج من أورفا ومصر. وقد شهدت هذه المرحلةُ الأحكامَ المنصوص عليها في الكتاب المقدس، والتي يتضح تأثرُها بالزرادشتية بجلاء. ذلك أنّ فترةَ السبي المستمرةَ أربعين سنة قد انتهت. كما أنّ النسخ الأولى المُجَمَّعةَ والمدوَّنة من التوراة تَظهَر في هذه المرحلة، أي بعدَ عام 700 ق.م. أي أنه لم يَكُن ثمة نسخةٌ مدوَّنةٌ ملموسة للكتاب المقدس طيلةَ ما يقارب ستةَ قرون (1300 – 700 ق.م). وهذا ما مفاده أنّ السرودَ المعنية المنصوصَ عليها في الكتب المقدسة الثلاثة ترتكز في أساسها إلى الأقوالِ الشفهية المنقولة بعد مرورِ ستةِ قرون. وهي شبيهةٌ بالأحوال والأقوال التي سكبها كلٌّ من هوميروس وهسيودوس على الورق أثناء المرحلة نفسها في الإلياذة وثيوغونيا Teogonia. أما هدمُ الرومان لِهيكلِ سليمان مرتَين حوالي 70 ق.م – 70 م، ففتحَ الطريقَ للمقاومات الكبرى. كذلك، فالمسيحيةُ هي تقاليدُ المقاومةِ للشرائحِ المتخبطة في الفقر المدقع. علاوةً على أنّ مقاوماتِ الطبقةِ العليا أيضاً ذائعةُ الصيت، من قبيل المكابيين .
وتزداد وتيرةُ الشتات (الدياسبورة) ، أي تَشَتُّتُ القبيلة أو القوم خارجَ الوطن، بعد أعوام 70 م. ومثلما حصل الشتاتُ بين صفوف القاطنين في ظلِّ الثقافات الآشورية والأرمنية والإغريقية، فقد تَرَكَّزَ أكثر في أراضي الإمبراطوريتَين الرومانية والإيرانية بشكلٍ أساسي. تُسمى هذه المرحلةُ الطويلة في الوقت نفسه بِعصرِ الكُتَّاب. أي أنّ جمعَ التوراةِ وتفسيرَه قد حصل أثناءها. ويَبرز الأنبياءُ أيضاً خلالها، إلا أنّ مهنةَ الكتابة تتقدمها أهميةً. وهذا ما معناه أنّ المستوى الفكريَّ الرفيعَ في الثقافة اليهودية يرتكز إلى تقاليدَ تاريخيةٍ بالغةِ الأهمية. ويبدو أنّ المهنةَ الأخرى الهامة لديهم هي الانشغالُ بشؤونِ المال والتجارة. فانهماكُهم الدؤوبُ بشؤونِ التجارة، وبالمال الذي هو الوسيلةُ المؤثرة فيها، إنما هو على صلةٍ كثيبةٍ بعدمِ توفرِ الإمكانيات للارتزاقِ اليسير من الأراضي الزراعية. انطلاقاً من هذا السبب، بالإمكان القول أنهم حَلّوا مَحَلَّ الآشوريين، واستحوذوا على الاحتكارِ التجاري والمالي في الشرق الأوسط. وبينما جعلهم هذا الوضعُ مقتدرين ومتمرسين ظافرين للغاية بأرباحهم في مدنِ العصور الوسطى وفي لندن وأمستردام اللتَين تُشَكِّلان مهدَ الرأسمالية؛ فهو في الوقت عينه يشير إلى استنادِهم إلى تقاليدَ تاريخيةٍ طويلةِ الأمد في بلوغهم مستوى المستثمِرين الكبار. ويُخَمَّن أنهم بَقَوا مدةً قصيرةً في القدس وأطرافها، وتَشَرَّدَ غالبيتهم في بلاد المنفى. وهكذا ستَبرز للوسط الثقافتان الهامتان على شكلِ الشتات الشرقي والشتات الغربي في قصةِ تشتُّتِ وتبعثرِ هذا القوم.
ح- سيَكُون من المناسب أكثر تسميةَ اليهود باصطلاحِ "القوم"، نظراً لخروجهم من النطاق القبائلي تزامناً مع الشتات، وتَجَمّعِهم ضمن عددٍ جمٍّ من المجموعات الثقافية التي تَخَطَّت مستوى القبيلة. ونخص بالذكر أنهم تَجَمّعوا بالأكثر في البلاد العربية، إيران، كردستان، مصر، والأرض الهيلينية، وباتوا مجموعاتٍ يهوديةً معتمدةً على ثقافةِ المنطقة القاطنين فيها. هكذا يغدون شعباً ثنائيَّ الثقافة: الثقافةُ العبرية الأصلية، وثقافةُ المجتمعات التي استقروا ضمنها. وكان هذا الوضعُ سيؤثر إيجاباً وبدرجةٍ رفيعةِ الأهمية على مهاراتهم الفكرية، ذلك أنهم على تماسٍّ مباشرٍ مع جميعِ الثقافات التاريخية العريقة.
