الرأسمالية والحضاراتُ التاريخية والاجتماعية (10)


عبد الله أوجلان
2010 / 1 / 14 - 23:47     

سنتناول قضيةَ أشكالِ المجتمعِ بمنظورٍ ملموسٍ أكثر، فيما لو قَيَّمنا الدورَ المتبادلَ للقطاعِ الرأسمالي باعتبارِه عمليةَ إضفاءِ الشكلِ على المجتمع. إني أسعى للردِّ على السؤالِ التالي: هل الاقتصادُ الرأسماليُّ وشكلُ المجتمعِ ضرورةٌ اجتماعيةٌ – تاريخيةٌ اضطرارية؟ وكَرَدٍّ عليه، فهذا الفصلُ مِن مرافعتي مخَصَّصٌ للإشارةِ إلى أنها ليست بضرورةٍ اجتماعيةٍ تاريخيةٍ اضطرارية. وأَفدَحُ غَلَطٍ وتحريفٍ وَقَعَ فيه التفسيرُ الماركسيُّ للماديةِ التاريخيةِ (المادية البحتة) هو زعمُه بِكَونِها ضرورةً اضطرارية. بل والأنكى من ذلك أنّ ترتيبَ أشكالِ المجتمعِ على التوالي، وعرضَ مثاليةِ هيغل تحت اسمِ المادية، لا يَعني في مضمونِه سوى أنه مشتقٌّ ثانٍ منها. وما قام به أيمانويل كانط بخجلٍ مفرطٍ تَجَسَّدَ في تبيانِ قوةِ الذاتِ تجاه هذا الضربِ مِن مفهومِ التطورِ الموضوعي الشيئي Nesnel، وبالتالي، الإشارةِ إلى دورِ الأخلاقِ باعتبارِها تعني ترجيحَ الحريةِ وتفضيلَها. في حين أنّ الماركسيةَ متخلفةٌ حتى عن الكانطيةِ من جهةِ أخلاقِ الحرية. ولا داعي للحديثِ عن المفاهيمِ الليبراليةِ اليمينيةِ الأخرى، لأنها لا ترى الرأسماليةَ ضرورةً اضطراريةً وحسب، بل وتَعتَبِرُها الكلمةَ الفصلَ للتاريخ.
ما مِن فرصةٍ محظوظةٍ أمام ترجيحِ الحرية، ما لَم يُكشَف النقابُ عن الوجهِ الباطني لِتَعريفاتِ الرأسمالية، وما لَم تُفَرَّغ من محتوياتِها، باعتبارِها أخطرَ من الدين، وتَعتَمِدُ على المدرسةِ الوضعيةِ كأكثرِ أشكالِ الدينِ تعصباً. وبالأصل، فتاريخُ الاشتراكيةِ والاشتراكيةِ المشيَّدةِ المقارِبُ لِقرنَين من الزمن، يشيرُ إلى عجزِهما عن تَخَطّي مساعيهما في دعمِ الرأسماليةِ مِن جهةِ اليسار. المسألةُ أبعدُ بكثيرٍ مِن مُجَرَّدِ التساؤلِ عن مكانِ حصولِ الخطأِ والغلط. فالبراديغما ذاتُها خاطئة. وكَونُها تحتوي في مكنوناتِها على خطأٍ أو اثنَين متميزَين، أو صحٍ أو اثنَين متميزَين لا يُغَيِّرُ من النتيجةِ كثيراً على الصعيدِ البراديغمائي. حيث يتم تناول المجتمعِ بِخطٍّ مستقيم، وكأنّ كلَّ شكلٍ منه مكتوبٌ على اللوحِ المحفوظِ (أي أنه حُدِّدَ في طابقِ الإلهِ منذ أزلٍ سحيق) بالتسلسل، وأنه سوف يَتَحَقَّقُ عندما يَحِين أوانُه. فحتى جدالاتُ العصورِ الوسطى الدائرةُ حولَ الإرادةِ الجزئيةِ والإرادةِ الكليةِ أرقى وأعلى من هذا النوعِ من التعاطي الوضعيِّ المادي. وهذا التناولُ البراديغمائيُّ للمجتمعِ إنما هو المؤثرُ المُعَيِّنُ في إخفاقِ وفشلِ النضالات العظيمةِ المبذولةِ في سبيلِ الاشتراكية.
واضحٌ بسطوعٍ جَلِيٍّ أنّ التعريفاتِ التي قمتُ بصياغتِها آنفاً على شكلِ بنود بعيدةٌ تماماً عن هذه المواقف. فدعكَ من رؤيةِ الرأسماليةِ كمرحلةٍ اجتماعيةٍ اضطرارية، فهذا الموقفُ بذاتِه متأثرٌ بذاك النظام، بل وهو وسيلةٌ دعائيةٌ له، سواءً عن وعيٍ أو مِن دونِه. ما عليَّ قولُه في النهايةِ سأقولُه في البداية: مِن المحالِ أنْ تَكُونَ الرأسماليةُ شكلاً للمجتمع. قد تَسعى للتأثيرِ فيه، وقد تُؤَثِّر فيه فعلاً، ولكنها ليست شكلَه إطلاقاً. وقد يُقال: أَوَليست الشكلَ الوحيدَ المهيمنَ على العالَمِ أجمع طيلةَ أربعةِ قرون؟ أنْ تَكُونَ مهيمنةً شيء، وأنْ تَكُونَ شكلاً شيءٌ آخر. والتاريخُ شاهدٌ على ثلاثةِ أشكالٍ أو نماذجٍ للمجتمع: المجتمعُ الكلانيُّ البدائي، مجتمعُ الدولةِ الطبقيةِ أو مجتمعُ المدنية، والمجتمعُ التعددي الديمقراطي. أما المواقفُ المناديةُ بالتقدمِ على خطِّ مستقيم، مِن قَبِيل: المجتمعِ البدائي، العبودي، الإقطاعي، الرأسمالي، والمجتمع الاشتراكي؛ فهي دوغمائيةٌ زيادةً عن الحد. وبمعنى آخر، فهي مواقفٌ مثاليةٌ وقَدَرِية. والأهمُّ من ذلك أنّ نماذجَ المجتمعِ الثلاثةَ المُصاغةَ في تَعريفي الآنفِ الذكرِ لا تتقدمُ في مسارٍ مستقيم، بل هي أَقرَبُ إلى نظامٍ حلزونيٍّ دائريٍّ يتعمق ويتسع باضطراد. ومع القبولِ بعملِ الآليةِ الجدلية، إلا أني مضطرٌّ للتصريحِ بوضوحٍ أني غيرُ مقتنعٍ بصوابِ الرأيِ القائلِ بِتَقَدُّمِ الأطرافِ مِن خلالِ إفناءِ بعضِها البعض. في حين أنّ المواقفَ القائلةَ بالأطروحةِ والأطروحةِ المضادةِ والجَمِيعة (التركيبة الجديدة) قد تَكُونُ وسيلةً مَنطِقيةً مساعِدةً أكثر على إيضاحِ أُسُسِ تفاعلاتِ وآلياتِ الكون. إلا أنّ نمطَ أو وعيَ العلاقةِ الجدليةِ الوفيرةِ الغنى، المنفتحةِ للتنوع، والمعترفةِ بالتغذي المتبادَل (العلاقة التكافلية أو التضامنية )؛ أَقرَبُ إلى الآلياتِ الجدليةِ في الطبيعة، أو أنها تُنَوِّرُها أكثر.
مِن المهمِّ بمكان الإدراك وعدم الإغفالِ بأنّ طرازَ النشوءِ المعتمدِ على الثنائياتِ في الكون، والذي يُمَكِّنُ مِن حصولِ النشوءِ بِدءاً من الذراتِ اللامتناهيةِ في الصغرِ وحتى التكاملِ على المستوى الكوني، وما يتمخض عنها مِن علاقاتٍ وتأثيراتٍ متبادَلة، والمحتضنِ لِكِلَيهِما في أحشائِه، والمؤدي إلى تكوينٍ مختلفٍ عن مجموعِ كِلَيهِما في نفسِ الوقت؛ إنما هو طرازٌ كونيٌّ أساسي. ونلاحظ وجودَ هذا الطرازِ من النشوءِ في أساسِ جميعِ التطوراتِ والتغيرات.
والمجتمعُ ليس كائناً خارجاً عن نطاقِ هذا النمطِ من النشوء، بل يَتَّسِمُ بِلُغةِ النشوءِ التابعةِ للنمطِ نفسِه. وباختصار، فهو يُكَوِّن الثنائياتِ على الدوام، ويُتِيحُ الفرصةَ لتكويناتٍ جديدةٍ مختلفةٍ تَحتوي كِلتَيهِما في طواياها، ولكنها تَتَخَطّى مجموعَهما. إنّ استيعابَ جدليةِ المجتمعاتِ في التطورِ والتغيرِ على هذا المنوالِ سوف يساعد على حَظيِنا بمعلوماتٍ أكثر بشأنِ معرفةِ الواقعِ الملموس. وبِمَقدوري القولَ أنه، في حينِ تَعَاطِينا الأمرَ بهذا المفهومِ الجدلي، بِدءاً من أصغرِ الخلايا الاجتماعيةِ إلى أكثرِ أشكالِها تكاملاً وتلاحماً، فإنّ قدرتَنا في التفسيرِ والإدراكِ سوف تُحَفِّزُ وتُنَشِّط خاصياتِنا الإنسانيةَ أكثر (طاقات الإنسان الحر). وبهذه الشاكلة، بمقدورنا تجسيدَ المجتمعِ في الفرد لِنُطَوِّر بذلك الفردَ الحرَّ المتميزَ بروحِ المسؤوليةِ العليا من جهة، وتحريرَ المجتمعِ المتأثرِ بالأفرادِ الأحرارِ أكثر فأكثر من جهةٍ أخرى. وإمكانيةُ التحررِ تَتَحَلّى بأفضلِ آفاقِ وفُرصِ المساواةِ والدمقرطةِ المثلى.
