العصرانية الديمقراطية وقضايا تجاوز الحداثة الرأسمالية (12)
عبد الله أوجلان
2009 / 12 / 15 - 23:50
4- مراحلُ المجتمعِ المديني وقضايا المقاومة:
لدى سقوطِ روما في نهايةِ القرنِ الرابع، لا تنهارُ معها مدينةٌ وحضارةٌ مَقرونةٌ باسمِها فحسب، بل وتنتهي معها حقبةٌ طويلةٌ شَهِدَت كافةَ حضاراتِ العصورِ الأولى والعصورِ الكلاسيكية. وقد جَرَت العادةُ أنْ تُسَمَّى القرونُ اللاحقةُ لها بالعصورِ الوسطى، والتي طالما تُستَذكَر باسمِ عصرِ الظُّلُمات. إلا أنّ هذه التسميةَ متأتيةٌ من نمطِ إنشاءِ علمِ التاريخ، ولا تشتملُ على قيمةِ معانٍ مؤثرة وقديرة، بل ويطغى عليها الجانبُ المُفسِدُ للمعنى. أما تسميتُنا إياها بالعصرِ الإقطاعي، فتنبعُ من طريقةِ تَشَكُّلِ المجتمعاتِ وفقَ المفهومِ الماركسي للتاريخ على وجهِ الخصوص، وكأنه أُلصِقَ بها التعريفُ الاجتماعي للإقطاعيةِ بالإرغام، فلا يُعطيها المعنى العميق، بل – ومثلما بَيَّنَّا آنفاً – قد يَخدِمُ خلطَ المعاني أكثر.
في حين أنّ تفسيرَ انهيارِ روما على أنه اضمحلالُ وتَفَكُّكُ كلِّ النظمِ العبوديةِ في العصورِ الأولى والكلاسيكية، ربما يؤدي إلى التعمقِ بالمعنى بالأكثر. وبطبيعةِ الحال، فإرجاعُ أصولِ الإنجيل، مانيفستو المسيحيةِ صاحبةِ النصيبِ الأوفرِ في هذا الانهيار، إلى العهدَين السومري والمصري؛ إنما يُعَبِّر عن تكاملِ هذه العصور، ولكنْ من الجهة المُقابِلة. والأمورُ عينُها تَسري على ثنائيةِ الإسلامِ والبيزنطيين أيضاً.
وحسبَ رأيي، فالمرحلةُ اللاحقةُ لِروما تقتضي تفسيراً مغايراً. من هنا – ولو مِن بابِ التمهيد – فإنّ نَعتَ العصرِ الجديدِ بـ"العصورِ الوسطى المظلمة" و"عصورِ المسيحيةِ والإسلامية المُشَرِّفة" بعيدٌ عن إضفاءِ المعاني اللازمةِ للوقائعِ والمجريات، بل ويُحَرِّفها أيضاً. لقد كنا تَطَرَّقنا – أو بالأحرى انتَبَهنا – إلى أهميةِ الإنشاءِ لدى الرهبانِ طيلةَ تقييمنا للحضارة المدينية. ومن ثَمَّ رأينا أصحابَ النفوذِ والسلطانِ السياسي والعسكري، الذين قَضَوا على عهدِ الرهبان، وكيفَ تَرَكوا بَصَماتِهم الراسخةَ على كافةِ مراحلِ الحضارة المدينية. كما سَعَينا عبرَ تفسيرِنا الفذِّ والراسخ إلى تبيانِ صراعِ ثقافةِ الحضارة المدينية عموماً ضد الثقافةِ النيوليتية، وكيف سَعَت لتضييقِ الخناقِ على ساحتها، واستعمارها، واستغلالها، وصَهرِها في سبيلِ القضاءِ عليها. وشَدَّدنا على ضرورةِ إدراكِ كَونِ هذا الصراعِ الثقافيِّ أَهَمُّ من الصراعِ الطبقي، بل ويَتَعَدّاه لِيَكُونَ هذا الأخيرُ جزءاً منه. علاوةً على أننا قَيَّمنا النزاعاتِ المحتدمةَ بين المدنياتِ على أنها "مذبحةُ القَصَّابين".
ويَلوحُ لي أنه من المفيدِ إعادةُ تفسيرِ كلِّ ما شرحناه سابقاً ضمن نطاقِ مصطلحَين اثنَين: الثقافةُ الأيديولوجية، والثقافةُ المادية. ذلك أني أُولي الأهميةَ لتسميةِ فرناند بروديل للثقافةِ الرأسمالية بـ"الثقافة المادية". أما توسيعُ نطاقِ تعبيرِه هذا لكي لا يَقتَصِرَ على المدنيةِ الرأسمالية فحسب، بل ويَتَعَدّاها ليشملَ كلَّ الحضاراتِ الطبقيةِ والمدينية والدولتية، فسوف يُزيدُ مِن فُرَصِ تحليلنا. فالتمييزُ بين الثقافةِ المادية والثقافةِ المعنوية قد استَمَرَّ بلا انقطاع طيلةَ مراحلِ الحضارة المدينية، بِدءاً من مراحلِ تأسيسِها إلى الرأسماليةِ، التي هي تعبيرٌ عن الذروةِ الأخيرة لهذه المرحلةِ على صعيدِ الثقافة المادية، ليس إلا. إضافةً إلى أنّ الثقافةَ الأيديولوجيةَ (يمكن تسميتُها أيضاً بالثقافةِ المعنويةِ، ومِن ثَمَّ بعِلمِ المعنى) قد تَواجَدَت هي الأخرى منذ البداية، وعليها أنْ تُحَقِّقَ ذروتَها في مرحلةِ سوسيولوجيا الحرية المتزامنةِ مع العصرِ الرأسمالي. وإذا تناولنا أبحاثَنا وشَرَعنا بها وفقَ هذا المنظور، فسوف نُضاعِفُ من قدرتنا فيِ إضفاءِ المعاني على العلاقاتِ والصراعاتِ الكائنة بين الحضارة والثقافتَين الماديةِ والأيديولوجية من حيث كونِهما المقاوَمةَ المضادةَ لها طيلةَ تاريخِ الحضارة. ومن جانبٍ آخر، سنَكُونُ بذلك قادرين على عقدِ علاقاتِ "العصورِ الوسطى والحداثةِ الرأسمالية" مع سوسيولوجيا الحرية، لِنَتَسَلَّحَ بتقييماتٍ ثمينةٍ بشأنِ معنى الحياةِ الحرة على صعيدِ الثقافةِ الأيديولوجيةِ فيها.
من هنا، فالشروحُ التي سأطرحُها سوف تَكُونُ بالأغلب عملاً تجريبياً متعلقاً بجميعِ الثقافاتِ النيوليتية والحضاريةِ المدينية التي شهدناها إلى الآن، وبكيفيةِ إنشائِها لسوسيولوجيا الحرية. في حين أنّ مساعينا الأصليةَ في إنشاءِ سوسيولوجيا الحرية سَنَعمَلُ على طرحِها بعدَ سردِ ملاحظاتِنا بشأنِ المدنيةِ الرأسمالية (الحداثة) بآفاقٍ أوسع بكثير.
آ- عليَّ التوضيحَ بأنه لم تَكُن الثقافةُ النيوليتيةُ تعاني من مشاكلَ جديةٍ من حيثُ الفصلِ بين بُعدَيها الأيديولوجيِّ والمادي، بل ولَم تُواجِه القضايا المتفاقمةَ إلا بعدَ ولوجِها مرحلةَ الانسداد، وعجزِها عن حمايةِ ذاتِها تجاه تَصاعُدِ المجتمعِ المديني. وهنا أَتَلَمَّسُ أَوَّلاً ضرورةَ شرحِ مصطلحِ "القضايا" الذي طالما جعلتُه عنواناً أساسياً. فحسبَ المعنى الذي استخدمتُه، يُفيدُ هذا المصطلح بِحالةِ الفوضى المتأزمةِ التي لَم يَعُد الفردُ والمجتمعُ فيها قادرين على الاستمرارِ بالثقافتَين الأيديولوجية والمادية. في حين أنّ الخلاصَ من الوضعِ الإشكاليِّ المُعَقَّدِ يعني الحالةَ المنتَظَمةَ للمجتمعِ الجديد بعدَ اكتسابِه بنيةً قَيِّمة. أما الثقافةُ الأيديولوجية – ومثلما سعيتُ لشرحِها كثيراً – فتُعَبِّر عن ماهيةِ الفاعلياتِ والوظائف التي سُخِّرَت لها البنى والمؤسساتُ والأنسجة، ومعانيها وأحوالها الذهنية. في حين أنّ الثقافةَ الماديةَ تعني القسمَ الظاهرَ والملموسَ من الوظائف والفاعلياتِ والمعاني التي اضطررتُ لتوضيحِها بمصطلحاتٍ من قَبِيلِ المظهر المرئي، الظاهرة، المؤسسة، البنية، والنسيج. وإذا ما حاولنا لَحمَها مع الكونية، فهي تَعمَلُ على البحثِ عن الثنائيةِ الجدلية لـ الطاقة – المادة داخلَ الواقعِ الاجتماعي، وتفسيرِها بموجب ذلك.
