مؤثرات ولادة الرأسمالية – لص من أهل البيت- (2)
عبد الله أوجلان
2009 / 12 / 24 - 00:39
إنَّ تفسيرَ الرأسماليةِ على أنها الدينُ الأوسعُ تَعَرُّضاً للقول والعمل، سيساهم بشكلٍ أفضل في مساعدتنا على الاستيعابِ الصحيح لها. فكما أنّ الذهنيةَ الأوروبيةَ تتطرقُ كثيراً إلى الرأسمالية قولاً وعملاً، باعتبارها الموطن والمكان الذي انتصرَت فيه الرأسمالية، فهي لم تتوانَ لحظةً عن تحويلِ حقيقتها الوجوديةِ إلى صوفيةٍ باطنية، مثلما هي الحالُ في كلِّ دين. ويندرج في ذلك جميعُ المسيحيين والاشتراكيين والفوضويين، الذين يدَّعون تَضادَّهم الصارمَ معها. إنها تُشَكِّلُ مدرسةً بِحَدِّ ذاتها في الفكرِ والعقل الأوروبيِّ المركز. وقد ابتدأوا بمرحلةِ هيمنتها كنظامٍ عالميٍّ اعتباراً من القرن السادس عشر. وحسبَ اجتهادي الشخصي، فهي مدرسةٌ تُضارع وتضاهي أنظمةَ الرهبان السومريين في إنشاءِ آلهتهم أضعافاً مضاعفةً بمهاراتها وبراعتها في ترسيخِ التعميةِ والإرباكِ ضمن الواقع الاجتماعي. هذا ويَلعَبُ "الأسلوبُ العلمي" دوراً بارزاً في هذا النظام الفكري والعقلي في أوروبا الغربية.
أنا لا أتحدثُ عن العِلمِ باعتباره إدراك الطبيعة، بما فيها الإنسان. فالعلمُ باعتباره خزينة الإنسانية المدخرة إنما هو رأسُ مالٍ مشتركٌ وعموميٌ، بحيث من المحال جعله حِكراً على فردٍ أو جماعةٍ أو مؤسسةٍ أو قوميةٍ أو أُمَّة. وإذا كان لا بد من الحديث عن قدسيةٍ إلهية، فسيَكُونُ إضفاؤها – بمعانيها هذه – على العلمِ تقييماً أقرب إلى الصواب. إلا أنّ "الأسلوبَ العلميَّ" يتميزُ بمكانةٍ مختلفةٍ في علمِ المصطلحاتِ الأوروبية، فهو النموذجُ المصغَّرُ للديكتاتورِ العصري (شتى أشكالِ وأنواعِ الديكتاتورياتِ التوتاليتارية والتسلطية). أو أنه بالأحرى بذرتهُ الواقعةُ في رحمه. فالأسلوبُ كمفردةٍ يعني الأصولَ والطريقَ والطريقة. وإنْ كان إيجابياً ومساهِماً في تغذيةِ مَلَكةِ الوعيِ والإدراكِ في بداياته، إلا أنه، وفي حالِ بقائه مُقَيَّداً لمدة طويلة، يكتسب دورَ الديكتاتوريةِ الذهنية بتمامِ الكلمة. فالإصرارُ على الأسلوبِ باسمِ العلم، قد يؤدي إلى أخطرِ ضروبِ الديكتاتورية. وبطبيعةِ الحال، فالدولتيةُ القومويةُ الألمانية المدافعةُ عن الأسلوبِ العلمي بشكلٍ تجريديٍّ سطحيٍّ هشٍّ، والمُوَلِّدَةُ للفاشية؛ إنما تُؤَكِّدُ صوابَ تقييمنا هذا.
لا جدالَ في تَحَقُّقِ الثورةِ الذهنية في أوروبا الغربية. ولكن، مِن غيرِ الممكن تفسير ذلك على نحوٍ يُفضي إلى المركزيةِ الأوروبية. بَيْدَ أنّ هذه الثورةَ قد اقتاتت من جميعِ التطورات الذهنيةِ السابقة لها، والمتطورةِ خارجَ نطاقِ أوروبا.
ولسوسيولوجيا ماكس فيبر النصيبُ الوافرُ في ربطِ التطورِ ذي الطابع الرأسمالي بالعقلانيةِ الأوروبية، إذ يسعى لفتحِ هذا البابِ تمهيداً لهذه الأطروحةِ في مُؤَلَّفِهِ "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية". وبالإضافةِ إلى كونِ العقلانية مِن أهمِّ المؤثرات في تشكيلِ الرأسماليةِ ونشوئها، إلا أنّ حصرَ ذلك في العقلانيةِ والحقوقِ فحسب، لن يكفي لإبداءِ المهارةِ في إيضاحِ هذه الظاهرة.
