لا مجتمع من دون أخلاق (8)
عبد الله أوجلان
2010 / 1 / 10 - 22:26
نشاهد انتشارَ المدنِ والأسواق والتجارةِ شبه المستقلة بشكلٍ واسعِ النطاقِ في المدنيةِ الإغريقية – الرومانية. ولأولِ مرةٍ تُقَدِّمُ الإدارةُ الاستبدادية البابليةُ والآشوريةُ المتربعةُ على ميراثِ أوروك وأور، مساهماتٍ جديدةً للمدنية، بتمهيدها الطريقَ للوكالاتِ التجاريةِ على الصعيد الاقتصادي (إنه ضربٌ من ضروبِ تداخلِ مصطلحاتِ السوق – الوكالات التجارية – الربح). وبالأصل، فالمستوطناتُ التجاريةُ تَعُودُ في تاريخِها إلى أوروك، بل وحتى لِما قَبلَها. أما زيادةُ التبادل، وتَكَوُّنُ السوق، فيُهيِّئ لانطلاقةِ الدولةِ الآشورية كأولِ امبراطوريةٍ بهية. وما الإمبراطورياتُ في أساسها سوى ردٌّ على متطلباتِ الأمنِ والحماية للحياةِ الاقتصادية. فلِكَونِ التجارةِ تُشَكِّل العمودَ الفقريَّ للاقتصادِ في آشور، فإنّ التجارةَ ووكالاتها اقتضت تنظيماً سياسياً على نمطِ الإمبراطورية. يُقَيِّمُ التاريخُ الإمبراطوريةَ الآشوريةَ على أنها الإمبرطوريةُ الأكثرُ طغياناً والحكمُ الاستبداديُّ الأكثرُ جبروتاً، وأنها الرأسماليةُ بحالتِها كمسودةِ مشروعٍ أوليٍّ لِما نسميه اليوم بالاحتكارِ التجاري. إنّ الرأسماليةَ التجاريةَ الاحتكاريةَ الآشوريةَ قد جَلَبَت معها إدارةً إمبراطوريةً عليا هي الأكثرُ جُوراً وظلماً.
لقد نَجَحَت الفئةُ السياسيةُ للإمبراطوريةِ الإغريقية – الرومانية في إضافةِ ميراثِ المستوطناتِ التجاريةِ المدينية المتبقيةِ من الفينيقيين إلى ميراثِ الآشوريين، وتشكيلِ بنيةٍ سياسيةٍ عليا واقتصاديةٍ سفلى أكثر رقياً. لقد تَطَوَّرَ التبادلُ، وبدأ التنامي شبه المستقل للمدنِ والأسواقِ والتجارةِ والمنافسة، ولو بنطاقٍ محدود. إننا نتعرف على تمدنٍ مكافئٍ للأرياف، التي غدت تنتج فائضَ الإنتاجِ للمدن بهدفِ التبادل. وتطورَت تجارةُ النسيجِ والأغذية والمعادن. ونخص بالذكر شبكةَ الطرقِ الواسعةِ المنسوجةِ من الصين إلى المحيط الأطلسي. وتتحول الفئةُ السياسيةُ في إيران إلى إمبراطوريةٍ تجاريةٍ راسخةٍ بسببِ التجارةِ ما بين الشرقِ والغرب، وتتنامى لدرجةٍ تُخَوِّلها لتضييقِ الخناقِ على الإغريقِ وروما، وبسطِ نفوذِها عليهم. وتُشَكِّل سداً أساسياً أمام الفئاتِ السياسيةِ والأقوامِ القاطنةِ في الصين والهند وآسيا الوسطى وحركاتِها الاستيلائيةِ وغزواتِها صوبَ الغرب، مثلما ستستمر في نفس وظيفتها كَسَدٍّ أوليٍّ أمامَ استيلاءِ الغربِ على الشرق أيضاً. ولم يتمكن الإسكندر ومَن جاءَ بعدَه مِن هدمِ هذا السدِّ المعيق وفتحِ أغطيةِ فوهاتِه، إلا لفترةٍ زمنيةٍ وجيزة (330 – 250 ق.م).