ويبدأ عصرٌ مأساويٌّ آخَر مع ظهورِ الإسلام. فالعربُ ينتقلون مع الإسلام إلى إنشاءِ مدنيةٍ تجارية. ولكنّ غالبيةَ الاحتكارات التجارية والمالية في الكثير من المناطق – ومن ضمنها البلاد العربية أيضاً – يتحكم بها التجارُ والصرافون اليهود. من هنا، فالحديثُ المنسوب إلى سيدنا محمد بالقول "أَخرِجوا اليهودَ والنصارى من جزيرةِ العرب" ذو معنى، وإنْ كان مشكوكاً في صحته. يَعُود العداءُ العربي – اليهودي بأصوله إلى أغوارِ التاريخ. فإرسالُ هاجر وابنها إسماعيل كشخصَين منبوذَين إلى المكان الذي تتواجد فيه مكة، مرتبطٌ بالتناقضات القائمة آنذاك بين اليهود والعرب. هكذا، ومنذ ذاك العهد ومصالحُ اليهود والتجار والشيوخ العرب على تنافرٍ ونزاعٍ دائمَين، لتتصاعدَ في راهننا إلى الصراعِ العربي – الإسرائيلي والفلسطيني – الإسرائيلي. هذا الصراعُ النابع من التاريخِ السحيق، والممتدُّ بجذوره إلى ما يقارب 3500 عاماً، تَحَوَّل في حاضرنا إلى صراعِ المدنيات بكلِّ ما للكلمة من معنى.
من الطبيعي نشوء منافسةٍ حادةٍ بين الاحتكارات التجارية ضمن المنطقة. وبناءً على ذلك، تتجلى أمامنا بصورةٍ أسطع أسبابُ إيلاءِ الإسلام الأهميةَ القصوى للتجارة، ودوافعُ العلاقة بين خديجة وسيدنا محمد. وفي المحصلة، كان أمام اليهودِ خياران: إما أن يُعَرِّضوا أنفسهم لمخاطرِ الصهر والتحولِ إلى عملاء مفيدين (المُتَّقون ) للمكوثِ في المنطقة؛ أو أنْ يستسيغوا النفيَ والتشتت في مناطقَ جديدة. في الحقيقة، تتجلى الحالتان معاً لديهم. فقد انفصلَ قسمٌ لا يُستهان به منهم، وزادوا من وتيرةِ هجراتهم التي ابتدأت إلى أوروبا منذ عهدِ الإمبراطورية الرومانية؛ بينما الباقون ظلوا مُتَّقين وأشباهَ أسرى، يَدفَعون الجزيةَ الثقيلة مقابلَ العيش. ويتقدمون بأدوارهم التاريخية (الكتابة والتجارة والصرافة) إلى مستوياتٍ أرفع، لِيَذيعَ صِيتُهم في الحضارة الإسلامية خلالَ العصور الوسطى، وبالأخص ضمنَ مناطقِ إيران والأندلس (إسبانيا). ويَحظَون بإمكانيةِ النشاط والعمل مع العديد من القوى السياسية، لِيَغدوا بذلك جديرين بِلقبِ الشعبِ المتنور والتاجرِ والصراف بما لا يقبلُ الجدل. وهذا السببُ بالذات هو الذي يجعلهم أيضاً هدفَ حقدِ وكراهيةِ مثقفي المجتمعات الأخرى وتُجّارها الكبار داخل جميعِ المناطق التي يقطنونها. إذن، فالعداءُ لليهود يتأتى من تقاليدَ ضاربةٍ بجذورها أعماقَ التاريخ، وله أبعادُه المادية والثقافية والتاريخية البالغة الأهمية.
ط- مع بلوغنا مستهلَّ العصرِ الحديث، نجد أنّ موجةَ الحقد والنفور، ووتيرةَ النفي والتهديد ستتأجج أكثر على اليهود انطلاقاً من تلك الأسباب. ذلك أنّ الرأسماليةَ مدنيةٌ وُلِدَت ونشأت في رحمِ الاحتكار التجاري والمالي. وكلُّ منتفعٍ أو متضررٍ على هذا الصعيد، سوف يشير بالبَنان إلى المثقفين والتجار والصرافين اليهود كحجرِ عثرةٍ أساسيٍّ يعترض دربهم. إنّ اليهودَ وجهاً لوجه أمامَ مفارقةٍ خطيرة. فاحتكاراتُ التجار والصرافين من الأمم الأخرى، والذين تتوافق مصالحُهم مع المستجدات والتطورات الرأسمالية الجارية، سوف يَرَون العناصرَ اليهودية عائقاً معرقِلاً. وبالمقابل، فعناصرُ الزُّرَّاع والحرفيين القدماء من الأمم الأخرى، والذين تتنافر مصالحهم مع تنامي الاحتكارات الرأسمالية، سيَقدِرون – وبكلِّ سهولة – على إبرازِ وجعلِ اليهودي خطراً صوفياً محدقاً. والمفكرون أيضاً، وبموجبِ طبيعةِ تبعيتهم للنظام القائم، فمن مصلحتهم إظهار اليهودية كصندوقِ باندورا المُعَبَّأِ بشتى أنواعِ السيئات والرذائل. هكذا سوف يَغدو القرنان الخامس عشر والسادس عشر بالنسبة لليهود بدايةً لمرحلةٍ مدينيةٍ جديدةٍ تشهد استعارَ النفي والمذابحِ المنظَّمة (الإبادات الجماعية لليهود) مجدداً، مثلما حصل في سياقِ التاريخ المنصرم.
