العصرانية الديمقراطية وقضايا تجاوز الحداثة الرأسمالية (8)
عبد الله أوجلان
2009 / 12 / 6 - 20:37
الفصل الثالث: المجتمع المديني
)عصر الآلهة المُقَنَّعة والملوك المتسترين(
لقد حصلَت التخريباتُ الكبرى للوضعية Pozitivizm، التي هي الأيديولوجيةُ الرسميةُ للحداثة الرأسمالية، في ميدانِ عِلمِ المجتمع. فتشييء الوضعيِّين للمواضيع الاجتماعية باسم العلميةِ بوجهةِ نظرٍ اختزالية، مثلما هي الحال في ميدانِ الفيزياء، قد ولَّد معه مشاكلَ عويصةً يَصعُبُ النفاذُ من وطأتها. وبُحوثهم بنفسِ الأسلوب في الميدان الاجتماعي باسم "الاشتراكية العلمية"، وبالأخص في الاقتصاد (الميدان المادي للمجتمع)، والذي فَهِموه وحَفِظوه على أنه الميدانُ الذي تُعنى به ما زَعَموا أنه الاشتراكية الحقة؛ قد حَوَّل مشاكلَ المعاني إلى معضلاتٍ عسيرةِ التفكيك. أما ذهنيةُ التناول الفيزيائي الأكثرِ تَخَلُّفاً حتى من البيولوجيا، فقد مَدَّت الرأسماليةَ بقوةٍ لا يمكن تأمينها عبر أيِّ سلاحٍ آخر. كنتُ قد حاولتُ في فصلِ الأسلوب سردَ كيفيةِ كَونِ هذا الأسلوبِ براديغما أساسيةً للرأسمالية، ولكن، يبدو أنه من العسير التقدمُ في التحليل دون التطرق إليه بكثرة. وعلى عكس ما زعم "الاشتراكيون العلميون" على وجه التخصيص، فهم عاجزون حتى عن الانتباه إلى كَونِهم جَرَّدوا البروليتاريا والشرائحَ الكادحةَ الفقيرة الأخرى، التي تحركوا باسمها منذ البداية، من أسلحتها الأساسية ببحثهم في المجتمع بعد تشييئه، وبِكونِهم قابلين لتناوله ذهنياً على هذه الشاكلة. وسنُظهِر كيف يَكُون تَصَوُّر المجتمع كظاهرةٍ مماثلةٍ للطبيعة الفيزيائية، أو حتى البيولوجية، يعني بِحَدِّ ذاته الاستسلامَ للحداثة الرأسمالية.
عليَّ التبيان، وبكلِّ أسفٍ وحنقةٍ ومرارة، أنَّ سوءَ الطالعِ الفادحِ يكمن في تسييرِ نضالاتٍ مشرِّفةٍ للغاية لما يناهز المائةَ وخمسين سنةً باسم "الاشتراكية العلمية"، وخوضِها منذ البداية بمنطقِ الفكر الوضعي المادي المحض المحكوم عليه بالفشل. لا شك في أنّ ما يتستر وراء هذه المواقف والأفكار هو ما زعموا أنه "التمايز الطبقي" الذي سَيَّروا النضالَ تحت رايته بكثرة. ولكن الطبقة المعنية ليست – كما اعتقدوا – طبقةَ العمال والكادحين المقاوِمين بعبوديةٍ عمياء لأجل التحول البروليتاري، بل إنها طبقة "البرجوازية الصغيرة" التي انصهرت في بوتقةِ الحداثة، واستسلمت لها منذ زمنٍ طويل. والمدرسةُ الوضعيةُ بالذات هي أيديولوجيةُ هذه الطبقة، والمتسببةُ في نظرتها العمياء وردودِ فِعلها الجوفاء إزاء الرأسمالية. فطبقةُ نبلاءِ صِغارِ الكَسَبَةِ المدينيين هذه، والتي لا درايةَ لها بكيفيةِ تكوينِ الحياة الاجتماعية على أرضِ الواقع، وكانت على الدوام الأرضيةَ الخصبةَ للطرائق العقيمة؛ هي الشريحةُ الاجتماعيةُ التي تُشَكِّلُ أيديولوجياً الفريسةَ الأسهل للنظام الرسمي المهيمن.
إنّ الظواهريةَ (الوضعية) ضربٌ من ضروبِ الوثنية المعاصرة، عندما يَكون التناولُ الاجتماعي موضوعَ الحديث. والوثنيةُ بدورها هي الإطارُ الأجوفُ للألوهيةِ المفتقِدة لمعانيها. فالألوهيةُ كاصطلاح كانت ذات وظيفةٍ مقدسةٍ وسحريةٍ لأجل المجتمع في مرحلةٍ ما، وعندما تفقد وظيفتَها هذه، لا يَتَبَقَّى منها سوى حالتَها الوثنية. أما الشرائحُ المفتقرةً لعِلمِ المعاني، فعبادتُها للأوثان أمرٌ مفهوم. فمثلما هم لا يعلمون أنّ الوثن ينبع من الوظيفة، فهم – وعلى النقيض – غافلون أو يعتقدون أنّ عبادةَ الأوثان سوف تُثمِرُ عن المعاني، أو أنها ستَبلُغُ قدسيتَها وجلالَها القديمَين. لذا، فتحليلُ الأديان المناهِضة للوثنية ضمن هذا السياق سيُنير الأمورَ أكثر. لا يساورني الشكُّ بالوثنية العصرية للوضعيين المنقادين للظواهرية. هؤلاء الوثنيون العصريون، الذين يمكننا تسميتهم بالوثنية المعاصرة، قد قال عنهم الفلاسفةُ المَعنِيّون بميدانِ الحداثة (العصرانية) بالذات بأنهم أفضل "المتشبثين بالمواضيع والأشياء Nesne الاستهلاكية، وكأنها وثن".
لقد ظَنَّ ماركس ومدرستُه أنه بمقدورهم تسليطُ الضوء على المجتمع، التاريخ، الفن، الحقوق، وحتى الدينِ عبر التحليلِ الاقتصادي. لا جدال في أنّ كافةَ المؤسساتِ الاجتماعيةِ تُؤثِّرُ في بعضها كأنسجةِ البدن الواحد، ولكنّ الأمورَ تختلف كلياً عندما تَكون المجتمعيةُ ميدانَنا المعني. فالمؤسساتُ الاجتماعية، التي هي كياناتٌ أَوجَدَها عقلُ الإنسان، ليست نسيجاً بيولوجياً، بل حتى أنها ليست نسيجاً من جسم الإنسان. فعقلُ الإنسان في الوسط الاجتماعي أَشبَهُ بجبلٍ بركانيٍّ منفجرٍ باستمرار عبر المعاني والإرادات التي يُنتِجُها. ولا مثيلَ لذلك في الأنواع الأخرى من الكائنات الحية. في حينِ يمكن التفكير بوجودِ بعضِ النقاط المشتركة مع الوقائع الفيزيائية في عالَم الكوانتوم، مع عدم إغفالِنا كَونَ عقلِ الإنسانِ نفسِه يعمل ضمن النسق والترتيب الكوانتومي. في حين أنّ العالم المادي (بما فيه البنيةُ الاقتصادية الاجتماعية) يعني جمودَ الآلية الكوانتومية وتَغَلُّفَها. إنّ كَونَ الذهنِ والعقل هما اللذان يديران المجتمعَ أمرٌ ساطعٌ لدرجةٍ لا جدال فيه. حتى أنّ كَونَ التوجهِ نحو الاقتصادِ الاجتماعي يحصل بالعمل الذهني أمرٌ لا داعي لبرهنته.
عليَّ التنويه ثانية، ولو تكراراً، إلى أنّ تأريخ السوسيولوجيا، وسَسْلَجَة التاريخ يأتي في صدارةِ الشروط الأولية للتقدمِ في عِلمِ المعنى. والميزةُ الناجعة الأخرى لهذا الأسلوبِ تَكمُنُ في دنوه أكثر من تفسيرِ التاريخ بموجبِ سياقه الطبيعي. لا أنكر أهميةَ الفكر الدعائي. بل على النقيض، ولكي يكون هذا النمطُ الفكريُّ ناجعاً، يجب معرفة كيفيةِ الإمساك بالتطورات التاريخية وتناولِها بموجبِ مسارها المتحقق. أما الشروعُ بالقول "البنية التحتية تُحَدِّدُ التاريخ" أو العكس "التاريخُ عبارة عن أفعالِ الدولة وعملياتها"، فلن يذهب أبعَدَ مِن تحريفِ وتشويهِ التاريخ الحقيقي بالنسبة إلى عِلمِ المعنى، مهما سُرِدَت حوادثُه أو كَثُرَ تحليله أو تفكيكه. واضحٌ للعيان أنه من غيرِ الممكن شرحُ التاريخ، وبالتالي المجتمع، بهذا الأسلوب. فما يحدث حينها هو الحديثُ عن الفيزيولوجيا الاجتماعية، وليس التاريخ. فشرحُ كيفيةِ تأثيرِ المؤسسات الاجتماعية (الأنسجة في الفيزيولوجيا) على بعضها البعض، أو كيفيةِ تحديدها لبعضها البعض، هو – وبكل تأكيد – ليس بشرحٍ للتاريخ، بل ظواهريةٌ مَحضةٌ للغاية.