أُعِيدُ التركيزَ على أني لا أَكتَشِفُ شيئاً جديداً عندما أقول بالديناميكيةِ الثلاثيةِ للواقعِ الاجتماعي، بل أَعمَلُ، فقط وفقط، على تَكييفِ ديناميكيةِ النشوءِ الكوني مع واقعِ المجتمع. وإذا ما طُرحَ سؤال: ولِمَ ديناميكياتٌ ثلاثية؟، فسأقول: بسببِ الوجود. وإذا كان الوجودُ (الكينونة) يسعى لإيجادِ الجوابِ كقضيةٍ بِحَدِّ ذاتِها، فحينها ينبغي القفزُ إلى سؤال: ولماذا نحن موجودون إذن؟ لكنّ الكينونةَ أمرٌ لا جدالَ عليه حسبَ رأيي. فلولا الوجود، لَما كان ثمة داعٍ أصلاً لطرحِ هذا السؤالِ وتلك القضايا. حيث لا مكانَ لِما ليس موجوداً. أي، وفي حالِ عدمِ الكينونةِ والوجود، لا يُمكِنُ الحديثُ سوى عن عدمِ النشوء، وعدمِ وجودِ أيِّ شيء؛ وهذا بِحَدِّ ذاتِه الشيءُ الذي نسميه بالهذيانِ والهُراء.
وإذا ما كنا نَقبَلُ بالكينونةِ والوجود، فسيَكُونُ الحديثُ عن نمطِ النشوءِ أمراً ذا معنى. ذلك أنّ كلَّ معاني الحياة، وكلَّ مراحلٍ تقدمِ وتطورِ الفكرِ قد استَشعَرَت وتَحَدَّست بأنّ التغيرَ والتطورَ ينبعان من النشوء؛ وتأسيساً على ذلك كَوَّنَت كلاً متكاملاً مذهلاً في مختلفِ تصنيفاتِ الفكرِ الميثولوجيةِ والدينيةِ والفلسفيةِ والعلمية. بالطبع، لا يمكننا إنكار تلك الكلياتِ المتكاملة، ذلك أنها جميعُها تَرُوم الردَّ على سؤالِ النشوءِ أساساً. ولهذا الغرضِ لَجَأَ بعضُها للأساليبِ الميثولوجية، وأخرى للأساليبِ الدينية؛ وعندما بَقِيَت قاصرةً أنجَدَتها أصنافُ الفلسفةِ والعلم. جميعُها وظائفُها متماثلةٌ، ولكنّ أجوبتَها متباينة. فجميعُها تسَاءَلَت عن أسبابِ وكيفيةِ وغائيةِ الوجودِ والنشوء، وكلُّ صنفٍ جَهِدَ لابتكارِ وصياغةِ أجوبةٍ تتواءمُ وضوابطَه هو. والعِلمُ، الذي يتميز بالضوابطِ الأمثل، قد سَلَّطَ الضوءَ على الديناميكياتِ الثلاثيةِ للنشوءِ بنسبةٍ جدِّ هامة. فلدى إسقاطِ ميكانيكيةِ المادةِ – الطاقة إلى مستوى الجزيءِ – الموجة، أي الكوانتومات (على الصعيدَين النظري والتجريبي)، أُثبِتَ أنّ الثنائيةَ تُفسِحُ الطريقَ دائماً للتكوينات، وأنّ المحصلةَ الناجمةَ عن هذه التكوينات قد اختَلَفَت وتَبَايَنَت، مع استمرارِ طَرَفَي الثنائيةِ داخلَ هذا التكوينِ الثالثِ الحاملِ لآثارِ تلك الثنائية (جريانُ المادة – الطاقة والجزيء – الموجة ذو طابعٍ كوني)، وأنّ التغيرَ يَكُونُ إما على شكلِ تطورٍ أو تطورٍ معاكس، وأنّ هذا الطرازَ والنمطَ هو الصفةُ الأوليةُ المميِّزةُ لديناميكيةِ الوجود. ولا داعي لإعادةِ إثباتِ ذلك.
لِنتأملْ أنفسَنا. فابنُ الأمِّ والأبِ يُشبِهُ أُمَّه وأبَاه كثيراً، ويَشتَمِلُ على بقايا الإثنَين، ولكنه يُمَثِّلُ كياناً متمايزاً في شكلٍ جديد (هذا الاختلافُ والتمايز يجري على مَهلٍ. وهو كذلك في كلِّ حوادثِ الطبيعة). ويُمكِنُ تفسيره على أنه ذرةٌ من النشوءِ الأزلي. وبهذا الطرازِ فقط يمكن للنشوءِ أنْ يَظفَرَ بصراعِ الوجود. وما هو صراعُ الوجود؟ كيف يَكُونُ الحفاظُ على الوجود؟ إنّ الحفاظَ على الوجود يعني الديمومةَ عبر تغييرِ الذات. ولكن، لماذا؟ ربما كَي يُثبِتَ أنه موجود. وربما لِمُشاهدةِ ألوهيةِ وروعةِ الوجودِ والكينونةِ من خلالِ التغير!
ويَكمُنُ الهذيانُ في هذه النقطة: ما دامَ ينبغي علينا ملاحظةَ التكوُّناتِ المحيطةِ بنا والقريبةِ منا للحصولِ على منطقٍ سليم، فلماذا ابتَعَدنا أو أُبعِدنا بهذا القدر عن هذه الحقيقةِ الأصلية؟
سوف نبلغُ المسألةَ الرئيسية، فيما لَو سَلَّطنا النورَ على هذا الهذيان. إني أتناولُ موضوعَ شِباكِ السردِ والتلفيقات والتسترات التي تَحُفُّ ميزاتِ وظائفِ الظاهرةِ الاجتماعية منذ لحظةِ ولادتِها. لماذا شَعَرَت المجتمعيةُ بالحاجةِ لهذا الإخفاءِ والستر؟ لماذا انقسم الذكاءُ إلى الأبعادِ العاطفيةِ والتحليليةِ إزاء هذه المستجدات؟ وماذا كانت وظيفتُهما؟ يُمكِنُنا مِن خلالِ الردودِ تغييرَ وتبديلَ تفسيرِنا لمجتمعيتِنا، من خلالِ النظرِ إليها كما هي عليه، أو كما نَوَدُّ أنْ تَكُونَ عليه. فالإنسانُ، كذاتٍ فاعلة، كائنٌ قادرٌ على التفسيرِ والتغييرِ حسبَما يشاء. وبقدرِ ما يتوافقُ التفسيرُ والرغبةُ (أو بمعنى آخر التفكيرُ والإحساسُ والطلب) مع ديناميكيةِ النشوءِ والكينونة، تزدادُ فرصةُ تَطَوُّرِ الشكلِ الجديدِ بنفسِ القدر. وبقدرِ ما يتباعدان ويتنافران، فإنّ المجتمعيةَ تَشهَدُ التعصبَ أو التراجع. ويتنامى تَطَوُّرُ الذكاءِ العاطفيِّ والتحليليِّ بالالتفافِ حولَ محورِ هذه القضايا.
لِنُنْهِ هنا هذا الفصلَ الذي يَغلُبُ عليه التفسيرُ الفلسفي، حيث سأسعى للاستفاضةِ فيه أكثر في فصلِ سوسيولوجيا الحرية.
لا ريبَ في أنّ المجتمعيةَ التي أَسمَيناها بالكلان ليست كياناً ثابتاً جامداً. فتطويرُ ماهياتٍ مختلفةٍ من النوعِ (من الثدييات البدائية المشابهة للإنسان)، يعني تَطَوُّرَ مجتمعِ الكلانِ أيضاً. القضيةُ الأساسيةُ هي الحفاظُ على الوجود. وبوجهٍ عام، فالمشكلةُ الأولى لمجتمعٍ ما (مجتمعُ آلافِ الجماعات) هي الحفاظُ على الوجودِ والتماسكِ والصمود، بالإضافةِ إلى الدفاعِ عن وجودِه تجاه القوى الساعيةِ لإخراجِه من كونِه مجتمعاً. وللمجتمعاتِ مثلُ هذه المشاكلِ والقضايا في كلِّ زمانٍ وكلِّ مكان. ويَتَمَحوَرُ هذا الدفاعُ أحياناً حولَ هدفِ حمايةِ الوجودِ على شكلِ دفاعٍ عن الذاتِ تجاه المخاطرِ والمَهالِك. وأحياناً تتواجدُ أوساطٌ وكياناتٌ مفيدةٌ ناجعةٌ تتيحُ الفرصةَ للتطورِ التكافليِّ المناسب. وفي ذاك الزمانِ وذاك المكان تَتَسَارَعُ وتيرةُ التطورِ الإيجابي، حيث يَشهَدُ النوعُ، الكلانُ أو المجتمع، اغتناءً على صعيدِ الثقافتَين الماديةِ والمعنوية. وإذا ما عَمِلنا على الشرحِ بالإحاطةِ بثنائيةِ "أنا والآخر" كاصطلاحَين سوسيولوجيَّين بارزَين في الآونةِ الأخيرة، نجد أنّ الأنا تُشرِعُ بالدفاعِ الذاتيِّ تجاه الآخَرِ الذي يُشَكِّلُ خطراً وتهلكةً عليها. فإما أنْ تَهزِمَ الآخَر، فتستمرَّ في وجودِها؛ وإما أنْ تبقى في وضعِ التوازن، فتَحمِيَ وجودَها، ولكنّ تطورَها يتباطأ؛ وإما أنْ تُواجِهَ الفشلَ، فتَفقِدَ وجودَها نسبياً أو كلياً وفقاً لمستوى فشلِها؛ وحينها تَكُونُ قد خَرَجَت من كَونِها ذاتَها كموجودٍ قائم، لِتَغدوَ موضوعاً Nesne في موجودٍ آخَر مختلِفٍ، أو أنْ تَنصَهِرَ، فتَستَمِرَّ في وجودِها كموجودٍ مختلف. وهكذا تَتَكَوَّنُ الأصنافُ المُسَمَّاةُ بالمنحرفةِ والمشوَّهةِ أو المائعةِ المنحطة.