الجانبُ الغريبُ والمثير في الأمر هو، وكيفما أنّ قوةَ المفكرين والتجار والصرافين اليهود سوف تَكُون العاملَ الأهمَّ على الإطلاق في إنشاءِ هذه المدنية الجديدة؛ فسوف تَكُون الأكثرَ تعرضاً لغضبها وسخطها أيضاً. هذه هي المفارقة. ففي عام 1492، لم يُطرَد المسلمون وحسب من إسبانيا، بل وطُرِدَ اليهود أيضاً بشكلٍ جماعي. فمهما يَكن، هؤلاء هم الذين صَلبوا عيسى. كانت الذريعةُ جاهزةً ومؤثرة، لكنّ الأسبابَ والدوافعَ الأصلية هي كما سردناها. لقد شوهدت سياقاتٌ مشابهةٌ في بولونيا وروسيا القيصرية. ومقابل هذا الوضع، كانت هولندا وإنكلترا ستصبحان في مقدمةِ البلدان التي سيتجمعون فيها حديثاً، والتي سوف يَقصدها كلُّ التجار والصرافين والمفكرين اليهود المقتدرين وذوي الشأنِ على موجاتٍ متوالية. فالإمبراطوريةُ العثمانية – التي هي في حالةِ حربٍ مع المونارشيات الأوروبية – لن تقتصر فقط على قبولِ قسمٍ منهم، بل وسوف تَدعوهم خصيصاً لِيَحتلوا أماكنَهم ويؤدوا أدوارَهم القديرةَ في احتكاراتِ الصرافة والتجارة التابعة للسلطان. ثم تبدأ الهجرةُ رويداً رويداً إلى القارةِ الأمريكية، لِيُعَزِّزوا منزلتهم تصاعدياً داخلَ احتكاراتِ الصرافة والتجارة الشاملة في المدن الألمانية المتنامية حديثاً. لقد سادَ الاستيطانُ والتهجينُ على نحوٍ جذري في هذا البلد.
حتى لو رَبَطَ بعضُ المفكرين الرأسماليةَ بالنزعة اليهودية، إلا أنها مزاعم مبالَغٌ فيها. إنهم مؤثرون فيها. وبطبيعةِ الحال، فجذورُ التأثير المُعَيِّن تتأتى من ظروفِ المجتمع الاستيطاني المستقر. لكن، من غيرِ الممكن الاستخفافَ بالدورِ المُحَفِّز للأقلياتِ القابضة على الزناد. فتأثيرُ أصحابِ البنوك والتجار والفلاسفة اليهود القاطنين في هولندا وإنكلترا عظيمُ الشأن والأهمية، سواءً في تنامي الأوساط الفكرية، أو في بروزِ الرأسمالية كنظامِ هيمنةٍ جديد. فسبينوزا مثلاً من أهمِّ الرموز التي ابتدأت مرحلةَ عقلِ العصر الحديث، وهو من أوائلِ العلمانيين اليهود (ونقصد بهم الشخصيات الخارجة على الكنيسد اليهودي أو المطرودة منه بالأغلب)، ومن أعظمِ مفكري الحرية، حيث أنّ فلسفةَ "الفهم حرية" مَدِينةٌ له بالكثير. كما أنّ القروضَ التي يمنحها أصحابُ البنوك والتجار اليهود إلى دولتَي إنكلترا وهولندا، تؤدي دوراً عظيماً في ظفرهما في الحروب وتَحَوُّلِهما إلى دولتَين قويتَين. كما سيَلعبون دوراً مشابهاً في القارة الأمريكية، وبالأخص بأمريكا الشمالية وحربِ استقلالِ مقاطعاتِ إنكلترا. والكلُّ على علمٍ – أو يجب أنْ يكونوا – بأنّ المفكرين والتجارَ وأصحابَ البنوك اليهود يحتلون مرتبةَ الصدارةِ بين القوى الأولية المؤثرةِ في نشوءِ الولايات المتحدة الأمريكية الراهنة.
2- الأيديولوجية اليهودية:
عليَّ التنويهَ بداية، وبكلِّ شفافية، إلى أنّ القيادةَ الأيديولوجية على الصعيد العالمي لا تزال في قبضةِ المفكرين والمتنورين اليهود، ولها جذورُها التاريخية السحيقة.
أ- نعثر على الآثارِ الغائرة للثقافتَين التاريخيتَين العظيمتَين السومرية والمصرية في بداياتِ تَكَوُّنِ الثقافة اليهودية. وما العهدُ القديم والتوراة سوى انعكاسٌ لِما استساغَته وامتَثَلَته القبيلةُ العبرية من كلتا الثقافتَين على لغةِ القبيلة وضميرها. الانعكاسُ ساطعٌ تماماً، وهو من أُولى اشتقاقاتهما. الأمرُ كذلك بدءاً من قصةِ آدم وحواء إلى خلقِ الكون في سبعةِ أيام، ومن مصطلحِ الله إلى مصطلحِ النبي. ولا ننسى هنا أنّ طوفانَ سيدنا نوح ملحمةٌ سومرية. وكذلك ملحمتَي النبيَّين أيوب وإدريس! ذلك أنّ اصطلاحَ الدين التوحيدي سُعِي لتجريبه لأولِ مرةٍ كإصلاحٍ كبيرِ الشأن في عهدِ أخناتون، فرعون مصر. علاوةً على أنّ أورفا تُشَكِّلُ المركزَ الأمَّ الأقدمَ عمراً للثقافة النيوليتية. بالتالي، فتأثيرُ الأيديولوجية النيوليتية، بعد إطراءِ التعديل والتحوير عليها، منبعٌ هامٌّ آخَر لا يمكن إغفالَه إطلاقاً. وتَعقِبُها المجموعتان اللغويتان والثقافيتان الكبريتان مباشرة: الآريون والسامِيُّون. فدَور هذَين المصدرَين الأوليَّين أيضاً لا يمكن غضّ الطرف عنه في ثقافةِ القبيلة العبرانية.
ب- كما تَبرز تأثيراتُ الثقافة البابلية والزرادشتية (البرسية – الميدية) بوضوحٍ جليٍّ في عهدِ السبي الأول، حيث أُعِدَّت العديد من الأقاصيص بالاستقاء منها.
ج- المصدرُ الثالث الكبير هو الثقافةُ الإغريقية – الرومانية. ونخص بالذكر التأثيرَ المُحَدِّدَ للعصر الإغريقي – الروماني في تطويرِ الفلسفة الدينية. أي أنّ أسسَ فلسفةِ الدين وتديينِ الفلسفة، والمتواجدة في صُلبِ المسيحية والإسلام في العصور الوسطى، تَعُودُ إلى المدارس الفلسفية للعصر الهيليني، وفي مقدمتها أرسطو وأفلاطون والمدرسة الرواقية .