وللحديث عن تاريخٍ قَيِّمٍ ذي معنى، فإنَّ مِربَضَ الفَرَسِ يَكمُنُ في قوة تدفقه وكيفيةِ جريانه أثناءَ لحظةِ التدفق تلك. فتدوينُ التاريخ الحق، أو التفسيرُ الحقيقيُّ له يكمن في معرفةِ الإرادة والمعاني الناجمةِ عن نشاطِ العقل وفِعلِ الإرادةِ اللذَين كانا مؤثرَين في تلك اللحظة. ومثلما قد يكون ذلك حملةً اقتصادية، فربما يكون ممارسةً أو عمليةً دينيةً أيضاً. المهمُّ هنا ليس السلاحَ، بل لحظةَ الضغطِ على الزناد، واليدَ الضاغطةَ عليه. قُمْ بتحليلِ قيمةِ السلاح اقتصادياً وفنياً وسياسياً وعسكرياً قدر ما تشاء، فربما يكون لذلك قيمةٌ من حيث تزيينِ الشرحِ وزخرفته. ولكن، لا أتمالك نفسي عن التكرار مراراً بأنه عندما يُقال بجريانِ التاريخ، فما يجب فهمُه هو تشغيلُ السلاحِ مِن قِبَلِ اليد القابضةِ باستمرار على الزناد. قد يُقال أنه ثَمَّةَ حاجةٌ لمهارةٍ عظمى ولعملٍ اقتصاديٍّ لأجلِ صُنعِ السلاح. هذا ممكن. ولكنّ هذا التناولَ للأمر لا يَفهَمُ شيئاً من التعبير عن التاريخ. يجب عدم إغفالِ كَونِ التاريخِ سلاحاً شغَّالاً على الدوام. إنه سلاحٌ شغَّال ويدٌ ضاغطةٌ على الزناد المُعَبَّأِ بالطلقاتِ دوماً. والقائمُ على مسؤولياتِ الإدارة الاستراتيجية في التاريخ هو أفضل من يُدرك ذلك. يَقُوم أحدُ أباطرةِ روما، ويُدعى فالنتيانوس (أعتقد أنه هو) بالمصادقةِ على أخيه ليشاركَه الحكمَ كإمبراطور. أما الذين انتَخَبوه هو، فأَعرَبوا عن تراجُعِهِم عن رأيِهِم وأصواتهم بعدَ مدةٍ قصيرة. أما هو، فيَشرَحُ ماذا يعنيه التاريخ بقوله "لقد خَسِرتُم حَقَّ الاعتراضِ بِمُجَرَّدِ انتخابِكم لي".
ومِن حيثُ الأسلوب، فسأسرُدُ أهميةَ هذا الشرحِ بالنسبةِ إلى معنى التاريخِ الرأسمالي المعاصرِ في الفصلِ المعني بذلك.
علينا ألا نغضَّ النظر عن مشكلةِ الأسلوب هذه للولوجِ في تاريخِ المدنية، كي نُقَدِّمَ مساهَمَتَنا في عِلمِ المعنى. بقدرِ ما تَكمُنُ قيمةُ أيِّ تفسيرٍ في القدرة على إيضاحِ التاريخ، فهو يعني أيضاً قيمة مدى تسخيرِه لخدمةِ الملتزمين بأحكامِهِ ومقتضياتِهِ، ولخدمةِ القادرين على الإمساكِ بزمامِ المبادرةِ في كلِّ وقت. في حين أنّ التفسيرَ التاريخيَّ الحقيقي لأجلِ المتخبطين في تأديةِ دورِ ضحايا التاريخ، فهو القدرةُ على تَعبئتِهِم بالوعيِ وتسليحِهِم بالإرادةِ للخلاصِ من دورِ الضحية والوصولِ إلى قوةِ بَعثِ حرياتهم وإحيائها. أما إذا كان التفسيرُ التاريخي والاجتماعي يَحكُمُ على ضحاياه (كلِّ المسحوقين والمضطهَدين والمستغَلين) بالاستسلام والخنوع للمضحين بهم، والذين يُلهُونَهم بالزعمِ بِقُربِ الخلاصِ؛ فمهما يَدَّعي صاحبُه أنه عِلمي، ومهما يتحدث عن أنه يقوم بالتفسير باسمِ الضحايا؛ فإذا لم يَكُن هؤلاء ذوي نوايا ضامرةٍ أو مُحَرِّفين ومُضَلِّلين واعين، فهم إذن غافلون، ويفسِّرون التاريخ كالأصنام الجوفاء.
1- كيف نُفَسّر المجتمعَ السومري؟
بما أنّ موضوعَنا تمهيدٌ للسوسيولوجيا البنيوية، فسوف نُخَصِّصُ مكاناً للسومريين تأسيساً على هذا الهدف. إننا لا نُؤَرِّخ المدنية، ولكن، يجب فَهم تفاسيري على أنها مساهَمةٌ في ذلك. إذ أبحث عن ردٍّ للسؤال: كيف نُقيِّم المثالَ السومريَّ أثناء تفسيرِ التاريخ؟ وعلى الردود أنْ تُساهِمَ في إيضاحِ الأسلوب وتأمينِ الدخولِ في التاريخ. وثمةَ فائدةٌ في تناوُلِ هذا المثالِ مِن عِدّةِ نواحي.
آ- مِن المعلوم أنّ الغذاءَ الوافرَ وتَنَوُّعَه الغنيَّ خاصيةٌ تَمَيزت بها مرحلةُ التمأسُسِ النيوليتيِّ المسماةُ بِمرحلةِ تل حلف (6000 – 4000 ق.م) التي مَرَّت بفترةِ ازدهارٍ باهر، والكامنةِ إلى الشمالِ من هذه الحضارة (السومرية) المُنشَأَةِ في الحقول القصبية الرسوبيةِ والأراضي الخصيبةِ المطمورة بالمياه في أماكنِ تَقارُبِ واندماجِ نهرَي دجلة والفرات في ميزوبوتاميا السفلى. وما أدى إلى ذلك هو المجتمعُ القروي المسفِرُ عن الذهنيةِ المكتشِفة لتقنياتِ الإنتاج، بقدرِ ما لعبَت هذه التقنياتُ دورَها في ذلك. فالاستقرارُ يعني الحقولَ والتمأسساتِ الاجتماعية المتناميةِ بتغذيةِ بعضها البعض. أما التمأسُسُ، فيعني فيما يعنيه تنظيمَ الذهنيةِ الاجتماعية وتحقيقَ جماعيتها. كما أنّ الفصولَ الملائمة، والأمطارَ الغزيرة تَجعَلُ من الرَّيِّ غيرَ أولي، رغمَ استيعابِ أهميته. وقد بُرهِن على أنَّ العديدَ من القرى المستقرة في ميزوبوتاميا العليا قد قاربت حدودَ المدينة والتمدن مع التوجه نحو أعوام 3000 ق.م. وعِلمُ الآثار القديمةِ قَدَّمَ عشراتِ الأمثلةِ من الحفريات في هذا السياق.
كما أُبرِزت في العديد من الجثوات والخرائبِ الأسوارُ المحيطةُ بالمدينة كمؤشرٍ مُعيِّن ومُحدِّد لها، إلا أنّ محدوديةَ نطاقِ الري، واعتمادَ الغِلالِ على الأمطار أعاقا التوسعَ وزيادةَ التعداد السكاني أكثر. بينما الأراضي أسفلَ نهرَي دجلة والفرات ملائمةٌ كثيراً للري، وتربَتُها غنيةٌ معطاءة. وقد أُثبِتَ أنّ الاستيطانياتِ القرويةَ الأولى قد انحدرت من الشمال، أي، من ثقافةِ تل حلف في مستهل أعوام 5000 ق.م. وبالأصل، ولِكَونِ هذه المرحلة تَشهَدُ تزايداً في التعداد السكاني، فهي تُرغِم الأهاليَ على الحراك الدائم. فالقرى المتزايدةُ والمتسعة تقتضي الانتشارَ في الجهات الأربعة. كنا سَعَينا لإيضاحِ هذه المرحلة سابقاً بخطوطها العريضة. فكلما زادَ الهبوطُ نحو الجنوب، زادت أهميةُ وحتميةُ الري بسببِ قلةِ الأمطار. وهذا ما استوجَبَ وجودَ تنظيمٍ شامل. هكذا نلاحظُ أنّ التنظيمَ الأمثلَ قد تَحَقَّقَ حولَ المعابدِ المسماة بالزقورات.
تتميز الوظائفُ الثلاثُ المتداخلة للزقورات بأهميةٍ حياتيةٍ وأوليةٍ بالنسبة لحلِ وتحليلِ المجتمع السومري برمته. الوظيفةُ الأولى تتعلق بالماكثين في الطابق السفلي من عُمّال الأراضي، والذين يُعَدُّون مِن أملاك الزقورات. ويُقِيم معهم صانعو الأدوات والوسائط أيضاً. الوظيفةُ الثانيةُ هي المهامُّ الإداريةُ التي يَقومُ عليها الرهبانُ القاطنون في الطابقِ الثاني. إذ يتوجبُ على الراهبِ حسابَ الأعمالِ الإنتاجيةِ المتعاظمة، وتأمينَ المشروعية اللازمةِ (قوةِ الإقناع) لتحقيقِ العمل الجماعي بين العاملين. أي أنه يُديرُ شؤونَ الدِّين والدنيا معاً. أما الوظيفةُ الثالثة، فتُؤَدَّى من قِبَلِ الموجودات الإلهية (ضربٌ من ضروبِ مجمعِ الآلهة ) المقيمةِ في الطابقِ الثالث. وكأنَّ الزقوراتِ بتأثيرِها المعنويِّ نموذجٌ مصغَّرٌ للمجتمعاتِ المدينية اللاحقة، مثلما أكدتُ ذلك في مرافعتي "الإنسان الحر". إنه تمأسُسٌ مثاليٌّ لدرجةِ أنه غدا النموذجَ الأصلَ الموَلِّدَ لمجتمعاتِ المدن الراهنة، التي تُناهز مئاتِ الآلاف، ويَزيد عددُ سكانها عن الملايين. بل وكنتُ قد بينتُ أنه الرحمُ الأمُّ لنمطِ تنظيمِ الدولة المتمأسسةِ في مجتمعِ المدينة. فالزقوراتُ في زمانها لم تَكُنْ مركزَ المدينة فحسب، بل كانت المدينةَ بِعَينِها. والمدائنُ بدورها كانت تنقسم إلى ثلاثةِ أقسام: المعبدُ (موطنُ أو منزلُ الرب) الذي هو قسمٌ معنيٌّ بتوليدِ المشروعية وتأمينِها، قسمُ الإقامةِ الأوسعِ قليلاً والمخصَّصُ لمدراءِ المدينة، والأماكنُ الأوسع قليلاً لإقامةِ العاملين، الذين هم الشريحة الأوسع. فالزقوراتُ تؤدي هذه الوظائفَ الثلاثَ معاً، وكأولِ مثالٍ مؤسَّسٍ من نوعه في العالم.