يُعزى انتصارُ الرأسمالية كنظامٍ مهيمنٍ في سوسيولوجيا كارل ماركس إلى وفرةِ إنتاجِياتها الاقتصادية. فحسب نظرته، إنّ إنتاجيتَها التي تَفُوقُ كلَّ أشكالِ الإنتاج الأخرى، وتطويرَها لفائضِ القيمة، وقدرتَها على تحويلها إلى ربحٍ ورأسِ مالٍ؛ قد مَهَّدَ السبيلَ لانتصارها. ولكنّ قلةَ اهتمامه أو تركيزِه على المؤثرات الأخرى، من قَبِيلِ التاريخ والسياسةِ والأيديولوجيا والحقوقِ والجغرافيا والحضارةِ والثقافة، يمكن اعتبارها أحدَ أهمِّ نواقصه الأساسية. حيث لم يَنجُ من التحولِ إلى مدرسةٍ يُمكِنُ تَصييرها اختزاليةً اقتصاديةً بكلِّ سهولة. لا شكَّ في عدمِ إمكانيةِ دحضِ أو إنكارِ قيمةِ التحليلات المتضمنةِ الشروحَ الاجتماعيةَ الاقتصادية. ولكنّ مخاطرَ انزلاقِها صوبَ الدوغمائية لن تتناقص – رغمَ كلِّ مزاعمها العلمية – في حالِ عجزِها عن الإيضاحِ الكافي لمكانةِ تلك الشروحِ ضمن المؤثراتِ الأساسية الأخرى. وأغلبُ ما شوهدَ من مخاطر، إنما ينبع من هذه النواقص.
كما أنه ليست قليلةً تلك الآراءُ التي تَربطُ التقدمَ الرأسماليَّ بالسلطة بِحَدِّ ذاتها، أو بالدولةِ العصرية كتعبيرٍ حقوقي مرئيٍّ عنها. لكنّ التدرجاتِ الهرميةَ السلطويةَ ضمن التكاملاتِ والتلاحماتِ الاجتماعية تَعُودُ بجذورها إلى الماضي السحيق. ودورُها في إدارةِ وتسويقِ شؤونِ الحياة المادية، مِن أهمِّ العواملِ الأولية. والعنفُ وحده غيرُ قادرٍ على توليدِ الحياةِ المادية والاقتصاد، بل وحتى الرأسماليةِ كأقصى نقطة منه. بمعنى آخر، فأدوارُها في الترتيب والتطوير والإعاقة، إنما سارت دوماً بشكلٍ متداخلٍ متشابك.
إنّ التأثيرَ الجغرافيَّ في انتصارِ الرأسمالية في شمالِ غربي أوروبا يَبسطُ أمامَ العيان أهميةَ المكان. ولطالما يُقال عن كونِ مدينةِ أمستردام مهداً لها. لربما يَكُونُ نصيبُ الجغرافيا محدوداً في إيضاحِ التأثيرِ عليها نِسبةً للمؤثرات الأخرى، مما يستدعي مَوضَعَتَها في مكانها المناسب دون المغالاة فيها، مما يساعد في إبرازِ أهميةِ وقيمةِ المعاني أكثر.
إنّ قوةَ التفسير المرتكز إلى المؤثرات الحضارية – الثقافية أمرٌ لا يقبل الجدل. فالرأسماليةُ أساساً تتزامن مع مرحلةِ تفسخِ واهتراءِ التطورِ الحضاري. هذه هي الأطروحةُ التي أَضَعُ ثِقَلي عليها بالأغلب. كما أنّ مكانَ انصبابِ النهرِ الأساسي للحضارةِ في المحيط (وهو على الصعيدِ الرمزي المحيطُ الأطلسي المتاخمُ لمدينةِ أمستردام) هو في نفسِ الوقت نهايةُ هذا النظام. لا شكَّ في أنّ النظامَ انتقلَ إلى ما وراءِ المحيط، حيث نَجَحَ مع الدولة القومية الأمريكية في الصعودِ إلى قمةِ العولمة في كنفِ هيمنةٍ جديدة. إلا أنّ ماهيتَها المتفسخةَ الهشةَ والمتأزمةَ في خضمِّ الفوضى العارمة تَتَبَيَّنُ بوضوح، وتُعَبِّر عن نفسها من خلالِ الإفراطِ في سيادةِ التشابهِ والمحاكاةِ في الحياة، والمغالاةِ في مَحوَرَتِها حولَ الدعاية الإعلامية، ونفوذِ المجتمعِ الاستعراضي الصوري والاستهلاكي، وتَجاوُزِ الاقتصادِ حدودَه الطبيعيةَ بإفراطٍ بدلاً من تلبيتِه مستلزماتِ الطلبِ، وتَسَرُّبِ السلطة حتى كافةِ الأوردةِ الشعرية للمجتمع، وتَطَرُّقِ أيديولوجيي النظامِ بأنفسهم إلى اللاتاريخ.