وبشكلٍ ملموسٍ أكثر، فصراعُ المجتمعِ من أجلِ الوجودِ على مستوياتِ النشوءِ الأبسطِ يَكُونُ دائماً تجاه الشروطِ الطبيعية، كي لا يَكُونَ فريسةً للحيواناتِ الكاسرةِ من جهة، وكي يَحمِيَ نفسَه من الظروفِ الجويةِ ومن الأمراضِ وأوساطِ الغذاءِ الناقصِ من جهةٍ أخرى. وبينما تُهَدِّدُ المخاطرُ الوجودَ، تَقُومُ الظروفُ المساعدةُ بِتَطويرِه. وقد تَمَّ تَسليطُ النورِ – ولو نسبياً – على الحلقةِ الأساسيةِ مِن سلسلةِ هذه المغامرة، التي مَرَّ أعظمُها في أفريقيا، في حين انقضى ما يُقارِبُ المليونَ عام الأخيرَ منها في أوروبا وآسيا. فهذه المجتمعيةُ المتشابهةُ فيما بينها، وغيرُ المُطَوِّرةِ بعد لِلُّغةِ الرمزية، وذاتُ التعدادِ الذي لا يَبلغُ المائةَ شخصاً؛ تَطفَحُ فيها المزايا البيولوجية، لكن، وبسببِ ممارستِها العمليةِ على هيئةِ جماعاتٍ بالأغلب، فهي تَتَكَوَّن وتَتَكَوَّم بالالتفافِ حولَ المرأةِ – الأم. وبنيةُ الملحقاتِ الأنثويةِ في اللُّغاتِ الأولى تُؤَيِّدُ صحةَ هذا الواقع. ينبغي عدم التغاضي عن الميزةِ الأموميةِ للمجتمع. ومن المهمِّ بمكان النظرَ إلى المرأةِ – الأم على أنها بؤرةُ قوةٍ "إداريةٍ" طبيعيةٍ من خلالِ تجاربِها في الحياةِ وتربيتِها للأطفال، أكثرَ من اعتبارِها زعيماً أو سلطة. وترتقي منزلةُ البؤرة، وتزدادُ جاذبيتُها في أماكنِ الاستقرارِ المشابهةِ لترتيباتِ المنزلِ الأولى.
أما مصطلحُ الأبوة، فهو علاقةٌ اجتماعيةٌ ظَهَرَت للوسطِ في مرحلةٍ لاحقةٍ بعدَ انقضاءِ زمنٍ طويلٍ جداً. لقد غابَ هذا المصطلحُ عن المجتمعِ أحقاباً طويلة، وبدأ بالتصاعدِ ارتباطاً بالنظامِ الأبوي، بعد أنْ نَشَأَت وتطورَت مؤسسةُ الإرثِ ونظامُ المُلْكِية. في حين أنّ الخال (شقيقُ الأم) وانتماءَ الأطفالِ للأم اصطلاحان ظَهَرا بشكلٍ مبكر. والقطفُ والقنصُ المحدودُ كانا شكلَين لِتلبيةِ الحاجاتِ المادية. وعضويةُ الكلان هي أهمُّ ضمانٍ للحياة. ويَغلُبُ الظنُّ أنّ الطردَ مِن مجتمعِ الكلان، أو الانفرادَ ضمنه كانا ينتهيان بالموتِ المحتوم. لذا، مِن الواقعيِّ النظرُ إلى الكلانِ على أنها نواةُ مجتمعٍ سليمٍ قويم. إنها الشكلُ الأصليُّ للمجتمع.
لَطالما ذَكَرنا أنّ الانتقالَ إلى عصرِ المجتمعِ النيوليتي قد حَصَلَ بفضلِ ملاءمةِ الجغرافيا، وبعدَ مراحلَ طويلةٍ من التطور؛ وأنّ ذلك ينبعُ من سلسلةِ جبالِ زاغروس – طوروس التي تُشَكِّلُ النهرَ الأم في منحِ الأجواءِ المساعدةِ لذلك. وبَيَّنَّا تكراراً ومراراً أنّ هذه الحقبةَ، التي يُمكِنُ نعتها بِذِروةِ المجتمعِ الأمومي، قد شَهِدَت ولادةَ إمكانياتِ فائضِ الإنتاج. وحسبَ رأيي، سيَكُونُ مِن الأنسبِ إطلاقُ تسميةِ المجتمعِ المشاعيِّ – الأمومي على هذه السلسلةِ المتواصلةِ من المراحل، التي طالما سَمَّتها أغلبُ العلومِ الاجتماعية بالنظامِ المشاعيِّ البدائي، أو العصرِ الحجريِّ القديم، أو العصرِ الحجريِّ الحديث، أو بالنظامِ الوحشي. إنها حقبةٌ تَكادُ تَحتَلُّ 99% من مجموعِ سلسلةِ حياةِ المجتمعِ البشري. يجب عدم الاستخفافِ بها البتة. ومقابلَ تراكمِ فائضِ الإنتاجِ والقِيَمِ الثقافيةِ الأخرى في أحشاءِ المجتمعِ المشاعي الأمومي، لن يَكُونَ من العسيرِ استخلاصُ النتيجةِ القائلةِ بأنّ الرجلَ القويَّ الماكرَ والمتجولَ دائماً في أطرافِ ذاك المجتمعِ عَاطِلاً، فيما خلا بعض جولاتِ الصيد المظفر، والتي تمده بالقوةِ تدريجياً؛ قد تَوَجَّهَ نحوَ النزوعِ لِبَسطِ أولِ هيمنةٍ على هذا النظامِ الاجتماعي. وثمةَ الكثيرُ من المَعالِمِ الأنثروبولوجيةِ والسجلاتِ الأثريةِ والملاحظاتِ والمقارَناتِ ووجهاتِ النظرِ التي تُرَجِّح كفةَ هذا الاحتمال.
كما تَطَرَّقنا بِكَثرة إلى التكوينِ ذي الطابعِ الرجولي الغالب على المجتمعِ الأبوي البطرياركي، والمؤلَّفِ من الشامان + الشيخِ العجوز المُجَرِّب + القائدِ العسكري. من الأصحِ البحثُ في هذا التطورِ الحاصلِ عن نموذجٍ أوليٍّ لشكلِ المجتمعِ الجديد. قَصَدُنا بالمجتمعِ الجديد هو حالةُ اكتسابِ الكلانِ للهرمية. وإفساحُ الهرميةِ الطريقَ أمامَ التحولِ الطبقي الراسخِ وتنظيمِ نمطِ الدولةِ الوطيد قد حسم هذا الانقسام. واضحٌ جلياً أنّ المجتمعَ المتعرفَ على الطبقةِ والدولةِ قد غَيَّر ماهيتَه. والديناميكيةُ الأساسيةُ في هذا التغيير هي إخراجُ فائضِ الإنتاجِ من كَونِه هدايا وعطايا، وتَبضِيعُه كسلعٍ للمقايضة، وجعلُه موضوعَ بيعٍ وشراءٍ في السوق. ومع دخولِ ثالوثِ السوقِ – المدينة – التجارة حَيِّزَ التنفيذِ كعنصرٍ ثابتٍ في المجتمع، تَسارعَت وتيرةُ التدولِ والتحولِ الطبقي وتضاعفَت. لن أُكَرِّرَ ثانيةً كيفيةَ جريانِ هذا التطور في الظروفِ الزَّمَكانية، نظراً لأننا عالجنا ذلك مِراراً. وعلى صعيدِ الشروحِ المتباينة، سَعَت مختلفُ العلومِ الاجتماعية للردِّ على هذا المجتمعِ الجديدِ بإطلاقِ العديدِ من التسمياتِ والاصطلاحات عليه، من قَبِيل: المجتمع الطبقي، مجتمع المدينة، المجتمع الدولتي، والمجتمعات العبودية، الإقطاعية، والرأسمالية. حسبَ رأيي، سَيَكُونُ من الأنسبِ تسمية تلك المراحلِ بـ"المجتمع المديني"، والاختزالُ أكثر وتسميتُها بـ"المدنية"؛ نظراً لأنّ الطبقيةَ والمدنيةَ والدولتيةَ ميزاتٌ بارزةٌ وراسخةٌ فيها، ولأنها نُعِتَت بالأغلب بصفاتِ "الحضارة" و"المدنية".
ينبغي ألا نَغفلَ عن أننا عندما نقولُ المدنية، فلا نُفَسِّرُها على أنها تعني السموَّ والتقدمَ على صعيدِ أخلاقياتِ المجتمع، بل ننعتها بماهيتِها الأساسيةِ المتمثلةِ في انحطاطِ الأخلاقياتِ وقمعِها. فالمجتمعُ المديني يعني السقوطَ المتهاويَ نِسبةً إلى أحكامِ القِيَمِ الأموميةِ المشاعية القديمة، أي نسبةً إلى مفاهيمِها الأخلاقية. وتَبرزُ هذه العلاقةُ بأسطعِ أشكالِها في اللغةِ السومرية، التي نَعلَمُ أنها اللغةُ الأقدم. فمفردةُ أمارگي Amargi تعني الحرية، وتعني العودةَ إلى الأمِّ والطبيعةِ على السواء. إنّ التعادُلَ المتطابقَ المُكَوَّنَ بين الأمِّ والحريةِ والطبيعةِ يشيرُ إلى وعيٍ سليمٍ ملفتٍ للنظر. فالمجتمعُ السومري، الذي يتعرفُ على المجتمعِ المديني لأولِ مرة، يشيرُ بكلمةِ أمارگي إلى حنينِه وشوقِه إلى المجتمعِ القديم الذي لم يَبتَعِد عنه كثيراً، أي المجتمعِ المشاعي الأمومي. إنّ متابعةَ هذا الانقلابِ الاجتماعي ضمن الأصل السومري أمرٌ ممكن، بل ومُنَوِّرٌ وملفتٌ للأنظار للغاية.
بالمستطاعِ رؤية اختلالِ التوازن في العلاقةِ بين المرأةِ والرجل على حسابِ المرأة منعكساً على أُولى التجاربِ الملحمية المُرَتَّبةِ على هيئةِ حواراتٍ بين إينانا وأنكي (الإلهةُ والإلهُ المؤسِّسان لمدينتَي أوروك وأريدو). إنها ملحمةٌ سابقةٌ لملحمةِ گلگامش، وتنصُّ على الصراعِ القائم بين النظام – أو المجتمع – المشاعيِّ الأمومي والمجتمعِ الأبوي الهرمي (مجتمع العبور إلى المدنية). نُدرك منها بكلِّ جلاءٍ أنّ تلك المرحلةَ قد شَهِدَت اللاعدالةَ التعسفيةَ والصراعَ المرير. كما أنّ المعطياتِ التاريخيةَ تَمُدُّنا بالبراهينِ والدلائلِ المشيرةِ إلى أنّ المجتمعَ السومري شَهِدَ في بداياتِه مرحلةً يمكننا تسميتُها بالديمقراطيةِ البدائية. فمجلسُ الشيوخِ العجائزِ لَم يتحول بعد إلى نظامٍ أبوي بطرياركي. والجدالاتُ الحيويةُ للغاية تشيرُ إلى ضربٍ من ضروبِ الديمقراطية. ولَم تتشكلْ بعد أنواعُ المصطلحاتِ من قَبِيلِ أوامرِ الإله وتعاليمِه (هي في الحقيقة مبدأُ النظامِ العسكري الاستبدادي الأحادي الجانب، والنابعِ من النمطِ المُقَنَّعِ الذي اتخذه الرجلُ القوي الماكرُ وعَمِلَ به). وبالأصل، فطرازُ المحادثاتِ في ملحمةِ إينانا حيويٌّ للغاية، ويسردُ ما يجري في المجتمع، وما يَسودُه من ظلمٍ وتَعَسُّف، وما يَحُلُّ بالمرأةِ ومدخراتِها وأطفالِها من فواجعَ ونكبات. ولو كانت الوثائقُ كثيرةً، لَكان بالميسورِ رؤية وملاحظة احتمالٍ قويٍّ يشيرُ إلى وجودِ مرحلةٍ انتقاليةٍ ديمقراطيةٍ تتخطى بمسافاتٍ شاسعةٍ ديمقراطيةَ أثينا (ديمقراطية الطبقة العبودية).