ولو تَمَعَنَّا عن كثبٍ قليلاً، فسنجد أنَّ الراهبَ هو المبادِرُ الأولُ بكل تأكيد. فهو الرأسماليُّ بالنسبة لزمانه (أقول ذلك للاستيعاب على نحو أفضل، وإلا، لم يَبرز رأسماليُّ الحداثةِ حينذاك) أو هو رَبُّ العمل أو الآغا. ذلك أنه مهتمٌ بوظائفِه التاريخيةِ التي عليه تأديتها. وبالأصل، هو مؤسِّسُ المدينة، الذي سيَمهُرُ المجتمعَ الجديدَ المنشأ بطابعه، ذلك أنّ ما سيتشكل حوله ليس بقريةٍ بسيطة، بل إنها المدينة. وسندرك عظمةَ المهمةِ العملاقة التي تُواجِهُ الراهبَ على نحوٍ أفضل إذا ما وضعنا نصبَ العين مدى صعوبةِ هذا الأمر في يومنا الراهن. إذ، ثمةَ حاجةٌ ماسةٌ لعددٍ كبيرٍ من العمال لأجلِ المدينةِ المُزمَعِ إنشاؤها، فمِن أين له بهم؟ فاقتطاعُ الإنسانِ عن الكلان أو الأثنيةِ أمرٌ عسير. والمنقطعون الفُرادى لا يكفون. كما أنّ البطالةَ لم تكن قد تمأسَسَت بعد، مثلما هي اليوم. ولم يكن حصل الانتقالُ إلى مرحلةِ استعبادِ الناس بالعنف. ربما كانت الفرصةُ المتبقيةُ بِيَدِ الراهبِ هي اللجوءُ لسلاحِ الإله. وهنا بالذات تبدأ إحدى وظائفِ الراهب المذهلةِ بالفاعلية: مَهَمَّةُ إنشاءِ الإله. الموضوعُ هامٌّ للغاية. ذلك أنه إذا ما فَشِلَ في هذه الوظيفة، فسيَعجَزُ عن إنشاءِ المدينةِ الجديدة أو المجتمعِ الجديد، وبالتالي، عن تأمينِ الإنتاج الوافر. هذا المثالُ بِحَدِّ ذاتِهِ يُوَضِّحُ لنا بِكُلِّ سطوعٍ أسبابَ كَونِ مدراءِ الدولة الأوائلِ رهباناً. فالزقوراتُ لا تُعنى بالدولة والإنتاجِ الوفير والمجتمعِ الجديد فحسب، بل وبإعادةِ الإنشاء والتخطيطِ لعالَمِ كافةِ المصطلحات، والحسابِ، والسحر، والعلمِ، والفن، والعائلةِ، وحتى المقايضة الأولى، إلى جانبِ الاهتمامِ بشؤونِ الرب؛ علاوةً على إعادة تخطيط وإنشاءِ كلِّ ذلك، وربطِه بمشاريعَ ملموسة. إذن، فالراهبُ هو أولُ مهندسٍ للمجتمع، وأولُ معماري، وأولُ رِسمٍ تخطيطيٍّ للنبوة، وأولُ اقتصادي، وأولُ مدير، وأولُ رئيسِ عَمَل، وأولُ مَلِك.
لِنَرَ الأعمالَ الأساسيةَ للراهبِ بتفصيلٍ أدق:
ب- يأتي إنشاءُ الدين الجديدِ والإلهِ الجديد في صدارةِ الأعمالِ الهامةِ للراهب. وحسبَ تفسيري، فمضمونُ اختراعِ الرهبانِ السومريين للدينِ هو تشكيلُ حلقةِ الوصلِ لِسَدِّ ما يبدو وكأنه فراغٌ أو انقطاعٌ لمرحلةِ الانتقال فيما بين عبادةِ "الطوطم" القديمةِ وبين الأديان الإبراهيميةِ المتجاوزةِ للوثنية. إنهم يُنشِئون خليطاً من إلهِ المصطلحاتِ – القوةِ الناظمةِ للسموات – ومن دينِ الطوطميةِ المحدِّدِ لهويةِ المجتمع. فالكلُّ يُجمِعُ على الرأي القائل بأنّ الطوطمَ تعبيرٌ عن الهويةِ المحدِّدة للكلان، وكذلك للقبيلةِ التي هي أوسعُ من الكلان. فأيُّ شيءٍ هامٍّ في حياة الكلان يَغدو مُرَشَّحَاً لِيَكُونَ طوطماً. وبالأغلب، فهم يأخذون الموجوداتِ المعبرةَ عن القوة أساساً. وما التسمياتُ التي لا نزال نصادفها في أسماءِ العشائر سوى بقايا من تلك المرحلة، من قَبِيلِ الأسدِ، الصقرِ، الأفعى، الذئب، الشمسِ، الريح، المطرِ، وغيرِها من أسماءِ النباتات والأشجارِ الهامة. ومدى تشييد القدسيةِ المتمحورةِ حول المرأة – الأمِّ كقوةٍ محركةٍ للعهدِ النيوليتي يُماثِلُ هنا قوةَ الراهب الرجل. حيث أنّ ممثلي الطوطميةِ والإلهِ السماويِّ يَكتَسِبون الأهميةَ على شكلِ الإلهة – الأم التي تَرمُزُ إلى الخيرِ والعطاء.
وكان على الألوهية – الأم أنْ تخوضَ صراعاً مريراً تجاه آلهة الرهبان السومريين. ونخص بالذكر النزاعَ بين "أنكي" ِإلهِ الرجلِ الماكر و"إينانا" الرمزِ الأوليِّ للإلهةِ الأنثى، والذي أصبحَ الموضوعَ الأساسي الذي شغلَ الملاحمَ السومرية. ويتستر تحت هذا الصراعِ اختلافُ المصالح، والذي أتاحَ الفرصةَ وأدى إلى نشوبِ النزاع والصدام على جميع الأصعدة، بين المجتمعِ الريفي النيوليتي المتمركزِ حول القرى الكامنة في الحوضِ العلوي لما بين النهرين بريادة المرأة - الأم، والمنغلق تجاه الاستغلال، وبين مجتمعِ المدينة المبتدئ بالتكاثرِ حديثاً، والمُنشَأِ على يدِ الراهب، والمنفتحِ لأولِ مرة للاستغلال. وهكذا وُلِدَت "المشاكلُ الاجتماعية" الجديةُ لأولِ مرة في التاريخ. إذ، ما مِن شكٍّ في أنّ الصراعَ بين القوى المُوَجِّهةِ لِكِلا المجتمعَين ينبع مِن المشاكلِ الاجتماعية. لكن، وكما نرى في التاريخ، فَلُغَةُ هذا الصراعِ واصطلاحاتُه تَتَحَدَّدُ من قِبَلِ أشكالِ الذهنية السائدة في تلك المرحلة، لأنّ أشكالَ الذهنيةِ الراهنةِ لم تكن موجودةً آنذاك. حيث لا يمكن التعبيرُ عن المجتمع نفسه إلا بهويةٍ شبهِ إلهية، لأنّ عقلَ الإنسان لا يزال بعيداً جداً عن مفهوم الهوية المجردة.
لقد كان عقلُ الإنسان في تلك المرحلة يَعتَقِدُ بحيويةِ الطبيعة، وبأنها مليئةٌ بالآلهة والأرواح (وهو ليس بتفكيرٍ رجعيٍّ نسبةً لليوم الراهن، بل، وحسب اعتقادي، إنه متقدم، وأَقرَبُ إلى الصواب). وأيُّ مَساسٍ بها قد تتمخض عنه نتائج خطيرة. ذلك أنّ لجميعها قدسياتُها، ويجب الاقتراب منها بكلِّ عنايةٍ واحترامٍ وإجلال. وأيُّ تَجاسُرٍ بسيطٍ تجاهها قد يؤدي لكوارثَ فظيعة. بالتالي، يتطلبُ تقديمَ القرابينِ والعطايا والنذورِ إليها كي لا يُغضِبوها أو يُثيروا حِنقَتَها. وهكذا، يَكتَسِبُ إرضاءُ المُقدَّساتِ والآلهةِ أهميةً عظمى لدرجةِ أنّ تقديمَ الأطفال والصبيان والصبيات قرابينَ لهم أصبحَ تقليداً سادَ ردحاً طويلاً من الزمن. إنه تقليدٌ مدهشٌ ومرعب، ولكن، كانوا يُؤمِنون ببقاءِ المجتمع صامداً ومتماسكاً عبره. وقد تَعَرَّضَ هذا التقليدُ للتحريف والتحويرِ مدةً طويلة على يدِ الرهبان والراهبات، إلا أنه مِنَ المؤكَّدِ ارتباطُ مضمونه بالقدسيةِ وحمايةِ الذات. فكافةُ ضروبِ العلاقات بين التجمعات البشرية كان يُعَبَّر عنها عبر العلاقات والتناقضاتِ فيما بين هذه القدسيات والآلهة. هكذا كان قد أُنشِئ الذهنُ واللغة، حيث لا وجودَ حينذاك لـ"لغةِ العِلمِ الوضعي" الراهن. فالبشريةُ لم تَعرِفْ لغةَ (أو بالأحرى دينَ) العِلمِ الوضعيِّ هذا إلا في القرنَينِ الأخيرين. وعلينا ألا نَغفَلَ عن هذه الحقيقة لدى سَعيِنا لتفسيرِ التاريخ.
تأسيساً على ذلك، فالصراعُ القائم بين إينانا وأنكي صراعٌ اجتماعيٌّ عصيب. ولا شكَّ في أنَّ له أُسُسُهُ المادية. واليوم أيضاً نلاحظُ صِحَّةَ هذا التفسير من خلالِ الصراع القائم في تركيا. حيث نتلمس مرة أخرى، وعن كثب، كيفيةَ سريانِ جدليةِ التاريخ، عبر الصراعِ المُعاش بين قوى حزبِ الشعب الجمهوري CHP المدَّعي أنه وضعيٌّ وعلمي، وبين حزبِ العدالة والتنمية AKP الميتافيزيقيِّ المتشبثِ بالدين والعقيدة الإسلامية. علينا التَّنَبُّهَ والعِلمَ جيداً بأنه ما مِن كفاحٍ عسكريٍّ أو سياسيٍّ أو اقتصاديٍّ لم يُقحِم الدينَ في صراعاته الاجتماعية. ففي حالِ العكس نكون قد وَقَعنا في حالةِ "الاشتراكية المشيدة".
