زمكانُ الرأسمالية (9)


عبد الله أوجلان
2010 / 1 / 12 - 22:29     

قضيةُ مكانِ المجتمعِ موضوعٌ خليقٌ بالتمحيصِ والتنقيب، يَسعى لإدراكِ الجغرافيا والأراضي التي ارتَبَطَ بها المجتمعُ البشريُّ في تَقَدُّمِه وتَطَوُّرِه. إنه موضوعٌ واسع، يُمكِنُ الابتداء فيه من تَكوينِ النظامِ الشمسي. بل وأَبعَد من ذلك، يُمكِنُ إدراج قائمةٍ طويلةٍ جداً من التساؤلاتِ والردودِ في قضيةِ الجغرافيا، من قَبِيلِ: أطوارِ نشوءِ كوكبِنا الأرضيِّ الذي يُشَكِّلُ الحلقةَ الثالثةَ الدائرةَ حول الشمس، نشوء طبقاتِ الغلافِ الجوي، نشوءِ البحورِ والمحيطاتِ والأمطارِ والأنهارِ الجارية، ظهورِ الطبقاتِ الصخرية للوسط، طبقاتِ التربة، الوسطِ الحيويِّ في المحيطاتِ وأُولى الخلايا الحية، عالَمِ النباتِ المبتدئِ بالطحالب، وعالَمِ الحيوانِ المبتدئِ بأولِ البكتيريات، العلاقةِ بين الحيوانِ والنبات، وبشكلٍ عامٍّ التطورِ الطبيعيِّ لعالَمي النباتِ والحيوان، وفي أيِّ طَورٍ من أطوارِ سلسلةِ التطورِ التدريجيِّ تَكَوَّنَ النوعُ الإنسانيُّ المبتدئُ من الثديياتِ البدائيةِ التي تُعتَبَر أولَ أسلافِ الإنسان.
واضحٌ جلياً وجودُ ترابطٍ متصلٍِ ووطيدٍ في العلاقةِ بين الإنسانِ والجغرافيا بالخطوطِ العريضة وعلى شكلِ حلقاتٍ حلزونية. وعلى سبيلِ المثال، لو انقَطَعَت وجَفَّت مواردُ الغلافِ الجويِّ والنباتِ والحيوانِ والتربةِ والمياهِ العذبةِ يوماً واحداً، فلن يبقى شيءٌ اسمُه النوعُ البشري. وكأنها إنجازُ ذكاءٍ خارق، بحيث أنّ أيَّ فسادٍ آنيٍّ يُصِيبُ هذه الأوساطَ كافٍ للقضاءِ على حياةِ الإنسان. بالتالي، وبشكلٍ عام، من الضروريِّ وضعُ علاقةِ الإنسانِ بالجغرافيا نُصبَ العينِ على الدوام. ومن دونها لا يُمكِنُ البحثُ أو التدقيقُ في عِلمِ الاجتماع. بَيْدَ أنه صِيغَت ودُوِّنَت العديدُ من العلومِ والفلسفاتِ والأديانِ حتى المراحلِ الأخيرةِ على نحوٍ وكأنه لا داعيَ للبحثِ والتعاطي مع هذه العلاقة. إنه أمرٌ غريبٌ حقاً، فالميثولوجياتُ، التي اعتَبَرناها أكثرَ بُعداً عن الحقيقة، قد انشَغَلَت بدقةٍ بالغةٍ بتلك المواضيعِ التي أَسمَيناها بعلاقةِ الإنسانِ والجغرافيا. يَبدو أنّ هذا محصلةٌ لانقطاعِ الذكاءِ التحليلي عن الذكاءِ العاطفي.
تَبرُزُ تأثيراتُ المكان، أي الظروفُ الجغرافيةُ، على نحوٍ أسطع في مرحلةِ "الفترةِ الطويلة" لأولِ مستوى كلانيٍّ في الجماعاتِ البشرية. وسَيَكُونُ مِن الأصحِّ ربطُ عجزِ المجتمعِ الكلاني عن تحقيقِ انطلاقةٍ جديةٍ حتى نهايةِ العصرِ الجليدي الرابعِ بسوءِ الأجواءِ والأوساطِ الجغرافية، أكثرَ من عَزوِهِ إلى نقصانِ التطورِ التدريجيِّ الداخلي. فالفترةُ الزمنيةُ التي عاشها، والمُقَدَّرَةُ بملايين السنين، كافيةٌ لأجلِ التطوراتِ التدريجيةِ والارتقاءات الداخلية. إذن، فالأجواءُ الخارجيةُ لَم تَكُ تَسمَحُ بالتطور. ويُجمِعُ الأخصائيون في الجغرافيا على تَكَوُّنِ أجواءٍ جغرافيةٍ متشابهةٍ بخطوطِها العامة، منذ نهايةِ الحقبةِ الجليديةِ الرابعة إلى راهنِنا (من أعوامِ 20 ألف ق.م إلى يومنا). فقد شَرَعَ النوعُ البشريُّ بالدخولِ في المرحلةِ الجديدة بسيادةِ نوعِ الهوموسابيانس (الإنسان المفكر) في نهايةِ العصرِ الجليديِّ الرابع، بَعدَ أنْ مَرَّ بالعديدِ من الأطوارِ حتى تلك المرحلةِ في الأراضي التي سُمِّيَت بَعدَ مدةٍ طويلةٍ باسمِ آسيا وأوروبا وأفريقيا (فيما عدا القسمِ الأكبرِ من أمريكا وجزرِ المحيطاتِ على أرجحِ الظن).
ونلاحظ بروزَ ثلاثِ مجموعاتٍ ثقافيةٍ بَعدَ أعوامِ 20 ألف ق.م، وفق المقايساتِ والمقارناتِ الأنثروبولوجيةِ والأركولوجية. أَوَّلُ مجموعةٍ هي الساميّون القريبون من العِرقِ الأَسوَدِ، والذين يُعَدُّون آخرَ حلقةٍ من حلقاتِ الانقطاعِ المتواصلِ عن القارةِ الأفريقيةِ بالأغلب. وقد خَطُّوا مسارَ انتشارِهم في أفريقيا الشماليةِ والجزيرةِ العربية، وأحياناً وَصَلوا تُخومَ سلسلةِ جبالِ طوروس – زاغروس في موجاتٍ كثيفةٍ حتى بدءِ المرحلةِ الحضارية، ومن ثَمَّ جَرَت الهجرةُ كلما وَجَدوا في أنفسهم القوةَ على الانتشار. أما المجموعةُ الثانيةُ، فقد انقَطَعَت عن تُخومِ سيبيريا لِتَنتَشِرَ عن طريقِ مضيقِ برينغ نحوَ القارةِ الأمريكية. في حين انتَشَرَ فرعٌ أساسيٌّ منها نحوَ الشواطئِ الغربيةِ للمحيطِ الهادي وجُزُرِه، وكذلك عن طريقِ البرِّ نحوَ آسيا الوسطى، وأحياناً وَصَلوا أوروبا الشرقيةَ (الفينيون – الأويغوريون). ويمكننا تسميتَهم بالعِرقِ الأصفر والهنودِ الحمر. وأكبرُ مجموعةٍ تَتَكَوَّنُ مما يُعرَفُ اليوم باسمِ الصينيين واليابانيين والأتراك. ويَبقى في الوسطِ النوعُ من العِرقِ الأبيض، والذي نُسَمِّيه بالمجموعةِ الهندوأوروبيةِ في المناطقِ الأوسعِ والأفضل. وهي المجموعةُ الأساسيةُ المبتدئةُ بالحضارةِ وبعصرِ الزراعةِ النيوليتية كحقبةٍ تمهيديةٍ سابقةٍ لها. ورغمَ انتقالِ أصحابِ العِرقِ الأصفرِ والعِرقِ الأسوَدِ السائدَين في الشمالِ والجنوب إلى العصرِ النيوليتي والحضاريِّ متأخراً، إلا أني أرى أنه مِن العسيرِ تحقيقُ هذا الانتقال لولا أصحابِ العِرقِ الأبيضِ القاطنين في المنطقةِ الوسطى.
