المدنية الرأسمالية (الحداثة)، أيديولوجيتها وتديينها (17)
عبد الله أوجلان
2010 / 2 / 1 - 18:47
تتكون الحضاراتُ تأسيساً على الإنشاءاتِ والصياغات الأيديولوجية الطويلةِ المدى. أما التساؤلُ من قبيل "هل تأتي الثقافةُ المادية أولاً وتتطور الثقافةُ المعنوية لاحقاً؟"، فلا يذهب في معانيه أبعدَ من تشويشِ الموضوع. وإذا ما أعطيتُ مثالاً كونياً في العالَم الفيزيائي، فسيتضح الأمرُ على نحوٍ أفضل. منذ مدةٍ طويلة نَشَبَت النقاشاتُ والمداولات الكثيرة حول مشكلة: الجُسَيم أم الموجة؟ وفي المحصلة، أُجمِعَ عموماً على الرأيِ القائلِ بتطورِ الكون في جوهره بالتكوين الدياليكتيكي الأساسي (دياليكتيك التطور، لا الإفناء) المؤلَّفِ من ثنائيةِ الموجة – الجُسَيم. كذا أمرُ قرينةِ الثقافةِ المادية – المعنوية، حيث تؤدي دوراً مشابهاً، ولو أنها ذات طبيعةٍ مختلفة. فهما عاملان تكوينيان يغذيان بعضهما البعض، لا متضادان. بل يُوَلِّدان بعضهما بالتمايز والاختلاف. فكيفما أنّ كلَّ جُسَيمٍ (ثقافة مادية) يُطلِق موجة (عنصر ثقافة معنوية)، كذلك فكلُّ موجةٍ (عنصر ثقافة معنوية) تُكَوِّن جُسَيماً (ثقافة مادية). ثمة ضلالٌ وزيغٌ عام في العقل التحليلي ضمن نظامِ الحضارة المدينية. وهو يتأتى من النظام الذي شَيَّدوه لصالحهم، حيث يقومون بصياغةِ الثنائيات من قَبيل: القواعد الثابتة، القوانين المطلقة الواجب على الكلِّ الامتثالَ لها، أسبقية الآلهة، قدسية الدولة وأبديتها، كمال المُثُل، مرحلية المظاهر المرئية، الجوهر الثابت غير المتغير، وسرعة زوالِ الشكل وغيرها؛ جاهدين من خلالها إلى توطيدِ مصالحهم ومنافعهم وتنظيمها. إنه موقفٌ معاكس لدياليكتيكِ النشوءِ الكوني.
هذا والنقاشاتُ الدائرة في المجتمع حول البنيةِ التحتية والبنية الفوقية على علاقةٍ كثيبةٍ مع هذه الصياغات المنحرفةِ المُنشَأة للمدنية. فهيغل يبدأ بنظامه أولاً من البنية العليا، أي من الدولة والحقوق، تماماً مثلما ابتدأ نظامَه الكوني من الذكاءِ أو العقل المطلق (Geist). في حين أنّ ماركس يولي الأولويةَ لقوى وعلاقات الإنتاج التي سمَّاها بالبنية التحتية. وهو بهذا النحو يشاطر هيغل المنطقَ عينَه، رغم زعمِه بالقول "لقد أَجلَستُ الأمر على قدمَيه". وكيف يَكُون ذلك؟ أحدهما يقول أنّ عنصراً ما هو الأساس، والثاني يقول أنّ الأساسَ هو العنصر الثاني. وهذا ما مفاده الوقوعَ في فخِّ المنطق الفظ للتمييزِ بين الذات والموضوع. بالتالي، استمرت الذهنيةُ الحضارية القديمةُ القائمة، مهما ادَّعوا العكس. وفي هذا المنطق بالذات تتستر حقيقةُ الجواب على التساؤل: لماذا لم تُحرز اشتراكيةُ ماركس النجاحَ المأمول؟ فمن جهة، تعريفُه للاقتصاد يتضمن تشويشاً وتعقيداً كبيراً، ومن الجهة الأخرى، هو ينطلق في مسيرته مسلَّحاً بكافةِ أدواتِ المعاني العائدة للحضارةِ الكلاسيكية. بناءً عليه، فالنتيجةُ هي أنّ الحقيقةَ ليست كما تَمَّ تفسيرها، مهما قُدِّمَت أسمى آياتِ البطولة والشجاعة، ومهما قيِل الكلامُ الصحيح.