وعلى ضوءِ هذه الاصطلاحاتِ نجدُ أنه ما مِن أوضاعٍ تُهَدِّدُ الحياةَ فيما بين عناصرِ الثقافتَين الأيديولوجية والمادية للمجتمعِ النيوليتي، وما مِن أمورٍ تَبعَثُ على النزاعِ والشِّقاق فيما بينهما، وبالأخص في مراحلِ البناءِ والتَّمَأسُس. ذلك أنّ الأخلاقَ الاجتماعيةَ لا تَسمَحُ بذلك البتة. فالمُلْكِيةُ الخاصةُ لم تَجِد فُرصتَها في النموِّ بعد، باعتبارِها المؤثرَ الأساسيَّ المُفضي إلى التصدعاتِ الاجتماعية. وتأسيساً على ذلك، فتقسيمُ العملِ بين الجنسَين لم يَتَعَرَّف بعد على علاقةِ المُلْكيةِ والعنف. علاوةً على أنّ تأمينَ القُوتِ والكلأِ حصيلةَ النشاطِ المشتركِ لَم يَشهَدْ بعدْ المُلْكيةَ الخاصة. بمعنى آخر، فالجماعاتُ الصغيرةُ التي لم تَتَضَخَّمْ بعد – حجماً وعدداً – تَتَّسِمُ بثقافاتٍ أيديولوجيةٍ وماديةٍ مشتركة ومتماسكةٍ فيما يتعلقُ بجميعِ النقاطِ الآنفة الذكر. ذلك لأنهم اعتَبَروا المُلْكيةَ الخاصةَ والعنفَ من المهالكِ الحيويةِ القادرة على تدميرِ هذه البنى وإفسادها، وبالتالي، استَمسَكوا بالتقاسمِ المشترَكِ والمَشُورةِ الجماعية كقاعدةٍ ركن في أخلاقِهم لأنها المبدأُ الأولي المحافظُ على تَراصِّ المجتمعِ وتَماسُكِه. ونظراً لطبيعةِ مبدأِ المعاني هذا، فالبنيةُ الداخليةُ للمجتمعِ النيوليتي تَبدو منيعةً وملتئمةً لأقصى الحدود. ويَعودُ استمرارُها طيلةَ آلافِ السنين إلى هذه الحقيقة. أما إذا قارنَّا الصلاتِ بين المجتمعِ والطبيعةِ آنذاك مع ما هي عليه في المجتمعِ المديني، فدَعكَ مِن وجودِ هُوَّةٍ فسيحةٍ بينهما آنذاك، بل إنّ التناغمَ والانسجامَ مع المبدأِ الأيكولوجي مستمرٌّ وبكلِّ قوة في كِلتا الثقافتَين. فاقترابُ الذهنيةِ من الطبيعةِ مُفعَمٌ بالقدسياتِ والألوهيات، ذلك أنهم يَنظُرون إلى الطبيعةِ على أنها حيويةٌ مثلُهم تماماً. فباعتبارِها سخيةٌ بِمَنحِهِم الهواءَ والماءَ والنارَ وشتى الأنواعِ النباتية والحيوانية والغذاء، فهي تُعادِلُ الإلهَ عندهم، بل وهي مِن أعظمِ عناصرِ الألوهية. ولطالما نَستَشعِرُ بعضَ البواعثِ القويةِ على اصطلاحَي الإلهِ والألوهية مستترةً في هذه الحقيقة.
سنشرحُ المعاني التي أضفاها المجتمعُ المديني على مصطلحِ الإله في مكانِها المناسب. المهمُّ هنا هو كَونُ الألوهيات، التي احتلَّت حيزاً فسيحاً في ذهنيةِ المجتمع النيوليتي، خاويةً تماماً من القمعِ والاستغلال والعنف، أو من التَّسَتُّرِ عليهم. بل تَرجحُ فيها كَفَّةُ الرحمة، الشكران، الرفاه والوفرة، الوِد، الاندفاعِ والحماس. وعندما تَسوءُ الأوضاع، يَغلُبُ ربطُ ذلك باصطلاحاتٍ من قَبِيل الخوفِ والورع والنور، لتأمينِ التناغمِ معها ثانيةً (أي مع الطبيعة. وبتعبيرٍ علمي، يَتَّبِعون السلوكَ الأيكولوجي، ويَسعَون للتناغمِ معها وأنْ يَكُونوا بِيئَوِيّين). وإذا استدعى الأمر، يُقَدِّمون أَثمنَ ما لديهم، فِلِذّاتِ أكبادهم من الشاباتِ والشبابَ اليافعين قرباناً في سبيل ذلك. أما الجانبُ المجتمعيُّ للإله، فيَقبَلونه على أنه الوجودُ السَلَفِيُّ للجماعة، وذلك عبرَ اصطلاحاتِ "الطوطم"، "الطابو"، و"المعنى" التي تُعَدُّ عبادةً أوليةً في مجتمعِ الكلان القديم أيضاً. بمعنى آخر، فهو مشحونٌ بالمعاني كضربٍ من ضروبِ دينِ "السَّلَفِيّة atacılık" و"الإلهةِ الأم". ولَئِنْ كانت القدسيةُ ومصطلحاتُ الطوطمِ والطابو والمعنى التي ذكرناها لا تَدخلُ في عِدادِ الألوهية بمعنى الكلمة، إلا أنها تصبحُ هالةً ثقيلةَ الوطأةِ على الأذهان، تَحُومُ فوقَ رؤوسِهم على الدوام. وما القدسيةُ في جوهرِها سوى مواقفُهم المتَّبَعةُ إزاءَ كلِّ ما هو مؤثرٌ على حياتِهم، وتَحتَضِن في ثناياها مشاعرَ الخشوعِ والحماس، وأحياناً الورعَ والارتياب، وأحياناً أُخَر المحبةَ والتقدير، وأحياناً أيضاً الألمَ والنَّدَبَ والبكاء. إنها القيمةُ التي يَخلَعونها على تأثيرِ المواضيع والأشياء Nesne والمعاني في حياتِهم، ويمكننا تسميتُها أيضاً بالأخلاق. وبالأصل، تَتَخَفّى وراءَ الأخلاقِ تلكَ الآلهةِ والقدسياتِ التي يُؤْمِنون بقدرتها على صونِ جماعاتِهم قويةً متماسكة، وبدورِها الأساسي في ذلك. والجماعاتُ جديةٌ للغاية في هذا السياق. هذا ويؤمنون بأنّ أيَّ إخلالٍ أو إساءةٍ أو سوءِ أدبٍ – مهما صَغُر – أو أيَّ بُخلٍ في تقديمِ القرابين؛ من شأنِه أنْ يَنتهي بكوارثَ كاسحة. أي أنها مجتمعاتٌ أخلاقيةٌ بكلِّ معنى الكلمة.
ومهما يَكُ ثمةَ امتلاكٌ اجتماعي جماعي للنباتات والحيوانات المستَأنَسَة فجَعَلوها جوهرَ ثقافاتِهم، إلا أنه لا يمكن تسميةُ ذلك بالمُلْكية. فالملكيةُ تشتمل على التشييء. ولكن، لم يَكُن ثمةَ ذهنيةٌ تسفر عن التمييز بين الذاتاني والموضوعاني بعد. بل وكانوا يَعتَبِرون الأشياءَ Nesne مثلَهم. فبقدرِ ما يَكُونون مُلكاً لأنفسِهم ولبعضِهم، تَكُونُ الثقافةُ والنباتُ والحيواناتُ المُدَجَّنةُ أيضاً مُلكاً بنفسِ الدرجة. وبالتالي، لا يُمكنُ الحديثُ عن خللٍ أيكولوجيٍّ جدي أياً كان. لا شك في أنه ثمة بداياتٌ تُمَهِّدُ للتوجهِ صوبَ المُلْكية، ولكنَّ تحويلَها إلى مُلْكيةٍ بِحَق كان سيَتَحَقَّقُ بعدَ ردحٍ طويلٍ من الزمن، وفي ظروفٍ مختلفة. يجب ألا يُستَخلَصَ من سردِنا هذا أنّ المجتمعَ النيوليتيَّ "جنة"، حيث أنّ المجتمعَ بذاته لا يزال غَضّاً نَضِراً، ويَمُرُّ بمرحلةٍ حرجةٍ تَحُفُّها المخاطر، لأنّ مستقبلَه لا يزال مبهَماً، وكذلك بسببِ الظروفِ الطبيعية والمناخية غيرِ المستقرة، وخطورةِ تَمَخُّضِها عن انكساراتٍ وانتكاساتٍ جديةٍ قد يواجهها. والمجتمعُ كان واعياً لذلك يقيناً. وما يَترُكُ بصماتِه على الذهنيةِ بالأصل هو هذه المخاوف. وبحثاً منه عن الحل – ولو لاحَ ساذجاً وبسيطاً – يبدو أنه لَم يَكُ له بُدٌّ مِن تطويرِ ميتافيزيقيةٍ ذاتِ أبعادٍ ميثولوجيةٍ ودينية.