يَشتَرِكُ جميعُ الأنثروبولوجيين والأركولوجيين والجيولوجيين والبيولوجيين البارزين في الرأيِ القائلِ بأنّ حوافَّ سلسلةِ جبالِ زاغروس – طوروس هي المكانُ المبتدئُ بالعصرِ النيوليتي وبالمدنيةِ كمرحلةٍ لاحقةٍ له، حيث قَدَّمَت الظروفَ المثلى لانتقالِ المجموعةِ الهندوأوروبية إليهما. والأمرُ المُحَدِّدُ هنا هو الحيواناتُ الوفيرةُ والغطاءُ النباتيُّ الغني، ووضعُ الأمطارِ الغزيرةِ والمياهِ الجارية، والمناخُ والجيولوجيا؛ والتي ساعَدَت لِتَكُونَ هذه الأراضي الواقعةُ فيما بين أفريقيا وآسيا وأوروبا ذاتَ منزلةٍ مُثلى تُرَشِّحُها لِتَكُونَ مكاناً أولياً للتمركزِ والانتقالِ الأساسيَّين. والمجموعةُ المُسَمَّاةُ بالمجموعةِ الآرية، هي أَوَّلُ من ابتَدَأَ بالعصرِ النيوليتي – الزراعي ومِن ثَمَّ بتشييدِ صرحِ المدينةِ – الدولة – المدنيةِ في هذا المكانِ ضمنَ سياقِ التاريخ، لِتُؤَدِّيَ دوراً رئيساً في نَشرِهما إلى جميعِ أرجاءِ المعمورةِ فيما بعد؛ باعتبارِها النواةَ الرائدةَ ضمن المجموعةِ الهندوأوروبية (يَرجُحُ الظنُّ بأنّ السومريين أولُ ثقافةٍ استَخدَمَت كلمةَ الآريين – إيران اليوم – التي تُذَكِّرُنا بثقافةِ النباتاتِ السائدةِ في سفوحِ الجبالِ والتلال والسهول). لن أُكَرِّرَ هذا الموضوعَ، كَوني خَصَّصتُ الكتابَ الأولَ من مرافعتي له.
أما موضوعُنا الأساسي، فيَتَجَسَّدُ في البحثِ في دورِ هذه الجغرافيا في كيفيةِ انتصارِ الاقتصادِ الرأسمالي في هولندا وجزيرةِ إنكلترا الحاليتَين اللتَين لا يَمُرُّ ذِكرُهما كثيراً في مِحَكِّ التاريخ.
يَسعى عُلماءُ الاجتماعِ الحاليون لِتفسيرِ دورِ الجغرافيا بغَضِّ النظرِ عن جوهرِها الأساسي، والجنوحِ لتضييقِ نطاقِها تحت اسمِ "عِلمِ السياسةِ الطبيعية" (الجيوبوليتيكا) و"عِلمِ الاستراتيجيةِ الطبيعية" (الجيوستراتيجيا). بَيْدَ أنّ العلاقةَ بين المجتمعيةِ التاريخيةِ والجغرافيا تقتضي تناولَها بأولويةٍ أساسيةٍ أكثر. أعتقدُ أنّ الانشغالَ بالجذور، لا بالفروعِ والأغصان، أَثمَنُ معنى. وبشكلٍ عام، فالبحثُ الجغرافيُّ للعصورِ والحضاراتِ شرطٌ أوليٌّ لأجلِ تحصيلِ المعلوماتِ الأنثروبولوجيةِ والتاريخية. إذ لا تاريخَ من دون مكان. وبالأصل، فثنائيةُ الزمانِ – المكان الكونيةُ في مَحَطِّ الأنظارِ دائماً من حيث أبعادِها الأساسية. ولَطالما تَدُورُ الجدالاتُ والتقييماتُ في العلومِ بشأنِ تأثيراتِهما المتبادَلةِ على بعضهما، وحتى تَحَوُّلِهِما إلى بعضِهما، وقدراتِهما في الاتحادِ والالتحام.
لِنَعُدْ مرةً أخرى إلى قِصَّتِنا "الرجل القوي الماكر". وبهذه المناسبةِ أَوَدُّ لفتَ الانتباهِ إلى إيماني بضرورةِ إقامةِ العلاقةِ بين القصةِ وعِلمِ المعرفة. ذلك أني غيرُ مقتنعٍِ باكتسابِ العلمِ للمعاني الكاملةِ من دون قصة. من هنا، فقصةُ "الرجلِ الماكر القوي" من إحدى المصطلحاتِ الواجبِ جعلِها حجرَ زاويةٍ في العلومِ الاجتماعية. وهذا ضروريٌّ لِكي نَتَمَكَّنَ من التفسيرِ الأسلمِ والأفضلِ للعديدِ مِن العلاقاتِ الاجتماعية. وبطبيعةِ الحال، فالميادينُ المكتظةُ بعددٍ لا يُحصى من الحوادثِ والعلاقاتِ تُقَدِّمُ أَثمَنَ وسائلِ المساهمةِ للعلم لو تحولت إلى قصص. ويَبدو فيما يَبدو أنّ السبيلَ الأصحَّ يَكمُنُ في تطويرِ العِلمِ باللجوءِ إلى الأديانِ والأخلاقِ وغيرِها من ضروبِ الفنِّ المشابهةِ للقصة، نظراً لعجزِ النزعةِ الدينيةِ المسماةِ بالوضعيةِ عن تحديدِ هذا الكمِّ الهائلِ من الحوادثِ والعلاقاتِ التي يَعُزُّ تعدادُها وتثبيتُها باسمِ الظواهرية. يَبدأُ ظهورُ الرجلِ الماكرِ والقوي مِن مرحلةِ الانتقالِ إلى الرجلِ الحاكمِ المهيمن، لِيَصِلَ إلى المُتَمَوقِعِين في بُؤَرِ القوةِ الممتازةِ الراهنة، مارَّاً بطريقٍ طويلة، ومتاهاتٍ متشعبة، ومكائدَ جمة. من المهمِّ البحثُ في أماكنِ ذاك الرجل، أو أولئك الرجال، والتي تَكُونُ علنيةً أحياناً، ومخفيةً أحياناً أُخَر. أما تَصَوُّرُهم دائماً كقوةٍ استراتيجيةٍ تَقُومُ بالحملاتِ الاجتماعيةِ (والاقتصاديةِ، والسياسيةِ، والعسكرية) والتكتيكاتِ المتواصلة، فسوف يُقَرِّبُنا من الحظيِ بمعلوماتِهم أكثر.