لدى شروعِ المدنية الرأسمالية (الحداثة) بإنشاءِ نفسها، قامت بفعالياتِ تشييدٍ أيديولوجيٍّ بمهارةٍ واقتدارٍ يضاهي ما كان عليه الرهبان السومريون، وصيَّرتها نظاماً راسخاً. بل وبالإمكان القول أنها بدأت أولاً بقطعِ مسافاتٍ شاسعةٍ أيديولوجياً في نمطِ الدولة. وكأنه ما مِن حضارةٍ أو مدنيةٍ مخلوقةٍ بِيَدِ الإله الواحد الأحد، إلا هي. هذا ما تردده وتفرضه. إنّ هذه الجُمَلَ هامة. فلنتأملْ سيدَنا محمد أيضاً. سنرى أنّ مضمونَ الآيات الأولى في القرآن مختلفٌ كثيراً عن الآياتِ الأخيرة. فمصطلحُ الله يتم تطويره باستمرار. فالربُّ الذي اكتفى في البداية بالقول "إقرأ"، نراه لاحقاً قد شاد نظاماً بارزاً. بمعنى آخر، فقد شَيَّدَت الآياتُ النظامَ على مراحلَ متوالية، أو بالأحرى، رَصَفَت أرضيتَه خطوةً خطوة، لتبلغَ في نهايةِ المآل إلى إنشاءٍ أيديولوجيٍّ كليٍّ عملاق، فسادَ نظامُها على مرِّ قرون.
لا يمكننا تحليل الحداثة الرأسمالية كلياً، ما لم نستوعب أدواتِها الذهنيةَ ونظامَها من جميعِ المناحي. فالحداثةُ الرأسمالية لم تنشئ مصطلحاتِها وفرضياتِها وممارساتِها بمفردها، بل وتربعَت على ميراثِ آلافِ السنين أيضاً. ومن خلال هذا الميراثِ تتمكن من إضفاءِ مسحةٍ معماريةٍ جديدةٍ على بيتها من حيث النظامِ والمضمون. ففي البداية تَقوم بسكبِ الصياغاتِ الأيديولوجية اللازمة لِطَبَقَتِها، ثم تُحَقِّق تَكَامُلَها مع طبقةٍ أو عدةِ طبقاتٍ دولتيةٍ منشَأةٍ على منوالها، وتُوَحِّدها معها بجميعِ الأبعاد، بدءاً من الموضة إلى الفلسفة، ومن التحكمِ بالإنتاج إلى الاستهلاك، وصولاً إلى التحكمِ بالسياسة. ومن ثم تُشَيِّع ذلك على الصعيد القاري، يليه الصعيد العالمي. وإذا ما رتَّبنا الأمرَ بخطوطه العريضة بموجب ذلك:
1- إنّ صائغي الأيديولوجيا، وفي مقدمتهم رينيه ديكارت وفرانسيس بيكون، يقومون بإنشاءِ اليوتوبيات ومبادئِ المنطق الجديدة التي اقتضَتها الكياناتُ الراسخة أثناء القرن السادس عشر. فطرحُ ثنائيةِ الروح – البدن، حتى ولو تَبَدَّت كأمرٍ بسيط، جَلَبَت معها ما يشبه التفاعلَ التسلسلي للأفكارِ المصاغة لاحقاً على شكلِ التمييز بين الذات والموضوع، لتتصاعدَ بالتالي إلى ريادةِ "الرأسمالية والبورجوازية". وبقدرِ ما يحصل الانقطاع عن المنطقِ الإقطاعي، يتم إنشاء طبقةٍ جديدةٍ يرافقها منطقٌ جديدٌ لازم للقيام بشتى أنواع عملياتها. علاوةً على ذلك، بل والأهم منه أنّ سُلَّمَ الأولويات يُرَتَّب من خلالِ هذه الصياغات الأيديولوجية بما يتوافق ومقتضياتِ إدارةِ الطبقات القديمة والجديدة. إنها ألعوبةٌ قديمةٌ تَدور رحاها، ولكن بِشكلٍ جديدٍ للغاية. فاسمُ طبقة الرهبان الجديدة بات رجالاتِ الفلسفة والعلم. وتُنتَهَل الاصطلاحاتُ والنظريات على الدوام من الخزينةِ الأيديولوجية الإقطاعية، بل والعبودية أيضاً. وحسب الوضع، إما أن تُرَمَّم وتُرَقَّع، أو أن يُكَوَّنَ منها نموذجٌ جِدُّ جديد (ولكن المبادئ عينها).