وبموجبِ هذه الشروح، بمقدورنا – وعلى نحوٍ أفضل – إدراكُ معانيَ ميتافيزيقيةِ الحياةِ الجماعية المتمحورةِ حولَ المرأةِ الأم، وما يَنُمُّ عنها من قدسيةٍ وألوهية. فمزايا المرأةِ المماثلةُ للطبيعة في الإنجابِ والتنشئةِ والشفقة والرحمة، ومكانتُها الرفيعةُ المجيدة في الحياة، تَجعلُها العنصرَ الأوليَّ للثقافتَين الماديةِ والمعنوية على السواء. أما الرجل، فدعكَ من أنْ يَكُونَ زوجاً لها، بل لا "ظلَّ" لِحُكمِه بعدْ على جماعيةِ المجتمع، ومن المحال أنْ يكون. فنمطُ حياةِ المجتمع لا يَسمَحُ بذلك إطلاقاً. بالتالي، فأوصافُ الرجل من قَبِيل الجنسِ الحاكم، الزوج، صاحبِ المُلْك، وصاحبِ الدولة تَتَمَيَّزُ بطابعٍ اجتماعيٍّ بحت، وكانت ستَتَطَوَّرُ وتَبرُزُ فيما بعد. فالمجتمعُ آنذاك كان يعني المرأةَ الأم، أطفالَها، وأشقاءَها وشقيقاتِها. ومن المحتمل أنّ الرجلَ المُرَشَّحَ ليكونَ زوجاً كان يُبدي نفعَه بمهاراتٍ أخرى عدا الزوجية، مثلَ الصيدِ وتربيةِ الحيوان والعنايةِ بالنبات على نحوٍ حَسَن؛ ليكونَ جديراً للقبولِ به عضواً. في حين أنّ حقوقَه أو مشاعرَه بالإحساسِ بأنه زوجٌ أو أبٌ لم تَكُ قد نَمَت كظاهرةٍ اجتماعيةٍ بعد. وعلينا ألا نغفلَ أبداً عن أنّ الأبوةَ والأمومةَ مصطلحان وظاهرتان وإدراكان اجتماعيَّان بالأساس، ولو أنهما ليسا خاليَين من الأبعادِ النفسية أيضاً.
متى دخلَ المجتمعُ النيوليتي في الضائقة، أو متى سُعِيَ لِتَخَطّيه؟ من المهم سردُ الشروح في هذا المضمار بالاعتماد على الأسبابِ والدوافع الداخلية والخارجية. فلَربما كان تجاوُزُ الرجل لنقاطِ ضعفه، وتَحَوُّله إلى صيادٍ حاذق، وبلوغُه مكانةً منيعةً مع حاشيته الملتفةِ حوله؛ قد هَدَّد النظامَ الأمومي. كما يُحتَمَل أنْ تَكونَ مهارتُه في تنشئةِ الحيوانِ وتنميةِ النبات قد تَسَبَّبت في ذلك أيضاً. في حين أنّ أغلبَ مشاهداتِنا تُرَجِّحُ لدينا احتمالَ صهرِ المجتمع النيوليتي وحَلِّه بمؤثراتٍ خارجية. ولا ريبَ في أنّ هذه المؤثرات تَتَجَسَّدُ في دولةِ الراهبِ ومجتمعِه المقدَّسَين. وقصصُ أُولى المجتمعاتِ الحضارية في ميزوبوتاميا السفلى وضفافِ النيل تُؤَكِّدُ صحةَ هذا الرأي بنسبةٍ كبرى. فمثلما ذَكَرنا بشكلٍ مُبَرهَن، فثقافةُ المجتمع النيوليتي الصاعدة، وتقنياتُ الريِّ في الأراضي الرسوبيةِ السهلية أدَّيَتا إلى ظهورِ فائضِ الإنتاج الذي يتطلبه هذا المجتمعُ الجديد المتمدِّنُ بِالتَّمَحورِ حولَ فائضِ الإنتاج المتعاظم، والذي نَظَّم أمورَه على هيئةِ دولة، وحَقَّقَ منزلةً مختلفةً للغاية عن طريقِ قوةِ الرجل بالأغلب. والتمدنُ المتزايدُ يعني التبضعَ، الذي يَجلبُ بدورِه التجارة. والتجارةُ من جهتِها تَتَسَرَّب في شرايينِ المجتمع النيوليتي على شكلِ مستوطناتٍ كولونيالية، لِتَنشُرَ معها تصاعدياً التبضعَ والمُلْكيةَ وقيمةَ المقايضة (قيمةُ الاستخدامِ للأشياءِ Nesne هي السارية في المجتمعِ النيوليتي، في حين أنه تَسُودُ العطايا والهدايا عِوَضاً عن المقايضة)، وتُسَرِّعَ بالتالي من انفكاكِ وانحلالِ المجتمع النيوليتي. ومستوطناتُ أوروك وأور وآشور إنما تُبَرهِن هذه الحقيقةَ بما لا يَشُوبُه أدنى شك.
وتأسيساً على ذلك انضمَّ حَوضا دجلة والفرات العلويُّ والأوسطُ إلى الحضارةِ كمنطقةٍ نيوليتيةٍ أولية. في حين أنّ كافةَ الجماعاتِ الكلانية الأخرى، سواءً بَلَغَت المستوى النيوليتيَّ أم لَم تبلغه، فقد أصبحَت بالأغلب في مواجهةِ هجماتِ المجتمع المديني الخارجية، وأساليبِه وممارساتِه في الاحتلال والاستيلاءِ والاستعمار والصهر والتصفية. وملاحظاتُنا تَدُلُّ على مرورِ جميعِ الجماعاتِ البشرية بتطوراتٍ في هذا الاتجاه ضمن المناطقِ التي قَطَنَتها. وأَعقَبَ ذلك تَعَرُّضُ المجتمعِ النيوليتي – الذي يمكننا اعتبارُه الخليةَ النواةَ للمجتمع – وكلِّ ما تَبَقّى من المراحلِ السالفةِ له لهجماتِ المجتمعِ المديني في جميعِ المناطق وعلى مستوياتٍ أعلى؛ لِيَبقَوا محافظين على وجودِهم إلى هذه الأيام على نحوِ بقايا فقط.
أما فكري الشخصي، فيتَمَثَّلُ في استحالةِ القضاءِ على المجتمع الذي يسبق الحضارةِ المدينية أو إفنائِه، لا لِكَونِه منيعاً أو قوياً جداً، بل لاستحالةِ استمرارِ الوجودِ الاجتماعيِّ بدونه، تماماً مثلما نصادف ذلك في ظاهرةِ الخلايا النواة. ولا يمكن للمجتمعِ المديني أنْ يتواجدَ إلا بِمَعِيَّة المجتمعِ السابق له بالتأكيد. وهذا الأمرُ مماثلٌ لواقعِ استحالةِ وجودِ الرأسماليةِ بلا عُمّال. وكذا شأنُ المجتمعِ المديني، الذي لا تتحقق كَينونَتُه دياليكتيكياً إلا بالارتكازِ إلى المجتمعاتِ غيرِ المتحضرةِ أو شِبهِ المتحضرة. قد تَكُونُ الإباداتُ وعملياتُ التطهيرِ قد تَحَقَّقَت نسبياً, إلا أنّ إنجازَها بشكلٍ كلي يخالفُ طبيعةَ المجتمعية ويَشُذُّ عنها.
بالإضافة إلى ذلك، من المهمِّ بمكان عدم الاستخفافِ بالثقافةِ الأيديولوجية للمجتمعِ النيوليتي الصامد طيلةَ مسيرةِ التاريخ. فحقوقُ الأمومة، التضامنُ الاجتماعي، الأُخُوَّة، الوِدُّ الخالي من المنفعةِ والمتطلعُ – فقط وفقط – لمصلحةِ المجتمع، الاحترامُ، فكرةُ الفضيلة (أي الأخلاق)، التعاونُ النزيهُ بلا مقابل، تقديرُ كلِّ مَن يُنتِجُ القِيَمَ ويُحيي المجتمعَ عن وجهِ حق، الارتباطُ بالجوهرِ السليم والسوي لمصطلحَي القدسية والألوهية، تقديرُ الجِوار، التَّحَسُّر والشوقُ الذي لا يَنضُبُ للمساواة والحياةِ الحرة، وغيرُها من القِيَمِ الخالدة؛ إنما هي أسبابُ كينونةِ هذا المجتمعِ أساساً، وهي في الوقتِ عينِه قِيَمٌ يستحيلُ زوالُها ما دامَت الحياةُ الاجتماعيةُ قائمة. في حين أنّ قِيَمَ المدنية، ولِكَونِها مُترَعَةً بالكثيرِ من القِيَمِ الثقافيةِ المادية والمعنويةِ التي لا فائدةَ لها على المجتمع ولا نفع، من قَبِيلِ القمع، الاستغلالِ، الاستعمار، النهبِ، السلب، الاعتداءِ، الاغتصابِ، المجازر، الإجحافِ وانعدامِ الضمير (اللاأخلاقية)، الإفناءِ، والصهرِ؛ فوُجودُها بين صفوفِ المجتمع يَكُونُ وقتياً. إنها بالأغلب صفاتُ المجتمعِ المريض والإشكالي.
سنسعى في فصلِ سوسيولوجيا الحرية لتفسيرِ كيفيةِ تجاوزِ القِيَمِ المريضةِ والمشوَّهةِ والمنحرفةِ للمجتمعِ المديني، وكيفيةِ دمجِ ما يتبقى من القيمِ الراسخةِ مع المجتمعِ الحرِّ المتساوي والعادل الديمقراطي.
ب- سيكون من المفيد تناول المجتمعِ المديني على ثلاثِ مراحل: الأولى، الوسطى، والأخيرة. ولكن، من المهم الإدراك بسطوعٍ تام أنّ المجتمعَ المدينيَّ كلٌّ متكامل، وأنّ مثلَ هذه التقسيماتِ بمقدورِها تسهيل التحليل – ليس إلا – في حين أنها في الواقعِ الملموس تُحافِظُ على مُعضلاتِها الإشكاليةِ وتَكامُلِها على صعيدِ "الفترة الطويلة".
