العصرانية الديمقراطية وقضايا تجاوز الحداثة الرأسمالية (2)
عبد الله أوجلان
2009 / 11 / 22 - 21:30
الفصل الأول: حول الأسلوب ونَسَق الحقيقة
الأسلوب كمصطلح يعني الموقفَ السليم والعادةَ أو الطريقَ المختصرَ المؤديَ إلى النتيجة فيما يتعلق بالأهداف. فلدى الجزم بالسبيل المباشَر والمختصَرِ للوصول إلى الهدف، يكون قد تم الإمساكُ بالأسلوب. والجانبُ الإيجابيُّ للأسلوبِ يكمنُ في كَونِهِ مجرَّباً، وفي قدرته على إعطاءِ النتيجة المتوخاة. وتحديدُه بعدَ اختباراتٍ طويلةٍ أمرٌ لا مفرَّ منه لأجل المهتمين بالسير عليه. إنه أَشبَهُ بالعلاقة بين الدليل والمرشد.
ولدى سَعْيِنا لإيلاء المعاني لأغوارِ التاريخ، نجد أنَّ الأسلوبَ الأولَ الذي يواجهنا هو التناولُ الميثولوجي لكل الحوادثِ والمفاهيم. وعلى النطاق المحدود، تُعتبَر الميثولوجيا أيضاً أسلوباً وطريقةً للكشف عن الحقيقة، ذلك أنها تستند إلى مفهومٍ كونيّ. فإذا ما وضعنا نُصبَ أعيننا المستوى الذي أَنجَزَهُ العلمُ في يومنا، سنجد أن النظرَ إلى الطبيعة على أنها حيةٌ ومملوءةٌ بالأرواح ليس بأسلوبٍ خاطئ بالقدر الذي بولغ فيه، حتى ولو تبدَّى كتقييمٍ طفولي. بل إنّ مفاهيم الأسلوب الذي يَعتبِر الطبيعةَ ميتةً وجامدة وخاليةً من الديناميكية والحيوية، هي التي تفتقر للمعاني أكثرَ مما عليه الميثولوجيا.
إنّ روابطَ التناولِ الميثولوجي للأمور مع الحياة هي – وبكل تأكيد – بيئيةٌ، ومنفتحةٌ للحرية، بعيدةٌ عن القدرية ، وليست حتمية . إنّ مفهومَ الحياة هذا، والمنسجمَ مع الطبيعة والفطرة، ميَّزَ الجماعاتِ البشريةَ بالحماس والعنفوان والتعددية إلى حينِ عصرِ الأديان الكبرى. فالملاحمُ والأساطير والميثولوجياتُ المُترَعَةُ بالمقدسات، كانت ذهنيةَ الحياةِ الأساسية في العهد النيوليتي على وجهِ الخصوص. كما أنّ تضارُبَ الأقاويل مع الواقع الموضوعي Nesnel لا يعني أبداً استحالةَ تطويرِ التفاسير ذات المعاني القيِّمة فيما يتعلق بمضمونها. بل يمكن القيام بشروحٍ ذاتِ معانيَ ثمينةٍ للغاية بحق تلك الأقاويل (الميثولوجيات)، بحيث مِنَ النادرِ جداً فهمُ التاريخ خارجَ إطارِ هذه التفسيرات. لا غنى لنا عن الميثولوجيا كأسلوبٍ رئيسٍ لفهمِ الجماعات البشرية التي عاشت أطولَ فتراتِ حياتها على شكلِ أقاويل. وقد بُرهِن بما فيه الكفاية على أنّ الأساليبَ العلميةَ الراهنة هي بالأغلب عبارة عن ميثولوجيات، ولو أنها صِيغَت وكأنها مضادةٌ للأسلوب الميثولوجي.