من المحال عدم الانتباه إلى العناصر الضاربةِ للنظر في الإنشاءِ الأيديولوجي، بمجردِ تحليلنا لديكارت فقط. فديكارت يبدأ أولاً بالشك في كلِّ شيء. كلمةُ السِّرِّ لديه هي القول بضرورةِ تجاوزِ الدرعِ الأيديولوجي للطبقة الإقطاعية، وبالتالي السلطة. لكن، إنْ قال ذلك علناً، فمحاكمُ التفتيش منتصبةٌ أمامه، وأفصاده ترتعد من خطرِ الحرق. بالتالي، فهو مرغَمٌ على التنظير للفلسفة بشاكلةٍ تجريديةٍ للغاية. ومن ثم يقول "أفكر، إذن أنا موجود". بهذه العبارة تتم الاستعدادات الأيديولوجية، ومن ثم الإشارة إلى إدراجِ عناصرها في جدولِ الأعمال على التوالي. فهو يقول للجميع "اشتَبِهوا بِكلِّ شيء، بمقدوركم إثبات وجودكم بالأفكار القوية فقط". ليس عسيراً على الإطلاق فك كلمةِ سره بهذا النحو. فنمطُ الحياة الذي تفرضه الإقطاعية لا قيمة له، وبمقدوركم بناء الحياة الجديدة بأفكاركم المنيعة. ومن خلال قرينةِ الروح – البدن، يجري التذكير بوميضِ الإشارة بالإله والدنيا الآخرة، والإشارة إلى مدى أهميةِ الحياة الدنيوية. فبعدما ضخَّ الإلهُ اندفاعةَ الحياة الأولى، شَرَعَ الكونُ بالحركةِ الآلية الذاتية على الدوام. إذا ما فَكَكْنا رموزَ هذه العبارة سنجد أنه، وإلى جانبِ أوليةِ منزلةِ مبدعي الحضارة القديمة، ثمة مدنيةٌ جديدةٌ في الحراك، قادرةٌ ذاتياً على إنشاءِ حضارةٍ جديدةٍ لنفسها. وإذا ما تَرجَمْنا هذا القولَ إلى اللغةِ الطبقية، نجد أنه ثمة طبقةٌ جديدة تُولَد، قادرةٌ على التفكير، وعلى ترتيبِ عالَمها وفق قوانينها في الحركة والعمل.
إذا ما جَرَّبنا القيامَ بتحليلٍ مختصرٍ لفرانسيس بيكون أيضاً، سنجد أنّ التجربةَ هي الأساس في منطقه. فما تؤيد التجربةُ صوابَه يُعَمَّم. والفكرُ غير المُجَرَّب يستحيل أنْ يَكُون علماً أو ذا قيمة. بالمستطاع فك لغزه: كلُّ شيءٍ سيتم تَعَلُّمُه ومعرفته بالتجربة والممارسة العملية، لا تؤمنوا بالسفسطات القديمة، فالعلمُ قوة، وليس ثمة أفكار بإمكانها تعزيز شأنكم سوى تلك التي تحصلون عليها (أو مضطرون للحصول عليها) بتجاربكم وأفعالكم. أما فكُّ الشيفرة الطبقية في ذلك، فكأنه يقول للقوى الجديدة المتربعة على فائضِ القيمة بالأساليب الاحتكارية الرأسمالية: "لا تفكروا وفق الذهنية الدوغمائية القديمة، بل جرِّبوا كلَّ شيءٍ على هدى منجزاتكم ومكتسباتكم أنتم، وطَوِّروا نتائجَها، وعَمِّموها. فبالعلم والمعرفةِ سوف يتعزز شأنكم، وستبنون بيتكم وعالَمكم أنتم".
إنّ تقييمَ جيشِ العلم والفلسفة المتكاثرِ طردياً اعتباراً من القرن السادس عشر بأنه القوةُ الرياديةُ للاحتكار الرأسمالي، تقييمٌ غيرُ صحيح بالطبع. فنحن على علمٍ بأنّ الطابعَ النوعي السائد حتى لدى الغالبيةِ الساحقة من الذين احتلوا أماكنهم في الحركات التاريخية الثلاث (النهضة، الإصلاح، والتنوير)، هو كونهم حكماءَ العقلية الحرة، والملتزمين بأخلاقياتها، وأنهم بَغضوا وكَرهوا نظاماً من قَبيل الرأسمالية التي تَبَيَّنَت نتائجُها منذ يومِ ولادتها، ونَفروا من زمرتها الإداريةِ ونمطِ حياتها. كما أنه لا جدال أو شك البتة في كونِ الثورة الذهنية المنفجرة في أوروبا تتميز بقيمةٍ إنسانيةٍ عالمية تماماً، وبنسبةٍ لا نظير لها. وقد كان أغلبُ روادِ هذه الثورة إنسانيين مثاليين باقين على مسافةٍ ملحوظةٍ من الدين والقوموية. علماً بأنّ نشاطَ العلم والفلسفة بِحَدِّ ذاته ثورة. وإنْ كان لا بد من إرجاعهما إلى شريحةٍ اجتماعيةٍ معينة، فلا ريب أنهم من المتعطشين بالأكثر إلى الحرية والمساواة والديمقراطية، لا إلى الموالين للمتمرغين والغارقين في القيم الحضارية الكلاسيكية.