تُمَثِّلُ المدنيةُ الإغريقيةُ – الرومانية المكانَ الذي نعثر فيه على أُولى أمثلةِ الاقتصادِ الرأسماليِّ بكثرة. فدرجةُ استقلالية خصوصياتِ المدن، وتحديدُ قِيَمِ السلع والتبادلِ في الأسواق، وتواجدُ التجارِ الكبار فيها؛ إنما يشير إلى دُنُوِّها من عتبةِ الرأسمالية. إلا أنّ قوةَ المناطقِ الريفية تجاه المدنِ مِن جهة، وشكلَ تنظيمِ الإمبراطوريةِ (المعتمدِ على اقتصادِ الريفِ أساساً) مِن جهةٍ أخرى؛ يُعيق تَحَوُّلَ الرأسماليين إلى نظامٍ اجتماعيٍّ سائد. ولذلك، يبقى الرأسماليون في مستوى التجارِ الكبار كحدٍّ أقصى، ويظل تَدَخُّلُهم في الإنتاجِ والصناعةِ محدوداً للغاية. علاوةً على أنهم وجهاً لوجهٍ أمامَ العراقيلِ المتواصلة للفئات السياسية. أضفْ إلى ذلك ظاهرةَ العبودية المرتبطة بالسيد، والتي لا تزال محافظةً على وضعها الراسخ. وفرصة الأيدي العاملة في الحياةِ الحرة شحيحةٌ لدرجةٍ تكاد تَكُون معدومة. والنساءُ تُباع وتُشترى كجواري، مثلما يُباع الرجال بكلِّ أجسادهم كعبيد. لا جدالَ في كونِ العنف هو القوةُ الوحيدةُ المحدِّدةُ لاقتصادِ الرقيق. فوجودُ الرقيقِ كقيمةٍ اقتصاديةٍ كافٍ بِحَدِّ ذاتِه للإشارةِ – بكل شفافيةٍ وجزم – إلى العلاقةِ بين العنف والاقتصاد (الاقتصاد المعتمد على نهبِ الإنتاج الزائد). وفي نظامِ العصورِ الأولى في الصين والهند، بدءاً من تأسيسِ الكاست السياسيِّ والعسكريِّ إلى مرحلةِ الاستعمارِ الرأسمالي، كان يُنظَر إلى المجتمعِ السفليِّ بأجمعه على أنه ضربٌ من ضروبِ القطاع الاقتصادي، فيتم تشغيله، واعتبارُ إدارتِه بموجبِ ذلك مَهَمَّةً أساسيةً وحقاً إدارياً طبيعياً، أو بالأصح، حقاً إلهياً.
يَعُود لفظ الاقتصاد إلى عالَمِ الإغريق – الهيلينيين في العصرِ القديم. وباعتباره يعني قانونَ العائلة، فإنّه يُعَبِّرُّ عن ارتباطه بالمرأة من جهة، ويَكشِفُ النقابَ من جهةٍ أخرى عن منزلةِ الفئةِ السياسيةِ التقليدية، التي تؤدي دورَ الاحتكارِ السياسيِّ على الاقتصاد، طِبقاً للأدوار التي تؤديها الاحتكاراتُ في عصرِ الرأسمالية. وأُشَدِّد بعنايةٍ فائقةٍ على العلاقةِ المتبادَلةِ والمتلازِمةِ الوثيقةِ بين الاحتكارِ السياسي والاحتكارِ الاقتصادي، بحيث يقتضي أحدُهما وجودَ الآخر. وبما أنّ القوةَ السياسيةَ لأثينا وروما بالغةُ العَظَمة، فهي – وبشكلٍ مفارِق ومتناقضٍ – منغلقةٌ تجاه الرأسمالية. ومن الجانبِ الآخر، فهي عاجزةٌ عن التحكمِ بالشكلِ الاقتصادي ذي المنشأِ المديني، نظراً لِصِغَرِها وخِفَّةِ وزنها تجاه الريف. من هنا، ورغم تَعَرُّفِ الحضارةِ على الرأسماليين، إلا أنها لَم تَسمَح بعد بتطورِهم الممنهج.