إنّ الأسلوبَ العلمي المدَّعيَ بالعمل وفق القوالب الدينية التوحيدية الدوغمائية وبالدساتير القطعية التي تُعدُّ استمراراً للأولى، مرغَمٌ على رَدِّ الاعتبار مجدداً للمعاني الميثولوجية وللأسلوب الميثولوجي، بعدَ أنْ حَطَّ من شأنهما إلى أقصى حد. فالميثولوجيات، التي هي من أقارب اليوتوبيات، تُعتَبَرُ شكلاً للمعنى والذهن الذي لا غنى للجنس البشري عنه. إنَّ تَرْكَ ذهنِ الإنسان بلا يوتوبيا، بلا ميثولوجيا (بلا ملاحم، بلا أساطير) أَشْبَهُ بِتَرْكِ البدن بلا ماء. وهنا ندرك بشكلٍ أفضل أنّ ذهن الإنسان، الذي هو مجموعُ أذهان جميعِ الكائنات الحية، لا يمكن اختزال غناه الشاملِ إلى حدودِ الذهنية الرياضية التحليلية. إنّ هذا شذوذٌ عن الحياة. فمثلما أنّ الملايين من الأذهان الحية لا تعرف الرياضيات، لا يمكن حصر ذهن الإنسان، الذي هو مجموعُ تلك الأذهان الحية، في الرياضيات. بَيْدَ أنّ الرياضياتَ أولُ اختراعٍ للمدنية السومرية، وقد استُعمِلت في حسابِ فائض الإنتاج، الذي كان الشغلَ الشاغلَ آنذاك. ولكن، يكاد يُختَزَلُ منطقُ الإنسان اليوم إلى مستوى آلةٍ حاسبة. إذن، والحال هذه، كيف، وبِمَ يمكننا استيعاب أذهانِ الملايين من الأحياء، وحركةِ الجُسَيمات ما تحت الذرية ، والأجسامِ الفَلَكية Astronomik غيرِ القابلة للقياس؟ واضحٌ أنّ قوةَ علوم الرياضيات لا تكفي لأجل الكون الأصغر والكون الأكبر. على الأقل، من الضروري أنْ نترك البابَ مفتوحاً لأساليبَ جديدةٍ بشأنِ المعاني، كي لا نخنق أنفسنا بالعقائد القالبية الجامدة سلفاً.
لا يمكنُ استصغار شأنِ الحدسيات الحية. فكلُّ ما هو موجودٌ باسم الحياة مخفيٌّ في تلك الحدسيات، التي لا يمكن الادعاء باستقلاليتها عن الكونَين الأصغرِ والأكبر. وما هو أقربُ إلى الفهمِ هو أنّ عالَم هذه الحدسيات خاصيةٌ أوليةٌ للكون. ولهذا السبب، لا يمكنُ تقليل شأنِ الأسلوبِ الميثولوجي في فهمِ الكون. فقد يساهم في مساعَدتنا على فهم الكون بقدرِ الأسلوبِ العلمي بأقل تقدير.
يُعتبَر التوجهُ مِن المفهوم الميثولوجي صوب المفهوم الديني الوثوقيّ الدوغمائي مرحلةً انتقالية عظمى مرتبطةً عن كثب بِكَونِ التَحَوُّلِ المرتكز إلى الهرمية والطبقية داخل المجتمع قد سيطر على الميدان الذهني واحتله. إنَّ علاقة المتسلِّطِ والمستغِل تحتاج إلى القوالب المحصَّنة عن المساءلة. أي أنَّ إضفاءَ القيم المسَلَّمِ بها للقوالب الثابتة، كالقدسية، وكلامِ الله، والحصانة؛ أمرٌ متعلق بالاستغلال والسلطة، وبالمصالح الهرمية والطبقية المُشَرعَنَة المستترة. فبقدرِ ما يَسُود التحكمُ الفظ في مفهومٍ ما، يَكُونُ الاستبدادُ والطغيان والاستغلال مخفياً فيه بنفس القدر.