بل إننا مَدِينون لهم حتى لدى كتابةِ هذه السطور. ليست هذه هي المشكلة. بل المشكلةُ تكمن في التالي: كيفما أنّ فائضَ الإنتاج يُختَلَس ويُسَرَّب من أصحابه، لاستثماره في إنشاءِ ذاتهم كقوةٍ إداريةٍ حاكمةٍ لطبقةٍ اجتماعية جديدة؛ فالأمرُ سَيّان في الاستيلاء على قيمِ زيادةِ الإنتاجِ الذهني، وتسخيره في خدمةِ صياغاتهم الذهنية. بمقدورنا، وبِكُلِّ يُسر، نعتَ هذه العملية بالاختلاسِ الذهني. لقد عَلِموا كيف يُشَيِّدون العصرنةَ الجديدة بما يتوافق ومصالحَهم الطبقيةَ من جميعِ المناحي. من الضروري إدراكَ هذه الخاصية لزمرِ الدولة الاحتكارية: إنهم "لا يُحجِمون الدجاجَ عن المكان الذي يأتي منه الإوز". لقد استَغلوا مصاعبَهم بكلِّ مهارة (المصاعب الاقتصادية، الاجتماعية، والسياسية)، وجَيَّروها لصالحهم، وعَرِفوا كيف يُسَخِّرونها لخدمتهم؛ تماماً مثلما سَخَّروا الشرائحَ المنتجةَ للاقتصاد التحتي. إنّ إلحاقَهم الكمَّ الأكبر من الصُّنّاعِ ورجالِ العلم والفلاسفة بآلياتهم في الرقابة، بل وإرفاقَهم إياهم بأجهزةِ السلطة، كان يُؤَمِّن عمليةَ التسخير والاستغلال هذه. فضلاً عن أنهم كانوا يدركون كيف يَشُلُّون تأثيرَ المعارِضين والمقاومين إزاءهم، وبنفسِ الأساليب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وكلنا على علمٍ بما حَلَّ بأمثالِ أراسموس، غاليليو ، وبرونو.
ومثلما بُسِطَت الحاكميةُ والهيمنة مجدداً على الاقتصاد بِيَدِ احتكارِ الدولة، فإنّ حركةَ الاحتكارِ الأيديولوجي أيضاً باتت مؤثرةً وسائدةً على نحوٍ مماثل. لقد قُمِعَت التمرداتُ الحاصلة في الميادين السياسية والأيديولوجية والاقتصادية بممارساتٍ شاملةٍ للغاية. ومع حلولِ نهاياتِ القرن الثامن عشر أُحرِزَ النجاحُ المأمول، ليس على صعيدِ جبهةِ الاحتكار الاقتصادي وحسب (الصناعة)، بل وفي الجبهةِ السياسية (الانقلاب الفرنسي) والجبهةِ الأيديولوجية أيضاً (القوموية والدولة القومية). أما الخُسران، فكان من نصيبِ الكاثوليكية المسيحية، النمطِ القديم للمونارشية، الأباطرةِ والإنسانية المثالية. أي، وكما ابتُلِع الاقتصادُ على يَدِ الاحتكاريين المناهضين والمضادين له، فكذا كانت الحركاتُ والأممُ الديمقراطية قد أُدرِجَت في سياقِ البَلعِ على يدِ الدولة القومية والنزعة القوموية. وما وقعَ على كاهلِ الأرستقراطية والكنيسة الكاثوليكية والمسيحية برمتها (وإنْ كانت فقدت اعتبارَها السابق)، فكان يتمثل في تجديدِ التحالف مع الأسياد الجددِ مقابل مصالحها، والوفاقِ معهم ضمن شروطٍ مناسبةٍ قدرَ الإمكان. إذن، فالانتصارُ المنجَز حتى القرن التاسع عشر لا يقتصر فقط على الاحتكاراتِ الاقتصادية الجديدة (التجارية، الصناعية، والمالية). بل إنّ النصرَ الأيديولوجي أيضاً كان مهماً بقدرِ الاقتصادي على الأقل، وقد تحقق فعلاً.