د- رَجَحَت كفةُ التجارةِ في أداءِ دورِها ضمن الحضارةِ الإسلامية في العصورِ الوسطى. فسيدُنا محمد والدينُ الإسلامي على عُرىً وثيقةٍ مع التجارةِ من الناحيةِ الاقتصادية. إنّ التطورَ ذا الجذورِ التجاريةِ للأرستقراطيةِ العربيةِ المحصورةِ بين فَكَّي الإمبراطوريتَين البيزنطيةِ والساسانية، شَكَّلَ مُؤَثِّراً سياسياً واقتصادياً أولياً في تحقيقِ انطلاقةِ الإسلام. فمن المعلوم أنّ الإسلامَ قد عَمِلَ بالسيف أساساً منذ ولادته. فهيمنةُ اليهود والسريانيين المتَبَقِّين من الآشوريين على التجارةِ والمال، إنما تَبسطُ للعيان تناقضاتِهم مع العربِ بكلِّ وضوح. وبالأصل، فهم يُطبِقُون على أنفاسِ البيزنطيين والساسانيين الممثلين للاحتكارِ السياسي. إنه مثالٌ يلفت الأنظارَ بِحِدّةٍ إلى العلاقةِ بين العنفِ والاقتصاد في هذا المكانِ القديم ضمن تلك المرحلةِ من التاريخ. فالعصورُ الوسطى أقربُ ما تَكُونُ إلى عصرِ الإسلام. وبقدرِ ما اقتَضَت حمايةُ التجارةِ طرازاً على شكلِ إمبراطورية، فهي منتبهةٌ تماماً لِكَونِه حجر عثرةٍ أمامها لنفسِ السبب. حيث يُعيق باستمرارٍ تَحَوُّلَ رأسِ المال التجاري إلى شكلِ الإنتاج الرأسمالي. والنسيجُ الاجتماعيُّ في الريف يَقبَعُ تحت وطأةِ الرقابةِ الدينية والأخلاقيةِ الصارمة. بالتالي، فالحريةُ المحدودة التي تتمتع بها التجارةُ في المدنِ لا تُخَوِّلها لِتَصِيرَ قوةً سياسية. ورغمَ وجودِ شبكةٍ واسعةٍ من المدن والأسواق، وتعاظُمِ حجمِ المدن، إلا أنها ليست في مستوى القوة التي تُمَكِّنها من تَخَطّي المنزلةِ المشابهةِ للمدنِ الإيطالية. القضيةُ ليست تكنولوجيةً بكل تأكيد، بل تَنبعُ من الاحتكار الديني والسياسي. فتَعَرُّضُ التجارِ لمصادرةِ أملاكِهم وبضائعهم دون انقطاع، إنما هو من ضروراتِ النظام القائم. لذا، يُمكِنُ النظر إلى عدمِ توليدِ الإسلام للرأسماليةِ على أنه نقطةٌ في صالحه. فإذا ما تَمَّ تقييمُ الجانبِ الإيجابي لدوره في كونه إلى الآن حجر عثرةٍ أساسيٍّ تجاه الرأسمالية (مفهوم الإسلام في الأمة، أممية الأقوام، التضاد مع الربا، مساعدة الفقراء، وغيرها من الأمور المشابهة)، فيُمكنه تقديمَ مساهمةٍ هامةٍ لمشروعِ الحريةِ الاجتماعية. ولكن، يجب الانتباهَ جيداً إلى كونِ الراديكالية الإسلامية القائمةِ تَحتَضِن بين أحشائها الرأسماليةَ الإسلاميةَ الحديثةَ المشحونةَ بالنزعة اليمينيةَ والقومويةِ الاقتصادية.