بالمقدورِ الجزم نظرياً بِكَونِ الانتقالِ إلى المجتمعِ المديني قد جرى بالتداخلِ والتشابكِ مع الانتقالِ إلى المجتمعِ الديمقراطي. فالجدالاتُ المحتدمةُ الصارمةُ الدائرةُ في أولِ مجلسٍ للشيوخِ العجائز، ليست سوى أصداءٌ لأصواتِ أقدامِ المجتمعِ الديمقراطي وانعكاساته الأولى. وفي جميعِ المجتمعاتِ المارَّةِ بهذه المرحلة، نشاهدُ مثلَ هذه الثنائية: ثنائيةِ المجتمعِ الديمقراطي والمجتمعِ المديني. وبشكلٍ ملموسٍ ومفهومٍ أكثر: هي ثنائيةُ الدولةِ والديمقراطية. أي، ثمةَ قضيةُ الديمقراطيةِ في كلِّ مكانٍ تتواجدُ فيه الدولة، وثمةَ مخاطرُ التدولِ في كلِّ ساحةٍ تتواجدُ فيها الديمقراطية. وكيفما أنّ الديمقراطيةَ ليست شكلاً للدولة، فمن الخطأِ القولُ بمصطلحِ الدولةِ الديمقراطية. ينبغي الانتباهَ بدقةٍ بالغةٍ لماهيةِ العلاقةِ الكائنةِ بينهما.
هذه هي الثنائيةُ التي طالما تَمَّ التلاعبُ بها والرهانُ عليها طيلةَ سياقِ التاريخ. وكلُّ ما بَرَزَ (مِن أحشاءِ المجتمعِ القديم) أَفسَحَ الطريقَ لجدالاتٍ وتحريفاتٍ كبرى بصددِ تحديدِ كَونِ التطور الجاري ديمقراطية أم دولة. وتداخُلُ المرحلةِ وتَعَقُّدُها إنما يشيرُ إلى كيفيةِ مرورِها مشحونةً بالصراعاتِ والنزاعاتِ والحروبِ الضارية؛ كالنقاشاتِ والنزاعاتِ المحتدمةِ حولَ ما إذا كان الإسلامُ – الذي نَعرِفُه جيداً – جمهوريةً ديمقراطيةً أَمْ سلطنة. ومعاهدةُ سيدِنا محمد في المدينةِ المنورةِ تكادُ تَكُونُ أَقربَ إلى العقدِ الاجتماعي لـ جان جاك روسو . ونلاحظُ ذلك بكلِّ سطوعٍ في الآياتِ القرآنيةِ والأحاديثِ النبوية. إلا أنّ النظامَ الهرمي لأرستقراطيةِ العشائرِ التي تعزز شأنها كثيراً بجوارهم، وبالأخصِّ نظام قبيلةِ قريش الهرمي، يَبحثُ بعلانيةٍ وصراحةٍ عن نموذجِ سلطنةٍ على غرارِ البيزنطيين والساسانيين. وقد نَشَبَ هذا الصراعُ مذ كان سيدُنا محمد على قيدِ الحياة. وفي الحقيقة، ما النزاعُ الناشبُ بين مكةَ والمدينةِ المنورة بمعنى من معانيه سوى نزاعٌ حولَ ما إذا كان النظامُ الجديدُ جمهوريةً (وتعني في اللغة العربية الديمقراطية الشعبية) أَمْ سلطنة (أي النظام المونارشي المنتقل بالوراثة من الأب إلى الابن). هذا السياقُ من الصراعِ المندلعِ مع هَرَبِ سيدِنا محمد من مكة (610 م)، استمرَّ بنفسِ الحِدَّةِ في عهدِ سيدِنا علي في عامِ 661، لِتَخرُجَ طائفةُ معاوية المواليةُ للسلطنةِ ظافرةً اليومَ مِن هذا الصراعِ الذي استمرَّ خمسين عاماً في الكوفة التي أُردِيَ فيها سيدُنا علي قتيلاً، والتي لا ينفك يدور بجوارها اشتباكٌ مماثلٌ بعنفه وحِدَّته في يومنا الحاضر. لم يَكُ النظامُ الهرميُّ العشائري المتوطدُ في تلك المرحلةِ يتيحُ أيةَ فرصةٍ للجمهورية، أو بالأحرى حتى لِظهورِ ديمقراطيةٍ بدائية. ولهذا السببِ فالقيامُ ببحثٍ سوسيولوجيٍّ حقيقي بشأنِ الإسلام من هذا الجانب، سَيَنُمُّ عن نتائجَ غريبةٍ وملفتةٍ للنظرِ حقاً!
يَبسُطُ التاريخُ مثالاً آخرَ ملفتاً للأنظار لدى تأسيسِ الإمبراطوريةِ البرسيةِ الإيرانية. فقد حَوَّلَ البرسيون ميراثَ الكونفدراليةِ الميديةِ إلى إمبراطورية، بعدَ جدلٍ وصراعٍ طويلٍ عسير. وللسلالةِ الأخمينيةِ دورُها المُحَدِّدُ في ذلك. وثمة مؤشراتٌ جمةٌ تشيرُ إلى أنّ المرحلةَ ما بين 560 إلى 520 ق.م قد شَهِدَت صراعاً عنيفاً بزعامةِ الكهنةِ الميديين. وقمبيز المُزَيَّفُ خيرُ مثالٍ على ذلك. بَيْدَ أنّ تأسيسَ الكونفدراليةَ الميديةَ السابقةَ كان نموذجاً نوعياً عن الديمقراطيةِ البدائية. ويُزَوِّدُنا تاريخُ هيرودوت بسرودٍ مثيرةٍ في هذا الشأن.
ديمقراطيةُ أثينا أيضاً من بينِ الأمثلةِ الشهيرة. فالحروبُ التي خاضَتها، سواءً تجاه مَلَكيةِ إسبارطة، أو تجاه البرسيين والمقدونيين، إنما هي في بعضِ وجوهِهِا صراعٌ حولَ: الديمقراطية أَم الإمبراطورية أو المَلَكية. ولَطالما شَهِدَت الجدلَ والصراعَ حول: المجتمع الديمقراطي، أم المجتمع المديني؛ وإنْ كان ذلك على نحوٍ بدائيٍّ وأساسٍ طبقي. وصراعُ الجمهوريةِ والإمبراطوريةِ في روما يشيرُ إلى إمكانيةِ قتلِ حتى أشهرِ الشخصياتِ في هذه النزاعات – وفي مقدمتها يوليوس قيصر – مما يَدُلُّ على وجودِ ثنائيةٍ حربيةٍ عنيفةٍ وضارية. يمكننا الإكثارُ من هذه الأمثلة، بل ويمكننا تعريف الثورتَين الفرنسيةِ والروسيةِ الكبيرتَين على هذا الصعيد، في سبيلِ جذبِ انتباهِنا للموضوعِ أكثر، والارتقاءِ بمَقدِرَةِ إدراكنا إياه.
اندَلَعَت الثورةُ الفرنسيةُ (1789) ضد المونارشيةِ المطلقة، وانتَهَت بالجمهورية (الديمقراطية الاجتماعية الراديكالية)، بعدَ مرورِها بمرحلةٍ جِدِّ عنيفة، أي مرحلةِ الإرهابِ الثوري. وبعدَ عهدِ السلطةِ الثلاثية أدامَت وجودَها مع إمبراطوريةِ نابليون . وشَهِدَت إعلانَ خمسِ جمهورياتٍ، بعدَ مرورِها بمراحلَ انتقاليةٍ متعددة. في حين أنّ السادسةَ منها قيد الجدال.
وأُزيلَ الستارُ في الثورةِ الروسيةِ الكبرى (1917) بديمقراطيةٍ أكثر راديكالية (عهد السوفييت والشورى). وشَهِدَت الديكتاتوريةُ الثوريةُ في الحربِ الداخلية، وتَوَطَّدَت الديكتاتوريةُ في عهدِ ستالين ، لِتَعودَ مجدداً إلى الديمقراطيةِ في الذكرى المئويةِ الثانيةِ للثورةِ الفرنسية، أي في عامِ 1989. ولا تَبرَحُ جاهدةً لتطويرِ ديمقراطيتِها حالياً. ونَكادُ نَشهَدُ مئاتِ الأمثلةِ المشابهةِ في كلِّ عامٍ خلالَ مرحلةِ العصرنةِ الرأسمالية الطابع.
لقد سردتُ من خلالِ هذَين المثالَين التعقيدَ الشائكَ بين هاتَين العلاقتَين، وسعيتُ لعكسِ أجواءِ ومجالاتِ التناقضاتِ المتوترةِ والمتصارعةِ بين بؤرتَي المدنيةِ والديمقراطية.