إنَّ الإلهَ السماويَّ "آن" والإلهَ الأرضيَّ "أنكي"، اللذَين ابتَدَعَهما الرهبانُ السومريون، يتميزان بطباعٍ رجولية. ويَعكِس هذا الواقعُ بروزَ قوةِ الرجل في مجتمعِ المدينة السومري، حيث يُقَدَّسُ الرجلُ ويُؤَلَّه. إنه تقديسٌ هائلٌ لدرجةِ أنّ الرجلَ القيادي الجليلَ الجديد غدا المجتمعَ نفسَهُ الذي اكتسبَ "القدسيةَ والألوهيةَ فيما بين السموات والأرض". وإذا ما سَبَرنا تحت هذه الإجراءات المعمولِ بها، سندرك على نحوٍ أفضل أنَّ المبجَّلَ والمجلَّلَ هو "طبقةُ الرهبان"، ليس إلا. تماماً مثلما سنجد – عندما ننبشُ عقيدةَ "إينانا" – أنّ القوةَ الاجتماعيةَ للنساءِ الأمهات هي القوةُ المديرةُ والخلاقةُ في العهدِ النيوليتي.
يستمر هذا الصراعُ بشكلٍ متكافئٍ ومتناظرٍ حتى أعوامِ 2000 ق.م، ولو أنّ الكفةَ كانت تَرجُحُ على حسابِ المرأة في المجتمع السومري مع مرورِ الزمن. إنّ البحثَ في موضوعِ الكفاحِ تجاه التمييزِ بين المرأةِ والرجل ضمن أشكاله وألوانه عبر التاريخ إلى يومنا الراهن يُوضِّحُ الأمور ويُعلِّمنا أكثر. وسنسعى لفعل ذلك.
بينما يُخَصِّصُ الراهبُ الطابقَ العلويَّ مِن الزقوراتِ للآلهةِ (التي يتناقص عددها طردياً)، يَقومُ بالمقابل بالتَّكَتُّمِ على هذا الطابق لأقصى الحدود، ويُوثِّقُ تعليماته في السجلاتِ بعدمِ صعودِ أحدٍ غيرَهُ (غير رئيس الرهبان) أَيَّاً كان. هذا التكتيكُ هامٌّ لأجلِ التطور الديني الجديد، حيث يُزيد به مِن تبجيلِ الناس وفضولِهِم، ويُوَطِّدُ مِن تَبَعِيتهم وانصياعهم. ويُثابِرُ رئيسُ الرهبان على نشرِ أقواله بين المجتمع بِكَونِهِ التقى الإلهَ وتَكَلَّمَ إليه في هذا الطابق. بالتالي، فمَن يَرغَبُ سماعَ كلامِ الرب، ما عليه سوى النظرُ إلى "كلامِ" رئيسِ الرهبان. ذلك أنه الناطقُ والمفوَّضُ الوحيدُ باسمِ الرب. وقد انتقلَ هذا التقليدُ كما هو عليه إلى الأديانِ الإبراهيمية أيضاً. فسيدنا موسى كان قد تكلمَ مع الرب في جبلِ طورِ سيناء لينهلَ منه "الوصايا العشر ". والاسمُ الآخر لسيدنا عيسى هو "الناطقُ باسم الرب". وهو أيضاً شَرَعَ بمحاولةِ الكلامِ مع الرب مراتٍ عديدةً، إلا أنّ الشيطانَ كان يُفرِغُ محاولاتِهِ تلك ويُفشِلها. ولكنه كان سينجح في مُرادِهِ في النهاية. أما الإسراءُ والمعراجُ لدى سيدنا محمد ، فيشير إلى استمرارِ التقليدِ عينه في الإسلام أيضاً. وسيتم ترتيبُ وتنسيقُ الطابقِ العلوي على شكلِ مجمعِ الآلهة بشكلٍ أكثرَ عظمةً وإبهاراً في الديانة الإغريقية الرومانية. أما في الديانات الإبراهيمية، فسيُعاد تنسيقه وترتيبه مجدداً على شكلِ الكنيسد والكنيسة والجامع لتزدادَ عظمته وأُبَّهَتُه. إنَّ الدورَ المتضاعفَ للطبقةِ الدينية في صفوفِ المجتمع واضحٌ بجلاء.
رئيسُ الرهبان هو الشخصُ الناجحُ في تركيزِ فكرِهِ في طابقِ (بيتِ) الرب. فلكي يكونَ تنظيمُ المجتمعِ الجديد مؤثراً، مِنَ المهمِّ للغاية أنْ يسيرَ وفقَ الكلامِ الدائر في المحادثةِ بينه وبين الرب. ولأولِ مَرةٍ تُوضَعُ بعضُ التماثيل في هذا الطابقِ لتمثيلِ الرب. فهذا الابتكارُ يثيرُ فضولَ الإنسانِ أكثر، ولذلك وُجِدَت الحاجةُ لِمِثلِ هذه الأصنامِ والهياكلِ الرمزية للإلهِ الاصطلاحي. ذلك أنّ ذاكرةَ الإنسانِ في ذاك الزمانِ أَقرَبُ عموماً لِمِثلِ هذه التصوراتِ الذهنية المتجسدةِ في الهياكل، أكثرَ مِنَ التفكيرِ بذاك النمطِ من المصطلحات التجريدية. ومن العسيرِ جداً إدراكُ الفكرةِ الشفهية أو المجردة، أي، غيرِ المدعومةِ برمزٍ أو هيكل. فالجماعاتُ البشريةُ تَشهَدُ تأثيراً كاسحاً لِلُغةِ الإشارات (ضربٌ من ضروبِ لغةِ الرموز والمُجَسَّمات). بالتالي، مِن المفهومِ تماماً دوافعُ اللجوءِ لاصطلاحاتِ الإلهِ المُجَسَّدِ في الرموز والأصنام. في حين أنّ التماثيلَ الجمةَ للمرأةِ البدينة، والمتبقيةَ من عهدِ الإلهة – الأم، أكثرُ تواضعاً، وتَرمُزُ للمرأةِ – الأم المعطاءةِ والخيِّرةِ والمبدعة.
إذن، فكَوْنُ أولُ بيتٍ للرب في الطابق العلوي من الزقورات على شكلِ مجمعِ الآلهة، الكنسية، الكنيسد، الجامع، والجامعةِ أمرٌ منيرٌ وتربويٌّ لأبعدِ الحدود. فهذه السلسلةُ المتعاقبةُ من التشكيلاتِ التاريخيةِ المترابطةِ تعني ذاكرةَ المجتمعِ وهويتَهُ المقدستَين. فَعِلمُ اللاهوت، المعروف باسم الثيولوجيا، يُرَبّي ويُنَمّي هذه الذاكرةَ بتحويلها إلى فلسفة، بِحَيثُ تَكُونُ منقطعةً ومجرَّدةً من نموذجها الأول. إنّ أفدحَ التحريفات والتحويراتِ في التاريخ حصلَت في ميدانِ علمِ اللاهوت والإلهيات. لا يمكن إغفالُ أو إنكارُ دورِ الإلهياتِ المؤكَّد في تَطَوُّرِ العلم والفلسفة. لكن، وبسبب تأديتهم دورَهم باللجوءِ إلى مُجَرَّدِ المجرد، ووثنِ الوثن، دون إيضاحِ منابعِ الألوهية وجذورها الاجتماعية، فإنَّ هذه الشريحةَ هي المسؤولةُ الأولى عن كيفيةِ نشوءِ المدنية عموماً، والمدنية الراهنةِ خصيصاً عبر المجتمعيةِ التي شادوها.
لا ريبَ في أنَّ شروحَ الإلهياتِ الغائرةِ في أعماقِ الأصول والجذورِ الصحيحة تُقَدِّمُ مساهماتٍ عظيمةً في صياغةِ عِلمِ المعنى. ولكن، مِن المهمِّ استيعاب كَونِ اللاهوتيين هم أكبر المُحَرِّفين للمعاني، سواءً بقصدٍ أو بدونه، عبرَ غَلَبَةِ منزلتهم باحتلالهم أماكنَهم داخلَ كافةِ أروقةِ الدولة والأنظمةِ الهرمية. لذا، سنسعى لتحليلِ وإفهامِ هذه المواضيعِ والصياغاتِ الجديدة التي تَقَمَّصُوها في كلِّ فترةٍ هامة، وذلك بهدفِ إدراكِ الشرق الأوسط الراهن.
ج- الوظيفةُ الثانيةُ الهامة للراهبِ هي هندسةُ المجتمع. فهو يَقومُ بنفسه بالتخطيطِ للمجتمع الجديد وتشييده من جهة، وبتَدَبُّرِ شؤونه بنفسه من جهة ثانية. هذه المَهَمة تُسَيَّر في الطابق الثاني من الزقورات، أي، في طابقِ الرهبان أنفسِهِم. وهكذا سيتكاثر الرهبانُ كمفوَّضين عن الرب، ليُشَكِّلوا طبقةً مقدَّسةً تحت إشرافِ رئيسِ الرهبان. بالتالي، سَيَرمُون لِتَشكِيلِ أولِ هرميةٍ (الإدارةِ المقدسة) مِن حفنةٍ إداريةٍ لِكُلِّ مدينة. ولهذا السببِ لَم نَقُلْ عبثاً بأنّ الرهبانَ هم الرسمُ التخطيطيُّ الأولُ للمُعَلِّمِ المُتَمَرِّس. فبينما يُشرِفُون على إنتاجِ القيمِ المادية عبر تشغيلِ رعاياهم في الطابق الأول (بدايةُ الاستعباد والرِّق)، يَنكَبُّون هُم بِمَعِيَّةِ الإلهِ على الانشغال بالعلم وتنظيمه. هكذا شَهِدَت غُرَفُ الرهبان في الطابقِ الأوسط وَضعَ اللَّبَناتِ الأساسيةِ لعلومِ الكتابة، الرياضيات، علمِ الفلك، الطب، الآداب، وبالطبع، علمِ اللاهوت أيضاً. إذن، فالطابقُ الأوسط هو في نفسِ الوقت أولُ مُسَوَّدَةٍ لمشروعِ المدرسة والجامعة. أي أنّ طابقَ الرب نموذجٌ مصغَّرٌ للمعابد، وطابقُ الرهبان نموذجٌ مُصَغَّرٌ للمدارس. لا جدالَ في أنّ إدارةَ شؤونِ مجتمعِ المدينة هي المؤثرُ الأوليُّ في تسييرِ هذه الفعاليات المتعاظمة. إذ، يتوجبُ الإدراك جيداً أنّ الفعالياتِ الماديةَ لم تُسَيَّر على نحوٍ تلقائيٍّ البتة، أي، لم تُمارَس من طرفِ "الكادحين الأحرار" حسبَ تعبيرِ ماركس. ذلك أنه لا وجودَ لكادحينَ أحرارٍ تابعين لأصحابِ المُلكيات، العامة منها والخاصة، في أيِّ مجتمعٍ طبقي، بما فيه مجتمعُ المرحلة الرأسمالية. فأيُّ إنسانٍ غير مُستَعبَدٍ بالقمع والشرعنة، لا يمكن أنْ يعملَ بحريةٍ في مُلكيةِ الآخرين! سنشرح هذه الأمورَ في مكانها المناسب.