تتميز المواقفُ الدينية بسيادتها لأطولِ مرحلةٍ في تاريخِ البشرية بعد المرحلة الميثولوجية. ويمكن ابتداءها مع التاريخ المدوَّن، أو قُبَيله أو بُعَيده. ما يتوجب استيعابه هو أسبابُ كلِّ هذه الحاجة للقوالب الدينية. جليٌّ تماماً أن هذا الموقفَ أسلوبٌ بِحَدِّ ذاته. ففي المواقف الدينية، يُعتبَر الحراكُ الأساسيُّ بموجب الكلام المُعزى إلى الآلهة المفترَضِ أنها متفوقةٌ ومتعالية على الطبيعة والمجتمع؛ هدفَ الحياة وسبيلَ الوصول إلى الحقيقة. أما انحرافُ الإنسان عن هذا الكلام، فيعني تحمُّلَه كل أنواع العبودية، والالتزامَ الإجباريَّ بالأوامر وهو على قيد الحياة، ويكون مصيرُه جهنمَ بعد الممات. إننا على عتبةِ عهدِ إنشاءِ الآلهة المقَنَّعة. ويمكن التحديس والتلَمُّس بكلِّ سهولة أنّ هذا الإله هو في الحقيقة ليس سوى ذاك الزعيمُ أو المستبِدُ الجبارُ الذي يُصدِر الأوامرَ بحقِّ المجتمع، ويقوم باستغلاله. والتقنُّع المفرِط مرتبطٌ عن كثب بخداعِ إدراكِ الإنسان ومخاتَلةِ فهمه. وبالأصل، فتسميةُ الطغاةِ المستبدين لأنفسهم في بداياتِ ظهورهم بـ الإله – المَلِك يُعبِّر عن هذا الخصوص كفاية. وما نصادفه عُقْبَ ذلك كواقعٍ تاريخي سائد هو قَوْنَنةُ أقوالهم، وإبرازُها على أنها الحقيقة المطلقة. وكلما تجذَّر القمعُ والاستغلال، استحالَ الأسلوبُ الديني الوثوقي الدوغمائي مساراً رئيسياً منقوشاً في ذهن الإنسان. أو بالأحرى، تم إنشاؤه كواقعٍ اجتماعي راسخ. وبهذا الأسلوب تمَّ تأمينُ خنوعِ الإنسانية لنيرِ عبوديةٍ طويلةِ الأمد، كي تتخبط تحت وطأةِ الحكم الاستبدادي الظالمِ للطغاة الجبابرة، أي، الآلهةِ المقَنَّعة، التي حوَّلت الحياة إلى قحطٍ وشُح.
إنَّ أهميةَ الأسلوبِ الديني كسبيلٍ للتعودِ الذهني تتأتى من شرعنته للخضوعِ المفروض على الحشود البشرية حصيلةَ التقاليدِ الفظة، ومن تجذيره لمفهومِ القدريّة على مرِّ آلافِ السنين. فقد غدا الاستعمارُ والاستغلالُ الكارثي ونشوبُ الحروبِ المُهَوِّلة أمراً ممكناً بفضلِ هذا الأسلوب. أي، العيش بموجبِ الكلامِ المقدس وأمرِ الرب! لا ريب في أنَّ هذا الأسلوبَ سهَّل الأمورَ كثيراً على الممسكين بدفة الحكم والإدارة، حيث تأسَّسَت جدليةُ الراعي – الرعاع (القطيع). وأُبرِزَت مجتمعاتُ العبودية على أنها مرحلةُ تطورٍ اضطرارية لا مفرَّ منها. بل، والأنكى أنه تمَّ تجميدُ الواقع الطبيعيِّ على أساسِ مفهومِ المجتمع الثابت الذي لا يتغير. فمن جانب، ثمة مفهومُ المجتمعِ والطبيعة الخاملة، ومن جانبٍ آخر، ثمة مفهومُ الإداريِّ الحاكمِ المتفوقِ والمتعالي على كل شيء، والإلهِ المتحكم بكلِّ شيء، وخالقِ كلِّ شيء، والفعالِ للغاية. وتحَوَّل ذلك إلى ثنائيةٍ جدلية حتمية ومطلقة. ولو قلنا أنّ هذا الأسلوبَ أو المفهومَ هو الذي أدار العصورَ الأولى والوسطى وسادَ فيها، فلن نكون مبالغين كثيراً.