دَخَلَ "الرجلُ القويُّ الماكرُ" بيتَ المرأةِ واقتصادَها خِلسةً كاللص. لَم يَكتَفِ بالنهبِ والسلب، بل والأنكى من ذلك أنه حَوَّلَ خَلِيَّةَ العائلةِ المقدسةِ إلى مرتعِ الأربعين حرامي، بإبقائه على المرأةِ تَئِنُّ تحت نِيرِ اغتصابِه الدائمِ لها. ولم يَتَخَلَّ قَط عن حالتِه النفسيةِ المطابقةِ لحالةِ خائنٍ يَعِي ماذا يفعل. وهكذا غُرِسَت أُولى بذورِ تَراكُمِ رأسِ المالِ في هذَين المكانَين: أولُهما؛ احتلالُه بالذات لِجِوارِ اقتصادِ المنزل. ثانيهما؛ التموقعُ داخلَ أو في جوارِ مواقعِ تمركزِ الأربعين حرامي على شكلِ احتكارٍ خاصٍّ تجاهَ الاحتكارِ الرسمي الشرعي للدولة. وطافَ مبكراً بين الأماكنِ بوجهٍ مُقَنَّعٍ ومحتال، لأنه احتاطَ من عُيُونِ المجتمعِ والدولة. ونَصَبَ الكمائنَ خفيةً، فانقَضَّ على فريستِه كالأسدِ عندما سَنَحَت الفرصة. وأحياناً أخرى اصصادَ فريستَه بِمَكرِ الثعلب، ولم يَتَخَلَّف عن تمويهِ نفسِه حسبَ الوسطِ مثلما الحرباء. وغدا خبيراً في التجارةِ في المواقعِ الهامشية، يَرصُدُ بعينٍ ساهرةٍ المدنَ والمناطقَ الريفيةَ التي عَجِزَت الحضاراتُ عن الوصولِ إليها. إنه ماهرٌ محترفٌ بالاستقرارِ في الثغراتِ الموجودةِ داخلَ أخاديدِ المجتمع، ويَعرِفُ كيف يُعَرِّي ويسلب الطرفَين بِتَأدِيَتِه دورَ التوازن. إنه مدركٌ يقيناً للمكاسبِ الضئيلةِ التي يَجنيها من التجارةِ في الطرقِ القصيرة، وللمكاسبِ الطائلةِ التي تَدُرُّها عليه تجارةُ الطرقِ الطويلة. ومن أهمِّ قواعدِ مهنتِه هذه مَعرِفَةُ المناطقِ المُربِحة، والتوجهُ إليها وكأنه يَشُمُّ رائحتَها بأنفِه. ومن المفيد تقييمُ عملياتِه تلك كالقرصنةِ الاستراتيجيةِ على تلك الطرقات، حيث يُشارُ إلى هذا الواقعِ عبر القولِ المأثور: لا موطنَ لِرأسِ المال.
قد يُقال: ما دامت المدينةُ – السوقُ – التجارة تُشَكِّلُ الشروطَ التمهيديةَ للرأسمالي، فلِمَ لَم يُعلِنْ انتصارَه في هذه الأماكنِ مبكراً؟ وفي هذه النقطةِ أُشَدِّدُ بعنايةٍ بالغةٍ على أنه ما مِن علاقةٍ مباشرةٍ بين الرأسماليةِ كنظامٍ وبين العلمِ والتكنولوجيا. فقد كان بإمكانها أنْ تَلِدَ في مدينةِ أوروك، تماماً مثلما حَقَّقَت ولادةً ناجحةً ارتباطاً بمدينةِ أمستردام. فقد يَكُونُ ناجعاً لها – بالأغلب – البقاءُ على مستوى تاجرٍ متواطئٍ أو رئيسِ العاملين في المتجرِ أو كَمَلاّكٍ في مزرعة؛ بَدَلاً من المُراهَنَةِ على النظامِ بِرِمتِه. ولكن، قد يَعُودُ السببُ الرئيسيُّ إلى عدمِ إتاحةِ الراهبِ والاحتكارِ السياسي والعسكري الفرصةَ لِبَسطِ نفوذِه. فقد تَكُونُ بُؤَرُ القوى الثلاثِ المجرَّبةِ والشرعيةِ تلك، قد نَظَرَت إلى تَشَكُّلِ بؤرةٍ رابعةٍ بِعَينِ الريبةِ والخطرِ المُهَدِّدِ لِوُجودِها، نَظَراً لطبيعةِ بُناها.
نُلاحِظُ أنّ "الرجلَ القويَّ الماكرَ" قد راهن في بعضِ الأحايين على النظامِ كاحتكارٍ رابع، ولكنه هُزِمَ في كلِّ مرة. وأَعتَقِدُ أنه ثمةَ علاقةُ بين تَحَوُّلِ العديدِ من المدائنِ إلى أنقاضٍ في الأماكنِ غير المتوَقَّعة، وبين مِثلِ ذلك التطور. وقد يَكُونُ تَصييرُ العديدِ من مدنِ التجارِ الوافرةِ الغنى خراباً وأطلالاً بحيث تُمحى من صفحاتِ التاريخ على حينِ غَرَّة في العصورِ الأولى والوسطى على السواء، على علاقةٍ بالمقاوَمةِ السياسيةِ والعسكريةِ للاحتكارِ الرابعِ (الرأسمالية البدائية). كذلك مدينةُ هرابا (وهي مدينةٌ متطورةٌ للغاية، بل وتَستَعمِلُ الكتابةَ، وفَنُّها المعماريُّ راقٍ وقويمٌ، ومشهورةٌ بالغنى والرفاه، قامَت في أعوامِ 2500 ق.م) الواقعةُ في أراضي الهندِ – باكستان، ربما يُعزى اندثارُها المبكرُ جداً إلى مُنافَسَتِها وتَمَرُّدِها على احتكارِ ثالوثِ الراهبِ – السياسيِّ – العسكري في الأراضي المجاورة. يَغلُبُ الظنُّ أنها تَلَهَّفَت للاستقلالِ وتَمَرَّدَت في سبيلِه، بعدَ أنْ كانت مستوطنةً تجاريةً لمدنيةٍ ذاتِ أصولٍ سومرية. ولو أنها انتَصَرَت في تَمَرُّدِها ذاك، ربما كانت ستُجَرِّبُ تأسيسَ نظامٍ (أول تجربة رأسمالية) يُخَوِّلُها كي تَكُونَ أمستردام الأولى، ربما أنها كانت تَفتَقِرُ للشروطِ المكافئةِ لِظروفِ منافسيها.