النقطةُ الأهمُّ الواجبُ الانتباهُ إليها هي مساعي كِلا المجتمعَين الجديدَين لإيجادِ نفسَيهِما اعتماداً على المجتمعِ المشاعي. ومثلما عَرَّفناه سابقاً، فالمجتمعُ المشاعي هو "الخليةُ النواة" التي لا تزالُ مستمرةً وموجودةً في جميعِ أنسجةِ المجتمعات، وإنْ على شكلِ بقايا حيثية، والتي ينبغي عدم الشكِّ في استمرارِ وجودِها إلى ما لا نهاية كضرورةٍ اضطراريةٍ لا غنى عنها بالنسبةِ إلى النوعِ البشري. فكيفما أنّ الخلايا النواةَ في مختلفِ أنسجةِ الوجودِ البشري تَقُومُ بتغذيةِ البنيةِ الجسديةِ وترميمِها، بل وبإعادةِ إنشائِها عند اللزوم؛ فالمجتمعُ الأمومي المشاعي أيضاً يستمرُّ بوجودِه على شاكلةٍ مشابهةٍ ضمن مختلفِ المجتمعاتِ الثنائية. وثمة دوافعٌ وأسبابٌ ونتائجٌ هامةٌ للغاية تَكمُنُ وراءَ تأكيدي مِراراً على عدمِ فناءِ، واستحالةِ إفناءِ المجتمعِ المشاعي، مهما سَادَت الاشتباكاتُ والحزازياتُ والاضطرابات، وأحياناً الوفاقاتُ ضمن المجتمعاتِ الديمقراطيةِ والمدنيةِ المولودةِ من أحشاءِ بنيةِ المجتمعِ المشاعي. وسوف أُثابِرُ في تَناوُلِها مِراراً في مكانِها المناسب.
إنّ إشارتي الدائمة للاشتباكاتِ والنزاعاتِ الناشبةِ بين المجتمعِ الديمقراطي والمجتمعِ المديني لا تَدحضُ أو تُفَنِّدُ احتمالَ الوفاق. وعلى النقيض، فالوفاقُ أساسيٌّ بين هذَين المجتمعَين. أو بالأصح، كان يجبُ أنْ يَكُونَ أساسياً. ومن أُولى أسبابِ ذلك أنه لا وجودَ للمجتمعِ الديمقراطي والمجتمعِ المديني من دونِ بعضِهما، كنتيجةٍ للمفهومِ الجدليِّ القائلِ بأنّ الأطرافَ لا تَفني بعضَها البعض. فوجودُ أحدُهما ممكنٌ بوجودِ الآخَر. وكما نَوَّهتُ سابقاً، فانطلاقةُ الديمقراطيةِ وانطلاقةُ المدنيةِ تنبثقان من المجتمعِ المشاعي الأمِّ عينِه. وبينما يَغلبُ على الديمقراطيةِ أنها تتخذ من الغالبيةِ والتنوعيةِ السفلى المعرَّضةِ لقمعِ واستغلالِ وخيانةِ الطبقةِ الهرميةِ العليا قاعدةً لذاتِها، تَقُومُ المدنيةُ بالأرجح باتخاذِ الشرائحِ العليا المطبِّقةِ للقمعِ والاستغلالِ وهيمنتِها الأيديولوجيةِ أساساً لها. وبالطبع، فهذه الشرائحُ لا تنفصلُ عن بعضِها أو عن المجتمعِ المشاعي الأم بحدودٍ فاصلةٍ. بل هي متداخلةٌ، ولكنها في نفسِ الوقتِ بُؤَرٌ متميزةٌ باختلافِها وفوارقِها أيضاً.
وفي هذه النقطةِ تَبرُزُ ضرورةُ إعادةِ النظرِ في مفهومِ اصطلاحِ المجتمعِ كلياً، بشرطِ استذكارِ ذلك واستيعابِه على الدوام. يجب النظر إلى المجتمعاتِ على أنها ليست وحدةً بسيطة، بل هي كلٌّ متكاملٌ من مجموعِ آلافِ الوحداتِ البسيطة، والتحولاتِ الطبقية، وآلافِ المجموعاتِ السفليةِ وملايين العوائلِ المنضويةِ تحت جناحِ كلِّ طبقة، وشتى أنواعِ الجماعاتِ التي تُناهضُ التحولَ الطبقيَّ ولَم تَشهَده، والوحداتِ العالميةِ بقدرِ تعدادِ الوحداتِ المحلية، والأديانِ، اللغاتِ، السياسيين، أشكالِ الاقتصاد، العشائرِ، القومياتِ، والكياناتِ العالمية، وجميعِ أنواعِ الفوضى والنظمِ التي تَشهَدُ آلافَ أشكالِ العلاقاتِ والتناقضاتِ المتوترةِ والهادئة، المتصارعةِ والمتضامنةِ بشكلٍ متداخلٍ فيما بينها. وبقدرِ ما تتوازنُ وتتكافأُ الديمقراطيةُ والدولةُ في معمعانِ هذه التعقيداتِ الإشكاليةِ المتشابكة، يَتَشَكَّلُ نظامٌ اجتماعيٌّ أَقرَبُ إلى إحلالِ السلام. أما حالةُ السلامِ التام، فتقتضي حالةَ اللادولة، وهذا ما لا نزال نحن بعيدين عنه بمسافاتٍ شاسعةٍ على الصعيدِ العملي، حتى إنْ أمكَن التفكير فيها نظرياً.
لا يُمكِنُ إحلال السلامِ الكاملِ إلا مِن خلالِ حياةٍ ديمقراطيةٍ على المدى الطويل، بحيثُ تشتملُ المجتمعَ برمته، بما فيه مجتمعُ الدولة أيضاً. هذا ويمكننا الحديث عن حالاتِ السلامِ باعتبارها المراحلَ الخاليةَ من الصراعاتِ والصداماتِ، والمعتمدةَ على توازناتِ القوى المعنيةِ والمذكورة (قوى الدولة والديمقراطية) خلالَ اللحظةِ التاريخيةِ الموجودة. وإذا سَعَت الديمقراطيةُ لابتلاعِ الدولةِ وإفنائها كلياً، فحينها تَغلُبُ خصائصُ الفوضى العارمةِ في تلك الفترةِ التاريخية. والتجاربُ المعاشةُ في كثيرٍ من البلدانِ تشير إلى ذلك. في حين إذا أَصَرَّت الدولةُ دائماً على اللاديمقراطية، فتَتَكَوَّنُ حينها النظمُ الاستبداديةُ الديكتاتورية، وهذا ما يُفضي في تلك الفترةِ اللحظية التاريخيةِ القائمةِ إلى الفوضى مرةً أخرى. يستمرُّ التحضرُ المسمى بالسياقِ التاريخيِّ أيضاً منذ خمسةِ آلافِ عامٍ، كانت فُرَصُ حياةِ الديمقراطيةِ فيها محدودةً أكثر. إلا أنّ المجتمعَ بِسَوادِه وتعددياتِه الساحقةِ انتَظَرَ الديمقراطيةَ على الدوام، وكافحَ في سبيلها. ولَرُبما ستستمرُّ الدولُ والديمقراطياتُ بالعيشِ المشتركِ المتداخلِ بشكلٍ من الأشكال، وإنْ لم يَكُن بالمنوالِ نفسه، وحتى لو مَرَّت آلافُ الأعوام.
تَكمُنُ القضيةُ في كيفيةِ الفصلِ بين الدولةِ والديمقراطية، بقدرِ تحديدِ الضوابطِ المنهجيةِ للعيشِ المشترك بينهما على نحوٍ معطاء، أو بحيث لا تنكران بعضَهما بأقلِّ تقدير. وربما يتطلبُ الأمرُ سَنَّ دساتيرَ من نوعٍ جديد. فالتداخلُ القائمُ بين الدولةِ والديمقراطيةِ أَشبَهُ ما يَكُونُ بالضلالِ المخادع. فكأنهما تَسعَيان للتسترِ على عيوبِ بعضِهما كذاك الجسدِ الذي يَعمَلُ على إخفاءِ عيوبِه وعوراتِه بأوراقِ العِنَب. لذا، من غيرِ الممكن حتى البدءُ بنقاشٍ مبدئيٍّ حولَ الدولةِ والديمقراطية، ما لَم نَتَخَطَّ هذا الوضع. فحتى الثورتان الفرنسيةُ والروسية، اللتان هما أكثرُ الثوراتِ عصريةً، قد زادتا من حِدَّةِ التشويشِ والتعقيدِ في هذا الشأن، فما بالُكَ بإضفاءِ الرقيِّ والنقاءِ فيه! مِن هنا، وبأقلِّ تقدير، فنظريةُ السياسةِ بحاجةٍ ماسةٍ إلى تحديدِ معالِمِ الشكلِ والمضمونِ، بحيث تَكُونُ حازمةً كلياً للدولةِ المنفتحةِ على الديمقراطية (الدولة التي لا تَضَعُ نفسَها محلَّ الديمقراطية، والتي لا تَحظرُ الديمقراطية)، والديمقراطيةِ التي لا تنكرُ الدولة (الديمقراطية التي لا تتطلع إلى التَّدَوُّل سريعاً، والتي لا تَنظُرُ إلى الدولةِ كعائقٍ يتوجب هدمه على الدوام). حقاً ثمة حاجة إلى النظرية، ولكن، بشرطِ أن تكون جواباً لحالة الأجواء العملية المعقدة والمشوَّشة. إني على قناعةٍ بضرورةِ، بل وإمكانيةِ تحديدِ أشكالِ الدولةِ والديمقراطية، بحيث تنخفضُ فيهما نسبةُ الصراعِ والصدامِ إلى أدنى المستويات، وتَحُثّان بعضَهما على العطاءِ المتبادَل؛ وبضرورةِ تطويرِ الاحتمالِ السياسيِّ الذي نحن بِأَمَسِّ الحاجةِ إليه على هذا الأساس. فالدولُ القائمةُ لا تَعتَرِفُ بالديمقراطيةِ جوهرياً، ولذلك فهي كسولةٌ جداً وضخمةُ الجثة. في حين أنّ الديمقراطياتِ الموجودةَ منحرفةٌ للغاية وغيرُ فاعلةٍ إطلاقاً، باعتبارِها صورةً هزليةً كاريكاتوريةً عن الدولِ القائمة. لذا، لا جدالَ في أنّ هذه هي القضيةَ الأوليةَ لفلسفةِ السياسةِ وممارستِها العمليةِ.
أُعِيدُ وأبَيِّنُ أني سأَستَفِيضُ في تناولِ هذه المواضيعِ المشتملةِ على العديدِ من المستجداتِ في كتابِ سوسيولوجيا الحرية.
إني منتبهٌ لِطَرحي إطاراً نظرياً أولياً وبراديغما مختلفةً عن البراديغمائياتِ الليبراليةِ والاشتراكيةِ التقليدية. وسوف أَجهَدُ لإضفاءِ المضمونِ عليها أكثر. وقد رسمتُ هذا الإطارَ الموجَزَ في سبيلِ الردِّ على سؤالِ: أين وكيف سأَقُومُ بِمَوضَعَةِ الرأسماليةِ باعتبارِها "شكلَ المجتمع". واضحٌ جلياً أني لا أرى الرأسماليةَ شكلاً للمجتمع، مثلما لا أَعتَبِرُها شكلاً اقتصادياً بحتاً.