يُؤَمِّنُ الرهبانُ النسبةَ العظمى من شؤونهم الإداريةِ عبر المشروعية. وأَفتَكُ فنونِهم هنا تكمن في النطقِ باسم الرب، واحتكارِ العلم. فتمثيلُ الرب، والاكتشافاتُ العلميةُ تَمنَحُهُم قدرةً إداريةً عظمى. ولا ننسى أنّ العلمَ قوة، حتى في الرأسمالية. ولنُذَكِّر أيضاً أنّ لَبَناتِ هذا العلمِ قد وُضِعَت في المجتمعِ النيوليتي، وبالأخص في عهدِ تل حلف (6000 – 4000 ق.م). ومساهماتُ إلهاتِ المرأة – الأم أمرٌ محدِّدٌ في هذه المرحلة. إذ يجب استيعابُ الدورِ التعليمي الأول والأصلِ للنساء – الأمهات في كافةِ المواضيع المعنيةِ باكتشافِ النباتات، تدجينِ الحيوان، صنعِ جِرَار الفخار، آلاتِ النسج، الطاحونة، بناءِ المنزل، وبيوتِ القداسة. فإصرارُ الإلهةِ الأم إينانا بعناد في معمعانِ نزاعها مع أنكي بأنها هي صاحبةُ الاكتشافاتِ العظمى (الماءات) المائةِ والأربعة (104)، وأنه سَرَقَها منها؛ إنما يشيرُ بكلِّ سطوعٍ إلى الحقيقةِ المستترة تحت قولها هذا. أيْ أنّ أغلبَ الاكتشافاتِ قد حصلَت على يدِ النساء – الأمهات، وأنّ الرجالَ الإداريين قد سرقوها منهن. وسنرى لاحقاً كيف أنّ مرحلةَ الحضارةِ المدينية قد تَمَّ تشييدُ صرحِها على هذا الأساس لِحَدٍّ ما.
لا يمكن استصغار مساهماتِ الرهبان في الاكتشافات. فَدَورُ اختراعِهِم للكتابةِ وعِلمِ الفلك والرياضياتِ والطب واللاهوتِ أمرٌ أكيدٌ في ترسيخِ الأسسِ العلمية للحضارة. وسيكون القولُ بأنّ للرهبانِ السومريين مكانةُ الصدارة في مرحلةِ البدءِ بالعلمِ أمراً في محله.
وكما هو معلوم، فقد سُمِّيَ ملوكُ سومر الأوائلُ بالرهبان – الملوك. وحقيقتُهم بائنةٌ في هذه التسمية. فالرهبانُ – الملوك هم أوائلُ ملوكِ مجتمعِ المدينة. فلكلِّ مدينةٍ في البداية راهبٌ – ملك. والشرعيةُ المتحققة عبر العلمِ واللاهوتِ هي الدافعُ الأوليُّ وراءَ إدارتهم المَلَكية. ولكنّ هذا الأمرَ يُمَثِّلُ جانبَهم الضعيفَ في الوقتِ عينه. فَبَعدَ مرحلةٍ معينةٍ يتم الانتقالُ إلى مرحلةِ السلالاتِ والأُسَرِ الحاكمة. ويَعودُ الدورُ الأكبرُ في ذلك إلى الحاشيةِ العسكريةِ الملتفةِ حول "الرجلِ القوي" المتحالفِ مع زعيمِ السلالة. وهكذا، فسيتغَلَّب العنفُ على "لعبةِ الراهب" ويُفشِلها. سنتناول هذا الموضوعَ فيما بعد.
د- يتواجدُ طابقُ العاملين في الأسفل. علينا بالاستيعابِ الحَسَنِ لهؤلاءِ "العاملين في الطابقِ الأول" لأنهم – ربما – يُشَكِّلون الخطوةَ الأولى على دربِ ظهورِ أوائلِ العبيدِ والأقنان والعُمال. مِن أين، وكيف تَمَّ تأمينُهُم؟ ما دورُ الإرغامِ والإقناعِ في ذلك؟ مِن أيِّ جماعاتٍ أتَوا، ومقابلَ ماذا؟ هل ثمةَ نساءٌ بينهم؟ ما دورُ النساءِ والعائلة بينهم؟ إنّ الردَّ على هذه الأسئلةِ سيُحَقِّقُ استنارةً هامةً لدينا.
مِن المحتملِ أنْ تَكُونَ قوةُ إقناعِ الراهبِ في الصدارةِ في تشكيلِ أولى مجموعاتِ العمل. من الممكنِ الافتراض بأنهم قاموا في مُستَهَلِّ ترتيبِ وتنظيمِ الإنتاجِ بتغذيةِ العاملين بنسبةٍ أفضلَ مِن المكانِ الآتين منه من القُوتِ المتزايدِ مع بدءِ الري. فالمتعارضون وغير المتفاهمين مع قبائلهم حصيلةَ الاشتباكاتِ القبائلية الناشبةِ مع زيادةِ تعدادِ السكان والهجرات، ربما رَأَوا المعبدَ ملاذاً لخلاصِهِم. المؤثرُ الآخر، والذي ربما لعبَ دوراً أهمَّ بكثير، هو قدسيةُ العملِ في تشييدِ المعبدِ والمشاركةِ في إنتاجياته. فلطالما نصادفُ في الشرقِ الأوسطِ تقليدَ منحِ كل عائلةٍ وقبيلةٍ أولادَها لخدمةِ المعبد ضمنَ حدودٍ معينة. فَعَمَلُ السُّخرة الإرغاميُّ في المعبدِ يَشمَلُ فئةً عامةً، بل ويُمنَح مَرتَبَةَ الشرف. والعاملون في المعبد يَستَقبِلُهم المجتمعُ بالتشريفِ والعِزّة. إنه أَشْبَهُ بِالدِّيرِ المسيحي. كما له جوانبٌ مُشابِهةٌ للطرائقية أيضاً، فالعملُ في مُلكيةِ الشيخ شرفٌ وثواب.
تَلفُتُ الزقوراتُ الأنظارَ من حيثُ كونِها أولَ نموذجٍ شفافٍ للعمل الجماعي. فعلى سبيل المثال، ثمةَ بعضُ علماءِ الاجتماع (ماكس فيبر) يُقَيِّمونها كـ"الاشتراكية الفرعونية". فمِن الواضحِ جلياً أنها أولُ نموذجٍ للتطبيقِ الشيوعي. وتجمعاتُ الحِرَفِيين الأحرارِ أيضاً تَندَرِجُ في مجموعةِ العمل هذه. إنها أَشبَهُ بإنتاجِ المعملِ الجَمعِي. أما الفائضُ من الإنتاج، فَيَتُمُّ تخزينه. ساطعٌ تماماً أنه نظامٌ فاضل لمواجهةِ القحطِ والجَدب. فهذا النمطُ من الإجراءاتِ يُضاعِفُ مِن قوةِ الرهبان بشكلٍ خارقٍ تَعجَزُ عن الوصولِ إليه أيَّةُ عائلةٍ أو قبيلة. إنه تجمعٌ وقوةٌ تتفوقُ على كافةِ العوائل والقبائل. ولا يمكننا العثورُ على نموذجٍ أفضلَ من الزقوراتِ من جهةِ كونِها تُشَكِّلُ رُّشَيْمَ وجَنِينَ المجتمع والدولةِ الجديدَين.
هـ- مِن المهمِّ التساؤل: ما الذي حَلَّ بأوضاعِ المرأة والعائلةِ في نظامِ الزقورات؟ كثيراً ما نَتَعَقَّبُ في المُؤَلًّفاتِ السومرية آثارَ مناهَضةِ ومعارَضةِ دينِ الإلهةِ – الأم لدينِ راهبِ الزقورات. وتَتَبَدَّى هذه المعارَضةُ بأشكالٍ مختلفة. فالراهباتُ يُشَيِّدنَ المعابدَ بِثِقَلِ نفوذِهِن، بحيث يكادُ يكون لِكلِّ مدينةٍ إلهتها الأنثى التي تَصونُها وتحميها. وخيرُ مثالٍ على ذلك مغامراتُ إينانا، إلهةِ أوروك . فمدينةُ أوروك (لَربما أنّ اسمَ العراقِ اليوم يأتي مِن أوروك)، التي تُعتَبَرُ أولَ دولةٍ – مدينةٍ سومريةٍ في التاريخ، مثالٌ يستحقُّ البحث. كما أنها مشهورةٌ بِكَونِها مدينةُ أولِ مَلكٍ رجل، ألا وهو گلگامش. ومن المحتملِ أنْ تكونَ أوروك مثالاً لأولِ مدينةٍ – دولة. ويَذكُرُ التاريخُ أنّ السنواتِ ما بين 3800ق.م إلى 3000 ق.م تُعتَبَرُ عهدَ أوروك. وكونُ الإلهةِ إينانا مؤسِّستُها، فهذا يعكسُ مدى قِدَمِها ومدى دورِ المرأة – الأم الرئيسيِّ فيها. ونزاعُ أوروك تجاه أريدو (مدينةِ الإله أنكي، وربما تكون دولةَ الرهبان الأولى) نزاعٌ ملحميٌّ يَبرُزُ فيه المثالُ الملموسُ بقوةٍ لصراعِ المرأةِ والرجل متجسداً في شخصيتَي إينانا وأنكي. ولكنَّ أشكالَ الإلهةِ المرأة تتضاءلُ معَ الزمن، وكأنها تتعرضُ لهزيمةٍ نكراءَ في العهدِ البابلي، حيث تغدو المرأةُ عبدةً بقدرِ ما تصبحُ عاهراً رسمياً على الصعيدَين العام والخاص.