2- كان نمطُ الإنشاءِ الديني للحضارة الإقطاعية قد تفككَ وتشتت. وما البروتستانتيةُ سوى محصلةً لذلك. والكنيسةُ الكاثوليكية كانت فقدَت منزلتها البهية، في حين أنّ ماكس فيبر بالأصل قد بَيَّن للجميع عبر مؤلَّفِه الرائعِ المتكامل مدى تلاؤمِ الأخلاق البروتستانتية (البديلة للكاثوليكية) مع الرأسمالية. وقد كانت العلمانيةُ إحدى المنجزات الأيديولوجيةِ الناجحة في هذه المرحلة، كاصطلاحٍ يقتضي تحليله جيداً. فدنيا المسيحية كانت قد انهالت بكلِّ وطأتها الدوغمائية المفرطة على أذهانِ الشعوب الأوروبية، منذ أنْ كانت بِسَوادِها قبائل حرة. وكان تناقضُها مع العالَم لا تَشُوبه شائبة. بالتالي، وعندما خَسِرَت وزنَها السياسي والاقتصادي، لم يَكُن عسيراً انتظار تَخَطّيها وبسرعة على الصعيد الأيديولوجي. فكان الأهمُّ هنا هو تلك الأعجوبةُ المسماة بالعلمانية. ورغم أنها كَلفظ تعني "الخروجَ عن الدين"، إلا أنّ مدى كونها داخلَه أم خارجه كان من أكثرِ المواضيع إبهاماً. فقد التفَّت البورجوازيةُ حول الظاهرة المسماة بالوضعية، واستمسكت بها. بالتالي، وبما أنّ الوضعيةَ أَعلَنَت نفسها بأنها الدينُ العالمي الجديد، فإلى أيِّ مدى كانت العلمانيةُ ستَكُون خروجاً عن الدين؟ بل وما معنى جملة الدين الجديد؟
تنتهل الفلسفةُ الوضعيةُ ماهيتَها الدينية من نزعتها الظواهرية. فالظاهرةُ بالنسبة للوضعيةِ هي الواقعُ الأساسيُّ من حيث الجوهر، وما من واقعٍ غير ظاهراتي. في حين أنّ البحوثَ والفلسفة (بشكل كلي) تشير إلى أنّ الظاهرةَ والإدراكَ سَيّان (أي: الظاهرة = الإدراك). أما الإدراك، فهو أبسطُ العملياتِ الذهنية. وهو يتَشَكَّل حصيلةَ عملياتِ الرصد والملاحظة الأكثر سطحية للأشياء، لِيَكُون أسلوبَ المعرفةِ الأكثر فظاظة (المعرفة غير العلمية والأكثر ضلالاً). أما إقحامُ الظاهرة في حالةِ الظاهراتية، فيعني عطفَ دورِ الواقع الأساسي على الشيء Nesne. وقد كان الموقفُ نفسه موجوداً في ركيزةِ الوثنية: جَعلُ الشيءِ موضوعَ عبادة. إذن، والحالُ هذه، فلتُهاجِمْ الوضعيةُ قدر ما تشاء على الميتافيزيقيا، وفي صدارتها الدين، فهي بذاتها باتت ديناً مادياً بأكثرِ أشكاله فظاظةً بسببِ مناداتها بحقيقيةِ ومصداقيةِ الموضوع الشيء Nesne. بمعنى آخر، فهي ميتافيزيقيةٌ باعتبارها اشتقاقاً من الوثنية الموضوعانية الشيئية. وهي ممثلُها الجديد في ظلِّ الحداثة، بل وأكثرُ أشكالها سطحيةً وجدباً. ونيتشه أيضاً له نفس القناعة. سوف أُسهِب في مناقشةِ هذا الموضوع في قسمِ سوسيولوجيا الحرية.
لقد شَوَّشَت الفلسفةُ الوضعيةُ الأذهان، ودَمَّرَتها، بقدرِ لاهوتياتِ العصور الوسطى على الأقل. فهي لَم تنتبه قط إلى منزلةِ العالَم المعنوي العظيم للمجتمع البشري. بل قالت بنهايةِ العالَم الميتافيزيقي، ورَمَت بالمقدساتِ الإنسانية المتراكمة عبر ملايينِ السنين إلى سلةِ المهملات. لقد كانت حركةَ جاهلية تماماً. إنّ النعتَ أو اللقب الذي وصمَ به سيدُنا محمد أبا جهل، إنما يستحقه الوضعيون حقاً. فهم ممثلو أبي جهل المعاصر على صعيدِ علمِ الاجتماع. من الضروري الإدراك جيداً أنّ الخروجَ عن الدين (مذهب العلمانية) والظواهرية (الفلسفة أو الدين الوضعي)، إلى جانبِ المادية الفظة ("عقل الإنسان كالمرآة، إذ يَعكِس الأشياءَ وحسب")، ليست سوى أنسجة أيديولوجية على علاقةٍ وثيقةٍ بالاحتكارات الرأسمالية. منذ أربعةِ قرونٍ بحالها، وحركةُ التدمير والإرهاب والترهيبِ مُسَلَّطةٌ على المجتمع الجديد بهذه النسخ الأيديولوجية الثلاث. إنها مُسَلَّطةٌ على العالَم المعنوي للمجتمع.