لِنعملْ أَوَّلاً على رؤيةِ العلاقةِ المسماةِ بالاقتصادِ الرأسمالي ضمن نطاقٍ متكاملٍ للمجتمعِ المديني. من الضروريِّ استيعاب كونِ الاقتصادِ الرأسمالي، أي التبضع المسمى باقتصادِ التبادلِ، يعتمد على مكاسبِ احتكاراتٍ متربعةٍ وجاثمةٍ على علاقاتِ السوقِ والمنافَسة، ومتأسسةٍ بمقتضى التلاعبِ بالأسعارِ أساساً، وبالاستفادةِ من فارق الأسعارِ بين مختلَفِ المناطق. في الحقيقة، وبموجبِ هذا التعريف، علينا الإدراك جيداً أنه ما مِن قطاعٍ يخلق قِيمةَ المقايضة، بل هو معنيٌّ بنسبةٍ ضئيلةٍ جداً وجزئية من الحياة الاقتصادية العامة، إلا أنها نسبةٌ مُعَيِّنةٌ نَظَراً لِمَنزِلَتِها الاستراتيجية. إنه محصلةُ مجموعِ القيمةِ التبادليةِ المتراكمةِ بكمياتٍ طائلةٍ في قبضةِ حفنةٍ ضئيلةٍ جداً من الشخصيات. وبالتالي، فهو متفوقٌ استراتيجياً في التلاعبِ بالعَرضِ والطلبِ على السواء. علينا ألا نغفلَ عن أنّ هذا التفوقَ لَم يَكُن موجوداً في الدولِ حتى تلك الأيام. والغريبُ في الأمرِ هو نمطُ نشوءِ هذا التفوق واستخدامِه. إننا نَعِي ولادتَه ونشوءَه إلى حَدٍّ ما، في حين أنّ استخدامَه أكثرُ جذباً للأنظار، وأكثرُ تَسَبُّباً في الانقلاباتِ الاجتماعية، بسببِ ارتكازِه إلى التضخمِ المستمرِّ لرأسِ المال. من هنا، فإنّ نعتَ ذلك بالثوريةِ إنما يتكافأُ وخيانةَ المجتمع، وبالأخصِّ المجتمعِ التاريخي – الديمقراطي!
إذن، متى سوف يُقِرُّ عِلمُ الاقتصادِ السياسي ويَعتَرفُ بأنّ رأسَ المالِ نهبٌ وسلبٌ مُبتَدَعٌ بأدقِّ الأشكالِ المناسبةِ لِقَوالبِه، بعدَ أنْ يُضَخِّمَ نفسَه كفايةً؟ (قانونُ الربحِ الشهيرُ الذي يَعرِضُه الرجالُ الممتازون في الاقتصاد، بالاستفادةِ من قدسيةِ اسمِ القانونِ العائدِ لأخصائيي الاقتصادِ السياسي، بعد إعادةِ طلائه وتجميلِه) لماذا لا أُسَمِّي الرجلَ الماكرَ القوي بـ الرأسمالي؟ لأنّ استيلاءَه يَعتَمِدُ على القوةِ العلنيةِ والحربِ المحضة. ولا ننسى – بالطبع – أنّ الحربَ تعني الفخَّ والمصيدة، ولا تَرى الحاجةَ لتكييفها مع الحقوقِ والدين، أو تغطيتِها بأيِّ غطاء. لكن، يجب التسليم بِحَقِّ الاقتصادِ الرأسمالي في نقطةٍ مهمة، ألا وهي أنه كان يعتمدُ على الاستيلاءِ الجَبريِّ على علاقةِ الدولةِ والاقتصادِ السابقَين له. فقاعدةُ "مالُ الكافرِ حلال" في الدينِ الذي تنتمي إليه حقوقُ الأعرافِ والتقاليد الهرميةِ، إنما كانت تُجِيزُ بالاغتصابِ والسطوِ العلنيَّين وبالنظرِ إلى الغنيمةِ على أنها حقٌّ مشروع. أي أنّ الرجلَ القويَّ الماكرَ بات يَغدو دولة. وفي هذه النقطةِ بالذات ينفصلُ الاقتصادُ الرأسماليُّ عن الدولةِ الكلاسيكية. أنا لا أقولُ بأنه يَتَضاد معه، بل ينفصل. وعندما لا يَجعَلُ مستوى تَطَوُّرِ المجتمعِ المديني غنيمةَ النهبِ والسلبِ ذات مردودٍ ناجع، فحينها تشرق الشمسُ على هذا القطاع. وبالأصل، يَظهَرُ هذا الفرقُ في مستهلِّ اللحظاتِ والمراحلِ التي تَبدأُ فيها الدولةُ العبوديةُ والإقطاعيةُ بالجَدب (عندما لا يُثمِرُ عن حقِّ الغنيمةِ الذي يعني بدورِه النهبَ والسلبَ والسطوَ العلني، ولدى تجفيفِ المجتمعِ حتى النخاعِ، بحيث يَبلغُ الحدودَ التي يَعجَزُ فيها عن إنجازِ فائضِ الإنتاج)؛ فيَرى في ذلك فرصةً لِيَتَقَلَّدَ يافطةَ نظامٍ اقتصاديٍّ جديد.
احتكارُ الدولةِ العبوديةِ كان مثمراً للغاية في العصورِ الأولى. ويتجلى هذا بسطوعٍ لدى إلقائنا نظرةً على مقابرِ أهرامِ الفراعنة وبقايا المدنِ الإغريقية – الرومانية. لقد تَواجَدَ القطاعُ الرأسمالي في هذا العصرِ أيضاً، ولكنْ، بنطاقٍ ضيقٍ جداً. فمردوديةُ احتكارِ الدولةِ لا يتيحُ له – لذاك القطاع – فرصةَ التطور، أو أنه يتيحها بأدنى المستويات. ونَعلَمُ أنّ نظامَ العملِ الإقطاعيِّ يبدأُ بالانتشارِ عندما يُصابُ نظامُ العملِ العبوديِّ بالقحطِ والقحل. أما تحليلُ دوافعِ وأسبابِ قحلِ وجدبِ المدنيةِ العبودية، فليس مَرتبطاً بموضوعنا. لِنَكتَفِ بتبيانِ أنه تَمَّ تَخَطّي تلك المدنيةِ من خلالِ مفاهيمِها في الحياةِ والنشاطِ، والمُعَمِّرَةِ مدةً طويلةً جداً (4000 ق.م – 500 م)، ومن خلالِ تَوَسُّعِها في مساحاتٍ فسيحة، وببنيتِها الطائلةِ التكاليف، واستهلاكِ جميعِ حدودِ الحظي بالمزيدِ من المناطقِ والبشرِ عن طريقِ العنفِ والاسترقاق، ومن خلالِ آلافِ التمرداتِ والمقاوماتِ الداخليةِ والخارجيةِ الديمقراطيةِ التي يَطغى عليها طابعُ الحرية.
أما المجتمعُ المديني المُشَيَّد، والذي يُمَثِّلُه كلٌّ مِن الشرقِ الأوسطِ الإسلامي وأوروبا المسيحية؛ فاعتَمَدَ على طرازِ شرعيةٍ واستغلالٍ مختلفٍ ومغايرٍ نسبةً إلى المدنيةِ الإغريقيةِ – الرومانية المتربِّعةِ على إرثه، والمتأسسة بدورها على المدنيةِ السومريةِ والمصرية. فبينما مَنَحَ كِلا الدينَين شرعيةً وطيدة، نَجَحَ المجتمعُ المديني بتجديدِ نفسِه من خلالِ القرويِّ القن، الذي يُعَدُّ مالِكاً نفسَه نَظَراً إلى العبدِ الرق. ولا ريبَ في أنّ نضال المساواة والحرية، وبالتالي الميول والمساعي لبناء المجتمع الديمقراطي، والتي سادت فترةً طويلةً في الديانةِ المسيحيةِ التي شَكَّلَت وجدانَ الفقراءِ طيلةَ ثلاثةِ قرون، واستمرت في الإسلام على مَرِّ مرحلةٍ طويلةٍ تحت غطاءِ مختلَفِ المذاهبِ الإسلامية؛ قد أَدَّت دوراً رئيسياً في تجديدِ المدنيةِ لِذاتِها من جهة، وجَعلِها في مستوىً يُطاقُ حمله من جهةٍ ثانية. وهذا الوضعُ لا يتأتى من سُمُوِّ المدنيةِ وتَطَوُّرِها المُشَرِّف، حسبَما يزعمُ أيديولوجيو المدنية. وإنْ كان ثمة بعض المكتَسَباتِ، فقد تم بلوغَ هذه المرحلةِ مِن خلالِ بقايا المجتمعِ المشاعي القديم، وهروبِ العشائرِ والأقوام والعبيد، والآلافِ من مقاوماتِ وتمرداتِ الفقراء.
إنّ تجديدَ القمعِ والاستغلالِ لِنَفسَيهما في المجتمعِ المديني من خلالِ وسائلِ الشرعيةِ الجديدة، قد أَسفَرَ عن تجديدِ الطبقةِ والمدينةِ والدولةِ لِنَفسِها أيضاً باعتبارِها الوسائلَ الأوليةَ له. وهكذا تَيَسَّر تَطَوُّرُ العناصرِ الرأسماليةِ في الأوساطِ الجديدةِ التي تَسُودها علاقاتُ القن – السيد، المدينة – السوق، والدولة – العبد. كما أنّ المدائنَ المتناميةَ حولَ الأسواق، بدءاً من الصين إلى المحيطِ الأطلسي، قد أَفضَت بالتزامن إلى تسريعِ إنتاجِ السلع، وتَوَطُّدِ التبادلِ اتساعاً وعمقاً. في حين أنّ فارقَ السعرِ بين الأسواقِ أَمَّنَ بلوغَ أرباحِ التجارِ الاحتكاريين مستوياتٍ لا نظيرَ لها. وهكذا أَمكَنَ تحقيقُ المدنِ توازناً تجاه المناطقِ الريفيةِ للمرةِ الأولى. فالحضارةُ الإسلاميةُ لَم تَكُن سوى ضربٌ من ضروبِ التجارةِ بين الشرقِ الأقصى وأوروبا، حيث مَنَحَت أوروبا ما تحتاجه على الصعيدِ التجاري، سواءً من جهةِ الثقافةِ الماديةِ أَم الثقافةِ المعنوية. في حين أنّ الوسائلَ الأوليةَ الأخرى للحضارةِ تُمنَح لها أصلاً منذ العصورِ الأولى. وهكذا ينتهي نقلُ المدينةِ والطبقةِ والدولةِ إليها مع العهدِ الإسلامي. وما مِن شكٍّ في الدورِ الرئيسي الذي أداه العربُ واليهودُ في هذا المضمار، حيث قامَ الحكماءُ والصُّنَّاعُ والحِرَفِيون والتجارُ العربُ واليهودُ بإتمامِ ما أبقاه الإغريقُ – الرومان منتصفاً من أعمال.