إنّ العربَ والبرابرةَ بقياداتِهم الأمويةِ في الأندلس هم الذين نَقَلوا الحضارةَ الإسلاميةَ إلى أوروبا على الصعيدِ الثقافي. في حين أنّ ناقِليها على الصعيد الاقتصادي – التجاري هم تُجّارُ المدن الإيطالية. أما العثمانيون، فلم يَنقُلوها إلا من حيث الاحتكار السياسي، وعلى نطاقٍ محدود. وتجسدت تأثيراتُها في التفافِ القوى السياسيةِ والدينية في أوروبا حول الرأسماليةِ أكثر، لِتَتَمكن من إحرازِ النجاح تجاه العثمانيين. فلولا العثمانيين، ربما لَما اضطرت القوى الاحتكاريةُ الدينيةُ والسياسية في أوروبا لتنظيمِ نفسها على الصعيد السياسي والعسكري والاقتصاد الرأسمالي بهذا القدر. مرةً أخرى نجد القوةَ تُوَلِّد القوة، وهذا بدوره ما يُسَرِّعُ من وتيرةِ بحثها عن الشكلِ الاقتصادي المناسب.
تَرتبط مساهمةُ الشرق الأوسط بالمسيحية في تأمينهِ ولادةَ الرأسماليةِ داخل أوروبا. سأكتفي الآن بالتذكيرِ بمؤلَّفِ ماكس فيبر "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية"، مع تبيانِ أملي بتناولِ هذا الموضوع في فصلِ سوسيولوجيا الحرية بإسهاب. علاوةً على ذلك، يمكن القول بأنّ الشرقَ الأوسطَ قد أكملَ دورَه في تحديدِ وجهةِ الأخلاق في أوروبا إلى حين حلولِ القرن العاشر، وأنه لعب دوراً أولياً في ولادةِ أوروبا الإقطاعية (على الصعيدَين السياسي والديني)، وأنه أُعِيدَ نقلُ الشرقِ الأوسط ثانيةً إلى أوروبا مع اندلاعِ الحروبِ الصليبية. كلُّ هذه الأمورِ مزايا معيِّنةٌ بشكلٍ ضروريٍّ لا غنى عنه.
ولدى توحيدِ هذه النبذةِ التاريخيةِ الاجتماعية المختصرة للغاية مع تقييماتنا بصددِ القرن السادس عشر، يمكننا إدراك الفئاتِ السياسية ومدى تأثيرها في ولادةِ الرأسمالية على نحوٍ أفضل. إذ يمكن التبيان، وبكلِّ سهولة، أنها لَعِبَت دورَ المؤخِّرِ والمعرقِلِ أحياناً، ودور المُسَرِّعِ بل والمُلَقِّحِ أحياناً أُخَر. وتَقتربُ في ظلِّ النظامِ الرأسمالي بالأكثر من صياغة: احتكار الدولة = الاحتكارِ الرأسمالي.