ذلك أنه كان من المحال إحراز النصر لثقافةِ الرأسمالية المادية، دون تفكيكِ وتشتيتِ المجتمع، الذي طالما صان وجوده عبر الثقافة المعنوية، أي بتأثيرِ الأخلاق، طيلةَ آلافِ السنين. ولهذا السبب بالذات كان الغزوُ الأيديولوجي ضرورةً لازمة. وعداؤهم للدين أيضاً ينبع من الجانب الأخلاقي. لقد أَثَّرت هذه الفلسفاتُ الثلاث بنسبةٍ بليغةٍ في دَكِّ دعائمِ أخلاقِ المجتمع وهدمها. فالمجتمعاتُ المُفَرَّغة والخاويةُ أخلاقياً، إما أنْ تَشُذَّ وتزيغ، أو أنْ تستسلمَ بسهولة. وهذا ما حصل. فالعلمانية، وبمناداتها بالخروج عن الدين، انتَهَكَت الفضائلَ الأخلاقية في الدين وقَضَت عليها. أما الوضعية، فقد فَتَحَت السبيلَ أمام الوثنيةِ الجديدة من خلال الظواهرية (بالمقدور تعريف طيش المجتمع الاستهلاكي الأخير، وهَوَس تَمَلُّك الأشياء لدرجة العبادة بالوثنية المعاصرة). وبهذه الطريقة تَحَقَّقَ السقوطُ الأخلاقي الفظيع.
إحدى أكثر هجماتِ الوضعيةِ جهالةً هي التضادُّ مع الميتافيزيقيا. فالميتافيزيقيا منذ نشوئها (نشوء الإنسان) مُتَطَلَّبٌ ضروري للبشرية. إنها حاجةٌ ضرورية، ليس لأجلِ المدنيات المُحاكة حول الدولة وحسب، بل ولأجلِ جميعِ البشر، وحتى لأجلِ الحيوانات ذات المستوى الذهني المتطور. وسواءً في الماضي أو الحاضر، ما مِن إنسانٍ البتة قادرٍ على تسليحِ نفسه بالوعي اللازم والكلي عبر المعلومة والعلم، أو لِنَقُلْ عبر العلموية حسب لغة الوضعيين. وحتى لو لم يَكن ذلك مستحيلاً، إلا أنّ قوةَ عقله لا تَفِي بذلك. وإذا ما جَرَّدتم الإنسانَ من عالَمه الميتافيزيقي وسلبتموه، أو دَمَّرتموه؛ فلا يبقى في اليد سوى جثة هامدة، أو بالعكس، يَعُجُّ الوسطُ بالناس المتهورين غيرِ الآبهين بأيةِ قواعد (وقد شهد المجتمع الغربي هذه الظاهرة كفايةً). وهذا ما حصل مرةً أخرى. علماً أنّ الظواهرَ لا تُمَثِّل الحقيقةَ بِرِمَّتِها، بل تُشَكِّل الجانبَ الدارج والشائع منها فحسب.
لم تَقُل الكوانتومُ والكوسمولوجيا كلمتَها الحاسمة بعد. أما الحياة، فلم تُحَلَّل بتاتاً، بل ولم يُدرَك لغزُها قط. ولهذا السبب، فالوضعيةُ تستحق وصمَها بالجهالةِ العصرية. والماديةُ الفظة أيضاً ليست مغايرةً لها. فقضايا الحياة والعقل أكوانٌ بِحَدِّ ذاتها، ويستحيل قطعياً إيضاحها بنظرياتِ المرآة، بل حتى أنّ العِلمَ نفسه لا يزال يواجه معجزاتِها الخارقةَ يومياً. من جانبٍ آخر، فالحياةُ الاجتماعية أكثر تعقيداً وإشكالية. تأسيساً عليه؛ وعندما أُدرِكَ أنّ تلك ليست سوى حركات جهالةٍ مبكرة، وأنه محالٌ عليها أنْ تَصِيرَ مركزَ جذبٍ قَيِّم، شَرعوا هذه المرة بإقحامِ تركيبَتَين جديدتَين متمخضتَين عن تلك الفلسفات الثلاث، ولكنْ بشكلٍ أكثر تَسَتُّراً: الأمميةُ البورجوازية والقومويةُ البورجوازية، اللتان تبدوان وكأنهما متضادتان متنافرتان، لكنهما في الجوهر مكملتان ومتممتان لبعضهما.
