بيير بورديو والفضح السوسيولوجي للمثقفين.P.Bourdieu
لطفي الإدريسي
2010 / 1 / 31 - 08:16
بيير بورديو P.Bourdieu عالم الاجتماع الفرنسي;أهم مفكر تمكن من دراسة المثقفين دراسة سوسيولوجية موضوعية تحدد أوضاعهم الاجتماعية، وتموضع أفكارهم ورهاناتهم، كما تكشـف عـن أوهامهـم
وصراعاتهم. عبر مسار أكاديمي امتد لأكثر من أربعة عقود، لو يهاجر بورديو حقل الاهتمام بالمثقفين كما لم يهاجر اهتمامهم بحقول أخرى كان أولها مند نهاية الخمسينات من القرن العشرين مجتمع الفلاحين بالجزائر، أما آخرها مع نهاية القرن فتمثل في حقل "التلفزيون" وحقل "الهيمنة الذكورية"؛ هذا مرورا بحقول متنوعة كالتربية والتعليم، الفن والإبداع، قضايا ومناهج علم الاجتماع،...الخ. هدم بورديو قلعة حصينة ظل المثقفون يتسترون وراء أسوارهـا
وهي قلعة "نخبويتهم" وكونهم أهل فكر ومعرفة يجعلهم بعيدين عن كل تحليل نقدي وبمنأى عن كل دراسة موضوعية. كشف بورديو في كتابيه "الإنسان الأكاديمي" (1984) و"نبلاء الدولة" (1989) حقيقة المثقفين باعتبارهم فئة ترتبط بممارسة اجتماعية موضوعية لها مصالح، رهانات وأفكار خاصة بها.
يقول بورديو في كتابه "قضايا في السوسيولوجيا" (1980) «وضعت داخل اللعبة ما يوجد خارج اللعبة: فالمثقفون يتفقون دائما على وضع لعبهم ورهاناتهم خارج كل لعب». هكذا ينقشع الوهم عن المثقفين بتجسيدهم لامتياز ثقافي واجتماعي فريد من نوعه، ويصبحون كمحللين في وضعية قابلة للتحليل لإجلاء ما يعتمل في مطبخهم من صراعات، رهانات، مصالح وأوهام، إذ «تمنح سوسيولوجيا المثقفين على الأقل إمكانية حرية معينة: فأولئك الذين يقدمون وهما بأنهم يتحكمون في عصرهم يتأكد أنه هو المتحكم فيهم، والمؤثر عليهم بشكل مرعب. إذ يختفون باختفائه، تقدم السوسيولوجيا فرصة للقطع مع الانبهار وفضح علاقة المالك_ الممتلك (...)». هكذا إذن يعمل بورديو على "الفضح السوسيولوجي" للمثقفين، وهو فضح ارتبط ارتباطا عضويا بموضعة ممارسات المثقفين وخطاباتهم_كجزء من الممارسة الاجتماعية الموضوعية_موضعة سوسيولوجية لم تعتمد العنف الخطابي إزاءهم، ولم تسلك مسلك التجريح أو هدم البيت الداخلي بنزعة سادية_استعلائية أونزعة مازوشية_تدميرية للذات. لذا ورغم المسار الأكاديمي الغني والمتنوع الذي اجترحه بورديو لنفسه كمفكر عالمي (تحول إلى مؤسسة ثقافية وسلطة فكرية) فهولم يهجر الدائرة التقليدية لما ينبغي للمثقف تأديته من دور ووظيفة؛ ولم ينزو في برجه العاجي، بل والذهبي الذي منحته إياه مسيرة تراكم علمي زاوج بين السبر الميداني المتنـوع التقنيـات المنهجيـة
والتركيب النظري المتعدد المقاربات السوسيولوجية، بالعكس فقد التصق بورديو بالشارع وجسد نموذج "المثقف الملتزم" أو نموذج "المثقف العضوي" (غرامشي)، إذ كان في طليعة الحركات الاحتجاجية بفرنسا سنة 1995، مؤازرا لحركات المهمشين والمعطلين سنة 1998، ناقدا التيار الجارف للعولمة الذي يهدد الذوق الجميل والحكم الموضوعي الرصين (كتابه "ضد النار"Contre_ Feux الصادر سنة 1998)؛ كاشفا عن إيديولوجيـا الإعـلام والاتصال
والاستبداد الذي يمارسه التلفزيون (كتابه "حول التلفزيون" سنة 1997).
بورديو الذي كانت له حيازة سلطة ثقافية كبرى، نزل إلى الشارع، وأغضب السياسيين كما أغضب فئة غالبة من المثقفين التي نظرت لتدخله الاجتماعي باعتباره تدخلا سياسيا لا تدخلا ثقافيا، والحال أن بورديو ورغم تعريته السوسيولوجية لوضعية المثقفين، فهو لم يدفع بهذه التعرية صوب دوائر الصمت والاستقالة وتشييع المثقف نحو مثواه الأخير كما يفعل مثقفونا العرب اليوم؛ بل هو فتح النار على السادة الجدد للعولمة متمثلين في أرباب الشركات الكبرى والقادة السياسيين، ومالكي المقاولات الإعلامية النافذة. كتب فاضحا النزعة الميركنتيلية للسادة الجدد، ناقدا نزعة التبضيع الثقافي التي اجتاحت حقول الإعلام والثقافة والاتصال وذلك في مداخلته الشهيرة بتاريخ 11 أكتوبر 1999 أمام "المجلس العالمي لمتحف التلفزيون والراديو"، كما دعا في آخر مقال صدر له بعنوان "من أجل معرفة ملتزمة" إلى ضرورة تشجيع خلق "حركة اجتماعية أوربية" مضادة للعولمة وذلك بحضور طلائعي للمثقف المناضل وفعالية ميدانية للحركات النقابية التي عليها تجاوز عوائقها السياسية، التنظيمية، الفكريـة
بهذا التوصيف الموجز لحالة بيير بورديو نكون قد أبرزنا أن النقد الحقيقي للمثقفين لا يكون بالتضخم الخطابي التجريحي، ولا "برمي الرضيع مع الغسيل" حيث تكون الغاية نقد المثقفين بهدف تحفيزهم على العطاء الثقافي، فتنتهي إلى رميهم مع موضات إيديولوجية وتيارات سياسية آفلة. قدم بورديو نموذج المثقف العالمي الذي_ومن كثرة تراكم أبحاثه ودراساته وخاصيتها النوعية_ نزل إلى الشارع وشحذ سلاح النقد الاقتراحي معضدا حركات احتجاجية، معريا المقولات الإيديولوجية للعولمة والسلطة الرابعة وحرية التعبير، داعيـا إلى التموضـع النقـدي
والسياسي للمثقف ضد التيار الجارف للعولمة وضد السلط الظاهرة والخفية للمال الذي يظل في حيازة كماشة "سادة جدد" يريدون أن يحولوا سكان الكوكب إلى "عبيد القرن 21"،