أما الأوصافُ التي يُوصَف بها المجتمعُ المديني من قَبِيلِ: النُّبلِ واللطف، الرِّقةِ والدقة، اللياقةِ واللباقة، يَلتزم بالقواعدِ ويحترمها، يَمتَثِل للمعايير، ممنهَج، عاقلٌ، مرتبطٌ بالحقوق، ومسالم؛ فجميعُها صفاتٌ مُبتَدَعةٌ ومُلصَقَةٌ به بِتمام الكلمة، ولا قيمةَ لها سوى الدعاية. فالوجهُ الحقيقي للمجتمعِ المديني مُعَبَّأٌ بالانحرافاتِ والتشويشات والأمراضِ الاجتماعيةِ المخالفة لطبيعةِ الحياة، من قَبِيلِ: العنفِ، الكذبِ والرياء، الخداعِ، الفظاظة، الحِيَلِ والدسائس، الحروبِ، النهبِ والسلب، الأَسْرِ، الإبادةِ، الاستعبادِ والاسترقاق، الغدرِ والخيانة، الاغتصابِ، الإجحافِ وعَدَمِيّة الضمير، دَهْسِ الحقوقِ والإخلالِ بها، عبادةِ مبدأِ القوة، تحريفِ مبدأِ القدسية والألوهية لتسخيره في خدمةِ حفنةٍ قليلةٍ من المنفعيين، التَّعَدِّي والاعتداء، التعصبِ الجنسوي الاجتماعي، الأكوامِ المتكدسةِ للعبيد، القرويين الهائمين على وجوههم بلا عمل، والعمالِ العاطلين، وبينما يَغرَق طرفٌ في الأملاكِ والتَّرَفِ والبذخ، يَموت الطرفُ الآخر من المجاعة والبؤس والفقر المدقع، وهكذا دواليك. لكنه يبذل جهوداً مريرةً وممنهَجَةً بلا انقطاع في سبيلِ إخفاءِ وجهِه الحقيقي، مستفيداً في ذلك من قدراتِه الدعائيةِ ومواقفِه الميتافيزيقيةِ الرذيلةِ الزائفة.
وبتعبيرٍ أكثر علمية، فالمجتمعُ المديني – ومثلما سعَينا لشرحه على الدوام – هو ذاك المجتمعُ المتزامنُ مع المدينة، والمتحققُ مع التمايزِ الطبقي، والمُدارُ بالتنظيم المسمى بالدولة. فالقرابةُ والتضامنُ السائدَان في الأثنيات والعشائرِ قد يَفتحان الطريقَ أمامَ تمايزٍ اجتماعيٍّ في مستوى الهرميةِ بالأكثر، ليس إلا. في حين أنّ التقسيمَ الطبقيَّ وبلوغَ مستوى الدولة لا يتناسب وطبيعتَها. بمعنى آخر، فالثقافةُ العشائريةُ لا تتناغم والثقافةَ الطبقيةَ الدولتية. فجوهرُها الأساسي يَكمن في تصرفِها بفائضِ الإنتاجِ المتزايد وادخارِها إياه. في حين أنّ ما يُمَهِّد الطريقَ لبروزِ فائضِ الإنتاجِ هو الاعتداءُ والاستيلاءُ على وسائلِ الإنتاج واستملاكُها، بما فيها الأراضي أولاً. ومثلما يُقال دائماً: المُلكيةُ هي ما يُسرَق من المجتمع. في حين يَكُونُ فائضُ الإنتاجِ ثمنَ تلك اللصوصية وثمرتَها. وتنظيمُ الدولة بالأساسِ هو أداةُ حمايةِ هذه المُلْكية، ووسيلةُ التوزيعِ الجماعي لمجموعِ فائضِ الإنتاج على أصحابِ الدولة. أي أنها تَعني تَمَلُّكَ ما نُظِّمَ من المُلْكِية وفائضِ الإنتاجٍ وفائضِ القيمة. وبطبيعةِ الحال، فقد اقتضى ذلك طيلةَ مجرى التاريخ وجودَ الجيوشِ القاهرة، والبيروقراطيات، والأسلحةِ، وأدواتِ الشرعنة. ولهذا الغرضِ اشتَقَّت لنفسها ما يُناسِب مآربَها من علومٍ ويوتوبياتٍ وفلسفاتٍ وفنونٍ وحقوقٍ وأخلاقٍ وأديان. وعَمِلَت الميتافيزيقيا الخاويةُ من المعاني على تحريفِ الأدوارِ الاجتماعيةِ لجميعِ هذه الفئاتِ والتصنيفات، وتشويهِ روابطِها مع الحياةِ الحرة. الأساسُ هنا هو بنيويةُ المجتمعِ المديني، بالرغم من احتوائِها المعضلاتِ والإشكالياتِ والتحريفاتِ القصوى بشأن صلاتِها مع الثقافةِ الأيديولوجيةِ والمادية. وهذا تماماً ما يُفيدُ بِنَماءِ الثقافةِ الماديةِ تصاعدياً. أنا لا أتحدثُ عن زوالِ الثقافةِ الأيديولوجية. بل إنّ وجودَها يَتَّسِمُ بخاصِّيَّتَين أساسيَّتَين: البقاء في المرتبةِ الثانية، والانحراف.
تَقتَضي هاتان الخاصيَّتان شرحَهما أكثر لاستيعابِهما على نحوٍ أفضل. من المعلوم أنّ الجميعَ يُجمِع على كَونِ البنيويةِ والوظيفيةِ من مصطلحاتِ "علمِ المعاني". فلِكُلِّ بنيةٍ وظيفتُها، ولكلِّ وظيفةٍ بُنيتُها. وفي وضعِ الفوضى تعاني البنيةُ والوظيفةُ من الأزمة، وتغدوان وجهاً لوجه أمام التبعثرِ والانحلال. وحينها تَدخُلُ بعضُ البنى المختلطةِ الوقتيةِ والوظائف المتناقضةِ المتميزةِ بماهيتِها الكونيةِ حَيِّزَ العمل. وعلى سبيلِ المثال: فالتركيبةُ البنيويةُ للماء هي H2O. فأينما يَتَكَوَّنُ تَوَحُّدُ H2O في أيةِ بقعة من العالم، تَكُونُ البنيةُ قد تَأَسَّسَت. أما وظيفتُها، فتَتَجَسَّدُ فيما نسميه بـ"الماءِ" الشفافِ السيَّال. وأيُّ تَجَمُّدٍ أو تَبَخُّرٍ يُصيبُه يعني دمارَ بنيتِه الأصلية، وبالتالي فقدانَه وظيفتَه الأصليةَ أو تحديدَ نطاقِها. كما أنّ صُنعَ طاولةٍ من الخشبِ أو المعدن عملٌ بنيوي، في حين تَكُونُ فائدةُ الطاولةِ وظيفتُها التي تؤديها. فإذا لَم تَعُدْ تلك الأجزاءُ الخشبيةُ أو المعدنيةُ طاولة، تَكُونُ قد فَقَدَت وظيفتَها، حتى وإنْ لَم تَفنَ أو تَزُل. وقد تتواجدُ طاولاتٌ عوجاءُ منحرفة، وحينها لا مفر من حدوثِ الفسادِ البنيوي والوظيفي على السواء.
كلُّ كيانٍ في الكون يَتَّسِمُ بحَملِهِ خاصيتَي البنيويةِ والوظيفية معاً. وبالمعنى العام، إذا ما اعتَبَرنا المادةَ بنيةً، تَخطُرُ الطاقةُ على بالنا فوراً للحفاظِ على هذه البنية. أي أنّ الطاقةَ وظيفةٌ بالنسبةِ للمادة. وفيما يتعلق بأولويةِ الطاقةِ أم المادة، فقد أُثبِتَ علمياً أنّ الطاقةَ هي الأساس. فالبنى الماديةُ لا تَتواجدُ بلا طاقة، في حين ثمة طاقةٌ بلا بُنى مادية. من هنا نُدرك إمكانيةَ فناءِ المادة (بنيوياً)، واستحالةَ فناءِ الطاقة. بالطبع، وحسب معرفتنا، لا بد من وجودِ البنى الماديةِ لتطويرِ وظيفةِ الطاقة. فحتى الحيويةُ ذاتُ صلاتٍ وثيقةٍ بالأوساطِ والبنى الماديةِ المحدودة والراقية للغاية، بحيث من غيرِ الممكن التفكيرُ بحيويةٍ بلا مادة، أو بالأصح، بلا بنيةٍ ماديةٍ مقابلةٍ لها. وإنْ وُجِدَت، فنحن نَجهَلُها إذن. فالتكويناتُ البنيويةُ الأرقى تقتضي بالمقابل وظائفَ متطورةً مكافئة لها.