د- واضحٌ تماماً أنّ المسيحيةَ والإسلام مذهبان متشربان من الدين العبري الموسوي، ولكنْ، مع أقلمته بما يتواءم واحتياجاتِ المجتمعات الإغريقية – الرومانية والعربية. جليٌّ أنهما يتغذيان من نفسِ المصدر. أما صراعُ هذَين المذهبَين مع الموسوية، فيتأتى من الخصائصِ القَبَلِية الغائرة للأخيرة. فقد نشأت الموسويةُ في بداياتها كدينٍ لجماعاتِ القبيلة العبرية. ثم، واعتباراً من مستهلِّ العصور الوسطى (بدءاً من الشتات)، تَغدو الدينَ القوميَّ للقوم اليهودي. أو بالأصح، ثمة مطابقةٌ ساطعةٌ أمامنا: القبيلة العبرية = الدين العبري = القوم العبري أو اليهودي. أي أنّ الأيديولوجية اليهوديةَ ذات مضمون دينيٍّ منذ البداية، وهذا ما مفاده أنها ذات ماهيةٍ قَبَلِيّةٍ وقومية كلياً. أما الإسلامُ والمسيحية، فقد تَكَوَّنا بموجبِ متطلباتِ الثقافة المادية والمعنوية للجماعاتِ القومية المجاورة، والتي هي على علاقةٍ وصراعٍ جذريَّين مع اليهودية. ولهذا السبب، فقد تأثرا بها بدرجةٍ كبيرةٍ من جهة، وبَقِيا على صراعٍ متعاقبٍ معها من الجهة الثانية.
هـ- في الوقت نفسه، فالأيديولوجيةُ اليهودية أيديولوجيةٌ كَوَّنَتها الثقافةُ المادية العميقة. وقد شَهِدنا كيف قامَ اليهود بتعريفِ ثقافتهم المادية وحضارتهم هذه. بالتالي، فالأيديولوجيةُ اليهودية أيديولوجيةُ مدنيةٍ نشأت على مسرحِ العلاقات القريبةِ من كافةِ المدنيات المتكونة في منطقةِ الشرق الأوسط منذ أيامِ السومريين. قد يَكُون من المفيد وضع صياغةٍ على النحو التالي: الأيديولوجيةُ اليهودية مشحونةٌ بالجوهر المركَّب من جميعِ المدنيات. وهي تنتهل قوتها وشأنَها من هذا الجوهر. وللدورِ الذي أدّاه الأنبياءُ والكُتَّاب اليهود على مرِّ التاريخ شأنٌ مُحَدِّد في ذلك. ولهذا السبب أيضاً تَكُون المجتمعاتُ المعنية على علاقةٍ وصراعٍ مع اليهودية بمقدارِ ما تَكُون عليه مع مدنياتها. النتيجةُ الأخرى الممكنُ استخلاصَها هي إمكانيةُ تعريفِ اليهودية على أنها ليست مدنيةً دينيةً أو قومية فحسب، بل وهي مدنيةٌ جَميعة (أو ملحقة) من مجموعِ المدنيات. وإذا ما وضعنا نصبَ العين دورَ الأيديولوجيةِ اليهودية في تعزيزِ بُناهم الثقافية العميقة، سيَكُون بمقدورنا الاستيعاب على نحوٍ أفضل أسبابَ دورهم الريادي الذي لا يزال قائماً على الصعيد العالمي.
و- تمزقت الأيديولوجيةُ اليهودية مع العصر الحديث، وانقسمت إلى فرعَين أساسيَّين يتخذان المسارَين الديني والعلماني. وسبينوزا (1632 - 1677) هو رأس الجناح العلماني. كما قام الكثيرُ من الفلاسفة ذوي الأصول اليهودية بتغذيةِ هذا التيار. فضلاً عن أنّ مدى كونِ العلمانية ديناً جديداً أو خروجاً على الدين هو موضوعُ نقاش. أَوَدُّ التنويهَ منذ البداية إلى أني لا أَعتَبِر إنتاجَ الأفكار على منوالِ موالاةِ الدين أو الخروجِ عليه نشاطاً اجتماعياً أو أيديولوجياً ذا معنى. يجب ألا يَكُون التصنيف هكذا. فبقدرِ ما تَكُون قيمتُه المفيدة والتعليميةُ والتنويرية جدَّ محدودة، فهو مثقلٌ أيضاً بالخصائصِ التحريفية والتضليلية. لكلِّ نوعٍ من أنواعِ المعرفة الميثولوجيةِ والدينية والفلسفية والعلمية مُقابِلٌ اجتماعيٌّ لها. ولكنْ، لا يمكن تسليطَ الضوء على أدوارها وعلاقاتها وتناقضاتها مع ركائزها الاجتماعية والسياسية إلا بالعمل السوسيولوجي.