يَكمُنُ النقصُ الوحيدُ الهامُّ للمدنيةِ الشرقِ أوسطيةِ في عدمِ تَخَطّيها لِمُدنِ القطاعِ الرأسمالي، وعدمِ لَعِبِها الدورَ الرئيسيَّ في مكانِ بلدٍ أو وطنٍ ما. أي، عجزِها عما استطاعَت أمستردام ولندن القيامَ به. ولِنُظُمِ الحكمِ الاستبدادي المركزيِّ الساحقِ بما يُضاهي الأنظمةَ الأوروبيةَ المطلقةَ نصيبُها الوافرُ في ذلك. فالبنيةُ السياسيةُ في الصين والهند كانت تتميز بتفوقٍ كاسحٍ في مركزيتِها بما لا يتماثلُ ولا يتناسقُ مع سلطناتِ الشرقِ الأوسط إطلاقاً. في حين أنّ اليابانَ بَقِيَت نسبياً ضمنَ إطارِ البنيةِ السياسيةِ الإقطاعية على شاكلةِ النمطِ الأوروبي.
ومع تَوَجُّهِنا نحوَ القرنِ السادسِ عشر، كانت المدنياتُ الآسيويةُ القديمةُ قد خارَت قواها عن القيامِ بحملةٍ جديدة. ولَم تذهبْ أسفارُ جنكيزخان وتيمورلنك ، وكذا هجراتُ وتياراتُ نزوحِ الأنسابِ التركية من قَبلِها، أبعدَ من ضَخِّها بالدمِ الطازج، وبالتالي إطالةِ عمرِها أكثر. وما كان سيَحصُلُ، كان مُقَدَّراً أن يَحصُلَ في أوروبا، التي هي أَقرَبُ ما تَكُونُ إلى شبهِ جزيرةٍ قابعةٍ في الأقاصي الغربيةِ من آسيا. فقد كانت تلك الأراضي المختبرَ الجديدَ للمدنية.
ولدى انتقالِ التجارةِ والقطاعِ الرأسمالي إلى أوروبا بالتسايرِ مع المدنية، كانت تَنبَسِطُ أمامَها الأراضي العذراءُ، وتأسيساتُ المدنِ النضرة، وإقطاعيةُ أوروبا الغِرَّةُ المتصاعدةُ حديثاً؛ والتي لا يُمكِنُ نعتها حتى بالمدنية. وما نَجَحَت فيه المسيحيةُ حتى نهاياتِ القرنِ العاشر، كان قيامَها بالتطعيمِ المعنوي. ولو كانت تَشَكَّلَت في أوروبا حضارةٌ قديمةٌ على غرارِ الشرقِ الأوسط، لَكانت فرصةُ تَطَوُّرِ المدنيةِ الرأسماليةِ فيها موضوعَ جدلٍ مفتوحٍ على مصراعَيه. فالحضاراتُ الجديدةُ تَتَكَوَّنُ في الأراضي العذراء. ومن المفيدِ أخذ هذا الجانبِ بِعَينِ الاعتبار بالنسبةِ إلى الحضارات. وإذا ما ألقينا نظرةً على تَخَمُّرِ المدنيةِ الأوروبية، فسوف نستَشِفُّ فراغاً غريباً فيها. فمشقاتُ ومصاعبُ استمرارِ القديم، وقلةُ خبرةِ الجديد (الإقطاع)، يتيحُ فرصةَ انسلالِ وتَسَرُّبِ الاحتمالِ الثالثِ من بينهما. فعلى سبيلِ المثال، كيف كان سيجري التاريخُ، لو تَأَسَّسَت إمبراطوريةٌ مِن الطرازِ القديمِ في أوروبا على يَدِ العربِ عن طريقِ إسبانيا، أو العثمانيين عن طريقِ البلقان، أو من خلالِ هجماتِ الأقوامِ الغازية من جنوبي سيبيريا، أو على يَدِ جناحٍ من الزحفِ المغولي الأخير؟ إذن، فالحظُّ عامِلٌ هامٌّ للغاية بالنسبةِ إلى أوروبا.
إننا نَقُومُ بِعَقدِ كلِّ هذه المفارقاتِ بشأنِ جميعِ تلك المدنياتِ بِغَرَضِ تسليطِ الضوءِ على ولادةِ قطاعٍ رأسمالي، وعلى كيفيةِ اكتسابِه طابعاً مهيمناً. ونجدُ أنه ليس حتى حلقةً لا مناصَّ منها ضمن سياقِ التطورِ الحضاري. ذلك أنّ مجموعةً من عناصرِ التجارِ المُضارِبين الكبار، والتي تكمن في تَصَدُّعاتِ المدنياتِ القديمةِ والمناطقِ الهامشيةِ، وتُؤَمِّن مكاسبَها عبر ألاعيبِ المالِ على حسابِ السوقِ وبالتضادِّ معه، وتجني نصيبَها بما فيه الكفاية – بل ويَزيد- من طرقِ التجارةِ البعيدةِ ومن نهبِ وسلبِ المستعمَرات؛ تلك المجموعةُ استفادت بشكلٍ مذهل من فرصةِ التأثيرِ المتحدِ لآلافِ المؤثراتِ بمحضِ الصدفة، لتبسطَ نفوذَها على أوروبا عبر مدينتَين واهنتَين، ثم على العالَم بِرِمَّتِه.
كلُّ البحوثِ الجاريةِ تَدُلُّ على أنّ هذه المجموعةَ المُضارِبةَ متعصبةٌ لأبعدِ الحدود، وأنها تفتقرُ لأيِّ فكرٍ بَنَّاءٍ أو اختراعٍ خَلاَّق. والعملُ الذي تَمَرَّسَته هو اكتسابُ المالِ عن طريقِ المال، فقط لا غير. والمجالُ الاجتماعي الوحيدُ الذي بَرَعَت فيه بِدَهاءٍ هو جنيُ المالِ من أوساطِ الشُّحِّ وأجواءِ الحروب، واكتسابُ المزيدِ من الأموالِ مِن خلالِ فارقِ الأسعارِ الدائرةِ في عمومِ العالَمِ بِنَهَمٍ لا يَشبَع. والخاصيةُ الغريبةُ الأخرى لأوروبا في مستهلِّ القرنِ السادسِ عشر تَجَسَّدَت في بلوغِ المالِ مستوى القوةِ القادرةِ على الهيمنةِ على كلِّ شيء. لقد صارَ المالُ الحاكِمَ والقائدَ الحقيقيَّ في الميدان. فمَن لديه المال، لديه القوة. لا ريبَ في أنّ العامِلَ الأساسيَّ في ذلك هو التبضعُ والتسوقُ والتمدنُ بدرجةٍ مدهشة.
لَم يَكُ لأيِّ قوةٍ سلطويةٍ آسيويةٍ قديمة، أو أيِّ سلطانٍ أو إمبراطورٍ فيها، ولا حتى لأيِّ إمبراطورٍ في روما هَمٌّ أو غَمٌّ مِن قَبِيلِ الاغتناءِ بِجَنيِ الأموالِ كثمرةٍ من ثمارِ التبضع، أو إدارةِ شؤونِ السلطةِ عن طريقِ المال. وإنْ وُجِد، فهو في نطاقٍ جِدِّ محدود، رغم أنهم – هم أيضاً – نَقَلوا ما في خزائنِ العالَمِ إلى قصورِهم وسراياهم منذ أمدٍ بعيد. في حين، عندما ظَفرَ القطاعُ الرأسماليُّ بالنصرِ تِلوَ الآخَر، كان مُلوكُ أوروبا في وضعٍ يَتَوَسَّلون فيه الاستدانة. لقد كانت مرحلةً مغايرةً بالنسبةِ إلى قوةِ المالِ – السلطة. فلأولِ مرةٍ كانت السلطةُ السياسيةُ تَركَعُ خاشعةً أمامَ المال. وما هذا الواقعُ سوى برهانٌ قاطعٌ على تَعَزُّزِ المالِ لدرجةِ استلامِه زمامَ القيادةِ ودَفَّتَها. وقد كان نابليون يُصَرِّحُ بهذه الحقيقةِ عندما قالَ بشأنِ الجيش: "المالُ! ثم المالُ! ثم المال!".
إنّ رَجَحانَ كفةِ عامِلِ المالِ في أساسِ التجديدِ الحاصلِ في تاريخِ المدنيةِ العالمية (وليس تاريخَ العالَمِ المناهِضِ للمدنية!)، يُفضي إلى التجديدِ في المدنيةِ أيضاً. إلا أنه لا يَقطَعُ أيةَ مسافةٍ في التغيرِ الجذري على صعيدِ نوعيتِه الأساسية، علماً بأنّ الحضارةَ لا تَتَعَرَّفُ حديثاً إلى المالِ، السوقِ، المدينةِ، والتجارةِ، ولا حتى إلى البنوكِ والسندات. فجميعُها وسائلٌ مختَرَعةٌ منذ آلافِ السنين.
