|
ظهور العذراء ليس حلا لاضطهاد الأقباط
نادية عيلبوني
الحوار المتمدن-العدد: 2870 - 2009 / 12 / 27 - 00:27
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
بداية لا بد من أن أشير أنني في مقالي السابق المعنون ب" ظهور العذراء والعقل الخرافي المصري" لم آتي على ذكر الأقباط لا من قريب ولا من بعيد ، ولم أخصصهم في تبني العقل القائم على الهلوسة والتهويمات ، وذلك لقناعتي الأكيدة أن جميع من شملتهم في ظاهرة التأثر بفكر المعجزات الأسطوري هم شعوب المنطقة العربية بصورة عامة ، والشعب المصري بصورة أكثر تخصيصا، وبكافة أديانه وأعراقه وطوائفه.والشيء الثاني الذي أود أن ألفت الانتباه إليه ، هو أنني مصرة على اعتبار الفكر الخرافي والديني- الغييبي، الذي ساد المنطقة العربية وساد في مصر،على مدى أكثر من ستين عاما ،هو منتج مصري بامتياز.ليس فقط بسبب كم الأساطير الغيبية والدينية التي أسس لها الفراعنة منذ آلاف السنين وطبعت الشعب المصري بطابعها ، بل أيضا ،لأن حركة الأخوان المسلمين بما هي حركة سلفية تعتمد في تراثها وأدبياتها على مرجعيات تنتمي إلى عهود سحيقة موغلة في الاستبداد وغارقة في فكر الأساطير ومشدودة إلى منهج اللاعقل ،هي ماركة مصرية مسجلة استطاعت الامتداد إلى كافة البلدان العربية والإسلامية والأوربية ، واستطاعت أن تستولد من رحمها كافة الجماعات الأصولية المتشددة التي مارست وتمارس العنف والإرهاب باسم الدين حتى الآن. ولعل قناعتي تلك لا علاقة لها بأهواء شخصية، تريد أن تقلل من دور مصر في مجالات أخرى ليس مكان ذكرها الآن ، بقدر ما هي مؤسسة على معرفتي بتاريخ الحركات الأصولية في المنطقة العربية. إلا أن هذا أيضا ليس موضوعنا الأساسي الذي أردت أن أتناوله في معرض تحليلي لظاهرة تجلي السيدة العذراء والذي أثار حفيظة عدد كبير من القراء الأقباط . الردود القبطية المتشنجة التي جاءتني كرد على مقالتي، تؤكد بما لا يدع مجالا للشك، أن الذهنية القبطية بعمومها في مصر المحروسة، لا تختلف كثيرا عن ذهنية بعض المسلمين المتعصبين فيها في كثير من النواحي، فكلاهما يتميز بالكسل العقلي ، وكلاهما لا يبذل أي جهد للخروج من معنقل الفكر الإعجازي والغيبي لحل مشاكله الدنيوية والأرضية. وكلاهما يجلس خاملا منتظرا أن تمن عليه السماء بالحلول، وكلاهما لا يريد أن يقتنع أن الله الذي أعطاه العقل، لا يقدم حلوله من خلال ظهور القديسين في الفضاء. وإذا كان بعض الأقباط يعتقدون أن ظهور السيدة العذراء ، هو وسيلة إلهية لحماية الأقباط من سياسة التمييز العنصري التي تمارسها عليهم السلطات المصرية بكافة هيئاتها ومؤسساتها التشريعية والتنفيذية ، أومن بطش الجهات الأصولية التي تحتقر التنوع والاختلاف وتطرح مشروعا دمويا لإبادة المختلف ، فهم واهمون ، لأن الحل ليس بيد السيدة العذراء مع احترامنا الشديد لها ولقداستها ،ولا هو بيد الأنبياء والقديسين ، وشفاعة كل هؤلاء، أو حتى مكانتهم لا يمكنها أن تحل محل القضاة والمشرعين والبرلمان المصريين، وغيرهم من أصحاب قوانين التمييز العنصري بين المواطنين على أساس ديني. تظهر العذراء وتختفي ،ثم تعاود الظهور على حد زعم الكثيرين ، إلا أن هذا لا يغير من واقع اضطهاد الأقباط شيئا، لأن القوانين التي يمارس على أساسها الاضطهاد لا زالت جلية للعيان، وربما بصورة أوضح للرائي من صورة تجلي السيدة العذراء فوق بعض قباب كنائس القاهرة وحواريها . ربما كنت لا أمتلك ذلك الإيمان الغيبي والأعمى القادر على مسخ عقلي كلية وتسليمه بكل بساطة لأصحاب الإيمان من الذين يصدقون كل ما يقال لهم دون تدقيق أو تمحيص ، إلا أن هذا بحد ذاته ليس مثلبة ، ولطالما حذر يسوع المسيح من الأنبياء الكذبة، ومن الذين يدعون القيام بالمعجزات، وكان هو بنفسه يحاجج المرائيين من الكتبة ورؤساء المجامع استنادا إلى ملكة العقل لديه.وأن لا أومن بكل ما يقال، لا يعني إطلاقا أن لا أرى خطورة أن تبقى أنظار الأقباط معلقة إلى السماء في انتظار حل إلهي لمشاكلهم . وهذا بحد ذاته ليس تجنيا على العقيدة المسيحية ، أليس السيد المسيح هو الذي قال: "اطلبوا تجدوا ، اقرعوا يفتح لكم"؟ أليس هو من نهى عن الكسل والتقاعس في حكمه الشهيرة وفي عظاته إلى المسيحيين الأوائل؟ ليس من المتوقع إذن أن يعود صناع القرار السياسي في مصر إلى ضميرهم ، كما لا أتوقع أن يثوب الأصولويون من الذين يعتدون على حياة وكرامة القبطي إلى رشدهم،حتى لو رأوا بأم أعينهم ظهور السيدة مريم في سماء القاهرة ، فوقف المعتدي عند حده ، كما تغيير قوانين التمييز العنصري، تحتاج إلى كفاح مرير وطويل على الأرض ، وتحتاج أكثر ما تحتاج إلى التسلح بقوانين المجتمعات المتحضرة ، والاعتماد على حركات المجتمع المدني، والنضال السلمي مع كافة القوى السياسية الداعية إلى مجتمع مصري ديمقراطي تسوده العدالة والمساواة . وهذا كله لا يمكن أن يتحقق للأقباط ، دون الوصول إلى صيغة الدولة المدنية التي تشترط لتحققها الخروج من حاضنة الكنيسة،مثلما تشترط الخروج من حاضنة المسجد . ولنا أن نذكر أخوتنا الأقباط أن البابا شنودة كان من أول المعترضين على مشروع فصل الدين عن الدولة في مصر ، وأن رفض هذا المشروع لم يأت فقط من رجال الدين المسلمين . ولنا أن نؤكد أيضا، بهذه المناسبة، أن رفض هذا المشروع يعني في المحصلة القبول بواقع الدولة الدينية التي تضطهد الأقباط مثلما تضطهد كافة الأقليات الأخرى. وربما كان من الجهل المطلق، الاعتقاد ، أن الغرب استطاع النجاح في الوصول إلى القوانين والدساتير المناهضة للتمييز على أساس من العقيدة أو العرق أو اللون،بمعجزة إلهية، أو وهو يقف على أبواب السماء منتظرا عون القديسين،بل هو وصل إلى ما وصل إليه من خلال خوضه ذلك النضال الشاق والمرير على الأرض مع سلطة الكنيسة ،والذي أسفر في النهاية عن ظهور الدولة بصيغتها الحديثة الراهنة التي نجحت في فض هذا الاشتباك ما بين الدين والدولة ، وتمكنت من أن تعطي "ما لله لله وما لقيصر لقيصر". ولنا في النهاية أن نؤكد مرة تلو المرة ،أن السماء لا تمطر حلولا ، ولا يمكنها أن تكون عونا للكسالى والمحبطين ، وأن منتظري المعجزات من السماء ستظل عيونهم معلقة إلى ما نهاية على أبوابها دون جدوى ، ما لم يدركوا واجباتهم على الأرض، وما لم يتركوا ذلك التفكير العقيم والبعيد عن الواقع والذي سيضيف ، بالتأكيد في حال اتباعه، إلى واقعهم المزيد من المآسي والمعاناة... واليأس.
#نادية_عيلبوني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ظهور العذراء والعقل الخرافي المصري
-
إنهم يعهرون الشريعة!!
-
أين هي مقاومة حماس وحزب الله؟
-
هل تحولت صدور نسائنا إلى ساحات للجهاد؟
-
حماس وانفلونزا الخنازير
-
مجرد أسئلة ، الفلسطيني وحقوق الإنسان
-
أيضا منظر الملتحين وأصحاب - الدشاديش- القصيرة يجرح ذوقنا وهو
...
-
هذا حق مشروع لنسائنا ملكة جمال لفلسطين ما الذي يمنع؟
-
-كل الحق- على الرئيس عباس!!؟؟
-
اللعب بقضايا الاندماج في النمسا
-
المتوكل طه والدفاع عن ثقافة الاستبداد - نعم الثقافة العربية
...
-
وقع القاص زياد خداش بورتريه لجديد الأدب الفلسطيني
-
فيينا أم فينستان ؟
المزيد.....
-
قائد الثورة الاسلامية آية اللهخامنئي يصدر منشورا بالعبرية ع
...
-
اختفاء حاخام يهودي في الإمارات.. وإسرائيل تتحرك بعد معلومة ع
...
-
إعلام العدو: اختفاء رجل دين اسرائيلي في الامارات والموساد يش
...
-
مستوطنون يقتحمون مقبرة إسلامية في الضفة الغربية
-
سفير إسرائيل ببرلين: اليهود لا يشعرون بالأمان في ألمانيا
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف مستوطنة -أفيفيم- بصلية صا
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف مستوطنة -ديشون- بصلية صار
...
-
سفير إسرائيل ببرلين: اليهود لا يشعرون بالأمان في ألمانيا
-
أسعد أولادك…. تردد قناة طيور الجنة التحديث الجديد 2025 على ج
...
-
استقبلها الان.. تردد قناة طيور الجنة أطفال الجديد 2024
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|