وقصةُ قرطاجة مثالٌ أكثرُ لفتاً للأنظار. فقد غَلَبَ الطابعُ التجاريُّ تماماً على هذه المدينةِ التي أنشأها الفينيقيون في القرنِ الثامنِ قبل الميلادِ في أقاصي البحرِ الأبيضِ المتوسط. وكأنها كانت في وضعيةِ تَمثيلِ غربي البحرِ الأبيضِ المتوسط وأفريقيا الشمالية، وتُستَخدَمُ كمنطقةٍ خلفيةٍ تُزَوِّدُ غيرَها بِالمُؤَن. واضحٌ أنها تَطَوَّرَت كثيراً، ولكنّ نقطةَ ضعفِها كانت عدمَ تشييدِها الإمبراطوريةَ، انطلاقاً من الظروفِ المحيطةِ بها. بل وكانت تُعَرقِلُ مساعيَ الجاهدين لِتَشكيلِها. ويَلُوحُ أنّ هذا ما كان متخفياً وراءَ تناقضاتِها مع روما. فقد تَحَلَّت روما بالمقدرةِ على تَخَطّي دولةِ المدينة، وتأسيسِ جمهوريةٍ أو تشييدِ إمبراطوريةٍ تَشمَلُ أراضيَ فسيحةً لكونها في شِبهِ الجزيرةِ الإيطالية. في حين أنّ الخَيارَ الوحيدَ الماثلَ أمامَ خَلاصِ قرطاجة كان أنْ تَحذُوَ حذوَ أمستردام تجاه إسبانيا والإمبراطوريةِ الفرنسية. أي، توحيدَ طبائعِ الاحتكارِ التجاريِّ المتطورِ للمدينة مع شبكةِ دولةٍ ذات طابع رأسماليٍّ ضمن أراضي متسعةٍ باضطراد، وتعزيزَها (كأفريقيا الشمالية قاطبةً، أو تأسيسَ احتكارِ دولةٍ في إسبانيا كما فَعَلت السلالةُ الأموية). لم تَكُن هناك فرصةٌ للخلاصِ من الجمهوريةِ الرومانيةِ بِغَيرِ ذلك، مثلما لَم يَكُن أمامَ روما خَيارٌ آخر سوى دحرِ قرطاجة، لأنها كانت منبعَ خطرٍ مُجاورٍ قد يَتَحَوَّلُ إلى بديلٍ يَقضي عليها. لَكَم يُشبِهُ هذا نمطَ العلاقةِ بين كوبا والولايات المتحدة الأمريكية! ثمةَ مقولةٌ شهيرةٌ دارجةٌ، وهي أنّ النُّوَّابَ الرومان في مجلسِ الشيوخ يَنتَفِضون في افتتاحيةِ كلِّ اجتماعٍ، لِيشرعوا بالقول "وماذا سيحصلُ بأمرِ قرطاجة؟".
قربانٌ آخرُ مُشابهٌ لقرابينِ روما كان ما حَلَّ بمدينةِ تدمر الشهيرةِ الواقعةِ في شرقي سوريا، وذلك في بداياتِ أزماتِ الانهيارِ التي شَهِدَتها الإمبراطوريةُ في النصفِ الثاني من القرنِ الثالثِ الميلادي. عندما كنتُ في سوريا، كثيراً ما كنتُ أزورُ أطلالَها المتبقيةَ مسحوراً بجاذبيتِها وعَظَمَتِها. إنها مدينةٌ رائعةٌ خلابةٌ بِقَلعَتِها القابعةِ على تُخُومِ غاباتِ النخيلِ التي تَحُفُّ نبعاً يَنبَثِقُ من الأرضِ وَسَطَ الصحراءِ الجرداء، بِأسوارِها، ساحتِها العامةِ الفسيحة، معبدِها (معبد دلف Delf الشهير)، وبِمَبنى مجلسِ الشيوخ، مقابرِ الوادي، أسواقِها الطويلة، وقصورِها الجمة. إنها جديرةٌ بكلِّ معنى الكلمة بِنَعتِها بمعجزةِ الصخورِ المنحوتة والمنقوشة. وهي مدينةٌ تَترُكُ المرءَ يَتَخَبَّطُ فيها بين الخشوعِ والدهشة.
وتتأتى أهميتُها من موقعِها في مركزِ الشبكةِ التجاريةِ الواصلةِ بين الغربِ والشرقِ من جهة، وبين الشمالِ والجنوب من جهة ثانية؛ ومِن دَورِها كدولةِ مدينةٍ محايدةٍ تَتَوَسَّطُ روما والإمبراطوريةَ الإيرانيةَ – الساسانية. ويزدادُ اتساعُها اتساعاً وغناها غنىً من مواردِ الاحتكاراتِ التجاريةِ المعمِّرةِ قروناً طويلة. وحسب رأيي، فإنّ تَشبيهَها بأمستردامِ تلك المرحلة، أو بنيويورك الحاليةِ قد يُقَلِّلُ مِن شأنِها مِن الناحيةِ الكونية! تَستاءُ الإمبراطوريةُ الرومانيةُ مِن هذا المثال، تماماً مثلما قرطاجة. حيث يُظهِر لنا التاريخُ أنها في آخرِ مراحلِ تَمَدُّنِها (أعوام 270 م) لم تَكتَفِ بأنْ تَكُونَ قوةً معتمدةً على السلالة، فتَبْقَى في منزلةٍ شبيهةٍ بالمَلَكية التابعة لروما؛ بل كانت تَطمَعُ لأنْ تَكُونَ بديلاً لِروما بالذات.