من المفيد التطرق إلى العلاقة بين الحقوق والنظام الجديد من عدةِ جوانب. عادةً ما تَكُونُ الحقوقُ مؤسسةً تَفرض وجودَها مع تطورِ العلاقات فيما بين التجارةِ والسوق والمدينة. والمجتمعاتُ التي تَسري فيها الحقوقُ هي المجتمعاتُ التي تآكلَت وتَفَسَّخَت أخلاقُها، وزادَ فيها دورُ العنف فَتَمَخَّضَ عن الفوضى، وتفاقمت فيها قضايا المساواة. ونظراً لبروزِ أعوصِ القضايا المعنيةِ بالأخلاق والمساواة ملتفةً حول الأسواق والتمايزِ الطبقي المتطور في المدن، فإن الحقوقَ تغدو أمراً لا مفرَّ منه في ترتيبِ شؤونِ الدولة. فبدون الحقوق يستعصي أمرُ إدارةِ الدولة لأقصى حد، إنْ لم نَقُلْ أنه يصبح مستحيلاً. يمكن تقييم الحقوقِ من حيث التعريف بأنها عمليات القوةِ السياسية للدولة ضمن شكلٍ دائمٍ مضبوطٍ بالقواعد ومتمأسس. إنها أَشبَهُ ما تَكُونُ بالدولةِ المجمدة، الثابتةِ الهادئة، والمستقرة. وهي المؤسسةُ الأكثر توطداً في علاقاتها مع الدولة. أما العلاقاتُ بين التجارةِ والدولة، فقد تواجدت وتنامت وتَعَقَّدَت تصاعدياً منذ ولادتهما إلى حين الرَّسْمَلَة. ورُتِّبَت الوثائقُ القانونيةُ التي يمكننا تسميتها بالحقوق، منذ المجتمعِ البابلي إلى عهدِ روما، حيث اعتَنَت في الأغلب بترتيبِ شؤونِ خسائرِ الأموالِ والأرواح. تفيد الحقوقُ في تخفيفِ وطأةِ مشاكلِ السياسة، وأحياناً أخرى في الإكثارِ منها. وتتجسد وظيفتُها في شرعنةِ اللامساواة والتمايزاتِ الفعلية، وتأمينِ قبولها واستساغتها، وحسمِها، وتحصينِها بمسحةٍ من الحصانة؛ على عكسِ ما يُعتَقَد في تعاطيها المتساوي لجميعِ مواطِنيها. باختصار، فتعريفُ الحقوق على أنها الترتيبُ الثابتُ الراسخُ لاحتكارِ الفئات السياسية، إنما هو تفسيرٌ أقربُ إلى الحقيقة.
تتسم علاقاتُها مع الأخلاق بأهميةٍ كبرى. فالأخلاقُ كالإسمنت بالنسبة إلى المجتمع، حيث لا مجتمعَ من دون أخلاق. والأخلاقُ أولُ مبدأٍ تنظيميٍّ للمجتمعِ البشري. وتُعنى وظيفتُها الأوليةُ بكيفيةِ ترتيبِ الذكاءَين التحليلي والعاطفيِّ لصالحِ المجتمع، وكيفيةِ جَعلِهِما مبادئَ وسلوكيات. وتتعاملُ بالتساوي مع المجتمعِ برمته، مع الأخذِ بعينِ الاعتبار دورَ الفروقاتِ وحقَّ الاختلاف. إنها تُمَثِّلُ الوجدانَ الجماعيَّ للمجتمعِ في بداياتها، إلا أنّ تَمَأسُسَ الهرميةِ والفئاتِ السياسية على شكلِ دولة، يُلحِق أولَ ضربةٍ بالمجتمعِ الأخلاقي. والانقسامُ الطبقي يهيئُ الأرضيةَ للانقسامِ الأخلاقي أيضاً، لِتَبدَأَ القضيةُ الأخلاقيةُ بالظهور. وبينما تَسعى النخبةُ السياسيةُ لِحَلِّ هذه المعضلةِ بوساطةِ الحقوق، يَسعى الرهبانُ للردِّ عليها عبر التدين. ولهذا الغرض، فالحقوقُ والدينُ على السواء ينتهلون من الأخلاق منبعاً. فكيفما تُشَكِّل الحقوقُ الآلياتِ الثابتةَ المضبوطةَ والمتمأسسةَ للسياسةِ والقوةِ السياسية، فكذا يَسعى مؤسسو الدين أيضاً إلى حلِّ الأزمةِ الأخلاقية عبر الآليةِ عينِها بتأسيسٍ آخر، أي بدينٍ جديدٍ راسخٍ ومضبوطٍ ومتمأسس، ويتخذ من الأخلاقِ مَعِيناً له. أما الفرق بينهما، فيتمثل في كونِ الحقوقِ قوةَ عقابٍ وجزاء، في حين يَفتقدُ الدينُ هذه الماهيةَ، ويَعتمدُ أساساً على الضميرِ والخوفِ من الرب.