من المحال التفكير بواقعٍ بلا تاريخٍ أو بلا زمان. إذ لا يُمكِنُ حصول التقدمِ والارتقاءِ والتنوع والتباينِ إلا بالتاريخ. ولا يمكن إطلاق عبارةِ الكلمةِ الأخيرةِ إلا على شكلٍ معين. ذلك أنه ما مِن شكلٍ منفردٍ بامتيازِ الأبديةِ السرمدية. أما أبديةُ المجتمع إلى يومِ القيامة، آخرُ نبي، القانونُ الثابتُ الثبوتي، التواصلُ بلا انقطاع، والتقدمُ بلا نهاية، وغيرُها من المصطلحاتِ المذكورة والمبلوغةِ في التشكيلاتِ الاجتماعية؛ فهي بالأغلب استُخدِمَت بغرضِ تأديةِ دورِها في إضفاءِ الطابعِ الدوغمائي على الأفكارِ والعقائد، وتأمينِ سيرورةِ المساعي المتواصلة لأصحابِ السلطة، وتحقيقِ دائميةِ امتيازاتِ الشرائحِ المميَّزة في المجتمع. والهدفُ الأساسي من ذلك يَتَجَسَّدُ في اكتسابِ الثقة بالنفس، وتأمينِ ثُبوتِ المصالحِ المنفعية عن طريقِ الدعايةِ والتحريض. وما مزاعمُ الليبرالية، التي هي المركزُ الأيديولوجي للرأسمالية، بكونها صاحبة الكلمة الأخيرة للتاريخ (نهاية التاريخ)، سوى تكرارٌ عصراني لنفسِ الألعوبة.
من هنا، يتوجب عدم نَعتِ الرأسمالية – لدى تعريفها – وكأنها راسخةٌ لا تتغير، ابتَكرَها فكرٌ وعملٌ مُوَجَّهان من مركزٍ واحد. بل يجب فهمها أساساً على أنها نشاطات الشخصياتِ والمجموعات المنفعيةِ الانتهازية المختبئة في تَصَدُّعاتِ المجتمع وتَشَقُّقاتِه، وممارساتها في قرض فوائضِ الإنتاج بمنتهى الطفولية كلما تنامت كمياته وطاقاته، لتتحول إلى نظامٍ بِحَدِّ ذاته. وأمثال هؤلاء لم تَزِد نسبتُهم في المجتمعِ في أيِّ وقتٍ من الأوقات عن واحدٍ أو اثنين بالمائة. حيث ينتهلون قوتهم من المنفعيةِ الانتهازية وتنظيمِ الذات. ويُحرِزون انتصاراتهم بتنظيمِ شؤونهم ضمن المكانِ على نحوٍ أفضل عبر بسطِ نفوذهم على الأشياء التي يحتاجها المجتمع ضمن التصدعات الاجتماعية المتفاقمة مع الزمن من جانب، وتلاعبهم بالأسعار وفق تقاطعاتِ معادلةِ العرض والطلب من جانب آخر. وإذا لم تَقمَعهم القوى الرسميةُ في المجتمع، أو على النقيض، إذا استدانت من احتكاراتهم (مضارباتهم ومفارقاتهم) لتُغَذِّيهم بالمقابل بالالتزامات (الحماية) الدائمة؛ فحينها، ستَكتَسِبُ هذه المجموعاتُ المتواجدةُ بنطاقٍ ضيقٍ على هامشِ كلِّ أشكالِ المجتمع، شرعيتَها ليغدوَ أصحابُها الأسيادَ الجددَ للمجتمع. وقد تَكَوَّنَت مثلُ هذه المجموعات الاحتكاريةِ الهامشية المُرابِية على مَرِّ التاريخ الحضاري، وبالأخص في مختلفِ المجتمعات الشرق أوسطية. لكنها، ونظراً لِمُقتِ المجتمع لها واستيائه منها، لم تتجرأ على الخروج من تشققاتِ المجتمع والطفوِ على السطح. ولم يتجرأ إداريو المجتمع أيضاً، بما فيهم الأكثر جبروتاً وطغياناً، على شرعنةِ هذه المجموعات. ولم يَقتَصِر الأمرُ على ازدرائها والامتعاضِ منها، بل نُظِر إليها بعينِ القوة الخطيرةِ المُهلِكة المُفسِدة للمجتمع، واعتُبِرَت نواةَ الرذائلِ على الصعيد الأخلاقي.
إنّ تَفَشِّيَ واستفحالَ الحروبِ والنهب والسلب والمجازرِ والإبادات والاستعمار والاستغلالِ وتدميرِ البيئةِ في أوروبا الغربية خلال القرونِ الأربعة الأخيرة بما لا مثيل له على مَرِّ التاريخ البشري، إنما هو على صِلاتٍ وثيقةٍ بالنظامِ السلطوي المهيمن. ولا رَيبَ في أنّ الأراضيَ الجغرافيةَ عينَها قد شَهِدَت أعظمَ أشكالِ النضال المضاد أيضاً. أي، لا يمكن الحكم عليها بأنها ضياعُ البشرية بالمعنى الكلي.
ما أسعى لعمله هنا هو تسليطُ حزمةٍ من الضوءِ على مخرجٍ قديرٍ وقَيِّم، من خلال طرحِ تركيبةٍ جديدةٍ من مجموعِ ما أَكسَبَه الغربُ للبشرية من منجزات، مع القِيَمِ الشرقية الإيجابيةِ القديمةِ العريقة.