مِن المعلومِ أنّ النساءَ لَعِبنَ دورَهُنَّ كموضوعِ Nesne عشقٍ في قسمٍ من أقسامِ الزقورات. بل إنّ تأديةَ دورِ موضوعِ Nesne العشق أمرٌ مشرِّفٌ لأجلِ فتياتِ صَفوَةِ العوائل وأنبلِها. حيث تُؤخذُ الفتياتُ المنتقَياتُ والمتميزاتُ إلى المعبد، ليكونَ منحُ المرأةِ ذاتَها مذهلاً في نظامِ الرهبان. وتَمُرُّ هؤلاء الفتياتُ بجميعِ ضروبِ دروسِ الجمالياتِ في نظامِ سرايا الزقوراتِ إلى أنْ تَتَمَرَّسها وتَحتَرِفَها في بعضِ الأنشطة (الفن والموسيقى). كما يُعرَضنَ على صَفوَةِ الرجالِ الآتينَ من المناطقِ المجاورةِ لِنَيلِ إعجابهم، حيث يُزَاوِجون بينهم في حالِ التفاهمِ والاتفاق. وبهذه الشاكلةِ يُزيدُ المعبد مِنْ وارداتِهِ ومِن تأثيرهِ أضعافاً مضاعفة. فالحظيُ بامرأةٍ من المعبدِ لا يَكُونُ إلا مِن نصيبِ رجالِ العوائل النبيلة. فضلاً عن أنّ هؤلاء النساءَ يُجَسِّدنَ قوةَ تأثيرِ المعبدِ بين صفوفِ القبائل الجديدة، ويَربُطنَ أنفسَهن بمجتمعِ الدولةِ الجديد لأنهن قد تَلَقَّينَ تدريبَ المعبد. إنهن أَشبَهُ بالعملاءِ الأكثرِ إنتاجاً وعطاءً لمجتمعِ دولةِ الرهبان الجديد. وهو أسلوبٌ لا تبرَحُ الدولُ تَتَّبِعُهُ بشكلٍ مؤثر، وفي مقدمتها إسرائيل. وتحقيقُ جماعيةِ المرأةِ على هذا النحوِ يُعَدُّ نموذجاً أوَّلِيّاً لفنِّ "بيتِ الدعارة". وكلما زاد انحطاطُ المرأة وتهاويها، تحولَت مِن إلهةِ المعابد النبيلةِ الفاضلة، ومن أنثى العشقِ والهيامِ إلى أسوأِ "عاملةٍ" يائسةٍ بائسةٍ تَمنحُ نفسها في "بيتِ الدعارة". والمجتمعُ السومري صاحبُ الشرفِ، أو الذلِّ واللاشرف، بكونِهِ أولَ نموذجٍ في هذا المضمار.
لكني لن أَمُرَّ على الموضوعِ دون القولِ بأنّه كان بالإمكان أن يكونَ هذا النظامُ مثالياً لو تَمَّ الرقيُّ به إلى مستوىً أكثر تشريفاً، دون أنْ يُستغَلَّ على هذه الشاكلة. فالتربيةُ والتنشئةُ السليمة للفتيات أمرٌ عسير، سواءً في النظمِ التي تَرُودُها المرأةُ – الأم أو التي يَقُودُها الرجلُ – الأب. فلا المعلوماتُ ولا الفُرَصُ الماديةُ مساعِدةٌ لذلك. فالعنايةُ بالمرأة أمرٌ يتطلب الاحترافَ والإمكاناتِ الماديةَ، وكان بالمقدورِ التفكيرُ في معابدِ النساءِ كساحةٍ مثاليةٍ لذلك. إلا أنّ المجتمعَ الذكوريَّ السلطوي أَسقَطَ هذه المؤسَّسةَ عبر القمعِ والاضطهاد والاستغلال. والمثالُ السومريُّ يَمُدُّنا بالدروسِ الكافيةِ في هذا السياق. ذلك أنه ثمةَ مؤسَّسةٌ يَنظُرُ إليها المجتمعُ بعينِ الغِبطةِ والسرور، ويتسابقُ لتقديمِ فتياته إليها. وحسبَ اعتقادي، فهو بِحالِهِ هذه، يَمنحنا مثالاً أولياً لم يتم الوصولُ إليه بعد. ذلك أنّ الفتياتِ حَظين بِفرصٍ شاسعةٍ للتطور في هذه المعابدِ (التي يمكنُ تشبيهها بمعاهدِ الفتيات الراهنة)، ولم يَكُنْ مُرادُهُنّ الأساسيُّ انتقاءَ الأزواج. بل كانَ مَرامُهُنّ ريادةَ المجتمعِ والدولة الجديدَين، وكُنَّ يُقَدِّمْنَ مساهَماتٍ لا غنى عنها لبلوغِ حياةٍ اجتماعيةٍ أكثرَ نبلاً وهَياماً. ففي أيِّ مجتمعٍ مثالي يُعَدُّ تعليمُ الفتيات الشاباتِ في نظامِ المدارس، أي، في بقعةٍ تستلزمُ القدسية والعظمة، أمراً إلزامياً. ونخص بالذكر أنّ مستوى تعليمِ المرأة في مؤسسةِ الأسرة النواة ، أو في نطاقِ العوائل الواسعة، متخلفٌ للغاية، ولا يَتَعَدى في أهدافِهِ تطعيمََ العبوديةِ المتفشيةِ في عموم المجتمع (مجتمعِ الرجل). لذا، بمقدورِ "المعاهدِ النسائيةِ الحرة" أنْ تؤديَ دورَها كمعابدَ معاصِرة. سأسعى للتطرقِ لهذا الأمر، ولموضوعِ العائلة بِكُلِّيَّتِهِ في قسمِ سوسيولوجيا الحرية.
واضحٌ أيضاً أنّ ترتيبَ وتنظيمَ شؤونِ المرأة في الزقوراتِ قد طُوِّرَ لتسخيرها في خدمةِ المجتمع والدولةِ الجديدَين. وهذا ما يبين لنا بجلاءٍ أنّ الرهبانَ فَكَّروا بعظمةٍ باهرة، ونَظَّموا شؤونَ المجتمع والدولةِ الجديدَين على نحوٍ أقربَ إلى الكمالِ بِحَق.
كما أنّ دورَ الزقوراتِ ساطعٌ بجلاءٍ في "التجارةِ" الناشئةِ كنشاطٍ اجتماعيٍّ حديثِ العهد. وحسبَ معرفتي وتخميني أنها أَدَّت دورَ مركزٍ تجاريٍّ في نفسِ الوقت، حتى ولو لم يُذكَر ذلك في الوثائق الرسمية. ففائضُ الإنتاج، وإنتاجُ الحرفيين للأدوات قد يُكَوِّنُ موضوعاً للتجارة. ويَشرَح التاريخُ أنّ المرحلةَ ما بين 4000 – 3000 ق.م هي عصرُ تَطَوُّرِ التجارة لأولِ مرة. وهو متزامنٌ مع العصرِ الذي بدأ فيه المجتمعُ السومريُّ بالانتقالِ من نظامِ الهدايا والعطايا (بين العوائل والجماعات) إلى نظامِ المقايضة، وانتشرَت ظاهرةُ التَّبَضُّعِ (الإنتاجِ بغرضِ المقايضة). بالتالي، مِنَ المحتملِ أنْ يَكُونَ "مجتمعُ التجار الأوائل"، ويمكن إدراكُ كَونِهِ كذلك مِن خلالِ أمثلتِهِ البارزةِ في التاريخ (يُصادَف مثالُهُ في الحَفرِيّات).
كما نَشهَدُ نظامَ أوروك الاستيطاني، الذي يَبدو أنه بَدَأَ في المرحلةِ ما بين 3500 – 3000 ق.م. ولَربما كانت مستوطناتُ أوروك القائمةُ على حوافِّ سلسلةِ جبالِ طوروس – زاغروس أولَ حملةِ استيطانٍ باسمِ الدولةِ طبيعياً في التاريخ. أما مستوطناتُ السلالاتِ فأكثرَ قِدَماً. هذا إلى جانبِ أنّ مستوطناتِ القبائلِ المختلفة لا تُعتَبَرُ استيطاناً. إذ، ثمةَ حاجةٌ لوجودِ مدينةٍ "متروبوليةٍ" لقيامِ المستوطَنة. وعلى الأغلب، فمدينةُ أوروك تَمتَلِكُ مستوطناتٍ تُخَوِّلُها لِتَكُونَ "متروبولاً" شهيراً للغاية. وتَلِيها في الشُّهرةِ مستوطَنَتا أور (3000 – 2000 ق.م) وآشور Asur (2000 – 1750 ق.م). وحسب رأيي الشخصي، فإنّ كُلاً مِن مدينتَي هارابا وموهانجادارو في منطقةِ بنجاب في العصورِ القديمة (في أعوام 2500 ق.م)، والحضارة المدينيةِ المصريةِ ذاتِها (4000 ق.م – 0م) تُعتَبَرُ نظامَ مستوطناتٍ نابعاً من الحضارة المدينيةِ السومريةِ بالمعنى العام. فهي جميعُها تنطلقُ وتنحدرُ من الحضارةِ الأصلِ فيما بين دجلة والفرات، ولو أنها تَطَوَّرَت بِشكلٍ مستقلٍّ، ولم تَكُنْ على علاقاتٍ مباشرةٍ مع مدنِ سومر.
من المُحَقَّقِ أنّ التجارةَ لعبَت دوراً مؤثراً في نظامِ الرهبان. ذلك أنهم كانوا مضطرِّين لتلبيةِ نسبةٍ ملحوظةٍ من الاحتياجاتِ الإنتاجية الناقصة، وتصديرِ الفائضِ منها عبرَ التجارةِ (ثمةَ العديدُ من الموادِ الناقصة للمدائنِ الموجودةِ في الوادي السفليِّ من ميزوبوتاميا، بالتالي، فالتجارةُ أو الاستيلاءُ ضرورةٌ اضطرارية. وربما تم القيام بِكِلَيهِما). ولهذا السببِ تَرَسَّخَ نظامُ المستوطناتِ المكتنفُ للأوساطِ كالشبكة. ولهذا الغرضِ أُقِيمَت العديدُ من المستوطناتِ على ضِفافِ نهرَي دجلة والفرات. ولطالما نصادفُ آثارَها بكثرةٍ هناك، وبالأخصِّ فإنّ تجارةَ الخشبِ، المعادنِ، والنسيجِ كانت منتشرة.