أما ما يُقابل البنيةَ الماديةَ والوظيفةَ في المجتمع، فهو الثقافةُ الماديةُ والثقافةُ الأيديولوجية. وبِتَقييمنا للمجتمعيةِ نجد أنه، ومقابلَ التطورِ المفرطِ للبنيةِ المادية في المجتمع المديني، فقد عَجِزَ عن تطويرِ وظيفتِه بشكلٍ تام، وبالتالي خَسِرَها. وهذا بدوره ما أدى إلى تدميرِه لِبُناه أيضاً. أما عِلَّةُ ذلك فتكمن في تغاضيه وعدمِ التزامه، بل وإفراطِه في تضييقِ الخناقِ على الثقافات البنيوية والأيديولوجيةِ الرئيسية، التي تَجعَلُ المجتمعيةَ ممكنة. يمكننا تشبيه ذلك بالمثال التالي: إنَّ خلطَ الماءِ بالبترولِ يُفسِد الماء، وبالتالي يُفقِده وظيفتَه. فالبترولُ أيضاً سائلٌ كالماء، ولكنّ وظيفتَه مختلفةٌ كلياً. وكذا إنْ كانَ تَطَوُّرُ الثقافةِ المادية مُعادِلاً ومتناغماً مع تَطَوُّرِ الثقافةِ الأيديولوجية، فلا يمكننا حينئذ الحديث عن مخاطرِ ذلك أو عن تأثيراتِه السلبية على المجتمع. بل نقول حينها أنه طبيعيُّ الحال. لكن، وفي حالِ تَطَوُّرِ الثقافةِ المادية وتَكَدُّسِها في قبضةِ حفنةٍ اجتماعيةٍ نخبوية، فمعنى ذلك فقدان المجتمع – وبكلِّ تأكيد – لخاصياتِه البنيويةِ والوظيفيةِ على النطاقِ العام، وتعاظُم ثقافتِه المادية وانحلال ثقافتِه الأيديولوجية على النطاقِ الضيق.
وبمثالٍ آخر ربما نُوَضِّحُ أفكارَنا على نحوٍ أفضل: أهراماتُ مصر بنى ماديةٌ عملاقة. ولكن، مقابل ذلك ثمة الملايين من البشر الذين خَسِروا وظيفتَهم، وحياتَهم الغالية، وحريتَهم، أي أنهم أضاعوا ثقافتَهم الأيديولوجية. الحضارةُ المدينية أيضاً شيءٌ كذلك، حيث تُشَيِّدُ البنى الضخمةَ، وربما رَغِبَت في إبداءِ عظمتِها عبر تلك المعابد، المدائنِ، الأسوارِ، الجسور، الحقولِ، المستودعاتِ والعنابر، وحتى الغِلالِ والمنتوجات. فمجتمعاتٌ كهذه ممكنةُ الحصولِ من قِبَلِ المدنيات. لكن، ولدى البدءِ بالبحثِ عن الثقافةِ الأيديولوجية في نفسِ المجتمعات، فما سنواجهه حينها إما زوالُ هذه القيمة، أو تَشَوُّهُها وانحرافُها. بمعنى آخر، حفنةٌ قليلةٌ مجرَّدةٌ من سَوادِ المجتمع، تَفرُضُ عليه القمعَ والاستغلالَ بلا رحمةٍ أو شفقة، وتَبتُرُه عن ثقافتِه الأيديولوجية، أو أنها تَمنَحُه إياها بعدَ أن تُحَرِّفها، لتُجَرِّدَه من قِيَمِه الثقافيةِ الأيديولوجية الأصلية.
أما هاتان الثقافتان الماديةُ والأيديولوجية اللتان تَقتاُت عليهما الأقلية، فتُفضِيان إلى مجتمعٍ مريض، ذي وجهَين، غارقٍ في بحرِ المادة، ومبتورٍ تماماً عن الأيديولوجيا البيئويةِ والحرة. وما الحالاتُ التي أَسمَيناها "القضايا الاجتماعية" سوى ثمرةُ هذا التطورِ الدياليكتيكي. ولهذا السببِ بالذات يَنقطع المجتمعُ المديني عن البيئة. أي أنّ هذا الانقطاعَ أنطولوجيٌّ (وجودي)، وليس نوعياً أو ما يتعلق بالماهية كما يُعتَقَد. بمعنى آخر، فَكَينونةُ المجتمعِ المديني تقتضي بالضرورة انقطاعَه عن البيئة. فالبيئةُ والأيكولوجيا – سواء تناولناها بمنظورِها القديمِ وفقَ تكامُلِ الطبيعةِ والمجتمع، أو بتعبيرٍ علميٍّ للغاية وفقَ اتحادِ الطبيعةِ والمجتمع – تقتضي مجتمعاً يَتَحَتَّمُ فيه تَخَطِّي المعاييرِ الأوليةِ المُكَوِّنةِ للحضارة المدينية، أي طبقاتِها ومدنِها ودولتِها. أنا لا أتحدث عن عملٍ فظٍّ للإزالة أو الإفناء، بل يُفتَرَضُ حصولُ التوازنِ والتناغمِ فيما بين الثقافتَين الماديةِ والأيديولوجيةِ لبناءِ مجتمعٍ جديد. فعندما يَعكِسُ هذا المجتمعُ التوازنَ والتناغمَ فيما بين الثقافتَين الماديةِ والأيديولوجية ضمنَ صفوفِه – وبالتالي التحامَهما مع الطبيعة – على شكلِ طبيعةٍ متحررة (أي، الطبيعةِ الثالثة، حسبَ تعبيرِ موراي بوكين)؛ فهذا ما يُمَهِّد الطريقَ في الوقتِ نفسِه للتغلبِ على الخللِ واللاتوازنِ في التناقضِ القائمِ بين الطبيعةِ والمجتمع ضمنَ المجتمعِ المديني.
وإذا ما قَيَّمنا مرحلةَ الإنشاءِ الأولى للمجتمعِ المديني على ضوءِ هذه الإرشاداتِ الاصطلاحيةِ العامة، سنجد في جميعِها – على وجهِ التقريب – مَشهَدَ ثقافةٍ ماديةٍ عملاقة، ليس إلا. فالأهراماتُ المصريةُ العملاقة، وزقوراتُ السومريين، والمدينةُ الصينيةُ تحتَ الأرض، ومعابدُ الهنديين، والمدنُ والمعابدُ المماثلة في أمريكا اللاتينية؛ كلُّ ذلك يَبسُطُ أمامَنا وجودَ الثقافةِ الماديةِ دون أدنى غموض. أما المعنى التي تَتَضَمَّنُه، أي الثقافةُ الأيديولوجية، فيَتَجَسَّدُ في الجثثِ المُحَنَّطة، هياكلِ الآلهة، ومسيرةِ المَلِك في الحياةِ الآخرة أيضاً بِرِفقََةِ جيوشِه. أي أنّ المعنى قد تَجَمَّدَ، أو حُرِّفَ على نحوٍ مذهل، وتُكتَسَب المعاني في هذه الأوضاعِ بالتشديدِ على مصطلحِ الـ"أنا" الكائنِ في نفسيةِ الإنسان أيضاً. ولكن، مِن الواضحِ جلياً أنّ المعنى الحقيقيَّ يَكمُنُ في التَّغَيُّرِ والتحولِ القائمِ في المجتمعية. حيث نُدرِك يقيناً استحالةَ أنْ يخطرَ ببالِ المرءِ مثلُ هذه البنى لولا وجودِ المجتمعِ أو حصولِ تَغَيُّرِه. وتأليهُ المَلِكِ أيضاً موضوعُ ذهنيةٍ صرفة، إلا أنها ذهنيةٌ مُحَرَّفةٌ ومشوَّهةٌ ومدمِّرةٌ للذهنيةِ الأيديولوجيةِ الأساسية التي تُوجِد المجتمعَ وتُنشِئه. وهي ذهنيةٌ بَرَزَت للوسطِ على حسابِ الذهنيةِ الاجتماعيةِ الحقيقية، فكَلَّفَ ثمنُها دمارَ الثقافةِ الأيديولوجية، ولذلك ناهضَتها وحاربَتها الأديانُ التوحيديةُ الأساسية بِحِقدٍ عميقٍ ومقتٍ كبير، واعتَبَرَتها علةَ وجودها. أما هذا المجتمعُ المتموقعُ في المدينة، والمنظِّمُ شؤونَه كدولةٍ طبقية، فنُفَسِّرُ زخمَه من الثقافةِ الماديةِ المتمثلةِ في الذهنيةِ المنحرفة، الميتافيزيقيا السيئةِ، الخروجِ عن الطبيعة، والتحكمِ بالطبيعةِ والتَّفَوُّقِ عليها، وعرضِه ذاتَه وكأنه ابتكارٌ خارجَ حدودِ الطبيعة وفوقَها كلياً؛ نُفَسِّرُ ذلك كلَّه على أنه سقوطُ الثقافةِ الأيديولوجية إلى المرتبةِ الثانية، وتَعَرُّضُها للتحريف والتشويه.
