معاداة الصهيونية ليست معاداة للسامية
اسماء اغبارية زحالقة
2004 / 7 / 2 - 07:59
في الوقت الذي يروّج فيه شارون لخطته الانفصالية التي تلغي احتمالات اقامة الدولة الفلسطينية، ارتفعت الاصوات التي تعتبر الصهيونية شكلا من اشكال العنصرية، واثيرت علامات الاستفهام حول حق اسرائيل نفسها في البقاء كدولة يهودية. ولا تصدر هذه الاصوات هذه المرة عن قمم اسلامية يخطب فيها لاساميون امثال مهاتير محمد، ولا ينادي بها بن لادن او حماس، بل تأتي من عمق اوروبا وامريكا واستراليا وكندا، من بين اوساط اكاديمية يسارية ونخب مثقفة، بينهم يهود ايضا.
المواقف الجديدة في الغرب المعادية لاسرائيل والصهيونية، انفجرت الى اجواء المظاهرات العالمية والصحف اليسارية التقدمية منذ الانتفاضة، وتحديدا بعد عملية السور الواقي في نيسان 2002، وبدت واضحة قبلها في مؤتمر دربن ضد العنصرية في جنوب افريقيا في آب 2001.
وتأتي هذه الظاهرة مقرونة بالمواقف المناهضة للسياسة الامريكية على خلفية الحرب على العراق، خاصة على ضوء التنسيق الكامل بين رئيس الوزراء الاسرائيلي شارون والرئيس الامريكي جورج بوش وزمرة المحافظين الجدد المتطرفين التي تجر العالم نحو الحروب.
وليست المشكلة في ان هذه الاوساط تنتقد سياسة الاحتلال الاسرائيلية، بل في انها تشكك بشرعية دولة اسرائيل "بشكلها الحالي"، اي بصفتها دولة يهودية، وتقترح اعادة بنائها على اسس مختلفة غير صهيونية، على اعتبار ان الصهيونية حركة عنصرية. هذا ما يفسر الهستيريا التي ترد بها اسرائيل على هذه الافكار واتهام حامليها باللاسامية، مع ان اصحاب هذه الافكار هم من الحركات اليسارية المعروفة بمواقفها المناهضة للعنصرية واللاسامية، وتشمل مثقفين يهود ايضا.
لا سامية جديدة؟
مقال سيفر بلوتسكر في "يديعوت احرونوت" (25 ايار)، بعنوان "عودة معاداة الصهيونية"، يتهم هذه الحركة ب"اللاسامية الجديدة"، ويدعي ان معاداة الصهيونية هي مجرد غطاء لمعاداة السامية او شكل جديد لها. ويورد اقتباسا من خطاب عميد جامعة هارفرد الامريكية، بروفسور لورنس صامرز، الذي كان وزير المالية في ادارة كلينتون، والذي قال (17 ايلول 2002): "ان مفكرين مهمين يدافعون اليوم عن مواقف هي بنتيجة الامر لا سامية، إن لم تكن كذلك من ناحية النية".
وعندما يحدد صامرز بوضوح اكبر "ان معاداة اسرائيل هي في النتيجة معاداة للسامية"، فانه يقول ان انتقاد السياسة الاسرائيلية مسموح، اما الاعتراض على الصهيونية الذي يعني بالنسبة له الغاء حق اسرائيل في الوجود، فممنوع لانه سيعتبر موقفا لاساميا.
البروفسور جوديت بتلر ترد في مقال بعنوان "لا، هذه ليست لاسامية" (لندن ريفيو اوف بوكس، آب 2003) بالقول: "ان توجه صامرز يعني الغاء حرية النقد، خاصة ان صامرز لا يوضح المعايير التي يمكن حسبها اختيار المواضيع المسموح انتقادها، دون ان يُتّهم الناقد بانه معادٍ للسامية". وتضيف: "اذا اعتبرنا كل انتقاد لاسرائيل لاسامية، فاننا لن نعرف ان نحدد اللاسامية الحقيقية عندما تبرز، لان كل شيء سيصبح لاسامية".