3- الأمميةُ أو العولمة البورجوازية: يُرَكِّز صائغو الأيديولوجيا على شيئَين في التاريخ المديني: القابعون في الطابق العلوي، والقيمُ الرمزية المشتركة. حيث يشير ذلك إلى التعابير الرمزيةِ للمصالح المشتركة. تتميز الأيديولوجياتُ على الدوام بماهيةٍ رمزية. والمهم فيها هو: إلامَ تَرمز، ولمصحلةِ مَن؟ فهيئةُ الآلهة القياديةِ في الطابق العلوي للزقورات كانت رمزاً. وكلٌّ مِن آن، أنليل، وماردوخ كانوا يَعكِسون المجلسَ الأعلى للهرمية المتصاعدة والمتمأسسة لِتَوِّها. لا علمَ لنا بمدى نسبةِ الوعي أو التلقائية في هذا الترميز، لكنّ هذه التقاليدَ قديمة، وتتسم بخصائصَ عامةٍ مشتركة. وقد وَصلت هذه الرمزيةُ يومَنا الراهن، مع مرورها الدائمِ بالتحوير والتعديل والتعقيد. أما فيما يخص القابعين في الطابق السفلي، فهم يَرمزون للعبودية والقِنانة. وتلافياً للخلطِ بينهم وبين الهيئةِ القيادية الإلهية المقدسة، يُقام برسمِ خطوطٍ دقيقةٍ وفاصلةٍ للغاية. وما على العبدِ سوى القيام بواجباتِ عبوديته، وعدم التدخل في شؤونِ الآلهة إطلاقاً. لا يتمالك الإنسانُ نفسَه هنا من التساؤل: ما الذي خَسِرَه المجتمعُ من خلال هذا النوعِ من الحَكايا والأقاصيص، وما الذي جناه؟
في يومنا الراهن، تجتمع الهيئةُ القيادية للقاطنين في الطابق الأعلى في ديفوس بشكلٍ دوري، سِرّاً أم علناً. ولكن، من المؤكدِ أنّ الماكثين في الطابق الأعلى من الزقورات يَندَسّون بين الناس بين الحينِ والآخر وهم عُراةٌ من القِناع (حتى لو كانوا من طبقةٍ عليا مختلفة). حيث يُرَدِّدُ الرهبان المتمرسون المُكَلَّفون ضمن هذه الاجتماعات: لا داعيَ لخوفِ وهلعِ الناس منهم، فهم متحكمون دائماً بزمامِ الأمور، واستعدادتُهم وذخائرهم كافيةٌ للحرب، ولا يجوز التفكير إطلاقاً باحتمالِ الفشل والهزيمة. إنهم يفعلون ذلك بكلِّ عنايةٍ وحيطة، ويَحُثُّون الجميعَ على استخلاصِ العِبَرِ الخَيِّرةِ اللازمة. وفي الكثير من الأماكنِ والأصقاع، لا يفتأ صفوةُ الرهبان ينقشون هذه الأيديولوجيا الأمميةَ في الأذهانِ والمشاعر والعواطف بكثافةٍ فريدةٍ من نوعها من خلالِ القنوات الإعلامية المتطورة، بحيث يُخَلِّفون الجامعاتِ والجوامعَ والكنائسَ وراءهم. فعصرُ التواصل هو عصرُ العولمة. ويستمر استهلاكُهم ولَهوُهم ونشوتهم بما يتوافق مع العصرِ الأخير لجميعِ المدنيات، حيث لا يرغبون في تنغيصِ أو تعكيرِ عالَمهم المؤسَّسسِ ولو مثقالَ ذَرَّة، حتى عندما تتعرض البيئةُ الأيكولوجية – ولأولِ مرة – للتدمير الحقيقي فعلاً. ورغم أنّ نواقيسَ الخطرِ لا تنفكُّ تقرع منذرةً باستحالةِ الاستمرار في المجتمع، المدينة، الريف، والديموغرافيا؛ إلا أنّ عيونَهم باتت عمياء، وآذانَهم صماء بمقتضى الأيديولوجيات الأممية السائدة. فقد أُفرِغَت من مضامينها منذ زمنٍ بعيد، وتكاد لم تبقَ بؤرةٌ في المجتمع إلا وخُدِّرَت بِطَيشِ ثالوثِ الجنس، الرياضة، والفن.