ز- لليهوديةِ ذاتِ الجناح العلماني تأثيرُها العظيم في أيديولوجيةِ التنوير. هذه الأيديولوجية، التي بمستطاعنا تسميتها بـ"العلموية" أيضاً، مكافئةٌ للوضعيةِ في المستوِيَّات الفلسفية. هذا التيارُ الأيديولوجي، الذي تَرَكَ بصماتِه على العصر الحديث، بات مع الزمن العقيدةَ الدينيةَ للحداثةِ الرأسمالية تحت اسمِ العلموية أو الوضعية. أُشَدِّدُ هنا على نقطةٍ هامة، وهي أنّ الوضعيةَ دِينٌ قديم بقميصٍ مختلف. أو هي الوجهُ المقلوب للقميصِ نفسه، قميصِ الدين. إذ ثمة وحدةٌ ذهنية فيما بين مفهومِ القوانين في العلموية ونظيرتها في الأديان. أي أنه – وعلى خلافِ ما يُعتَقَد – لا الدينُ مفهومٌ "أخروي"، ولا العلمانيةُ مفهومٌ "دنيوي". ثمة تمييزٌ وتصنيفٌ زائفٌ في هذا الشأن. فجميعُ الأديان معنيةٌ بالدنيوية، وعلى صلةٍ مع المجتمعية. والمفاهيمُ المسماة بالدنيوية، إنما هي معنيةٌ بالمجتمعيةِ أولاً، وليس الدنيوية. من هنا، فاصطلاحُ الأخروي – الدنيوي يُخفي وراءه تناقضاً مجتمعياً خطيراً من جانب، ويَخدم استمرارَ الصراع بنحوٍ خفي من الجانب الآخر. فكلما انتظمَت أيديولوجيةُ التنوير على شكلِ العلموية والظواهرية (الوضعية)، كلما صارت الأيديولوجيةَ الرسميةَ للدولة القومية الناشئة حديثاً. وهذا ما معناه التحولَ إلى الأيديولوجية القوموية بسرعة.
3- القوموية اليهودية:
اكتَسَبَت شريحةُ التجار والصرافين اليهود التقليديةُ صفةً عصريةً أكثر نتوءاً وبروزاً كطبقةٍ بورجوازية في النظام الرأسمالي. إنّ الأمرَ المفهوم لأبعدِ حدٍّ هو عثورُ البورجوازية كطبقةٍ اجتماعيةٍ جديدة على أيديولوجيتها الرسمية في التيار الوضعي، وتوليدُها لقومويةِ مفهومِ الدولة. فكونها مبدعةَ الأمة، وماهيةُ أيديولوجيتِها إنما يعززان منزلتها هذه. فبعدَ إضفاءِ المسحةِ القومية على جميعِ مقوماتِ الأمة، لن يَكُون عسيراً عليها الانتقالُ إلى الاحتكاراتِ الاقتصادية المهيمنة عبر احتكارِ الدولة. وما كان بإمكانها خداعَ جميعِ الأمم الأوروبية بالتحول الاحتكاري المتصاعد بسرعةٍ بين صفوفها، إلا عن طريقِ التيار القوموي. إننا وجهاً لوجه أمامَ تكوينٍ مشابهٍ لما ظفرت به الأيديولوجيا لدى السومريين. حيث تُعلَن الأمةُ على أنها الوحدةُ الأسمى (هي أقدم الآلهة، أو في مقامها)، وتُشرِع الدولةُ باحتكارِ الحياةِ المادية داخلَ الأمة، لتغدوَ القوةَ الأعتى للمجتمع. وباتحادِ كلَيهما تصبح الدولةُ القوميةُ الحالةَ الجديدةَ لدولةِ المَلِك – الإله القديمة. ولِجعلِها مُلكاً لجميعِ المجتمع، ثمة حاجةٌ للميثولوجيات، وفي عصر الرأسمالية ثمة حاجةٌ للفلسفة ولشتى أشكالِ السُّوقية والابتذال (الاختزال إلى المستوى السوقي المبتذل القادر على مخاطبة وإثارة مشاعر الإنسان الفظ والبسيط والعادي). تلبي القومويةُ هذه الحاجةَ على أكملِ وجه. وهكذا يُصاغ التعبيرُ الرسمي لمسارِ مجتمعاتِ الأمم الأوروبية، حصيلةَ البحوث الأيديولوجية الساريةِ طيلةَ القرون الأربعة الأخيرة. وتتبدى ملامحُ العالَم الجديدِ محسومةً بتغذيةِ الأمةِ للقوموية، والقومويةِ للأمة، وكِلَيهما للدولة، وهذه الأخيرة للاحتكارِ الاقتصادي؛ ولكن، ضمن نطاقِ زمانها المرحلي بالطبع. وعندما كان التمييزُ الحاسم بين الأمم يتصاعد في جميعِ الأصقاع، وتضطرم بالتالي نارُ القوموية المتأججة؛ كانت الأيديولوجيةُ اليهودية – بطبيعةِ الحال – سوف تؤثر في الأجواء وتتأثر بها على السواء.
إنّ وجودَ الروابط الموضوعية للأيديولوجية اليهودية منذ البداية مع القوم والقبيلة، وبالتالي مع النزعة القومية والقبائلية، خاصيةٌ لا يصعب على المرء فهمها. فالقومويةُ بأقدمِ أنواعها ضمن إطارِ قومويةِ القبيلة والأمة، هي الخاصيةُ الطبيعية والأساسية للأيديولوجيةِ اليهودية، التي تُعَدُّ من أسهلِ الأيديولوجيات التي مرت بالتحول في طَور التبرجز. ومرةً أخرى نجد أنفسنا أمام مفارقة: فهي أبُ الأيديولوجيةِ القوموية من جهة، وهي التي سوف تَدحضُها جميعُ الاشتقاقاتِ الناجمة عنها من جهةٍ أخرى. لقد تطورت هذه المفارقةُ في الميدان المعنوي – الأيديولوجي، تماماً مثلما كانت في الميدان المادي. وهكذا بدأت جميعُ النزعات القوموية تُكَشِّر عن أنيابها وتتربَّصُ لأبيها (انطلاقاً من الأسباب المادية الاضطرارية. بالطبع، هو اضطرار نسبةً للخَيار الرأسمالي). وشَرَعَ القومويون بين صفوفِ كلِّ أمةٍ أوروبية بالإشارةِ بالبَنان إلى اليهود (كأيديولوجيا، وثقافة مادية، وكأمة – قوم) كمسؤولين عن جميعِ المشاكل والعثرات التي تعترضهم. تماماً مثلما تنظر المسيحيةُ والإسلامُ إلى اليهودية على أنها العقبةُ الركن في سبيلها، بالرغم من أنهما ينحدران من الأصولِ الموسوية. تتخفى هنا الخاصيةُ التي أدت دورَها في رصفِ أساسِ المدنية، والتي تؤيد صحةَ أطروحتي أيضاً. ألا وهي كون الدولة احتكاراً اقتصادياً، وتمثل نواةَ المدنية. ويغدو الاشتباكُ أو الحرب أمراً لا مفر منه بين الاحتكارات الجديدة والقديمة في كلِّ مكانٍ يشهد التدولاتِ الجديدة. والحربُ ستستمر كضرورةٍ اضطرارية إلى أنْ يُفنى أحدُ الطرفين، أو يستسلم، أو يصبح غيرَ ذي شأن.