فهل ستَنجَحُ تدمر فيما عَجِزَت عنه قرطاجة؟ هذه هي المشكلة. وواضحٌ جلياً أنها تُشَكِّلُ وضعاً خطيراً كامناً. يُقال أنّ أوريليوس إمبراطورَ روما رَغبَ في تَركِ شؤونِ إدارةِ المدينة كما هي عليه للمَلِكةِ زنوبيا القديرةِ في عهدِها، بَعدَما أَحكَمَ قبضتَه على المدينةِ عُقبَ نزاعاتٍ طويلة. وهكذا يَترُكُ المدينةَ لها، بَعدَما جَعَلَها مقاطعةً تابعةً له. لكن، وعندما عادَ أدراجَه، وطَرَقَ إلى مَسمَعِه وهو في منتصفِ الطريق أنّ المدينةَ انتَفَضَت ثانيةً ساعيةً لانتزاعِ استقلالِها، انقضَّ على المدينةِ مهتاجاً ثائراً، ضارباً فيها بحيث لا تَصحو مرةً أخرى، وعادَ إلى روما مُخَلِّفاً وراءَه خراباً، لا غير. عادَ ومعه زنوبيا التي قَبَضَ عليها على ضفافِ نهرِ الفرات، عندما كانت تُحاوِلُ الهربَ إلى الساسانيين. ولَطالما يَذكُرُ التاريخُ كيف أُشهِرَ بزنوبيا بكلِّ ثرائها بين شعبِ روما كأسيرةٍ ذليلةٍ.
لَطالما تَأثرتُ بالطابعِ الأنثويِّ للغةِ روما. وكأني اكتَشَفتُ سِرَّ ذلك، بَعدَما فَهِمتُ قصةَ زنوبيا. فَرُوما لا تَعني فقط المدينةَ التي تؤدي كلُّ الطرق إليها، بل وهي مدينةٌ رَحَل إليها كلُّ الملوكِ والمَلِكاتِ الأقوياءِ والقديرين الحَذِقين أيضاً. وبالطبع، يَظهَرُ أنَّ ما حَلَّ بي (خروجي إلى روما التراجيكوميدي) على علاقةٍ وثيقةٍ بتاريخِ روما هذا. واضحٌ تماماً أني كنتُ سأتوخى الحذرَ والحيطةَ أكثر، لو أني استوعبتُ سبارتاكوس وسانت باول وبرونو على نحوٍ أفضل. فضلاً عن أنه كان عليَّ مطالعة غرامشي أيضاً وبكلِّ دقة. آهٍ أيها الاشتراكيون!
السبيلُ الوحيدُ أمامَ خلاصِ تدمر أيضاً كان سبيلَ أمستردام أو لندن. لقد قَاوَمَت، لكنها أَخفَقَت.
قد يَكُونُ مِن المفيدِ أيضاً طرح مثالِ أثينا في العصورِ القديمة. فهذه المدينةُ التي هي ثمرةُ المِلاحةِ البحريةِ (500 – 350 ق.م)، كانت كالنجمةِ الساطعةِ في سماءِ الحضارةِ في عهدِها. وبالإمكانِ التشخيصُ بِكَونِها مدينة تَطَوَّرَت فيها الرأسماليةُ البدائيةُ بالأكثر. فالاحتكاراتُ التجاريةُ الضخمةُ والخاصةُ (ليست احتكارات دولة) كانت تحل الأمور من على بُعدِ مئاتِ الأميالِ والكيلومترات. وكانت الثرواتُ تتدفقُ على أثينا. حيث كانت كلُّ شبكاتِ التجارةِ تَدُرُّ الأموالَ وفائضَ الإنتاجِ على أثينا، بدءاً من شرقي البحرِ الأبيضِ المتوسط إلى مارسيليا، ومن أفريقيا الشماليةِ إلى مقدونيا، بل وكافةِ مناطقِ البحرِ الأسود وبلادِ الأناضول. لقد خَلَقَت الفلسفةَ، وارتَقَت الحِرَفُ اليدويةُ إلى مصافِّ المعامل، وبَلَغَت صناعةُ السفنِ ذروتَها، والأموالُ دائرةٌ بلا توقف، والمستوطناتُ رائجةٌ في كلِّ مكان، ويَجُوبُها الأغنياءُ والمستثمِرون من كلِّ صوبٍ وحدب. ولأولِ مرةٍ تَكتَسِبُ أثينا خاصيتَها الكوزموبوليتية. وحسبَ قناعتي الشخصية، فإنّ نَقصَها الوحيدَ المتمثل في عجزِها عن تحقيقِ الوحدة داخلَ شِبهِ الجزيرةِ كان العائقَ الوحيدَ أمامَ الانتصارِ الرأسمالي. حيث لم تَكُن تُعاني من مشكلةِ اليدِ العامِلة، فالرقيقُ في الأسواقِ أَبخَسُ ثَمَناً من الماء. والمرحلةُ التي وَصَلَتها أثينا كانت تُحَتِّمُ عليها تجاوزَ البنيةِ العبوديةِ القديمة، وتحقيقَ الانطلاقةِ بالتوجه نحوَ دولةٍ قوميةٍ ضمن شبهِ الجزيرة، لِتَغدوَ على نمطِ هولندا بشكلٍ مبكر؛ أو أنْ تُهزَمَ على يدِ منافسيها وأندادِها، لِتَبقى تتخبطُ في وضعٍ لا أهميةَ لها فيه. لقد تَعَرَّضَت هذه المدينةُ للضرباتِ المُوجِعةِ قرناً ونَيِّف، نَزلَت عليها بَرّاً من مَلَكِيةِ إسبارطة، وأَتَتها من وراءِ البحرِ مِن الإمبراطوريةِ البرسية. لكنها جَهِدَت دائماً للحفاظِ على بقائِها بوساطةِ ديمقراطيتِها الشهيرة. لكنّ مخالبَ قبضةِ المَلِكَين المقدونيَّين الأبِ فيليب والابنِ الإسكندر قد أََلحَقَت هزيمةً استراتيجيةً شنعاءَ بأثينا. وهكذا، وبعدَ أعوامِ 300 ق.م، لم تَبْقَ أمامها فرصةُ القيامِ بحملةٍ جديدةٍ تجاه مَلَكِيةِ روما المتصاعدةِ والمَلَكِيةِ الهيلينيةِ البارزةِ في الأناضول.
إنّ عرضَ أمثلةِ النموذجِ الأولي للرأسماليةِ في الحضارةِ الإسلامية، وتلك المؤسَّسةِ في مشارفِ شبهِ الجزيرةِ الهندية سيَكُونُ تكراراً فظاً. في حين، تُشَكِّلُ المدائنُ الرأسماليةُ الذائعةُ الصيتِ في شبهِ الجزيرةِ الإيطالية أمثلةً ضاربةً للنظرِ في تلك المرحلة. إلا أنّ كلاً من البندقيةِ وجنوى وفلورنسا أضاعَت فرصتَها بِأنْ تَغدوَ مبكراً مِثلَ أمستردام ولندن، لدى إخضاعِها وكَسرِ هيمنتِها – مثلما حصل لعمومِ شبهِ الجزيرة – على يدِ إسبانيا وفرنسا والنمسا المُولَعاتِ بالطرازِ الإمبراطوريِّ القديم.