لذا، من غيرِ الوارد القولُ بمرورِ هذه المرحلةِ خاويةً من ردودِ الفعل، ومُترَعَةٌ بالحماس، أو الزعمُ باستقبالِها بحفاوةٍ خاليةٍ من الآلامِ وكمعجزةٍ خارقة. وما السردُ الميثولوجيُّ سوى تعبيرٌ خفيٌّ للحقيقة. فسواءً الميثولوجيا أو الوثائقُ الدينيةُ المقدسة، ليست سوى ضربٌ من أقاصيصِ المقاومة. أما تفسيرُ المقاومةِ الأولى على أنها انتفاضةُ الثقافةِ الأيديولوجية، فسيكون تحديداً قَيِّماً. فالمقاوَمةُ ذاتُ أبعادٍ متعددة. فَقَبلَ كلِّ شيء تَتَّضِحُ بجلاء في رسومِ إينانا تلك المقاومةُ العظمى للمرأةِ إزاءَ حَبسِها في البيت وإتْباعِها للرجل. أما إحاطةُ المدنِ بالأسوارِ بُعَيدَ إنشائِها على الفور، فيَرمُزُ تماماً إلى تمردٍ وانتفاضةٍ كاملةٍ لثقافةِ الأثنياتِ الأيديولوجية. وإذا ما تَمَعَّنَّا وغُصنَا في أغوارِ مفهومِ الإلهِ الخالق والإنسانِ العبد، فسوف نلاحظُ الصراعَ الطبقيَّ العظيمَ المُخاض. فاصطناعُ وابتداعُ الإلهِ الخالقِ قد وُضِعَ مَحَلَّ مفهومِ الطبيعةِ – الإلهِ الأصليِّ المُفَرَّغِ من محتواه. وفي الحقيقة، فعندما تَقُومُ الطبقةُ الإداريةُ الحاكمة – التي لا علاقةَ لها بالخَلق، بل ومنقطعةٌ عنه كلياً – بالإعلان عن ذاتِها كآلهةٍ مُقَنَّعةٍ مُبدِعةٍ بحق، عبرَ تحريفٍ أيديولوجيٍّ كامل؛ فهي بالمقابل تَقُومُ بِوَصفِ أعضاءِ المجتمع – أصحابِ القدسياتِ والألوهياتِ النفيسةِ والمُبدعةِ عن حق – بأنهم خُلِقوا من بُرازِها وقُذاراتها؛ لِتُشيرَ بِلُغَةٍ ميثولوجيةٍ إلى اندلاعِ صراعٍ طبقيٍّ محتدمٍ ضَروس.
يَتَسَتَّرُ السقوطُ المتهاوي للثقافةِ الأيديولوجية في تلك السرود. حيث بِوِسعِنا قراءة السرودِ الميثولوجيةِ لأولى إنشاءاتِ الحضارة المدينية، وبالأخصِّ تلك التي تَنُصُّ على مهاراتِ الخَلقِ لدى الإله، وتقييمها كشكلٍ أيديولوجيٍّ للصراعِ والنضالِ الطبقيِّ الجاري. وبالأصل، ما مِن لغةٍ أخرى للسردِ والتعبير في تلك المرحلة. فالتنافسُ بين المدائن، وتدميرُها وحرقُها قد شَهِدَ كفاحاً اجتماعياً ضارياً. كما أنّ السرودَ المَلحَميةَ، وترتيباتِ مجمعِ الآلهة، وعمارَ المدائن، وأبنيةَ المقابر؛ جميعُها تَعكِسُ بما لا يَشُوبُه شكٌّ تلك الهُوَّةَ الطبقيةَ الحاصلة، والمسافةَ الفسيحةَ المفتوحةَ إزاءَ المجتمعِ الريفي. وقصصُ فرعون ونمرود ليست سوى وثائقُ تُسَجِّلُ مدى غورِ التصدعاتِ والشروخ في المجتمع. بينما تَحتَضِنُ التراتيلُ العشائريةُ بين طياتها آثارَ المصاعبِ والضوائقِ واليأس تجاه هجماتِ المدنية.
تأتي تقاليدُ الأنبياء في صدارةِ المقاوماتِ المتماسكة التي تَمَكَّنَت من إيصالِ صوتِها من مرحلةِ الإنشاءِ الأولى للمجتمع المديني إلى هذه الأيام. فأقاصيصُهم التي تَبتَدِئُ بِسَردِ قصةِ آدم وحواء، أي أولِ إنسانَين على وجهِ البسيطة، إنما تَشتَمِلُ في أحضانِ جميعِ مزاياها على بَصَماتِ الثقافةِ الأيديولوجية. فإذا قَيَّمنا آدمَ وحواءَ على منوالٍ سليمٍ وفقَ استيعابِ ذهنيةِ الحضارة المدينية المتألهةِ تجاه المجتمعِ النيوليتي، سنجد أنها تَمُدُّنا بِأولى رؤوسِ الخيطِ الذي يُؤَدينا إلى الصراعِ بين السيدِ والعبد. حيث بِوسعِنا تفسيرُ محادثاتِ آدمِ مع الرب، وعلاقتِه مع حواء على أنها مؤشرٌ للتمييزِ بين السيدِ والعبد، بقدرِ ما تَرمزُ إلى سقوطِ المرأةِ الأم إلى المنزلةِ الثانية. أما خروجُ نوح، فكأنه يُوحي لنا بإنقاذِه المجتمعَ النيوليتي من قبضةِ السيدِ الجبارِ الطاغي، فيَحمِلُه على متنِ السفينة إلى منطقةٍ جبليةٍ يَستحيلُ وصولُ المدنية إليها، ليُعيدَ إنشاءَه من جديد. فالقصةُ بالأصل تَشرَحُ المجتمعَ السومري، وكذلك المجتمعَ النيوليتيَّ المقاوِمَ تجاهَه، والساعيَ للحفاظِ على وجودِه ملتئماً. إنّ إرجاعَ بداياتِ تقاليدِ هذَين النبيَّين إلى مرحلةِ إنشاءِ المجتمعِ المديني يُظهِر لنا وجودَ المقاومةِ منذ المراحلِ الأولى لدرجةِ أنها معمِّرةٌ ومستمرةٌ بِقدرِ المدنية على الأقل. وكيفما يُمَثِّلُ تاريخُ السلالات تاريخَ الطبقاتِ العليا، فكذا يَكُونُ تاريخُ النبوةِ ممثلاً بالأغلب لتاريخِ الثقافاتِ والعشائرِ المقاوِمة وتاريخِ الأبطال. فجميعُها تتقاطعُ في نقطةٍ مشتركة، ألا وهي مناهَضَةُ الوثنية.
من الضروري التمييز بين وثنيةِ المجتمع المديني وبين الطوطمِ وما شابهَه من رموزِ القبائل. فالآلهةُ المُجَمَّعةُ في مجمعِ المجتمعِ المديني أَشبَهُ بِنُسَخٍ من رسومِ وصورِ حُكّامِ المرحلةِ وأسيادِها. وجميعُها بالأصل مرسومةٌ على هيئةِ إنسان، بل والأنكى أنها تُمَثِّلُ الحُكَّامَ تماماً. وهنا بالذات يَكُونُ هجومُ الأنبياءِ على هذه التماثيل مُعادِلاً في جوهرِه لاستهدافِ الحكام. فمناهَضةُ الوثنية تعني مناهَضَةَ الدولتية. إنها معارَضةٌ ومقاوَمةٌ تجاه شتى المصطلحاتِ والرموزِ المُمَثِّلةِ للمجتمعِ المتمأسس. أما النزاعاتُ القائمةُ فيما بين الرهبانِ والمَلَكِياتِ السياسية، فماهياتُها مختلفة. فالرهبانُ يطالبون الملوكَ بنصيبِهم وحصتِهم من المجتمعِ الذي أَنشؤوه. وهكذا يَنشبُ الصراعُ فيما بين الطبقاتِ العليا. إنه صراعٌ داخلَ أروقةِ الدولة. وبما أنهم مُبدِعو الثقافةِ الأيديولوجية، فيُؤثِّرون بالتالي على الأنبياء، ولو بشكلٍ غيرِ مباشر. والراهبُ في أساسه يُمَثِّلُ رجلَ الدين في الدولة، ولا يُعنى كثيراً بالمجتمع المدني. في حين أنّ النبوةَ تَقُصُّ علاقةً معاكسةً، حيث تَنطِقُ باسمِ المجتمعِ الخارجِ عن حدودِ الدولة.
يَتَجَسَّدُ الجانبُ الخاصُّ للتقاليدِ المبتدئة بالنبيِّ إبراهيم، والمتمأسسةِ مع النبيِّ موسى في الجرأةِ على الانقطاعِ الكليِّ عن المجتمعَين المصري والسومري، وإبداءِ الإرادةِ الرصينةِ في بناءِ مجتمعَيهما هما. إننا نَتَعَرَّفُ هنا على ثورةٍ ثقافيةٍ أيديولوجيةٍ بكلِّ معنى الكلمة. أما نمرودُ وفرعون، فهما رمزا المجتمعَين السومري والمصري ودولتَيهما، ويدلان على لَقَبِ الحُكّامِ فيهما، ويَتَّسِمان بمزايا متمأسسةِ متأصلة، ويُعَبِّران عن السيادة المطلقة. وبالتالي، يُصَرِّحُ كلٌّ من إبراهيم وموسى عن عدمِ اعترافِهما بهذه السيادةِ عن طريقِ ثقافتِهما الأيديولوجية، أي مقاوماتِهما الذهنية. وهذه المقاومةُ تَمَرُّدٌ ذو قيمةٍ نفيسة بالنسبة لتلك المرحلة. فكيفما يَتَّسِمُ شعارُ اليوم "ثمةَ عوالمُ أخرى" بأهميةٍ كبرى، فكذا يُعلِنان هما في تلك الأزمان أنه ثمةَ عوالمُ خارجَ السيادةِ الرسميةِ للفراعنة والنماردة. ويناضلان في سبيلِ ذلك بِهِمَّةٍ ودأبٍ بِمَعِيَّة جماعاتِهما وأتباعِهما. إنها – قبلَ كلِّ شيء – حركاتُ الأمل. ولا يُمكِنُ استصغارُ نصيبِ هذه القصةِ في مَدِّ إسرائيلِ الراهنة بالقوة، أو في تَغَذّيها على تلك الثقافةِ الأيديولوجيةِ بأقلِّ تقدير. فجميعُ القصصِ واليوتوبيات التي تشتملُ عليها التقاليدُ الإبراهيمية تَنُصُّ على أنماطِ حياةِ القبائل ونُظُمِها التي سَدَّت المدنيةُ السبلَ أمامها، وتَسرُدُ حسراتِها وأشواقَها. لقد تَأَثَّرَت تلك القبائلُ بِكِلتا المدنيتَين، ولكن، من الضروري القيام بالتفسيرِ السليمِ لكيفيةِ رفضِها الضمني لهما. ذلك أنها لم تَكُ تَتَطَلَّع إلى تشييدِ حضارةٍ على غرارهما. لذا، تَتَمَيَّزُ مكانةُ هذه الحقيقةِ الواقعةِ بأهميةٍ قصوى في الاشتباكاتِ الدائمةِ الناشبةِ بين ملوكِ إسرائيل ورهبانِهم. ولا تزالُ النزاعاتُ في هذه الوجهةِ مستمرةً في راهننا أيضاً – وبكل حِدَّتها – بين دولةِ إسرائيل ومجتمعِها. كما أنها الشاهدُ التاريخيُّ على الحثيين، الميتانيين، الآشوريين، الميديين – البرسيين، وأخيراً الإغريق – الرومان. ولا تَزالُ رواسبُ هذه الحضارات موجودةً في ذاكرتها.