فكيفما أنه ثمة موضوعُ "أرض الميعاد" منذ 3500 عاماً بالنسبة للقبيلة اليهودية، فسوف تَفرض هذه الحاجةُ نفسَها بكلِّ وطأتها في عصرِ الأمة والقوموية داخل أوروبا أيضاً. فأمةٌ يهوديةٌ جديدة تعني الأرضَ الجديدة. وبما أنّ أوروبا مناهِضةٌ دائماً لليهود، فبروزُ تيارٍ مستندٍ إلى مفهومِ "أرض الميعاد" القديمِ أمرٌ لا مهربَ منه. وهكذا تُولَد القومويةُ البورجوازية اليهودية المسماة بالصهيونية كأكثرِ الأمثلة رسوخاً واقتداراً في عصرِ النزعات القوموية خلال القرن التاسع عشر.
وتَدخل القصةُ أبوابَ التاريخ بعد ذلك. ما علينا ذكره، وباختصارٍ شديد، هو الحاجةُ الماسة للدولتَين الأكثر مَنَعَة في عصرهما: ألمانيا وإنكلترا. في حين نَزلت فرنسا إلى المرتبة الثالثة. وينشط القومويون اليهود بكلِّ دأبٍ في كِلا الجناحَين. الكلُّ يعلم كيف عَزَّزوا من شأنِ دولةِ إنكلترا وهولندا. وهكذا يتم تحفيز الرأسمالي اليهودي على مزاولةِ وظيفةٍ مشابهةٍ في ألمانيا أيضاً. هذا وللمفكرين اليهود أيضاً نصيبُهم الوافر في تكوينِ رأسِ المال الفكري (الأيديولوجية الألمانية). وبفضلِ مؤازرتهم يتمكن الإمبراطورُ الألماني من الذهابِ مرتَين إلى القدس لِيُعرِبَ عن عنايته بحركةِ الوطن الجديد. ولو حالَفَهم النصرُ في الحرب العالمية الأولى، لَكانت اليهوديةُ المحميةُ من جانبِ الألمان والعثمانيين (الجناح الأقوى في الاتحاد والترقي كان موالياً لألمانيا، وعلى علاقة مع المستثمرين اليهود في سيلانيك) ستَعُود مبكراً إلى فلسطين – أو أراضيهم القديمة – معتمدةً على دعائمَ أكثرَ حصانةً بكثير. وبطبيعةِ الحال، فهم يتميزون بوزنٍ تقليدي ثقيلٍ في جناحِ لندن.
لِنَترك التاريخَ السياسي جانباً، باعتباره موضوعاً واسعاً وشاملاً. إنّ هتلر يلقي المسؤوليةَ الأكيدة على عاتقِ اليهود في هزيمةِ الألمان. ذلك أنه يرى بشكلٍ قاطع أنّ تَفَوّقَ لندن ليس مستقلاً عن الأيديولوجية اليهودية وقومويتها. لقد تَعَرّضت ألمانيا لخيانةٍ كبرى، والمسؤولُ هو اليهودي. هكذا يتطور عداءُ اليهود ومناهضتهم في كلِّ أمةٍ تعاني من مشاكلَ مشابهة (قضية دريفوس في فرنسا). قد يُبَرهَن أنّ الأمرَ ليس كذلك. ولكن، لماذا لا تنفك هذه المزاعمُ متأججةً متواصلةً على الصعيد العالمي؟ وحتى من قِبَل أحمدي نجاد، رئيس جمهوريةِ إيران مؤخراً؟ إنّ هذا على صلةٍ بوظيفةِ الأيديولوجية والقوموية اليهودية في العالم. فهي لا تزال الأيديولوجيةَ الريادية، تماماً مثلما هي عليه في احتكاراتِ رأسِ المال.