من المؤكدِ قيام نموذجٍ أوليٍّ مصغِّرٍ من مجتمعِ الدولةِ الجديد في أطرافِ الزقورات، مثلما سَعَينا لسردِ ذلك بالخطوطِ العريضة. يَلُوْحُ أنه من المؤكدِ أيضاً أنّ أولَ نموذجٍ ملموسٍ ومُجَسَّدٍ على أرضِ الواقع لمجتمعِ المدينة، والذي أَثَّرَ في سياقِ نظامِنا المدينيِّ بِرِمَّتِهِ، يَرجِعُ في أصولِهِ إلى زقوراتِ السومريين. في حين أنّ كافةَ الأمثلةِ الأخرى من مصر إلى الصين تَقتَفي الدربَ نفسه. وبالفعل، فولادةُ مجتمعِ المدنية الدولتية قد تَمَّت في أحشاءِ "رحمِ معابدِ الرهبان". وما مِنْ مثالٍ آخرَ ملموسٍ يشيرُ إلى تَخَمُّرِهِ أو نُضُوجِهِ بأشكالٍ مغايرة.
إذن، والحالُ هذه، واعتماداً على تفسيرِنا وشرحِنا لمثالِ الزقورات، يمكننا القولُ أننا وَلَجنا عصرَ الآلهةِ المُقَنَّعة والملوكِ المتسترين الأولَ مع نشوءِ مجتمعِ سومر. فبينما يَكُونُ الرهبانُ السومريون الآلهةَ المقَنَّعةَ الأولى، يَعقُبُهُم أيضاً ظهورُ الملوكِ المتسترين (بثيابٍ سياسية) على التتالي؛ وبأيَّما صخبٍ، وبأيَّما عظمةٍ في المسير!
و- نلاحظ ظهورَ دولةِ السلالة عُقبَ مجتمعِ دولةِ الرهبان. ولكي تَكُونَ مُترَعَةً بالمعاني في تَطَوُّرِها الاجتماعيِّ على غرارِ المجتمع الدولتي، فإنها تُولي الأهميةَ لنمطِ الرهبان. فهي بحاجةٍ ماسةٍ في بداياتها للشخصياتِ العاقلةِ الحكيمةِ في سبيلِ اكتسابِ الشرعية وترتيبِ شؤونها. ذلك أنه ثمةَ تشييدٌ اجتماعيٌّ بحاجةٍ لإثباتِ نفسه. وليسَ من العسيرِ القولُ أنه يَصعب تحقيق ذلك بالقوةِ السياسيةِ والعسكرية فحسب. فلكي تستطيعَ تطبيقَ العنفِ هي بحاجةٍ ماسةٍ أوّلاً لنظامٍ مجتمعيٍّ وإداريٍّ منفتحٍ لتأمينِ الإنتاجِ الزائدِ والقيامِ بالتجارة، بل وبالغٍ إياهما. فالمجتمعُ الجديدُ يجب أنْ يَكُونَ قد حقق تَمَأسُسَه في هذا السياق. فربما يَكُونُ للأمرِ معناه في حالِ استطاعَت القوةُ السياسيةُ والعسكرية الاستيلاءَ على مجتمعٍ متمأسسٍ بهذه الشاكلة. وفي حالِ العكس، فلا يمكنها تأديةُ دورٍ أبعدَ من تطويرِ الفوضى.
لا ريبَ في أنّ تاريخَ السلالاتِ أيضاً قديمٌ ومتينٌ في ميزوبوتاميا. فمعَ تمايزِ الأثنياتِ إلى هوياتٍ متباينةٍ كان لا مفرَّ مِن تَطَوُّرِ السلالاتِ ضمن نظامِ العشيرة والقبيلة، بحيث تَلتَفُّ حولَ الشخصياتِ الخبيرةِ بشؤونِ اللَّوذِ عن العشيرةِ وصَونِها، ومَوقَعَتِها في المناطقِ المعطاءةِ الخَيِّرةِ، وحَلِّ مشاكلِها الداخلية. ومِن المحتملِ بُروزُ عائلةٍ أو قبيلةٍ ما للأمامِ أكثر، بحيثُ تُشَكِّلُ إدارةَ العشيرةِ أو تستولي عليها. ولا شكَّ في أنّ رضى أعضاءِ العشيرةِ عنها وقبولَهُم إياها أمرٌ مُحدِّد. كما أنّ أواصرَ القرابةِ فيما بينهم لا تزال سائدةً، ولا تَسمَحُ لأيِّ دخيل (ربما يصبح الدخيلُ عضواً في العشيرةِ في حالِ انضمامِهِ إليها بشكلٍ مناسبٍ وانصهَرَ فيها). ونخصُّ بالذكرِ أنّ السلالةَ في مُستَهَلِّ تَشَكُّلِها تُعَدُّ انطلاقةً هوياتيةً هي الأمتنُ والأمنعُ ضمنَ سياقِ التطورِ الاجتماعي بعدَ هشاشةِ هويةِ الكلان. ويُجمِعُ المؤرخون على أنّ هذا التطورَ حَصَلَ في أعوامِ 5000 ق.م بالأغلب. أما منبعُها، فليس المجتمعَ السومري، بل أكبرُ الظنِّ أنه التطورُ العشائريُّ في صفوفِ المجموعاتِ اللغويةِ والثقافيةِ الآرية الأولى. ويمكن القولُ أنّ تطوراً مشابهاً برزَ بين الساميين فيما بين 9000 – 6000 ق.م، وربما أنه الأقدم.
ونشاهدُ أنّ حكمَ السلالات قد اكتسبَ قوةً منيعةً في ميزوبوتاميا السفلى حتى أعوامَ 5000 ق.م. فالعهدُ المسمى بـ"العُبَيدي " فيما قَبلِ عهدِ أوروك (المتمركزُ في أريدو فيما بين 5000 – 4000 ق.م) يتميز بِمَنَعَتِهِ من حيثُ رسوخِ السلالات، إلا أننا لا نلاحظُ انتقالَهم إلى تشكيلاتِ الدولة، بل ثمة تطوراتٌ تُثبِتُ أنهم توجهوا نحو بناءِ نوعٍ أَشبَهُ بالمستوطنات. كما نصادفُ استقرارَ العوائلِ الساميّة النخبويةِ بين الشرائحِ الآرية الثقافيةِ فيما بين أعوام 5000 – 4000 ق.م. ويلاحَظُ بروزُ أولِ استيطانٍ ساميٍّ في حوضِ الرافدينِ العُلوِي، والذي نسميه اليوم بجنوبِ شرقي البلاد.
من المهم بمكانٍ استيعاب خاصيةٍ هامةٍ للسلالاتية مِن جهةِ أننا معنيون بها راهناً عن كثب، ألا وهي أنّ رغبةَ العائلة ومؤسَّسةِ العائلة في امتلاكِها لعددٍ جَمٍّ من الأطفال الذكورِ تُعتَبَرُ اللَّبَنَةَ الأساسيةَ لأيديولوجية السلالة. أي أنّ تَعَدُّدَ الزوجات، والرغبةَ في الأولادِ الذكورِ على الدوام هو المَرامُ الأوليُّ لأيديولوجيا السلالة. والدافعُ المفهومُ وراءَ ذلك يَكمُنُ في القوةِ السياسية. فبينما انتقلَ الراهبُ إلى الريادةِ بالارتكازِ إلى قوةِ "المعنى"، فسيلجأ الشخصُ القويُّ الحاذقُ في السلالةِ للمراهنة على الريادة بالارتكازِ إلى القوةِ "السياسية". ولدى عدمِ الامتثالِ لمصطلحِ القوةِ السياسيةِ يبدأُ العنفُ بالسَّرَيان. في حين أنّ قوةً معنويةً منبِّهةً ومنذرةً من قَبِيلِ "غضبِ الرب" هي المؤثرةُ في قدرةِ الراهبِ لدى عدمِ الامتثالِ لها. أما المنبعُ العينُ للقوةِ السياسية فهو "الحاشيةُ العسكريةُ للرجلِ القوي"، تماماً مثلما حُوصِرَ الرجلُ في مرحلةِ الصيدِ السابقة، وبالأخصِّ في مرحلةِ سيادةِ نفوذِ المرأةِ – الأمّ.
وباقتضاب، علينا استيعاب حقيقةِ العائلةِ ونظامِ المرأة – الأم كي نستطيعَ فهمَ هذه الظاهرةِ (هذا الوعي): فالزوجُ في عهدِ المرأة – الأم، إما أنه على الهامش، أو أنه غيرُ معروف. فلدى إنجابِ المرأةِ - الأم الأولادَ لا تَكُونُ في وضعِ "المرأةِ الممارِسةِ للعشقِ مع الرجلِ الذي تحبه". فالعشقُ والمجتمعُ الجنسويُّ لم يَبرُزا بعد. فلا المرأةُ مرتبطةٌ بأيِّ رجلٍ بروابطِ الزوجية، ولا الرجلُ في وضعيةٍ تُخَوِّلُهُ لِبَسطِ نفوذِهِ على المرأةِ أو القولِ "إنها زوجتي". والصيدُ بِحَدِّ ذاته التهاءٌ وليس بعملٍ قَيِّمٍ عندما يَطُولُ زمنُهُ فلا يكون مثمراً. فضلاً عن أنه لا تزالُ رغبتُهُ ضامرةً بأنْ يَكُونَ له أطفالٌ ضمنَ المجتمع. فالأطفالُ عائدون للمرأةِ – الأم. وبطبيعةِ الحال، فالمرأةُ – الأمُّ أيضاً لا تبحثُ عن الجماعِ الجنسي لأجلِ اللذة، ولا تَنجَرُّ وراءَ شَهَواتِها. بل تمارِسُ الجنسَ بقدرِ حاجتها كأيِّ كائنٍ حي، وعادةً ما تَكُونُ بِهَدَفِ التوالدِ والتناسل. والسببُ الأوليُّ وراءَ انتماءِ الأطفالِ إلى المرأةِ - الأم هو كدحُها في تنشئتِهِم وتربيتِهِم. فإنجابُها إياهم، وتغذيتُها لهم يَمنَحُها هذا الحقَّ بالطبع. بالتالي، فالحديثُ عن حقِّ الأُبُوَّةِ يعد هذياناً وخرفاً في العهدِ الذي لا تَتَّسِمُ فيه معرفةُ هويتِهِ ومَن يَكُونُ أيةَ معانٍ اجتماعية. ما يَهُمُّ هنا هو أَخُ المرأةِ – الأم، لأنه يترعرعُ معهم. وتتأتى رصانةُ الخالِ والخالةِ مِن حقوقِ المرأةِ - الأم تلك الغائرةِ في القدم. إذن، والحالُ هذه، فعائلةُ المرأةِ - الأم تَتَكَوَّنُ مِن الخالِ والخالةِ (وأولادِهِما إنْ وُجِدوا) وأولادِ المرأة. والتعريفُ القائلُ بالعائلةِ الأموميةِ يُعَبِّرُ عن هذا الأمر. هكذا يُمكِنُنا شرح المرأةِ - الأم والتعبيرِ الاجتماعيِّ لعبادةِ الإلهةِ الأم المنبثقةِ منها، والتي تُشَكِّلُ حَجَرَ الأساسِ للعهدِ النيوليتي. فالرجلُ هامشيٌّ فيما عدا الأخوال، ولم تنشأ بعدْ اصطلاحاتُ الأبوةِ والزوجية.