يُصَوِّر التاريخُ سنواتِ ما بين 1600 – 1200 ق.م على أنها عصرُ تَأَلُّقِ الثقافةِ المادية. حيث تُقَدِّمُ العلاقاتُ فيما بين الحثيين والمصريين والميتانيين أولى الأمثلةِ الحيويةِ على الدبلوماسيةِ الدولية. في حين أنّ العبرانيين هم القومُ الأقربُ إليهم في هذه المرحلة، حيث يَعرِفون كيف يَرصُدونهم ويَتَعَلَّمون منهم. أما التفكيرُ بإبراهيم وموسى بشكلٍ منفصلٍ عن هذا التواصلِ المتبادلِ في تلك المرحلة، فسيَترُكُ فهمَنا إياهما ناقصاً. ذلك أنّ الجوابَ الذي يُعطُونه هو جوابُ الثقافةِ الأيديولوجية.
كما يُعَدُّ كلٌّ من عيسى ومحمد إصلاحيَّين عظيمَين في هذه التقاليد. سنَعمَلُ على سردِ مكانتِهما في تصاعدِ الثقافةِ الأيديولوجية فيما بعد.
تُعتَبَر بابلُ وآشور حلقتَين هامتَين في تصاعدِ ورُقِيِّ الثقافةِ المادية. فالمدنُ المتعاظمة، والتجارةُ المتنامية تَقطَعان مسافاتٍ شاسعةً في عهدِ هاتَين المَلَكِيَّتَين. بابل كانت باريسَ زمانها، في حين كان الآشوريون المُمَثِّلين الجبابرةَ للملوكِ التُّجَّارِ في البداية، ولإنشاءِ الإمبراطوريةِ فيما بعد. وهم أصحابُ التجسيدِ الأمثلُ لتقاليدِ حكمِ المجتمعِ الماديِّ في الشرقِ الأوسط. تلك التقاليدُ التي تُؤَدي دورَها في الإبقاءِ على الثقافةِ الأيديولوجية في المنزلةِ الثانية من جهة، وتحريفِها من جهة أخرى. وبالنسبةِ إلى الثقافةِ الزرادشتيةِ التي تَرتَكِز إليها التقاليدُ الميدية – البرسية، فقد جَهِدَت وكافحَت ببسالةٍ لإعادةِ الثقافةِ الأيديولوجية إلى مكانتِها الرفيعة. إنّ ثالوثَ زرادشت وبوذا وسقراط يُمَثِّلُ فلاسفةَ الأخلاقِ الفاضلةِ الذين عاشوا في أزمنةٍ متقاربةٍ للغاية، ويَرمزُ للشخصياتِ الحكيمةِ العظيمة والفذةِ التي جَسَّدَت تَفَوُّقَ الثقافةِ الأيديولوجية إزاءَ الثقافةِ المادية في شخصياتِها. إنهم الموقِظون العِظامُ لضميرِ البشريةِ، والمنادون به بعدما حَطَّت المدنيةُ من شأنِه ودَهَسَته. لقد بَسَطوا للعيان إمكانيةَ وجودِ عوالمَ أخرى تجاهَ التفوقِ الساحقِ لعالَمِ الثقافةِ المادية الناضجةِ في زمانهم، وأَثبَتوا أنهم نَزّاعُون ومَيّالُون لتلك العوالِمِ الأخرى، وجَسَّدوها في شخصياتِهم بأعظمِ الأشكال.
إنّ هجماتِ الثقافاتِ المحيطةِ في الأطراف، وعلى رأسِها الإسكيت، والمقاوماتِ التي لا عَدَّ لها ولا حصر، ليست سوى براهينٌ متواصلةٌ على استحالةِ إفناءِ الثقافةِ الأيديولوجية بهذه السهولة. فممثلو العموريين من الثقافة الساميّة، والهوريين من الثقافة الآرية، والإسكيت من ثقافةِ القوقاز الشمالية إزاءَ المدنية، يُظهِرون لنا أنّ حلقاتِ المقاومةِ كانت عتيدةً متواصلةً بقدرِ حلقاتِ الحضارة المدينية بأقلِّ تقدير. وما يُمَثِّلُه القوط بالنسبة إلى حضارةِ روما، كذا هو شأنُ العموريين – العرب، والهوريين – الميديين، والإسكيت بالنسبة إلى الإمبراطورياتِ الشرقِ أوسطية. هذا ولَم تتناقص الانطلاقاتُ الدينيةُ العديدةُ المشابهةُ للمسيحيةِ بتاتاً ضمن المقاوَماتِ الاجتماعيةِ الشرقِ أوسطية.
ج- يُمَثِّلُ المجتمعُ المديني الإغريقيُّ – الروماني مرحلةَ النضوجِ الوسطى في مسارِ تاريخِ الحضارة. وبالإمكانِ تسميته بحضارةِ العصورِ الكلاسيكية. لقد طَوَّروا الفعالياتِ الأكثرَ تألقاً من طاقاتِ الحضارة المدينية الكامنة، وخَلَقوا أزهى عصورِ الثقافةِ المادية نَظَراً لعهدِهِم. كما يُمَثِّلون الكلمةَ الفصلَ لزمانِهم، باعتبارِهم بَلَغوا بحضارتِهم التركيبةَ الجديدةَ الأكثرَ نجاحاً لجميعِ الثقافاتِ المادية السابقةِ لهم. ولا يزال يَعُزُّ على المرءِ الزعم ببلوغِ ثقافةٍ ماديةٍ بهيةٍ جديدةٍ يمكن مقارنتُها بروما. أما المدنيةُ الصناعيةُ الرأسماليةُ المُبرَزةُ على أنها ثورة، فهي ليست بحضارة، بل هي داءُ الحضارة.
أما عصرُ أثينا، فيُحَدِّدُ نقطةَ النهايةِ لثقافةِ العصورِ الأولى الأيديولوجية. وما الفلسفةُ في أحدِ جوانبها سوى محصلةٌ لهذه الحقيقة، فكأنها مقبرةُ الآلهةِ المفتقدةِ لحيويةِ مجمعاتِ آلهتِها، أي الخاسرةِ لِقِيَمِها الثقافيةِ الأيديولوجية. ومن المفهومِ دوافعُ مواجهةِ وضعٍ كهذا عندما يَكُون في الذروة، مثلما هي الحالُ في كلِّ الأمور. ذلك أنّ السقوطَ نهايةُ كلِّ ذروة.
من المؤكدِ أنّ العبوديةَ نظامُ ثقافةٍ ماديةٍ صرفة. والحطُّ من شأنِ البشريةِ مِن أولى مزايا هذا النظام، حيث يَستحيلُ ملاحظة مثلِ هذا السقوطِ الغائرِ في دنيا أيِّ كائنٍ حيٍّ آخر. هذا وتُعَدُّ الأرضيةُ المساعِدةُ لانهيارِ وتدهورِ الضميرِ لهذه الدرجةِ على صلةٍ وثيقةٍ بِعَظَمَةِ الثقافةِ المادية وجاذبيتِها. ولا نفتأُ غير متمالكين أنفسَنا من الذهولِ من جانب، ومن اختلاجِ القشعريرةِ بدنَنا من جانبٍ آخر إزاءَ تلك النُّصُبِ العملاقةِ والآثارِ الفخمة لهذه الثقافة. لا يمكن لتأليهِ الإنسان إلا أنْ يَبلُغَ هذا القدر. لكنّ تأليهَ الإنسانِ يَتَحَوَّلُ إلى كوارثَ مفجعةٍ عندما يَستَهدِفُ البشرَ ذاتَهم. فما يَتَبَقّى لأجلِ الآلهةِ حينذاك هم عبيدٌ، ليس إلا. لذا، لَم يَبرُزْ أيُّ تناقضٍ أو كفاحٍ بهذا القدرِ من العلنيةِ في أيِّ انفلاقٍ أو تَشَقُّقٍ اجتماعي، وبالتالي في أيِّ نضالٍ اجتماعيٍّ على الإطلاق. ولهذا الغرض، فسيَكُون من الناجع للغاية القيامُ بالتحليلِ السليمِ لواقعةِ "الغلمانية" (اللواطية) في الثقافةِ اليونانية الكلاسيكية، في سبيلِ استيعابٍ أفضل للسقوطِ الحاصل. فرَوابطُها مع عبوديةِ المرأة صاعقةٌ للنظر، ليس لِكَونِ كِلتَيهما عبارة عن عرضِ الذات جنسياً وحسب، بل ولأنهما تتشاركان الظاهرةَ الاجتماعيةَ عينَها.