كانت المدنُ الإيطاليةُ قد خَلَقَت كلَّ ما هو لازمٌ لأجلِ الرأسماليةِ العصرية. فَشِبهُ الجزيرةِ الإيطاليةِ كانت مختبرَ أوروبا – التي ستُولَد لاحقاً – ونموذجَها المصغَّرَ فيما بين أعوامِ 1300 – 1600، عبر تراكمِ رؤوسِ الأموال، البنوكِ، الشركاتِ، نظامِ الائتمان، السنداتِ كوسائلِ تمويل، التجارةِ البعيدة والقريبة، ورشاتِ العمل، مختلفِ أنواعِ المِهَنِيين والحِرَفِيّين، شتى أنواعِ المنتوجاتِ الصناعيةِ في تلك المرحلة، تَجاربِ الجمهوريةِ والإمبراطورية، وأديانِها ومختلفِ طرائقِها المذهبية. علاوةً على أنها منشأُ حركةِ النهضة. وهذا ما يَنبعُ – دون أدنى شك – مِن علاقاتِها الرياديةِ مع الأراضي الشرقيةِ الأخرى، ومن ميراثِها التاريخي. فإيطاليا ذاك العصر تَعني الشرقَ الأوسطَ الإسلامي، وتعني الصينَ والهند، بل وحتى روسيا المتصاعدةَ حديثاً. وقد نَقَلَت الاحتكاراتُ التجاريةُ المدينية، وفي مقدمتِها مدنُ البندقية وفلورنسا وجنوى، مواردَ هذه الأراضي إلى شِبهِ الجزيرةِ بِنَهَمٍ لا يَعرِفَ للشبعِ حدوداً. والأهمُّ من ذلك أنّ حركاتِ التمدنِ المتصاعدةَ بريادةِ المدنِ الإيطالية على صعيدِ عمومِ أوروبا لأولِ مرةٍ في تاريخِها، كانت مستودعاً مذهلاً لتراكمِ رؤوسِ الأموال. وبالمستطاعِ رؤيةُ بصماتِ التاجرِ الإيطالي في كلِّ مدينةٍ أوروبية. وبالأصل، فقد كانت الكنيسةُ الكاثوليكيةُ قد رَصَفَت أرضيةَ المدنيةِ منذ زمنٍ طويل. وكانت النهضةُ الكلمةَ الفصلَ في الريادة.
السببُ الوحيدُ وراء عجزِ إيطاليا عن أنْ تَكُون مِثلَ إنكلترا أو هولندا، هو أراضيها الجغرافية. وبشكلٍ مُفارِقٍ ومتناقض، فالجغرافيا نفسُها تَجعَلُها رائدةً في رأسماليةِ المدينة، وتُوصِلُها إلى حافةِ النصرِ على صعيدِ شبهِ الجزيرة؛ ولكنها كانت تَعجَزُ عن خطوِ الخطوةِ الأخيرةِ نحوَ النصرِ النهائي. وعندما كانت تَخطُوها كانت تَنهالُ عليها الكوارثُ من كلِّ حدبٍ وصوب. السببُ واضحٌ للغاية. فلو استطاعَت إيطاليا أنْ تَكُونَ إنكلترا عصرِها مبكراً، لكانت ستُحَطِّم تيجانَ إسبانيا وفرنسا والنمسا (الدولُ الطامعاتُ في احتلالِها وغزوِها) على رؤوسها، لِتَغدوَ ثانيَ إمبرياليةٍ عالميةٍ – طِبقاً لانطلاقِ روما صوبَ الإمبراطوريةِ – ولكن، على أرضيةٍ اجتماعيةٍ اقتصاديةٍ رأسمالية. مِن هنا، فاحتشادُ وتَضامُنُ أصحابِ التيجانِ على المدنِ الإيطالية أمرٌ مفهومٌ لأبعدِ الحدود. فاتحادُ المدنِ الإيطالية على الأساسِ الاجتماعي الاقتصادي الجديدِ كان يعني نهايةَ تلك الإمبراطوريات، لِيَبدَأَ عهدُ النفوذِ الإيطالي في أوروبا أولاً، ومن ثَم الانتشارُ في جميعِ أرجاءِ العالَمِ كحالةٍ لا مفر منها. وكانت تَمتَلِكُ في حوزتِها كلَّ ما يَلزَمُ لِذلك، وفي مقدمتِها رأسَ المال. إلا أنّ الإخفاقَ كان سوءَ حظٍّ فادحٍ فعلاً، ومعناه تَراجُعاً وطنياً ثلاثةَ قرونٍ إلى الوراء.
حسبَ رأيي، لقد أَضاعَت فُرصتَها في أنْ تَكُونَ روما الثانية بِقَيدِ شعرة للأسبابِ الجغرافية. كما أنّ روما الأولى كانت قد نَجَت، وبِقَيدِ شعرة، مِن اعتداءاتِ هانيبال ، الذي أتاها من الشمال بعدَ مسيرةٍ شاقةٍ طويلة. لكنّ غاراتِ القوى الآتيةِ عليها من الشمالِ هذه المرةَ تُضارِعُ قوةَ هانيبال أربعين مرة. وبالتالي، لَم تَبقَ أمامها أيّةُ فرصة. السبيل الوحيد أمامها هو التحول إلى دينِ السيف، مثلما فَعَلَ الإسلامُ العربي في أرجاءِ الشرقِ الأوسطِ قاطبةً. ولو كان الإسلامُ سائداً في روما بدلَ المسيحية، أو أنها طَبَّقَت الدينَ الكاثوليكيَّ المسيحي والانتشارَ السياسي معاً وبالسيف؛ لَكان مجرى تاريخِ العالم مختلفاً كلَّ الاختلاف. ولا يتمالكُ المرءُ نفسَه من التساؤل: كيف كانت سَتَكُونُ نهايةُ روما، وماذا كان سيَتَمَخَّضُ عنها، لو لَم تَكُن المسيحية؟ بل والأغربُ من ذلك، كيف كانت سَتَكُونُ النتائجُ، لو أنّ الفاتحَ سلطان محمد قَبِلَ دعوةَ البابا في اعتناقِ ضربٍ من ضروبِ المسيحيةِ الممتشقةِ للسيف؟ التاريخُ ليس مسرحاً للمضاربات، إلا أنّ احتضانَه العديدَ من الاحتمالاتِ البديلةِ في كلِّ الأوقات أمرٌ واقعٌ لا يُمكِنُ إنكاره. فَما عَجِزَت المدنُ الإيطاليةُ عن الظفرِ به، حَقَّقَته أمستردام ولندن في نهاياتِ القرنِ السادسِ عشر. أما أسبابُ ذلك ونتائجُه، فهو المجالُ الذي طالما انهَمَكَ المؤرخون في البحثِ فيه، ونَظَروا إليه كأطروحةٍ بِحَدِّ ذاتِها. وقد سُلِّطَت عليه الأنوارُ كفايةً. لِنُرَتِّبْ أسبابَه باختصار:
1- لأنهما تتواجدان في أقاصي أوروبا الشماليةِ مِن بينِ أماكنِ المحيطِ الأطلسي التي وَصَلَتها جميعُ الميادينِ الحضاريةِ القديمةِ متأخراً وبأوهنِ حالاتِها.