لا يمكن البتةَ الدفاعَ عن الهتلرية. فالتطهيرُ العرقي من أفدحِ الجرائم الإنسانية. هذه وقائعُ إنسانيةٌ واجتماعيةٌ لا تقبل الجدل. فضلاً عن استحالةِ استصغارِ منزلةِ المتنورين اليهود في الكفاحِ الأصيل للمجتمع في سبيلِ الحرية والمساواة والديمقراطية. لِنَدَع أنبياءَهم جانباً، ولكنّ وضعَ عددٍ جَمٍّ من المفكرين والثوريين اليهود في العصر الحديث واضحٌ وضوحَ الشمس، بدءاً من سبينوزا، وصولاً إلى ماركس، فرويد ، روزا لوكسمبورغ، تروتسكي ، أدورنو، حنه آرندت ، وآينشتاين. إني واعٍ تماماً لمتانةِ ورسوخِ الأبعادِ الديمقراطية الاشتراكية لدى المفكرِ اليهودي. لن أكررَ حُكمَ أدورنو مجدداً، ولكن، متى سيُقَدَّم النقدُ والنقدُ الذاتي اللازم للانتقال باليهودية من مكانتها الموضوعية في التطهيرِ العرقي (في الميدانَين الثقافيَّين المادي والمعنوي) إلى مكانةٍ باعثةٍ على الحل ومحرزةٍ للنتائج السياسية المرتقبةِ وممارِسةٍ لمتطلباتها؟ من هنا، فمن المحال تقييم التطهيرِ العرقي لليهود بما هو خليقٌ به، ومن المحال أيضاً إعاقةَ حدوثِ إباداتٍ عرقيةٍ جديدةٍ بحقهم؛ دون التحليلِ السليم للقوموية اليهودية باعتبارها قوةً أيديولوجيةً من جهة، ونظراً لمنزلتها الرياديةِ من جهةٍ أخرى. فالقومويةُ اليهودية ليست قومويةَ أمةٍ صغيرة، بل هي قومويةُ العالَمِ أجمع. هي أبُ جميعِ النزعات القوموية والدولتية القومية. لكن، كَم هو مؤلمٌ أنْ يَكُون اليهودُ أنفسهم أكبرَ ضحايا القوموية، وبما يندر وجودُ شبيهٍ له في التاريخ.
كَثُرت الجدالاتُ والمداولات بشأنِ اليهودية كقضيةٍ بِحَدِّ ذاتها، وبالأخص من قِبَل المتنورين اليهود اللامعين مثل ماركس وفرويد. ولكن، تَظَلُّ المشكلةُ العالقة التي تنتظر الجواب هي: كيف تَمَّ الوصولُ إلى الإبادةِ العرقية؟ وبما أنّ استذكارَ التطهيرِ العرقي بما هو جديرٌ به مشروطٌ بعدمِ تكرارِ حدوثه، فكيف سيتحقق ذلك؟
بمقدوري صياغة جميعِ النتائج التي توصلتُ إليها في مرافعتي انطلاقاً من المثالِ اليهودي على النحو التالي:
لقد تطلعَت القبيلةُ اليهودية إلى المدنيةِ السومرية والمصرية، وقَلَّدَتها. وكان النفيُ ثمنَ ذلك. فشَرَعَت القبيلةُ الصغيرة العنيدةُ (وكأنها تَرُود لِما رغبَت كل القبائل فعلَه) بإنشاءِ أيديولوجيتها (دينها) القَبَليةِ الخاصةِ والحسدُ يَأكلها. وأَسَّسَت مملكةَ القدس. ثم انهارت المملكة. فعاندت القبيلةُ أكثر، وتَشَتَّتَت في أصقاعِ العالم بحثاً عن مكانٍ لقبيلتها وفيما بعد لقومها. لَم يمنحوها المكان، ونَفُوها. ولكي لا يُهزَموا، انعكفوا هذه المرة على الغوصِ حتى أعماقِ الذرة والصعودِ في عنانِ الفضاء. إنّ القبيلةَ هذه المرة تُراهِن بدولتها القوميةِ الصغيرة على الريادةِ للمدنية. وقد تَدُكُّ دعائمَ كلِّ مدنياتِ ودولِ الشرق الأوسط، بل والعالَمِ أجمع، بعد أنْ كانت مُوَلِّدتَها. لكنها هي الأخرى ستزول آنذاك، لأنّ المدنيةَ اليهودية الصغيرةَ تُشَكِّل صُلبَ المدنيةِ العالمية. بالتالي، لا مدنية يهودية دون المدنيةِ العالمية، ولا مدنية عالمية دون المدنية اليهودية. هذه هي العِبرةُ الكبرى المستَخلَصةُ من الإبادة العرقية لليهود.
لَطالما أفكر بهذا الموضوع لاهتمامي الزائد به، تماماً مثلما اهتمامي بالمواضيع المشابهة. منذُ أمدٍ بعيدٍ والحكماءُ كانوا قالوا باستحالةِ إطفاءِ النار بالنار. أي، من المحال تحقيق الخلاصِ من نارِ المدنية الكبرى بإضرامِ نيرانِ المدنيات الصغيرة (الدول القومية، والاحتكارات عموماً). فقياديو وزعماءُ جميعِ القبائل والأقوام الفقيرةِ والمسحوقة والمستَعبَدةِ المحاربةِ ضد قوى المدنيةِ على مرِّ التاريخ، إما قُتِلوا أو انتصروا. ولا يمكن البتة نسيان ذكرى الأموات منهم. لكنّ أولَ عملٍ قام به المنتصرون كان أنْ جعلوا من أنفسهم أيضاً مدنية، لأنهم لم يعرفوا شكلاً آخر. فحتى زعماءُ الاشتراكيةِ العلمية الظافرون، عجزوا عن إنقاذِ أنفسهم من التحول إلى مثالِ القفصِ الحديدي للحداثة الرأسمالية. كما أنّ المعرَّضين للإبادةِ العرقية لم يكونوا قد فَكّروا إطلاقاً بأنّ هذا ما سَيَحُلُّ عليهم أيضاً. ولكنه حصل.