وإذا ما تَمَعَّنَّا في عبوديةِ المرأةِ عن كثبٍ أكثر، فسيَلفِتُ انتباهَنا جانبُها الساحقُ والغالبُ للغاية، والذي يُخرِجُها من إنسانيتِها. فحبسُها في البيت ليس مجردَ أسرٍ مكانيّ، بل وليس بسجنٍ فحسب. بل إنه يُفيدُ بوضعِ الاغتصابِ من الجذور. فَلْيَتَسَتَّروا على هذه الحقيقةِ الغائرةِ في الأعماقِ قدرَ ما شاءوا عن طريقِ تقاليدِ الخطبةِ وإلباسِها ثيابَ العُرس، فممارسةٌ عمليةٌ ليومٍ واحدٍ فقط تَعني انتهاءَ كرامةِ الإنسانِ من أجلِ أيِّ امرئٍ يَعرِفُ نفسَه. فسوءُ معاملةِ المرأةِ على مَرِّ آلافِ السنين بهذه الدرجةِ من المنهجيةِ عبرَ مختلفِ وسائلِ العنفِ والشدة الجمة، بل وحتى عبرَ وسائلِ الحَطِّ والتدني الأيديولوجي (بما فيها ألفاظُ العشق)، لِتَتَجَرَّدَ من القِيَمِ الإنتاجيةِ والتربويةِ والإداريةِ والتحررية؛ إنما يَذهَبُ أبعدَ من الاستسلامِ بكثيرٍ في نهايةِ المآل. أما إضاعتُها هويتَها بالكامل، فتَتَجَسَّدُ في تَحَوُّلِها إلى حقيقةٍ مغايرةٍ كلياً، أي إلى "زوجة". فحتى أكثر الرجالِ سماجةً وسذاجة، بما فيهم الراعي على سفوحِ الجبال، يَنظُرون إلى المرأةِ بأنها مجردُ زوجة، لا غير. أما أنْ تَكونَ زوجة، فيَعني نشوءَ حقِّ التصرفِ بها بلا حدود (بما في ذلك قَتلُها متى أراد). فهي ليست مجردَ مُلْك، بل هي مُلْكٌ خاصٌّ إلى أبعدِ حَد، يُخَوِّل صاحبَه لِيَكُونَ إمبراطوراً صغيراً. ويَكفِيه فقط أنْ يَعرِفَ كيف يَستَعمِله.
هذا هو الواقعُ الذي كان أحدَ المقوماتِ الأساسية الممهدةِ للمدنية. أما كَونُه أحدَ المؤثراتِ الأولية المتخفيةِ وراءَ عدمِ معرفةِ الثقافةِ المادية لأيةِ حدودٍ أو ضوابطٍ تَقِفُ عندها، فيَتَعَلَّقُ بهذا الواقعِ بِصِلاتٍ متينة. فالتجربةُ الناجحةُ في تطبيقِها على المرأةِ أُريدَ لها الانتقالُ إلى صفوفِ المجتمعِ برمته. وهذا بالذات التأثيرُ الوخيمُ الثاني. حيث كان على المجتمع أنْ يَنشطَ ويَعمَلَ كالزوجة الخانعة تجاه أسيادِه. سنَجهَدُ لاحقاً لتوضيحِ كيفيةِ إتمامِ تأنيثِ المجتمعِ في النظامِ الرأسمالي. ولكنَّ هذه العمليةَ قد رُصِفَت أرضيتُها في أولى مراحلِ الحضارة المدينية، وأُريدَ تقديمُها كنموذجٍ للمجتمعِ الناجحِ في الثقافةِ الإغريقية – الرومانية، حيث لا يمكن الحديثُ فيها سوى عن تأنيثِ الرجلِ وتأنيثِ المجتمع. فالمجتمعُ الإغريقي – الروماني قد استَشعَرَ ذلك جيداً واتَّخَذَ إجراءاتِه بموجبِه، فاشتهرَ بالعبيدِ الذين وَضْعُهُم أسوأُ من وضعِ الزوجة. لكنّ المعضلةَ كانت تَكمُنُ في تأنيثِ الرجلِ غيرِ العبد. لا أتحدثُ هنا عن سِفاحِ القُربى أو الشذوذِ الجنسي، ولا عن الخَنَث (ازدواج الجنس). فبعضُ الظواهرِ التي لها أبعادُها النفسية، بل ولها أسبابُها البيولوجيةُ الحيوية، يَجِبُ تقييمها بشكلٍ منفصلٍ عن الواقعِ الذي أتحدثُ عنه. فالموضةُ الدارجةُ في المجتمعِ اليوناني الكلاسيكي كانت وجوبَ وجودِ صاحبٍ وَصِيفٍ خِلٍّ partner لكلِّ رجلٍ حرٍّ شاب. وكان على ذاك الخليلِ أنْ يَكُونَ الحبيبَ إلى أنْ يَكتَسِبَ الشابُّ التجاربَ والمعارف. ومثلما تَطَرَّقتُ سابقاً، فحتى سقراط يَقولُ عن هذا الحَدَثِ أنَّ المهمَّ ليس كثرةَ استعمالِ ذاك الغلام، بل المهمُّ هو عيشُ تلك الروحِ والحالة. إذن، فالذهنيةُ صريحةٌ للغاية: باعتبارِ أنه من المستحيل تحقيقُ انسجامِ المجتمعِ العبودي مع مبدأِ الحريةِ والكرامة، كان لا مفر من محوِ هذه المزايا من المجتمعِ لأنها تُشَكِّلُ تهديداً عليه. وفعلاً كان ذلك صحيحاً. فأينما تَواجَدَت حريةُ الإنسانِ وكرامتُه لا يُمكِنُ للعبوديةِ أنْ تحيا. كانَ النظامُ قد أَدرَكَ ذلك جيداً، وكان مُرغَماً على تأديةِ متطلباته.
لا شكّ في أنّ الثقافةَ الإغريقيةَ – الرومانية لم تستطع إكمالَ هذه المَهَمَّة. فالمسيحيةُ المتناميةُ داخلياً عن طريقِ المدارسِ الفلسفيةِ الحرة، وانتفاضاتُ وغاراتُ الأثنياتِ التي لا تَهدأُ ولا تَسكُنُ خارجياً؛ كانت ستَترُكُ المجتمعَ وجهاً لوجهٍ أمامَ أوضاعٍ مختلفةٍ كلياً. كما لَم تَكُن قليلةً أبداً تلك المؤشراتُ الدالَّةُ على أنّ الثقافةَ الماديةَ ليست كلَّ شيء، وأنها ليست قديرةً على كلِّ شيء. وما كان للمجتمعِ أنْ يُؤَنَّثَ دون الحاجة لِلّجوءِ إلى "الغلمانيةِ واللواطية" إلا في الرأسمالية.
أما قوةُ القبائل، ومقاوماتُ المسيحيين الباسلةُ والجسورةُ التي كَلَّفَتهم آلاماً ومخاضاتٍ لا حدودَ لها؛ فكانت في سبيلِ الإنسانية، وبغرضِ وضعِ حَدٍّ نهائيٍّ لذاك المجتمعِ الذي كان يَعني النفاذَ والاضمحلال. ولا يُمكن التغاضي عن قيمةِ الثقافةِ الأيديولوجية لتلك المقاوماتِ وأهدافِها النبيلةِ بذريعةِ المساوماتِ الحاصلة فيما بعد. في حين أنّ التفسيرَ الأصحَّ هو النظرُ إلى الحملاتِ الكبرى اللاحقةِ لتلك الحركاتِ – التي لم تَكُ ذاتَ شأنٍ في عينِ الثقافةِ المادية – على أنها تَصاعُدُ ونُمُوُّ الثقافةِ الأيديولوجية. وكان سيُعاش مثالٌ مشابهٌ لذلك في العلاقاتِ والصراعاتِ فيما بين الساسانيين – المسلمين والهجراتِ الطورانية . بمعنى آخر، ليس بِوسعِنا إيضاحُ السقوطِ المتهاوي والصعودِ المتنامي للمجتمعاتِ عبر المصطلحاتِ العلميةِ البسيطة والسطحيةِ من قَبِيلِ القمعِ والاستغلالِ والاستعمار. فالمجرياتُ والأحداثُ أوسعُ آفاقاً بكثير. من هنا، فالدوافعُ الكامنةُ وراءَ عدمِ انحلالِ الرأسمالية والعجزِ عن تحليلِها، إنما هي على علاقةٍ وطيدةٍ مع القصورِ في تحقيقِ العمقِ الشاملِ الضروري لذلك (بشأنِ تحليلِ المجتمع المديني). فالتحليلاتُ الموجودةُ بخصوصِ الرأسمالية أَشبَهُ بقسمِ الجبالِ الجليديةِ الطافي فوق الماء. فالكتلةُ الأصليةُ هي المجتمع المديني. وهي بِدَورِها تقعُ تحت الماء.
[email protected]