استقالة واستقلال تحت السقف الامريكي


اسماء اغبارية زحالقة
2009 / 12 / 3 - 00:34     

بين عشية وضحاها غيّر الفلسطينيون مواقفهم وبدّلوا. مرة أعلن رئيسهم عدم ترشيح نفسه للانتخابات القادمة، وهدد عمليا بتفكيك السلطة، ثم بعد يومين انقلبت المواقف 180 درجة وهدّد كبير المفاوضين الفلسطينيين، صائب عريقات، بإعلان الاستقلال. قفزة بهلوانية من إعلان اليأس الى إعلان التصدي! الآن يعدّ الفلسطينيون العدّة للتوجه لمجلس الامن للحصول على اعتراف دولي، بعد استصدار قرار من القمة العربية بتبني الموقف.

هناك من علّق آمالا على اعلان الاستقلال، ووصل حد التوهم بان "المجتمع الدولي" سيعترف بالدولة الفلسطينية ويسمح لنا بممارسة حياتنا في حدود ال67، كما لو ان الاعتراف وارد أصلا (علما ان الاتحاد الاوروبي والادارة الامريكية اعلنتا ان الامر غير وارد بالمرة)، وكما لو ان مجرد الاعلان او مجرد الاعتراف سيزيل الاحتلال ويبخّر المستوطنين والمستوطنات والشوارع الالتفافية. ونادى هؤلاء بحل السلطة وإحلال الدولة محلها على اعتبار ان السلطة التي تعبر عن وضع انتقالي (كان المفروض ان ينتهي في ايار 1999) وطريق المفاوضات قد استنفذتا دورهما. نداء منطقي ربما، ولكنه للأسف غير واقعي.

مناورة رخيصة

في أية ظروف يأتي الإعلان وهل يشبه في شيء إعلان الاستقلال التاريخي قبل 21 عاما بالضبط، في 15 نوفمبر 1988، حين أعلن الرئيس الراحل ياسر عرفات في الجزائر عن استقلال دولة فلسطين؟ شتّان ما بين العالمين. إعلان الدولة في الجزائر جاء في خضم الانتفاضة الاولى، وشكّل البرنامج السياسي لبناء الدولة طبقا لقرارات الشرعية الدولية، ضمن حدود الرابع من حزيران عام 1967. كان ذلك خطابا تاريخيا، مجلجلاً ومؤثرًا، دعمته 115 دولة، وفي أعقابه اصبح لمنظمة التحرير سبعة سفراء ومكانة مراقبة في الامم المتحدة. كان عرفات يتحدث باسم الشعب الواحد المنتفض.

اما اليوم فلا نتحدث عن إعلان بل عن "تهديد" بالاعلان، غير صادر رسميا عن الرئيس. لا يدل على برنامج سياسي بقدر ما يعبّر عن فشل الطريق السياسي الذي بدأه عرفات نفسه ويمثله اليوم ابو مازن. يأتي في وضع يميزه الانقسام السياسي الخطير بين فتح وحماس، وخطورة "التقسيم" على ارض الواقع بين الضفة وغزة. في وضع تهمّش فيه الشتات وازدادت ضراوة الاستيطان والحروب. يأتي "ليكلّل" انتفاضة تعددت اصواتها وقادتها، وكلها قادت الشعب الفلسطيني الى شفا الهاوية.

ماذا يقف اذن وراء "التهديد بالاعلان"؟ اعلان الاستقلال انحدر الى مستوى المناورة الإعلامية الرخيصة، وهي تأتي جزءا من الضغط الامريكي-الاوروبي المشترك على الزعيم الاسرائيلي، بنيامين نتانياهو، المتعنت والعنيد والرافض للعب حسب قوانين الرئيس الامريكي، باراك اوباما، ومحاولة لكسر الجمود في العملية السلمية.

إعلان الاستقلال، كإعلان الاستقالة قبله، كتقرير جولدستون، كالتهديد المفاجئ بالانتفاضة الثالثة الآن، جميعها محاولات من السلطة الفلسطينية للصيد في المياه العكرة التي تميز العلاقات الاسرائيلية الامريكية اليوم. وكلها تتم بالتنسيق الكامل مع الادارة الامريكية من خلال القنصل الامريكي الذي يتردد باستمرار على مقر السلطة، والمبعوث للمنطقة جورج ميتشل.

اوباما غير محايد

من الخطأ الظن ان الوسيط الامريكي هو وسيط محايد، وليس لانه منحاز تاريخيا لاسرائيل فحسب. بل لان امريكا متورطة بنفسها في الصراع الشرق اوسطي من خلال احتلالها للعراق ووجودها العسكري في افغانستان، وصراعها مع ايران وقلقها مما يمكن ان يحدث في باكستان.

اوباما يوشك ان يتحول الى بطة عرجاء لكثرة المصائب التي ورّثها اياه بوش، ولا يدري ما هو فاعل بكل هذه الحمم البركانية التي تنفجر في وجهه كل يوم، وفي عقر داره، كما حدث مؤخرا في موقع الجيش بولاية تكساس حيث قام ضابط أصله فلسطيني باطلاق النار على الجنود الامريكيين وقتل عدد منهم. اوباما في أحوج ما يكون لمساعدة من حليفته اسرائيل لتخفيف حدة النار، وتحييد القضية الفلسطينية التي يستغلها اكثر من لاعب في المنطقة لصالحه. ولكن نتانياهو يأبى المساعدة بل يواصل الاستفزاز والتعنت، الامر الذي يقوي الاطراف التي تريد امريكا محاربتها.