إنّ الأخلاقَ على علاقةٍ وثيقةٍ بالحرية، نظراً لعنايتها بقابليةِ الإنسانِ للاختيار والانتقاء. الأخلاقُ تقتضي الحرية. والمجتمعُ، أياً كان، يُحَدِّدُ حريتَه بوساطةِ أخلاقه. وبالتالي، مَن لا حريةَ له، لا أخلاقَ له. والسبيلُ الأبلغُ تأثيراً لِدَكِّ دعائمِ مجتمعٍ ما، يَمُرُّ مِن بترِ أواصرِه مع أخلاقه. في حين أنّ إضعافَ تأثيرِ الدينِ لا يُسفرُ عن الانهيارِ بقدرِ ما ينجم عن الأخلاق. فالفراغُ الناجمُ عن الدين تَملأه شتى الأيديولوجياتِ والفلسفاتِ السياسيةِ والحَيَواتِ الاقتصادية المتحولةِ إلى أشكالٍ من الدين. في حين أنّ الفراغَ الناجمَ عن غيابِ الأخلاقِ لا تَملأه سوى التبعيةُ والخنوعُ وانعدامُ الحرية. من هنا، فالمعضلةُ الفلسفيةُ الأوليةُ لوجودِ الأخلاقيات، أو علمِ الأخلاق – الذي هو نظريةُ الأخلاق – مُكَلَّفَةٌ أساساً بالبحثِ في الأخلاق، التي تأخذ شكلاً حياتياً حرجاً مع الزمن، وإعادةِ إيصالِها مجدداً إلى دورها الرئيسي. وتتجسد وظيفتُها في وضعِ الصياغةِ السليمة لها، بقدرِ ما تَعمَلُ على الحفاظِ على منزلتها في المجتمعِ كقضيةٍ لا تتناقص أهميتُها إلى حين جَعلِها مبدأً أولياً في الحياة.
وارتباطاً بالسلطةِ السياسية، تَتميزُ هذه التعريفاتُ الموجَزةُ بشأنِ الحقوقِ والأخلاق بأهميةٍ قصوى، عندما تَكُونُ ولادةُ الاقتصادِ الرأسمالي موضوعَ الحديث. ذلك أنه ما مِن فرصةٍ لرسوخِ الاقتصادِ السياسي في المجتمع، ما لم تتم تَعرِيَتُه من الدينِ والأخلاق، بل ومن الحقوقِ الإقطاعية أيضاً، وحتى كسرُها وتحطيمُها في الكثير من مواضعها. ينبغي ألا يُفهَم من ذاك أننا ندافع عن دينِ وأخلاقِ الطبقةِ العليا القديمة. ما نَسرده هنا هو مدى صعوبةِ وعُسرِ رؤيةِ الأديانِ الكبرى والتعاليمِ والشرائعِ والطقوسِ الأخلاقيةِ الكبرى بأنّ نظاماً وحُكماً كالرأسمالية يُمكِنُ أنْ يتناسبَ ويتناغمَ مع مبادئها. فحتى القوةُ السياسيةُ محدودةُ التأثيرِ في هذه المواضيع. ذلك أنّ هدمَ الدينِ والأخلاق يَجلب معه نهايةَ الفئاتِ السياسية أيضاً.
واضحٌ وضوحَ الشمس أنّ الجدلَ الدائرَ حولَ الإصلاحِ بشأنِ الحقوقِ وفلسفةِ الأخلاق في القرنِ السادس عشر على علاقةٍ بولادةِ الرأسمالية. ولِكَوننا صِغنا تعريفاً مختصراً للنزاعاتِ السياسية ومنزلةِ القوة، فسوف أتلافى التكرارَ في الأمر.