الجانبُ الأخطر في الأسلوبِ الوثوقي الدوغمائي يكمن في فرضِهِ على البشرية مفهومَ الطبيعةِ الجامدة والخاملة وغيرِ القادرة على الحركة إلا بالأوامر الإلهية المقدسة الخارجية، عوضاً عن مفهومِ الطبيعة الحيوية المتطورةِ ذاتياً. والنتيجةُ الأهمُّ الناجمةُ عن ذلك في الميدان الاجتماعي تتمثل في النظر إلى وجودِ البنى الخاملة، وفَرْضِ الإدارةِ الخارجية الراعية على الرعاع على أنه أمرٌ جدُّ طبيعي. وبقدر قِدَم هذا الأسلوب، فقد استوجَبَ وجودَ شخصانيةٍ Öznellik متفوقةٍ ومتعالية على كلِّ شيء، ووصَلَ ذروتَهُ في العصور الوسطى، حيث غدا العالَمُ الموضوعيُّ Nesnel Dünya في حالةٍ غامضةٍ مُبهَمة، بل واعتُبِرَ وكأنه غيرُ موجود. فبينما أصبحَت الدنيا محطةَ حياةٍ انتقاليةٍ عابرة، اعتُبِرَت الغاياتُ والمُثُلُ الراسخةُ والأبدية شكلَ الحياةِ الأساسية. ومَن عَرِفَ القوالبَ الدوغمائية والمسلَّماتِ والكليشيهات أكثر، اعتُبِر عالِماً، ووُضِع في أرفع المراتب. إنَّ طريقةَ التفكيرِ هذه، والمتَّسِمةَ بتضادها مع الأسلوب الميثولوجي، لعبَتْ دوراً أولياً في كبحِ جماح التاريخ، وبالتالي الحياةِ، والحكمِ عليهما بالأسر والذل.
أما الجانبُ الإيجابي في الأسلوب الديني، فيتجسد في قطعه أشواطاً ملحوظةً في ظاهرة الأخلاق ضمن المجتمع. ففي هذه المرحلة، وفي ظل هذا الأسلوب، تعرضَت فكرةُ "الفضيلة – الرذيلة" لفوارقَ بارزة، وجاءت بأحكامٍ صارمة. لقد تنبَّه هذا الأسلوبُ إلى خاصيةٍ أساسية، ألا وهي مرونةُ ذهنِ الإنسان، وبالتالي، إمكانيةُ تهيئته وتأهيله. فاختلافُ الإنسان عبر هذه الذهنية عن عالَم الحيوانِ الأدنى منه مرتبةً، يشكِّل أساسَ التطورِ الأخلاقي.