البَندُ الآخرُ الهامُّ هو عدمُ وجودِ أيةِ صلةٍ للقطاعِ الرأسماليِّ مع الإنتاجِ في بدايةِ الأمر. بل ولا علاقةَ له حتى مع التجارةِ الصغرى. كما أنه ما مِن اختراعٍ أو اكتشافٍ أو تجديدٍ يُذكَر في العلاقاتِ الأوليةِ للاقتصاد. وهو ليس القوةَ المبدِعةَ للسلعةِ والتبادل. حيث بَرَزَ وتَواجَد التبضعُ والتبادلُ منذ آلافِ السنين إلى يومنا. وإنْ كان لا بد من الحديثِ عن مهارةٍ خاصةٍ به، فيمكننا الإشارة إلى براعتِه الماهرةِ في اكتشافِ قوةِ المال، واستثمارِه إياه، وتَصيِيرِه رأسَ مال بامتياز، أي دهائِه في حِرفَةِ جنيِ المالِ من المال. ولا جدالَ حولَ خبرتِهم في تعقيبِ أثرِ المدنِ والبلدان والطرقِ والسبل والأسواقِ التي تَدُرُّ عليهم الأموالَ بأفضلِ الأحوال. لقد كانوا محترفي شبكاتِ تسويقِ الأموالِ والبضائع. لكنّ إرجاعَ انضواءِ أوروبا تحت قيادةِ المالِ وسيادتِه في بداياتِ القرنِ السادسِ عشر إلى دهاءِ تلك المجموعة، سَيَكُونُ إجحافاً بِحَقِّ الحقائق. فجميعُ الحقائقِ التي ذكرناها تشيرُ إلى الدورِ الهامشيِّ والسطحيِّ جداً لهذه المجموعةِ في سياقِ التطورِ الحضاري. بالتالي، فتوليدُ المالِ والسوقِ للقطاعِ الاقتصاديِّ الرأسمالي ليس ضرورةً اضطرارية. حيث كانت المدنياتُ الآسيويةُ تتميزُ بقوةٍ من المالِ والسوقِ تُضارِع ما لأوروبا بأضعافٍ مضاعفة. بالتالي، لو كانت تلك العلاقةُ مباشرةً بينهما، لَكان وُلِدَ ذاك القطاعُ ونَشَأَ هناك أولاً. كما يُجمَعُ عموماً على استحالةِ الربطِ بين ولادةِ الرأسماليةِ وبين العلمِ والفن والدينِ والفلسفة، بل – وعلى النقيض – لَطالما نَظَرَت هذه الضوابطُ بِعَينِ الشكِّ والعداء إلى هذه الولادة انطلاقاً من المبادئِ المعنوية.
إنه موضوعٌ سَعَيتُ للتذكيرِ به في كلِّ الأوقات: لماذا سَقَطَت قوةٌ مثلُ المرأةِ في وضعٍ بائسٍ يائسٍ لهذه الدرجة، ولماذا حُكِمَ عليها بالذلِّ والخنوعِ في قبضةِ الرجلِ الذي لا يتميزُ كثيراً بالإنتاجِ والإبداع؟ والجوابُ – بالطبع – هو دورُ العنف. ومع انتزاعِ الاقتصادِ من يدها، يُصبحُ الأسرُ المروِّعُ أمراً لا مَهربَ منه. فقد أُخرِجَت المرأةُ من كونِها ذاتَها لدرجةِ رضاها بسلوكِ أَحَطِّ وأدنى مستوياتِ الفنِّ الزوجي على مدى أربعين سنة، حتى تجاه صبيٍّ آمِرٍ عنها. في حين أنّ مَلَكيةَ الرجلِ القويِّ أفظعُ وأنكى.
إني على قناعةٍ بالفائدةِ الكبرى في مقايسةِ ذاك المثالِ مع قوةِ النفوذِ التي يكتسبُها المالُ – باعتباره رأسَمال – على المجتمع. في الحقيقة، إنَّ تَحَلِّيَ المالِ بقدرةِ القيادةِ والسيادةِ اعترافٌ صريحٌ بخروجِه من كونِهِ حَدَثاً اقتصادياً. والمؤرخُ المتمرسُ فرناند بروديل يشيرُ إلى حقيقةٍ قَيِّمَةٍ لدى قولِه بِكَونِ الرأسماليةِ مضادةً للسوق، وبالتالي مضادةً للاقتصاد، بل وحتى أنها خارجَ نطاقِ الاقتصاد. ولِكَونِهِ ابتَدَأَ بالاقتصادِ مِن ظاهرةِ التبادلِ والسوق، فإنّ حُكمَه هذا يَحظى بِقِيمةٍ عظمى. لقد كان رأياً طالما رغبتُ في التعبيرِ عنه: لا علاقةَ للاقتصادِ مع الرأسماليةِ التي تُقحِمُ كلَّ شيءٍ ضمن إطارِه، بل وهي العدوُّ اللدودُ للاقتصاد. أؤكد بإصرار: الرأسماليةُ ليست اقتصاداً، بل هي العدوُّ اللدودُ للاقتصاد. سوف أتناولُ ذلك بإسهابٍ في الفصولِ القادمة. هل التمويلُ اقتصاد؟ هل التمويلُ العالمي اقتصاد؟ هل الكوارثُ والفواجعُ البيئيةُ اقتصاد؟ هل البطالةُ قضيةٌ اقتصادية؟ هل البنوكُ، السنداتُ، سعرُ المبادلة والصرف، والربا اقتصاد؟ هل استفحالُ إنتاجِ السلعِ كالسرطانِ في سبيلِ الربحِ اقتصاد؟ وتَطُولُ لائحةُ الأسئلة. الجوابُ الوحيدُ الذي يُمكِنُ بِهِ الردُّ على جميعِها هو مفردةٌ عملاقةٌ مِن كلا. المعادلةُ هي كالتالي: المالُ ورأسُ المالِ ذريعة = السلطةُ روعة! فمِن خلالِ الحِيَلِ والدسائسِ التي لا تنضب للمالِ ورأسِ المال، لَم يَتَأَسَّسْ شكلٌ اقتصاديٌّ جديد، ولا شكلُ المجتمعِ الرأسمالي، ولا حتى شكلُ المدنيةِ المسماةِ بالمدنيةِ الرأسمالية. ثمة في الميدانِ ألعوبةُ الاستيلاءِ على المجتمعِ بما لَم يَشهَد التاريخُ له نظيراً في أيةِ مرحلةٍ من مراحله. إنه ليس استيلاءً على القوةِ الاقتصاديةِ فحسب، بل استيلاءٌ على قوةِ جميعِ الميادينِ السياسيةِ، العسكرية، الدينيةِ، الأخلاقية، العلميةِ، الفلسفية، الفنيةِ، التاريخيةِ، وعلى شتى الثقافاتِ الماديةِ والمعنوية. الرأسماليةُ أكثر أشكالِ السلطةِ والهيمنة تطوراً.
لِنُلْقِ نظرةً خاطفةً على القرونِ الأربعةِ الأخيرةِ من تاريخِ البشرية، والمسماةِ بعصرِ الرأسمالية. فهل ثمة خليةٌ واحدةٌ أو نسيجٌ واحدٌ في المجتمعِ ولَم يُقحَمْ تحت نِيرِ الهيمنة، أو لَم تَتَأَسَّسْ عليه السلطةُ حتى أَدَقِّ أوردتِه الشعرية؟
يتحدث عالِمُ الاجتماعِ الإنكليزيُّ الماكرُ أنطوني غيدنز عن ثلاثِ متقطعات (فتراتٍ غيرِ مستمرة) في الحداثة: شكلُ الإنتاجِ الرأسمالي، الدولةُ القومية، والصناعة. يَلُوحُ ظاهرياً أنه واقعيٌّ لدى تعريفِ الحداثةِ مِن خلالِ هذه المقوماتِ الثلاث. لكني أَعتَقِدُ أنه مدركٌ لتنظيرِه من حيث الجوهرِ لمرحلةٍ جديدةٍ مِن صراعِ إنقاذِ الرأسماليةِ في موطنِ نشأتِها عبرَ هذه البراديغما. حيث يُرادُ تلقينُ العقول مرةً أخرى بالنظريةِ القائلةِ بسرمديةِ الرأسماليةِ عبر تغييرِها المستمرِّ، وبمزاعمِ النمطِ اليمينيِّ لِلِّيبراليةِ بِكَونِها نهايةَ التاريخ، ومزاعمِ النمطِ اليساريِّ لِلِّيبراليةِ بأبديتِها؛ تماشياً مع الحملةِ الرأسماليةِ العالميةِ الأخيرة.
سوف أُواصِلُ تفسيري بصددِ الرأسماليةِ بعدَ الآن على أساسِ تحليلِ العصرنة، وبالأخصِّ على صعيدِ الدولةِ القوميةِ والصناعوية. إلا أني سأَعمَلُ على متابعةِ أَثَرِها بالذات في مقراتِ السلطة، ليس "في بيتِ الرأسمالية" على غرارِ ما فَعَلَه فرناند بروديل – والذي استَلهَمتُ منه الأفكارَ، ولكني رأيتُه ناقصاً – بل بالذات في ميادينِ لعبةِ السلطةِ الخفية، أي في القصورِ الكائنةِ تحتَ الأرض، تماماً مثلما هي حالُ أنكي الإلهِ الماكرِ لدى السومريين وحالُ هادس لدى الهيلينيين. بالتالي، سيَكُونُ مِن الأفضلِ عَنوَنَةَ سردِنا ذاك تحتَ اسمِ "في قصورِ المَلِكِ العاري والإلهِ غيرِ المُقَنَّع". وسأثابرُ على عَرضِ كلِّ أنماطِ الشرحِ بعدَ تجميعِها في تركيبةٍ واحدةٍ للإشارة إلى رغبةِ الرأسماليةِ منذ البداية بأن تصبح نظامَ السلطةِ العالميِّ، ومساعيها للنجاحِ في تحقيقِ أملِها ذاك عن طريقِ دعامَتَي الدولةِ القوميةِ والصناعوية. ذلك أنّ أولَ شغلٍ شاغلٍ لهذا اللوياثانِ الجديدِ هو الانهماكُ في تجزئةِ أنماطِ الشرحِ الكبرى. لكنّ الشرحَ المفتقرَ إلى التوحيدِ والتماسكِ إنما هو شرحٌ ناقصٌ للغاية، بينما التوحيدُ يُفسِحُ المجالَ أمامَ النقد لِيَصُبَّ في خدمةِ الهدف. قد يُستَغرَب من أسلوبي هذا أو يُدحَض، إلا أني واثقٌ من كَونِه سوف يُفضي إلى التفسيرِ القديرِ للعلاقةِ الاجتماعيةِ، وبالتالي إلى الوعيِ بها. سأَجهَدُ لإكمالِ الجزءِ الأخيرِ مِن تقييماتي هذه تحتَ بندِ: "الرأسمالية، العدوُّ اللدودُ للاقتصاد". في حين سوف يَتُمُّ تخصيصُ عَمَلي اللاحقِ له لتحليلِ المجتمعِ الديمقراطيِّ الحرِّ الذي تسوده المساواة، وذلك تحت عنوان "سوسيولوجيا الحرية".