يأتي الإصلاحُ البروتستانتيُّ وما أَسفَرَ عنه من جدالاتٍ محتدمةٍ وحروبٍ ضاريةٍ في مقدمةِ العواملِ الأوليةِ المؤثرة في تحديدِ مصيرِ أوروبا العصرِ الحديث. وحسب رأيي، لقد أَهمَلَ ماكس فيبر أَهَمَّ نقطةٍ لدى تقييمِه دورَ الأخلاقِ البروتستانتية. فالبروتستانتيةُ يَسَّرَت ولادةَ الرأسمالية، ولكنها أَلحَقَت الضربةَ القاضيةَ بالدينِ والأخلاق عموماً، وبالكاثوليكيةِ بوجهٍ خاص. لذا، فمسؤوليةُ البروتستانتيةِ عن جميعِ آثامِ الرأسماليةِ ليست بسيطةً البتة. لا أقولُ ذلك بغرضِ الدفاعِ عن الدينِ والكاثوليكية، بل أُصِرُّ على أنها جَعَلَت المجتمعَ أعزلاً مجرداً من آلياتِ الدفاع. فأينما تَطَوَّرَت البروتستانتيةُ، حَقَّقَت الرأسماليةُ هناك نقلاتٍ ملحوظة. لقد أدت دوراً أَقرَبَ ما يَكُونُ إلى حصانِ طروادة بالنسبةِ إلى الرأسمالية.
قام بعضُ مفكري العصرِ بتوجيهِ أُولى التحذيراتِ الجديةِ إزاءَ السلبياتِ الناجمةِ عن الإصلاحِ البروتستانتي واللوياثانِ الجديدِ الذي ابتَكَرَه. وسيَكُون من الواقعيِّ أكثر اعتبارَ نيتشه في طليعةِ الذين اتَّخَذوا مواقفَهم تجاه الحداثةِ الرأسمالية. ولا يَبرَحُ هؤلاءُ المفكرون يُحافظون على أهميتِهم ومنزلتِهم في راهننا أيضاً، باعتبارهم يبحثون عن المجتمعِ الحرِّ والفردِ الحرِّ المناهضِ للرأسمالية.
لقد قامَ هوبز وكروتيوس ، زعيما الجدالاتِ الدائرةِ بشأنِ الحقوق، بإعادةِ التنظيرِ للحقوقِ في سبيلِ رصفِ الطريقِ أمام اللوياثانِ الجديد (الدولةِ الرأسمالية). إنّ تسليمَ احتكارِ العنفِ بِرِمَّتِه إلى قبضةِ الدولة يعني تجريدَ المجتمعِ من أسلحته. ومحصلةُ ذلك هي تصاعُدُ قوةِ الدولةِ القومية المركزيةِ إلى الفاشية بما لا نظيرَ له في أيةِ مرحلةٍ من مراحلِ التاريخ. فقاعدةُ وحدةِ الهيمنةِ وتلاحمِها ليست سوى نظريةُ تجريدِ كلِّ القوى الاجتماعيةِ الخارجةِ عن نطاقِ الدولة مِن قدراتِها وطاقاتها، وعزلِ المجتمعِ عن أساليبِ وأدواتِ الدفاعِ الذاتي إزاء الوحشِ الرأسمالي، بما لا مثيلَ له في مجرى التاريخ. وباختصار، فهذان المفكران لَعِبَا دورَ الإعلانِ عن كَونِ الإنسانِ ذئبَ أخيه الإنسان، والتبشيرِ بمنزلةِ القوةِ الاحتكاريةِ المونارشية، وتمهيدِ الطريقِ للاحتكارِ الرأسمالي على جميعِ الجبهاتِ والمناحي. لِنُكَرر: الاحتكارُ السياسي = الاحتكارَ الاقتصادي. ومكيافيلي أحدُ مفكري القرنِ السادسِ عشر المهمينِ الذين أَجَازوا وسَمَحوا جهراً – ودون الحاجةِ للتسترِ بأيِّ غطاء – بعدمِ الالتزامِ بأيةِ قواعدَ أو ضوابطَ أخلاقيةٍ عند اللزوم، في سبيلِ إنجازِ النجاحِ السياسي. إنه بذلك يَكُونُ قد ذَكَرَ وكَتَبَ عن المبدأِ المُوصِلِ إلى الفاشيةِ قَبل بروزِها بمئاتِ السنين.