ومن دون الرجوعِ إلى الأخلاق، لا يمكنُ إدارةَ الإنسان أو تحقيقَ مجتمعيته. فالأخلاقُ في الأسلوب تكوينةٌ وحقيقةٌ وإدراكٌ إداريٌّ لا غنى عنه بالنسبة للمجتمع. ومن دونِ الدخول في الجدال حول مضمون الأخلاق الإيجابي أو السلبي، فإنَّ تطوراً على هذا الصعيد يُعتبَر ضرورةً اضطرارية للوعي الاجتماعي. لا شك في أنَّ الأخلاقَ وعيٌ ميتافيزيقي ، ولكنّ هذه الخاصية لا تجعل منها موضوعاً تافهاً أو منبوذاً. ولن نبالغ إذا ما تحدثنا عن تفوق الأخلاق الميتافيزيقية نسبةً للأخلاق البدائية في العصر الميثولوجي. إنَّ مجرَّدَ التفكيرِ بالمجتمع البشري مجرداً مِن الأخلاق يعني انقراضَ الجنسِ البشري أو القضاءِ على بيئة العالَمِ الممكنِ العيشُ فيه. وربما أنه أَشْبَهُ بالديناصورات التي انقرضت لأنها لم تُبْقِ على نباتاتٍ تتغذى منها. الأمران سيان، ويصبان في نفس المجرى، وينتهيان في آخر المآل بوصولِ الإنسان حالةً لا يمكن لِبَنِي جنسه الاستمرار في العيش. وما تفاقُم قضايا البيئة في راهننا لدرجةِ وصولها حافةَ الهاوية سوى انعكاسٌ لِتَهاوي وانحطاطِ الأخلاق بشكلٍ فظيع.
لا يطغى الأسلوبُ الدوغمائي التوكيديُّ على الأديان الأساسية فحسب، بل ويسود في الفكر اليوناني الكلاسيكي أيضاً، حيث يحتل الأسلوبُ الدياليكتيكي والمواقفُ الموضوعية Nesnel حيزاً جدَّ محدود فيه. فمثالياتُ أرسطو وأفلاطون كأساليبَ سائدةٍ تُشكِّل أمتنَ مقوِّمات الأسلوب الديني الدوغمائي الوثوقيّ في العصور الوسطى. فكَونُ – أو اعتبارُ – أفلاطون الفيلسوفَ بل والمبدعَ الأعظمَ للمثالية، جعلَ منه العزيزَ المحبَّبَ والمقرَّبَ إلى المواقف النبوية. إنه الفيلسوفُ الأقربُ إلى النبوة.
تُعتَبَر المواقفُ النبوية في الأديان الثلاثة الكبرى مؤسِّسةَ الأسلوبِ الوثوقيّ الدوغمائي المُنقَّى جيداً من الشوائب. والجوانبُ الطافحةُ في هذه الأديان الثلاثة تتمثل في كونها عوامل مؤسِّسة للأخلاق الميتافيزيقية. وتصل الأخلاقُ ذروتَها وتُحَقِّق رواجَها مع بوذا ، زرادشت ، كونفوشيوس ، وسقراط ، ونخص بالذكر هنا ثنائيةَ الفضيلة – الرذيلة التي اعتُبِرَت في الزرادشتية فلسفةً أساسيةً مكافِئةً لقرينة النور – الظلام. وقد قطعَت الإنسانيةُ مسافاتٍ أخلاقيةً شاسعةً وعظيمة في تاريخها عبر شخصياتِ هؤلاء الحكماء القيِّمين.
لعِبَ مفهومُ "الطريقة العلمية" دوراً بارزاً في إيصال الرأسماليةِ إلى نظامٍ عالمي. وفي هذا الأسلوب الجديد، الذي يُعتبَر كلٌّ مِن روجر ، فرانسيس بيكون ، وديكارت رواداً له، يتم التركيزُ خصيصاً على الفصل والتمييز بين الذات العاقلة Özne والموضوع الشيء Nesne. في حين، لم يكن لهما مكانٌ بارزٌ في الأسلوب الدوغمائي الوثوقي للعصور الوسطى، بل تميزتا بفاعليةٍ خافتةٍ ظليلة.