2- كانت القوى العظمى الثلاثُ في أوروبا، مَلَكِياتُ فرنسا والنمسا وإسبانيا، تُسَيِّرُ فيما بينها حروبَ الهيمنةِ على أوروبا.
3- لم يَكُن يُنظَر إليهما بِعَينِ الخطرِ المُحدِقِ بالقدْرِ الذي كانت عليه المدنُ الإيطالية، وبالتالي، لَم تُهاجِمْهما تلك القوى بقوةٍ مُوَحَّدةٍ وكافية.
4- إنهما تَرُودان حركةَ نشرِ الإصلاحِ في أوروبا الشمالية.
5- إنّ تَواجُدَهما على سواحلِ المحيطِ الأطلسي قَدَّمَ لهما تسهيلاتٍ كبرى في تسييرِ التجارةِ البعيدةِ والقريبة.
6- كانتا قد نَقَلَتا وحَوَّلَتا إلى أراضيهما كلَّ ثقافاتِ المدنِ الإيطاليةِ الماديةِ والمعنوية.
7- تَتَصَدَّران المناطقَ التي تشهد ضعف القوى الإقطاعية، سواءً على صعيدِ الثقافةِ الماديةِ أم المعنوية.
8- وكيفما لَم تَتَكَوَّن إقطاعيةٌ راسخةٌ قادرةٌ على إعاقةِ رَسْمَلَةِ المواصلاتِ والزراعةِ والصناعة، فقد تَطَوَّرَ التَّحَضُّرُ لأولِ مرةٍ في العديدِ من المناطقِ وفقَ الماهيةِ الرأسمالية.
كلُّ هذه العللِ والمؤثراتِ السببية، التي يُمكنُنا إكثارُها، ذاتُ عُرىً وثيقةٍ بالموقعِ الجغرافي. في الحقيقة، فقد كانت الاستراتيجيةُ الطبيعيةُ (الجيوستراتيجيا) والسياسةُ الطبيعيةُ (الجيوبوليتيكا) تَمنَحان أوضاعاً ملائمةً للغاية. ومع التحامِ هذا الوضعِ مع الظروفِ الاجتماعية، كان النجاحُ أمراً وارداً.
تُشَكِّلُ أوروبا وآسيا وأفريقيا ثلاثَ قاراتٍ متحدة. ومن أهمِّ تحديداتِ الأنثروبولوجيا أنّ أفريقيا كانت في وضعيةِ الريادةِ خلال مغامراتِ البشريةِ حتى العصرِ الجليدي الأخير. وتَبَدَّلَت الجغرافيا الرائدةُ فيما بعد، لِتَتَحَقَّقَ الثورةُ النيوليتية في الحوافِّ الخصيبةِ المُنبِتةِ والجذابة لسلسلةِ جبالِ زاغروس – طوروس. ومن 15000 ق.م حتى 4000 ق.م، أنتَجَت سفوحُ تلك الجبالِ كلِّ ما يَلزَمُ مِن الثقافاتِ الماديةِ والمعنوية، لِبِدءِ المرحلةِ التي سوف تُصبِحُ مدنيةً فيما بعد. سيَكُونُ صحيحاً لو نَعَتْنا الثورةَ النيوليتيةَ بالثورةِ التاريخيةِ الكبرى. فنهرا دجلة والفرات لَم يَقتَصِرا على ترسيبِ الأراضي المعطاءِ من تلك الجبالِ وحوافِّها إلى دلتا الخليج ، بل ونَقَلا وحَمَلا نفسَيهِما وكلَّ قِيَمِهِما الثقافيةِ مع أُولى صناعاتِ السفن. في الحقيقة، كانت مدينتا أريدو وأوروك قد جَمَعَتا قِيَمَ هذه المسيرةِ القاهرةِ العسيرةِ في تركيبةٍ جديدةٍ، عندما بَدَأتا بِأُولى مغامراتِهما الحضارية. كان التعاظمُ والاتساعُ يستمران من ضفافِ النهرَين المقدسَين إلى مصبِّهما في المحيط، متواصلَين متكاثفَين، تماماً كجريانِ نهرٍ دَفّاق.
أوروك ليست ثقافةً إنسانيةً بسيطة، بل هي بدايةُ معجزةٍ جديدة. إذ لا يزال صوتُ إينانا، مَلِكَةِ أوروك، يُشَكِّلُ المنبعَ العينَ لجميعِ الملاحمِ والأشعار والأغاني. وهذا الصوتُ هو صوتُ تلك الثقافةِ الرائعةِ الخلابة. وهو في الوقتِ نفسِه صوتُ المرأةِ التي لم يُدَنِّسها الرجلُ القبيحُ بعد. لقد أَزهَرَت ثقافةُ أوروك وأَينَعَت في أراضيها، فتَكاثَرَت المدنُ على التوالي كالتيهور ، لِيَتَشَكَّلَ حزامٌ طويلٌ من المدن. وفي هذه المرة، رأى الرجلُ القويُّ الماكرُ منبعَ الثروةِ الأصلي في الإمكاناتِ التجاريةِ المتناميةِ في المدينة. وابتدأَ جريانٌ ثقافيٌّ معاكسٌ امتدَّ حتى سفوحِ الجبال. إنها بدايةُ مسارِ الشروعِ بقَرضِ وابتلاعِ الجغرافيا النيوليتيةِ من طرفِ المدينة. وغدا صوتُ إينانا المكبوتُ تدريجياً صوتَ المرأةِ المفتقدةِ لتأثيرها. وصارَ صوتُ الرجلِ القوي الماكرِ صاخباً جَهوراً. لقد كانت الإضافاتُ الأُولى في اللغةِ السومرية ذاتَ طابعٍ أنثوي، مما يشير إلى دورِ المرأةِ في نشوءِ اللغة.
لا داعيَ هنا لسردِ المغامرةِ الجغرافيةِ للحضارةِ المرتكِزَةِ إلى القوة. ولكن، سيَكُونُ مِن الأفضلِ كتابتُها. سنكتفي هنا بالقول على الصعيدِ الرمزي بأنها سالَت كالنهرِ الأم، وقَطَعَت آلافَ الكيلومترات مُتَخَطِّيَةً الشواطئَ والأراضيَ الوَعِرة، لِتُخَلِّفَ وراءَها في نهايةِ المطافِ ثقافةً جديدةً على تُخومِ أمستردام ولندن، وتَصُبَّ في المحيطِ الأطلسي.