4- القوموية: إنها – وإنْ تَبَدَّت بشكلٍ معاكس – الوسيلةُ الاستراتيجيةُ لِدِينِ "فَرِّقْ – تَسُد" الجديد، الذي يتشبث به أمميو الطابقِ الأعلى، ويَقُضُّون عليه بنواجذهم في سبيلِ تخديرِ الطوابقِ السفلى من المجتمع. وهي الوسيلةُ الأيديولوجية الأكثر تأثيراً واقتداراً بِيَدِ الحداثة الرأسمالية، لدرجةِ استحالةِ وجودها بدونها، وذلك بغرضِ تلافي النواقص والمشاكل المتولدةِ من الوسائل الأيديولوجية الأخرى من قَبيل الوضعية والعلمانية والمادية الفظة والعلموية. وهي قبلَ كلِّ شيء، الدينُ الوحيدُ المؤثر للدولة القومية. ذلك أنه لكلِّ عصرٍ حضاري عقائدُه المؤثرة المتناغمةُ معه، إذ يستحيل خطوة خطوةٍ واحدةٍ من دونها. والقومويةُ بدورها هي القالبُ العقائدي الأكثر تأثيراً بِيَدِ الحداثة. وإنشاؤها بسيطٌ للغاية: عليك تحويل كلِّ عاملٍ من مُقَوِّماتِ الأمة إلى قدسيةٍ عقائدية. وعليك المطابقة بينها وبين مسألةِ الشرف في شتى المدارس والثكنات والجوامعِ والكنائس والعائلة وغيرها من النشاطاتِ الجماعية. عليك إثارتها بحيث تستفزُّ وتُحَرِّضُ مشاعرَ حتى أكثرِ الأفراد لامبالاةً، لدرجةٍ تجعل منه شخصاً معتدياً. آنئذٍ فقط تَكُون قد خَلقتَ الدينَ الأكثر فتكاً وتأثيراً. وعلى النقيض مما يُعتَقَد، فالأديانُ لم تُنشَأ لأجلِ الاستعدادِ للحياةِ الآخرة عقائدياً والإيمانِ بها. بل هي برامجٌ ومناهجٌ واستراتيجياتٌ سياسية. أما أنماطُ العبادة، فهي وسائلُ التدريبِ اليومية.
تتجسد الوظيفةُ الأولية للسوسيولوجيا في تطويرِ هذا النمط من التحليلات بشأنِ الدين، ولو أنها مثقلةٌ بالأرديةِ التي تتخفى وراءها. وإلا، فلن تستطيع أداءَ دورها أبعدَ من التحول إلى فرعٍ ثانوي للعلموية. علماً أنّ الأديانَ مقدسةٌ وهامةٌ جداً. وكشفُ النقابِ عنها أيضاً وظيفةٌ منتصبةٌ أمامها. فإذا كان الدينُ قد زُجَّ به فعلاً في حالةٍ بات فيها أكثر الأدواتِ الأيديولوجية فظاظةً بخيانته لمقدساته (واضح جداً أن هذا جارٍ)، فهذا يعني أنه دُفِع به إلى نقطةٍ جديدةٍ يلعب فيها دورَ النفاق، وعلى يدِ الواعظين به بالذات. باختصار، فالدينُ والقوموية الراهنةُ من أكثرِ الأدواتِ المستخدَمة. إنها أداةُ الأدوات. أكتفي هنا بهذا التعريف، لأننا سوف نشهد في القسمَين اللاحقَين عن كثب كيفيةَ نشوءِ الدين ومسارَ استخدامه.
من العسير إنقاذ الذهن والفكر، وبالتالي العمل الحر من تأثيراتِ الأدوات الأيديولوجية للحداثة الرأسمالية والاحتكار الاقتصادي المستمرة طيلةَ قرونٍ عديدة. رغم ذلك، فإنّ ذلك من أولوياتِ وظائفِ العصرانية الديمقراطية. فتركيزي على ماركس والماركسيين أولاً، ومن ثم على الفوضويين والطوباويين الخياليين، وشتى طرائقِ الأخوية المذهبية، وحتى الحركات الديمقراطية الاجتماعية والتحررية الوطنية؛ وتوجيهي الانتقاداتِ اللاذعةَ لهم، إنما ينبع من عدمِ إنشائهم للعصرانية الديمقراطية كصياغةٍ أيديولوجيةٍ مؤثرةٍ وقديرة. ساطعٌ جلياً أنّ ماركس والماركسيين سَعوا لإبداءِ المواقف اللازمة، وقاوموا إزاءَ الاحتكار الرأسمالي المتصاعد. كما لا يمكن الاستخفافَ بالميول الديمقراطية للآخرين أيضاً. لكن، ولدى مقايسةِ الأمر بِيَومِنا الراهن، سنجد كَم هي ناقصةٌ وخاطئةٌ وخاويةٌ من الممارسات اللازمة. وذلك ما يتضح من مرورِ الحداثة الرأسمالية بأفضلِ مراحلها راحةً ورفاهاً على عرشها، رغمَ أزماتها الدائمة والعميقة، وخروجها عن المجتمع، والكوارثِ البيئية والبطالةِ والفقر المدقع المتمخضِ عنها.
ما مِن مَهَمَّةٍ حياتيةٍ ومقدسة عاجلةٍ أمام جبهةِ الحضارة الديمقراطية أكثر من إعادةِ النظر بإمعان في ميراثها الماضي ضمن كافةِ العصور، وأخذِ ما يلزمها وتحتاجه، وإتمامِ متطلباتها باستخلاصِ ما ينقصها من التحليلاتِ المرحلية الملموسة، لتنفيذِ حملتها الأيديولوجيةِ بظفرٍ ساحق.