نتانياهو الذي لا يهمه سوى الحفاظ على ائتلافه اليميني المتطرف يدرك ضعف اوباما، وأبى ان يقدم له المساعدة بل تعمّد إضعافه لإفشاله. فبالنسبة لاسرائيل كان من الافضل لو تواصلت سياسة بوش والجمهوريين المريحة التي تسامحت مع اسرائيل وهاجمت الارهاب، وهي تعتبر اوباما اسوأ زعيم امريكي بالنسبة لها حتى الآن. لذلك استشاطت الادارة الامريكية غضبا على وقاحة بيبي، فقررت عزله. وكان من علائم ذلك اللقاء البارد معه، ثم فتح ملفات تغاضت عنها امريكا سنوات طوال مثل اعتبار جيلو مستوطنة، بينما وطيلة 30 عاما من قيامها لم تنبس الادارة الامريكية ببنت شفة ضدها.

عندما رأى الامريكان انه ليس بالامكان الاستعانة بنتانياهو، فقد استعانوا بالرئيس الفلسطيني للضغط على نتانياهو لاجباره اما على الرضوخ او تفكيك ائتلافه. فجاء الضغط على شكل اشتراط استئناف المفاوضات بوقف الاستيطان، ثم جاء التهديد بإعلان الدولة لإفهام اسرائيل بان لعبة المماطلة والتفاوض لاجل التفاوض يجب ان تنتهي.

ويبدو ان الضغط الامريكي-الاوروبي-الفلسطيني اتى بثماره، وذلك باعلان نتانياهو من يوم 25 تشرين ثان عن تجميد الاستيطان في الضفة (دون القدس) لعشرة اشهر، كدليل حسن نية لاستئناف المفاوضات.

الخوف من انهيار السلطة

وراء الاعلان خوف اسرائيلي حقيقي من انهيار السلطة، فوهي لا تريد العودة للاحتلال المباشر المكلف ماديا وسياسيا، وتفضل استمرار الوضع على حاله. ولا مانع لدى اسرائيل في مواصلة سياسة الحكومات السابقة وهي التفاوض لاجل التفاوض، وليس لاجل التوصل الى حل نهائي. كان من شأن هذا الترتيب ان يحفظ الائتلاف الحكومي، ولكن الاجماع العالمي بضرورة وضع حد للموضوع واغلاق الملف، خلط الاوراق الاسرائيلية.

في مكتب رئيس الحكومة الاسرائيلي فهموا اخيرا انهم ليسوا في مواجهة مع اوباما فحسب، بل مع كل الادارة الامريكية التي تدرك ان أنفاس سلطة ابو مازن باتت معدودة ولن يكون من مصلحة امريكا واسرائيل سقوطها.

وما يزيد من زعزعة مصداقية هذه السلطة (هذا إن تبقى لها مصداقية)، هو الاخبار عن اقتراب إقرار صفقة تبادل الاسرى مع حماس. الصفقة ستكون ضربة قاضية لابو مازن، وتعميقا للانقسام الداخلي، وإثباتا ان طريق المقاومة يؤتي ثماره بينما طريق المفاوضات يجلب الخيبات ولا يؤدي حتى لتجميد المستوطنات. من هنا يأتي اعلان نتانياهو لإحداث نوع من التوازن وارضاء ابو مازن، وإعطائه شيئا يلوّح به ويصفه بانه انجاز. وما هو بإنجاز.

كالمتوقع، السلطة الفلسطينية أعلنت ان الخطوة غير كافية البتّة، علما انها لا تعبر عن اي تغيير جذري في السياسة الاسرائيلية اليمينية باتجاه حل حقيقي. فبينما تحصل حماس على مئات الاسرى المحررين، لحما ودما، على ماذا يحصل ابو مازن؟ على مجرد "كلام"، "تصريح"، بماذا؟ ب"تجميد" في الضفة وليس في القدس، وليس قرارا ب"تفكيك" فعلي ولو على الاقل للبؤر التي تعتبرها اسرائيل نفسها غير الشرعية. وليس هذا فحسب، بل تبع التصريح اعلانا باستئناف البناء في المستوطنات بعد انتهاء الاشهر العشرة، إعلان يأتي لطمأنة المستوطنين وممثليهم في الحكومة. بإيجاز، ضحك على اللحى.

الامريكان الذين يحتاجون الى قشة، سارعوا لمباركة التصريح الهزيل مع ان الكل يدرك انه لا يقود الى سلام، الامر الذي يكشف حقيقة الموقف الامريكي الذي بقي منحازا للموقف الاسرائيلي، مما يدل ان المناورات الفلسطينية المتعددة والمتلاحقة هي مجرد مناورات غير جدية، محكومة بالسقف الامريكي-الاوروبي.

واذا كان الوضع صعبا اصلا، تأتي حماس لتزيده تعقيدا. فحماس تسعى لاستغلال الانجاز المتمثل بصفقة التبادل، بهدف فتح صفحة جديدة وتثبيت مكانتها بالسلطة في غزة، ونزع الحجج التي تستخدمها اسرائيل لمواصلة الحصار. ويضع هذا اسرائيل امام ازمة، فهي لا تدري كيف تتعامل مع الطرف الفلسطيني المنقسم، فاذا فكت الحصار ستقوي حماس وتضعف ابو مازن، ولكن اذا تحرر شليط والتزمت حماس باعلانها وقف المقاومة فاية حجة ستكون لها لمواصلة الحصار.

الى هذا تضاف العقدة الاساسية وهي ان نتانياهو يترأس حكومة يمينية ترفض تفكيك الاستيطان بشكل فعلي في الضفة الغربية، وهي تعبر عن رأي عام في اسرائيل اليوم، وحتى الجيش الاسرائيلي بات مركّبا في السنوات الاخير من فلول المستوطنين. التحديات امام رئيس الوزراء الاسرائيلي معقدة، ولا يبدو انه قادر على حل الواقع المتأزم الذي خلقته اسرائيل بيدها.