واضحٌ جلياً أنّ هاتَين المدينتَين رادَتا حركةَ إظهارِ الاقتصادِ الرأسمالي المعاصرِ وقوميتِه على مسرحِ التاريخ، بالانتهالِ من الثقافاتِ الماديةِ والمعنوية البارزةِ على مَرِّ جميعِ العصورِ ومن شتى الأراضي. وكِلتا المدينتَين كانتا آخِرَ محطةٍ وَصَلَتهما الثقافةُ النيوليتية. لا نَفتأُ نلاحظُ مثلَ النوعِ التالي من العلاقةِ بين الجغرافيا والثقافة: مِن العسيرِ جداً تَكَوُّنُ ثقافةٍ جديدةٍ في الأماكنِ التي تَتَجَذَّرُ فيها الثقافةُ القديمة. فالثقافةُ القديمةُ لا تَقبَلُ الجديدَ بسهولة، بل تدافعُ عن نفسها؛ وهو أمرٌ مفهوم. والساحةُ الوحيدةُ الشرقُ أوسطية التي لَم تَتَوَطَّدْ فيها الثقافةُ المدنيةُ القديمةُ بالدرجةِ الكافيةِ هي المناطقُ الداخليةُ لِشِبهِ الجزيرةِ العربية. وقد شَكَّلَ هذا الفراغُ الجغرافيُّ الأرضيةَ الاجتماعيةَ للإسلام. فلولا هذه الجغرافيا، لَما كان الإسلام.
تُعتَبَر أوروبا الشماليةُ ووَطَنا إنكلترا وهولندا اللذان في أقاصيها (مصطلح الوطنِ المُعَرَّفِ وفق الحدودِ الوطنية يَبرُزُ حديثاً في هذه المرحلة) أراضيَ عذراءَ من حيث خُلُوِّها من الحضاراتِ القديمة. وبسببِ هذه الخاصية، فهي تُشَكِّلُ الساحةَ التي ستنبت فيها أيةُ بذرةٍ جديدةٍ بِمُجردِ غرسِها، ذلك أنّ فُرصَتَها كبيرةٌ في توطيدِ جذورِها واستمرار بقائها.
لقد زُرِعَت بذرةُ الاقتصادِ الرأسمالي فنَبَتَت جيداً. إنها الإرثُ الأخيرُ لثقافةِ أوروك المنقولةِ من شاطئٍ إلى آخر. وحامِلو هذا الإرثِ هُمُ التجارُ دوماً. يُقال أنّ التجارَ من أفضلِ الناس الذين يُحَدَّسون ويستشعرون المناطقَ ذات الربح الوفير. أُرَكِّزُ بأهميةٍ بالغةٍ على أنّ وضعَ المناطقِ الهامشيةِ الخارجةِ عن آفاقِ بُؤَرِ القوة، وإمكانياتِ الطرقِ الطويلةِ قد أَفسَحَ الطريقَ لِتَجَلَّي الحظِّ على نحوٍ إيجابي. فقد دَعَم هؤلاء التجار حظَّهم الرياديَّ بالتربعِ والاستيلاء على جميعِ المكتشفاتِ الرأسماليةِ في المدنِ الإيطالية، والقرصنةِ على الطرقِ الجغرافيةِ التي اكتَشَفَها الأسطول الإسباني – البرتغالي. ما فَعَلوه كان عمليةَ صهرٍ إلى لُغتِهم. وبينما حالت الحربُ الداخليةُ الدائرةُ فيما بين القوى الأوروبية العظمى دونَ الأخطارِ المحتَمَلة من الخارج، فقد كان المردودُ المؤكَّد للاقتصادِ الجديدِ في الداخل (اليد العاملة الرخيصة والمواد الخام) كافياً لإنجاحِ ولادتِه وتَوَطُّدِه في هذه الأراضي في نهاياتِ القرنِ السادسِ عشر.
وبالتحالفِ الذي أَسَّسَته هاتان القوتان، اللتان لا تتميزان عن بعضهما سوى ببضعةِ فوارقَ شكلية، انتَقَلَتا إلى منزلةِ تمثيلِ الاقتصادِ الجديدِ على الصعيدِ العالمي. إنّ حداثةَ عهدِ الاقتصادِ قد حَفَّزَت الدولةَ أيضاً على تحديثِ ذاتها، ودَفَعَتها للاتجاه نحوَ شكلِ الدولةِ المعطاءِ الناجحة. كما أنّ التفوقَ الاقتصاديَّ سَاهَمَ في تحقيقِ التفوقِ السياسيِّ والعسكري أيضاً. ولأولِ مرةٍ تَشتَرِكُ احتكاراتُ التجارِ مع احتكارِ الدولة (شركتا الهند الغربية والشرقية )، لِيَظفروا بقوةٍ شِبهِ رسمية. ولأولِ مرةٍ فإنّ مغتصبي الحضارةِ المُستَتِرِين والمحافظين على بقائهم في الأقاصي وفي الأروقةِ المعتمةِ يصبحُون الأسيادَ المُحَصَّنين بشرعيةٍ لا جدالَ عليها. وتَقَلَّدوا جميعَ بطاقاتِ ونياشين الامتيازِ الأرستقراطيةِ القديمةِ على يَدِ الملوكِ والمَلِكاتِ أنفسِهم. وكيفما كان أَسَدُ أوروك أضعفَ مِن أنْ يقفَ في وجهِ "كلكامش" في زمانِه، فكأنه لَم تَتَبَقَّ القوةُ الكافيةُ لمواجهةِ وحوشِ أمستردام ولندن الكاسرةِ (لن نُسَمِّيها الأُسُود)، التي هي الوريثُ الأخيرُ له. وحتى لو تَبَقَّت قواهم، فلن يَكُونَ مِن العسيرِ القبضُ على زمامِهم وخنقُهم، تماماً مثلما انقَضَّ كلكامش على عنقِ الأَسَدِ وخَنَقَه.
في الحقيقة، إنّ أولَ ملحمةٍ وأكثرَها تأثيراً تلك الملحمةُ التي تَسردُ الحربَ الضروسَ التي شَنَّتها الإلهةُ إينانا ضدَّ أنكي، مُؤَسِّسِ مدينة أريدو وأولِ إلهٍ رجلٍ طاغيةٍ وماكر (الرجل المهيمن المُؤَلَّه)، لاسترجاعِ منجزاتِ أنواع الفنونِ التسعةِ والتسعين التي اختَرَعَتها المرأةُ، وإنقاذِها من قبضتِه. في حين أنّ مَلِكاتِ إنكلترا وهولندا، اللواتي يُعتَبَرنَ وريثاتِها، قد اكتَسَبن شكلاً وملامحَ وكأنهن رسومٌ رمزيةٌ دالَّةٌ على انعكاسِ كلِّ سيئاتِ الرجلِ الطاغيةِ الماكرِ وقُبحِه في المرأة، لِيَكُنَّ بذلك اختصاراً واضحاً لمغامراتِ الحضارةِ جمعاء.