في هذه النقطة، ودون أدنى شك، فإنّ قلبي يَعِي معاناةَ ضحايا التطهير العرقي أكثر من الزاعمين مناهضَتَهم إياه. لماذا أفهمه أكثر من أيِّ يهودي؟ لأنّ النظامَ القائم عينه كان قد زَجَّ بي في عجلاته تلك. وبالطبع، فالقوةُ اليهودية هي التي كانت تُدير دفةَ النظام وعجلاته. فلولا صراعُ تلك الأيديولوجيةِ على السلطة، ولولا قوتها في إبداعِ المدنية وتشييدها، أكانت المسيحيةُ ستكون؟ وبالتالي، لولا المسيحية، أكان هتلر سيَكُون؟ فكيفما أنّ القومويةَ الألمانية المُوَلِّدةَ لهتلر تَضربُ بجذورها في الأيديولوجية الألمانية، وبالتالي في الأيديولوجية التنويرية (الوضعية والأحيائية )؛ فهي من خلالِ ذلك (الجذر التنويري المشترك) على علاقةٍ جدليةٍ مع دورِ الأيديولوجية اليهودية في التنوير، ومع روابطها بالقوموية اليهودية أيضاً. بمعنى آخر، ومثلما تُشَكِّل قبيلةُ اليهود وقَومُها جذورَ القوموية اليهودية، فكذا تُشَكِّلُ القبائليةُ الألمانية وقوميتُها جذورَ النزعة القوموية الألمانية. فضلاً عن أنّ تَطَوُّرَها على منوالٍ متداخلٍ في ألمانيا، ونظراً للاحتكاراتِ الاقتصادية والسياسية الموجودة بينها؛ فقد أفسحت المجالَ للعلاقات المعقدةِ الشائكة. كلُّ هذه التطوراتِ التاريخيةِ والاجتماعية تسلط الضوءَ، وبكلِّ جلاء، على الروابطِ فيما بين كِلتا النزعتَين القومويتَين. من هنا، ومن دون تَخَطّي كِلتَيهما، لا يمكن استذكار ضحايا الإبادة الجماعية كما يستحقون، أو الخلاص من التعرض لأنواعِها الجديدة.
بالإمكان القيام بمقارنةٍ شبيهةٍ بين الأيديولوجية والقوموية العربية والأيديولوجية والقوموية اليهودية. وسوف تَكُون نتائجُها جدليةً ومثيرة. فلولا تلك الأخيرة، هل كان سيَكُون الإسلام؟ ولولا الإسلام، هل كان سيَكُون سيدنا محمد؟ ولولا هذا الأخير هل كان سيَكُون البعث؟ ولولا البعث هل كان سيَكُون صَدَّام؟ قد يُقال أني أُنَظِّر وأُشَرِّع للتوتولوجيا، لكني أُمَرِّر أقوالي من غربالِ تحليلاتي الخاصة بشأنِ الحضارة والمدنية. فأمريكا قوةٌ عالميةٌ مهيمنة، بل وقد تَكُون إمبراطوريةً أيضاً. وهي الآن تحارب في الشرق الأوسط من أجلِ إسرائيل. وقد تحارب غداً ضد إيران. لماذا ثمة خطرُ تكرارِ الإبادةِ العرقية مجدداً؟ لأنّ الأسلحةَ الذرية أيضاً سوف تُستَخدَم هذه المرة. أي، إعاقةُ الحرب النووية بالحرب النووية! ولا أحدَ قادرٌ على إنكارِ كونِ هذا الخطرِ المحيق على مشارفِ الأبواب. علماً أنّ هيروشيما واحدةً كافية! إذن، تحليلي صائب. فعندما شُيِّدَت المدنية، قيل أنها في حمايةِ الآلهة السماوية. ولكن، عندما انهارت، تم اللجوءُ إلى الذَّرَّة. وهنا تُفَضَّل الذريعةُ الزائفة على الحقيقية منها ألفَ مرة. إني أتحدث عن الملوكِ العُراةِ السائرين على وجهِ البسيطة برفقةِ إلههم غيرِ المُقَنَّع، وعن صاعقتهم الذرية.
إني من أكثر الراغبين في أنْ يَكُون لليهود مكانٌ في الشرق الأوسط، باعتبارهم أناساً ذوي وعيٍ رفيع. فاللوياثان الذي بات عملاقَ العولمة عاجزٌ عن أنْ يَكُون قوةَ الحل في دمقرطةِ ثقافةِ الشرق الأوسط وإنشاءِ كيانٍ إسرائيلي – فلسطيني كونفدراليٍّ ديمقراطي. هذا الوحشُ العملاق، الذي تُنسَب أُبُوَّتُه لتسمية اليهود، هو المنبعُ الحقيقي للإبادة الجماعية.
الحلُّ يكمن في الحضارةِ الشرقِ أوسطية الديمقراطية. فمثلما أنّ الشرقَ الأوسط خرابٌ بلا اليهود، كذلك فاليهودُ بلا الشرقِ الأوسط منفيون ومُبادون عرقياً. والتاريخُ مليءٌ كفايةً بالدروس والعبر. يتضاعف إدراكُ المثقفِ اليهودي أنّ قضيتَه هذه قضيةٌ عالمية. يجب البحث عن مكانِ الحلِ في منطقةِ الشرق الوسط. علينا ألا نغفل البتة عن كونِ الشرق الأوسط الكونفدرالي ليس خيالاً، بل هو حاجةٌ يوميةٌ وحيويةٌ لبقائنا، كما الخبز والماء. على اليهود الإدراكَ تماماً أنّ السبيلَ إلى استذكارِ التطهير العرقي بشكلٍ لائق، وسَدِّ الطريقِ أبدياً أمام احتمالِ تَكَرُّره، إنما يَمُرُّ من الحضارة الشرقِ أوسطية الديمقراطية. هذا وعلى جميعِ شعوبِ الشرق الأوسط أن تَعِيَ جيداً استحالةَ بناءِ الشرق الأوسط الديمقراطي من دون اليهود، وأنْ تتشبث بِيَدَيها وتَعُضَّ بنواجذها على مَهَمَّةِ إنشاءِ المجتمع الديمقراطي بناءً على ذلك، إدراكاً منها أنّ السبيلَ الوحيدَ للحلِّ يَمُرُّ مِن وفاقٍ ديمقراطيٍّ تاريخي.
[email protected]