في مقال "اسطورة اللاسامية الجديدة" (ذي نيشن، 2 شباط 2004) يناقش البروفسور التقدمي براين كلوغ بعض مناصري نظرية "اللاسامية الجديدة"، ويجزم بانه لا وجود في الحقيقة للسامية الجديدة التي يدعون. اصحاب هذه النظرية يدعون انه في حين كانت اللاسامية القديمة تضطهد اليهود كافراد، فان الجديدة تضطهد اليهود بصفتهم شعبا سياديا.
ويرد كلوغ بالقول اولا ان اسرائيل هي شيء واليهود شيء آخر، ومن هنا، فمعاداة الصهيونية هي شيء، ومعاداة السامية هي شيء آخر. ويلفت الى مواقف اليهود في بريطانيا الذين عارضوا وعد بلفور للحركة الصهيونية باقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، واعتبروا الوعد نفسه (وهي الحقيقة) نابعا من اسباب لاسامية، لانه جاء على اساس اعتبار اليهود عنصرا آخر مختلفا يجب التخلص منه وطرده من اوروبا.
اما بالنسبة للادعاء بان اللاسامية هي انكار حق اليهود ان تكون لهم دولة يهودية، هي اسرائيل، يرد كلوغ: "ان هذا الادعاء يفترض ان اليهود يشكلون شعبا بالمعنى السياسي المعاصر المقصود في حق الامم في تقرير المصير... حسب الرواية الدينية في التوراة هناك بالفعل شعب، هو شعب اسرائيل، وارض هي ارض اسرائيل، او صهيون، والتي طرد اليهود منها وسيعودون اليها. ولكن هذه كانت الرواية الدينية، ولم تكن ابدا خطة سياسية. الصهيونية اعادت طرح اليهودية المعاصرة من خلال تسييسها ومحاولة جعلها قومية، فانحرفت بذلك عن الهوية القديمة لليهودية، وتبعا لذلك صار كل من يعادي الصهيونية معاديا لليهودي الجديد".
وترفض بتلر معادلة "الصهيونية=اليهودية"، مشيرة الى خلافات على مر القرن ال19 والعشرين حول شرعية الصهيونية اصلا كاساس لبناء دولة في ارض سكنها الفلسطينيون لقرون طويلة. وتشير لمواقف متباينة ليهود يرفضون الصهيونية كاساس لبناء الدولة، كما يرون في الجدار الفاصل سببا يثير علامات استفهام حول مصير الصهيونية".
وتقول بتلر، ان المفروض ان يبتعد اليهود قدر الامكان عن دولة اسرائيل بشكلها الحالي وطرح مواقف معارضة، حتى يكون واضحا ان هناك يهودا يرفضون سياسة هذه الدولة وانها لا تمثلهم، وانهم يريدون ان يقترحوا شكلا ديمقراطيا بديلا لها.
اشكال اخرى لاسرائيل
ولا شك ان هذا هو لب النقاش، مجرد اثارة التساؤل حول الاساس الصهيوني المقدس للدولة. المطروح بالنسبة لبتلر التي تعترف بتعاطفها مع دولة اسرائيل لا تقترح القضاء على اسرائيل بل القضاء على الصهيونية، واقتراح تغيير الاسس القانونية والدينية اليهودية والفكرية التي قامت عليها الدولة، لتكون اكثر ديمقراطية وتتمكن من استيعاب الشعبين المختلفين اللذين يعيشان فيها.. من الاشكال الديمقراطية المقترحة مثلا بناء دولة اسرائيل-فلسطين الكبرى على اساس متساو.