وتلافياً لسوءِ الفهم، فأنا لا أدَّعي تجريمي وانتقادي لجميعِ مساعيه الإصلاحية. بل إني أدافعُ عن ضرورةِ الإصلاحِ الديني، لا عِدَّةَ مراتٍ وحسب، بل مراتٍ ومرات. ولا أَفتَأُ أَقُولُ منذ سنين بالضرورةِ الحيويةِ لحركةِ الإصلاحِ الإسلامي العميقِ والمتواصلِ بما يضاهي الإصلاحَ المسيحيَّ على وجهِ الخصوص. لا ريبَ في حاجةِ هذه الجهودِ للآفاقِ الفكرية الواسعةِ والشخصياتِ الراسخة، إلا أنها وظيفةٌ لا ملاذَ منها في سبيلِ تَخَطّي استبداديةِ الشرقِ الأوسطِ والتغلبِ عليها. سأعملُ على تناولِ ذلك وغيرِه من المواضيعِ المشابهة في المجلدِ الذي أُفَكِّرُ بكتابتِه بشكلٍ منفصلٍ تحت عنوان "كونفدراليةُ الشرقِ الأوسط الديمقراطية".
لا تُعنى هذه الأسطرُ كثيراً بشرحِ حركتَي النهضةِ والتنوير، لأنهما حركتا قرونٍ مختلفة، إلى جانبِ كَونِ علاقتِهما مع الرأسماليةِ غير مباشرة، هذا إنْ سَعَينا لِعَقدِها. كما أنه من غيرِ الصحيحِ اللجوءُ إلى التعميمِ هنا. فبقدرِ ما يتواجدُ الساعون لفتحِ الطريقِ أمام الرأسماليةِ ضمنهما، ثمةَ العاملون على سَدِّ الطريقِ أمامها أيضاً. إنّ صَهرَ العناصرِ الرأسمالية لمُعارِضيها بوساطةِ قوةِ المالِ أمرٌ مفهوم، تماماً مِثلَ رغبةِ السلطة في التقييد. إلا أنّ عظماءَ الفلاسفةِ والإصلاحييين (برونو، أراسموس) والطوباويين والمشاعيين المتعطشين للحريةِ لدرجةِ الاحتراقِ بألسنة لهيبها، كانوا في خدمةِ البشريةِ في تلك العصور. أُعِيدُ وأُكَرِّرُ أنّ جميعَ المدنياتِ قد انتَفَضَت في عصرِ النهضةِ والإصلاح والتنوير. لقد انتَعَشَت مجدداً، وروَّجَت لنفسها ورسميتها، وصارت ألحاناً عذبةً، وتحولت إلى آلهةٍ مقدسة، واستُعبِدَت، وتَصارَعَت، وتَصالَحَت، وهَزَمَت، وهُزِمَت. ولكن، في النتيجة انبَثَقَت العناصرُ الرأسماليةُ الناصبةُ كمائنَها قروناً عديدةً في تَصَدُّعاتِ المجتمع وأخاديدِه وزواياه الهامشيةِ المُهمَلَةِ، وظَهَرَت كقوةٍ تنظيميةٍ وماديةٍ هي الأكثرُ استعداداً وتَجَهُّزاً في معمعان بلبلةِ تلك القرونِ الأَشبَهِ بيومِ الحشر، واستَغَلَّت الأوساطَ وصَهَرَتها عن طريقِ الشدةِ والمالِ والأنشطةِ الذهنية، بل وبِبَسطِ نفوذِها عليها بالعنفِ الفظِّ عندما دَعَت الحاجة، كي تُكَلِّلَ النظامَ الرأسماليَّ بتاجِ النصرِ في نهايةِ المطاف. ولا تَنفَكُّ مستمرةً في مسيرةِ الانتصارِ تلك إلى يومِنا الراهن.
[email protected]