ستتطورُ السلالاتيةُ حصيلةَ قَلبِ هذا النظامِ القائمِ رأساً على عَقِب مِن حيث الأيديولوجيا والتنفيذ. وفي هذا النظامِ المسمى بالأبويِّ ستتجذرُ الإدارةُ البطرياركيةُ الأبويةُ بتحالفِ كلٍّ مِن تجربةِ وخبرةِ "الرجلِ المُسِنِّ" مع الحاشيةِ العسكرية لـ"الرجلِ القوي" إلى جانبِ الشامانِ الذي هو نوعٌ من قيادةِ القدسيةِ السابقة لعهدِ الرهبان.
خبرةُ الرجلِ المُسِنِّ (الشيخ) تُعَبِّرُ عن تجاربِ الحياةِ المتراكمة. ويُمكِنُ تَصَوُّر مجلسِ الشيوخِ. فإدارةُ الشيوخِ المسنين المسماةُ في الآدابِ بالجيرونتوقراطيا ، قد بَرَزَت كَتَطُوُّرٍ مبكرٍ في بنيةِ العشائر. والرجلُ العجوزُ هو الشخصُ الحكيمُ الذي يُشاوَرُ في الأمرِ وتُنهَل منه المعارفُ والحِكَم. والجماعةُ بحاجةٍ إليه. وهو بالمقابل يسعى للتغلبِ على مصاعبِ العَجَزِ والكِبَرِ في السِّنِّ عبرَ تجاربِهِ تلك. وهكذا يُقامُ توازنٌ كهذا مع الجماعة.
أما الرجلُ القوي، فيُعَبِّرُ عن السعي للنفاذِ من حصارِ المرأةِ – الأم بالقوةِ المكتسَبةِ من احترافِ الصيدِ. فقوتُهُ البدنيةُ وتقنياتُ الصيدِ تُضاعِفُ مِن حظهِ في الصيدِ الناجح. والاتحادُ الذي أَسَّسَهُ مع الشبابِ اليافعين الساعين للاستفادةِ من خاصيتهِ هذه، قد زادَ من فُرَصِ نجاحِهِم أكثر. وربما أنّ أولَ حاشيةٍ عسكريةٍ في التاريخ برزَت للوسطِ على هذه الشاكلة. وهكذا حَقَّقَ الرجلُ تفوقاً بارزاً إزاءَ المرأةِ لأولِ مرةٍ في التاريخ. أما التحالفُ الذي أبرَمَته القبيلةُ مع مُسِنِّيها، فسيُعَزِّزُ من النظامِ الأبوي تجاه النظامِ الأمومي.
والحلقةُ الأخيرةُ من هذا التحالفِ هي الشامانيون، موزِّعو الشفاءِ، وأصحابُ المعجزات في المجتمع. يتحملُ الشامانُ وظائفَ وأدوارَ الراهبِ والساحرِ المشترَكة. وهو معلِّمٌ، وربما أولُ محترفٍ في المجتمع. وتتمأسسُ مِهَنِيَّةُ الشامانِ في الجماعات تدريجياً، وإنْ كانت مختلطةً ببعضِ الشعوذة. وعادة ما يَكُونُ الشامانُ رجلاً بالأغلب. ومع تحالفِ هذه القوى في إنشاءِ السلالاتية، تُلحِقُ ضربةً قاضيةً بالنظامِ الأمومي، ولطالما نصادفُ في المُؤَلَّفاتِ السومريةِ آثارَ الصِّداماتِ المحتدمةِ فيما بينهما. يغدو الرجلُ صاحبَ وأَبَ الأطفالِ في ظِلِّ هذا النظام، بل ويَرغَبُ في الإكثارِ من أولاده (وبالأخصِّ الأولادَ الذكورَ لأجلِ القوة)، ويُحكِمُ قبضتَهُ على المُدَّخرات التي أنجزَتها المرأةُ – الأم اعتماداً عليهم. هكذا يتطوَّر نظامُ المُلكية. فإلى جانبِ المُلكيةِ العامة لدولة الرهبان، تبرزُ المُلكية الخاصةُ للسلالاتِ والأسرِ الحاكمة. وأبوةُ الأطفال ضرورةٌ على هذا الصعيد. أي أنّ حقَّ الأبوةِ شرطٌ أوليٌّ لانتقالِ الإرث إلى أولاده (للرجل بالأغلب).
إنّ بروزَ السلالاتيةِ والبطرياركية والأبوةِ برهانٌ ومؤشرٌ في آنٍ معاً على الدُّنُوِّ من المجتمع الطبقي. فالسلالاتُ تستفيد من قواها العسكرية لإضرامِ نارِ "الثورةِ السياسية" في خضمِّ منازعاتها مع دولةِ الرهبان. وتُدَوِّنُ النصوصُ السومريةُ العديدَ من الصداماتِ والانقلاباتِ السياسية في هذا المضمار. وبالفعل، فقد غَلَبَ نظامُ السلالةِ على "دولِ أور" المنشأةِ بعدَ دولةِ المدينة أوروك. وتؤكدُ سلالةُ أور الأولى والثانيةُ والثالثةُ على بروزِ هذا التطور. وإدارةُ السلالةِ أَشبَهُ بنظامٍ سياسيٍّ أكثر علمانية بالمقارنةِ مع إداراتِ الرهبان اللاهوتية، حيث تُنشِئُ إلهياتٍ جديدة، وتُنزِلُ مرتبةَ الرهبان ليغدوا نُوَّابَ القيادةِ السياسية. ورغم أنهم لا يفتئون يؤدون أدواراً هامة، إلا أنهم سيَخسَرون قواهم طردياً، وسيؤولون إلى دعائيين مقدِّسين للنظامِ الجديد ووسائطَ ساذجةٍ لتأمينِ شرعيته. أي أنّ الآلهةَ المُقنَّعَةَ مولِّدةَ الدولةِ ستُعتبَر ضمن حاشيةِ المَلِكِ المتستر وفي المرتبةِ الثانية والثالثة. وسوف لن يترددَ الملوك المنحدرون من السلالاتِ عن إعلانِ ذاتِهم كـ"ملوكٍ – آلهة" بهدفِ الاستفادة من درعِ الشرعية الذي تُؤَمِّنُه لهم طبقةُ الرهبانِ المؤسِّسين للدولة. ويتجذرُ التمايزُ الطبقيُّ مع مرور كل يوم، ويتزايد تعدادُ المدائن، ويُثبِتُ نمطُ المجتمع الذي أسمَيناه "المجتمع المديني السومري" ديمومَتَهُ وتمأسُسَه عن جدارة. وهكذا حملَت السلالاتيةُ في مجتمعاتِ الشرق الأوسط تقاليدَها الغائرةَ في القِدَم إلى يومنا الراهن. لذا، فعدمُ تَطَوُّرِ أنماطِ النظمِ الجمهورية والديمقراطية في الشرق الأوسط مرتبطٌ عن كثب بالتدولِ النابع من نظامَي الرهبان والسلالات.
لقد حَدَّدَ نموذجُ المجتمعِ المديني السومري مسارَ تَطَوُّرِ المدنية في العالم بقدرِ النموذجِ النيوليتي بأقلِّ تقدير. و"المدنيةُ" كمصطلح متعلقةٌ بتمايزٍ طبقيٍّ مغايرٍ ومختلفٍ عن "الثقافة". فالمدنيةُ معنيةٌ بثقافةِ الطبقة ودولتِها. يُعَدُّ تمأسُسُ كلٍّ مِن المدنيةِ والتجارةِ والإلهيات والعلم، تَطَوُّرُ البنيةِ السياسية والعسكرية، بروزُ الحقوقِ مكانَ الأخلاق، وظهورُ الجنسويةِ الاجتماعية للرجل؛ تُعَدُّ كلها مؤشراتٍ طافحةً وسائدةً في المجتمع المديني الجديد. وبمعنى من المعاني، يمكننا تسمية مجموعِ هذه المزايا بثقافةِ المجتمع المديني. ويتطابقُ الاصطلاحان في هذه الحالة، ويُستعمَلان بنفس المعنى. وهكذا تبدأُ مرحلةٌ ثانيةٌ من التوسعِ والانتشار مشابهةٌ لانتشارِ ثقافةِ المجتمعِ النيوليتي المنبثقةِ من الهلال الخصيب إلى جميعِ أرجاءِ العالم. ولكن، مع فارقٍ في هذه المرة، حيث سيُضاعِفُ من ذاته ويتكاثرُ بِعَقدِ قِران أولادِهِ الجددِ (ذكورٌ، لا إناثاً) مع الفتياتِ الناضجاتِ الراشدات من كافةِ أنحاءِ المعمورة، بعدَ أنْ يكونَ قد أنجبَهم وأنشأَهم في أراضي الهلال الخصيب، "مهدِ الحضارات". التشبيهُ في محلِّه، حيث يمكننا الافتراضُ بأنّ انتشارَ الثقافة النيوليتية وتوسعَها قد تمأسَسَ بالأغلب مع نضوجِ قدراتِ وكفاءاتِ فتياتِ الإلهةِ - الأم في كل بقعةٍ وصَلنَها من العالم. في حين أنّ المجتمعَ المدينيَّ المعبِّرَ عن الثقافةِ الرجولية السلطويةِ يعني تمأسُسَ الأولادِ الذكور في أماكنِ انتشاره. وهكذا، فإنّ جيلَ الرجلِ المديني، الذي سيجعل من الفتاةِ الصبية زوجةً تابعةً وخانعةً له، سيُنجِبُ الذكورَ أساساً (سينصهر المجتمعُ ذو الغالبيةِ النسائية في بوتقةِ المجتمع ذي الهيمنةِ الرجولية)، لتتكاثرَ وتتوطدَ رجولةُ حضارتِنا المدينية لتصلَ يومَنا المعاصرَ منيعةً رصينة.