كلوغ يتطرق لضرورة اعادة النظر في اعادة تشكيل دولة اسرائيل. ويقول ان اسرائيل اليوم لا تشكل مكانا آمنا لليهود، كما انه من غير المؤكد انها تعتبر حامية ليهود العالم، وقد يرى البعض العكس تماما. ويوضح كلوغ ان المطروح ليس اما الابقاء على الامر الواقع او القضاء على اسرائيل، بل هناك الوان اخرى بين الابيض والاسود.
ويقترح بدائل مثل: امكان ان تبقى اسرائيل دولة ذات سيادة ولكن ان تكف عن تعريف نفسها، من خلال قوانينها الاساسية ومؤسساتها، كيهودية تحديدا؛ وهناك الحل الذي ينادي بدولة ثنائية القومية للفلسطينيين واليهود. الوضع المأساوي الذي وصله النزاع العربي الاسرائيلي اثار لدى اوساط مفكرين عرب ويهود هذا الحل، ومع ان الطرح ليس واردا اليوم الا ان الامور يمكن ان تتغير".
الصهيونية = عنصرية، من جديد
ان الواقع العنيف الذي وصله النزاع الاسرائيلي الفلسطيني هو الذي يجعل الكثيرين يبحثون عن مخارج اخرى للحل، خارج نطاق دولتين لشعبين الذي كان مطروحا في العقود الاخيرة، كيف حدث هذا التحول؟
يؤكد كلوغ ان معاداة اسرائيل في الشرق الاوسط تأتي من منطلق النزاع السياسي، وليس من منطلقات لاسامية تميز عادة الثقافة الاوروبية. والدليل في رأيه ان مشاعر العداء لاسرائيل تفجرت بعد عام 2000، العام الذي انكسر فيه اطار اوسلو، وبدأت الانتفاضة الثانية.
ان ظهور اسرائيل كطرف رافض لحل القضية الفلسطينية بالطرق السلمية واستبدالها الدبلوماسية بالطرق العسكرية، والتي جاءت مرافقة للحرب على العراق، كشفت الوجه الحقيقي للصهيوينة كحركة استعمارية لا تستطيع ولا تريد التوصل الى سلام عادل مع الطرف الفلسطيني.
ليس صدفة ان بلوتسكر يحذر من الاجواء التي سادت يسار اوروبا في الستينات والسبعينات، حين جاء قرار الامم المتحدة بان الصهيونية هي شكل من اشكال العنصرية. ويقول ان قرار الامم ابطل بعد عشرين عاما، لان اسرائيل اثبتت انها امة محبة للسلام. ونكمل عنه ونقول انه بعد اقل من عشر سنوات سقط القناع عندما فشل المخطط الاستعماري الجديد المسمى اوسلو في فرض الاملاءات الاسرائيلية على الفلسطينيين، فعادت المعادلة الحقيقية الى الشوارع.
ولم يكن ذلك لان اليسار في اوروبا ابتكر لاسامية جديدة، بل لانه في اللحظة التي رفضت اسرائيل منح الفلسطينيين حقهم باقامة دولة مستقلة وقضت على أي افق للحل السياسي، قضت على الطابع الديمقراطي وابتلعت الضفة وغزة وتحولت الى دولة واحدة، فيها اليهود اقلية، تضطر لبناء "جدران آمنة" وعزل نفسها بنفسها في جيتو لحمايتها من الاكثرية الفلسطينية، وهو بالضبط الوضع الذي حذر منه نائب رئيس الوزراء الاسرائيلي ايهود اولمرت، وشكل مقدمة لمخطط الانفصال.
ولكن الاقلية التي تحكم الاغلبية وتنفصل عنها بجدران معروفة في التاريخ باسم "نظام ابارتهايد"، وهو شكل لا بقاء له. هذه المرة تعود معاداة الصهيونية ليس كتأنيب ضمير اوروبي، بل نتيجة اعمال اسرائيل الهمجية التي الغت شرعية وجودها بنفسها عندما الغت حق نقيضها الفلسطيني بالوجود والاستقلال.