وأوروبا الغربيةُ المنتفضةُ مع النهضةِ فَتَحَتْ عصراً جديداً في إظهارِ الذات العاقلة والموضوع الشيء بالترافق مع الإصلاحِ وثورةِ التنويرِ الفلسفي في المسيحية. وهكذا غدت ذاتانيةُ الإنسان وموضوعانيةُ العالَم تشكلان لَبَنةً أساسيةً وعاملَين أوليَّين في الحياة. في حين، تتهاوى أهميةُ الأخلاق والأسلوبِ الدوغمائي التوكيديِّ العاملِ أساساً بكلام الرب. أو بالأحرى، يتم الانتقال من عصرِ الملوك المتسترين والآلهةِ المقَنَّعةِ القديمِ إلى مرحلةِ الملوكِ العراةِ والآلهةِ غيرِ المقَنَّعة. والغريزةُ المحرِّضةُ الأساسية في ذلك هي طرازُ الاستعمارِ والاستغلال الرأسمالي. فالاستغلالُ باسمِ الربح يستدعي ضرورةَ تغييرِ وعي المجتمع من جميع المناحي. وتُعَدُّ هذه الضرورةُ أو الحاجةُ المؤثِّرَ الأسّ في "الأسلوب العلمي" الجديد. لقد باتت الإنسانيةُ والطبيعةُ هنا وجهاً لوجه أمام استغلالٍ أعظمي. ولا بد من إعادة إنشاءِ وتكوينِ ضميرِ (أخلاق) المجتمع عبر تغييرٍ ذهنيٍّ شامل، لأنه لن يَقبل الاستغلالَ والاضطهادَ بسهولة. وفي هذه النقطة بالذات ستقع الفاعليةُ الكبرى على عاتق "الأسلوب" كسبيلٍ صحيحٍ أساسي. والكل على علمٍ كيف مرَّ ديكارت بِمَرَضِ التشكيك بكلِّ شيءٍ في سبيل تحقيقِ تحوُّلٍ جذريٍّ متأصل، فلجأ إلى مقولته الشهيرة "أفكر، إذن أنا موجود". ومعلومٌ جداً أنّ بيكون وأتباعه أبدَوا عنايةً فائقة بـ"الموضوعانية". وبينما فتحَ الأولُ البابَ على مصراعيه لإمكانية تفكيرِ الفرد بشكلٍ مستقل، أشهر الثاني وأتباعه الأبوابَ أمام إمكانيةِ تصرُّفِ الفرد بـ"الموضوع الشيء" كيفما يشاء.
لا بد من إعادةِ تعريفِ وشرحِ مصطلحِ "الموضوعانية" بعمقٍ غائر في الأسلوب العلمي. فتعريفُ كلِّ الطبيعة (بأحيائها وجمادها) على أنها "شيء موضوع" – بما في ذلك جسدُ الإنسان، وفيما عدا الفكر التحليلي – قد لَعِبَ دورَ المفتاحِ في استعمارِ الرأسمالية للطبيعة والمجتمع، والتحكم بهما. ذلك أنه من غير الممكن تحقيق التحول الذهني اللازمِ للعصر الحديث، بدون تجذيرِ وشرعنةِ التمييز بين الذات والموضوع.
بينما تكون الذاتُ العاملَ الشرعي الأكثر تداولاً وقبولاً في الفكر التحليلي، يُعتبَر الموضوعُ Nesne العنصرَ "المادي" الملموسَ الذي يمكن القيامُ بكلِّ أنواعِ المفارقات والإشاعات عبره. وبمعنى آخر، فهو يمثل "الموضوعيةَ" Objektivite. وقد نَشَبَت صراعاتٌ مريرة بسبب هذا التمييز. إذ يجب عدمَ تقييم الصراع بين الكنسية والعِلم كمجردِ نزاعٍ على "الحقيقة" المطلقة، حيث تستتر نضالاتٌ وكفاحاتٌ اجتماعية عظمى تحته. إنه ضربٌ من ضروبِ النزاع والصراع بين المجتمع القديم المشحون بالأخلاق، والمجتمعِ الرأسمالي العاري الساعي لنزع الستار الأخلاقي عن ذاته. أي أنَّ المسألةَ ليست مجردَ نزاعٍ بين الكنيسة والعِلم فحسب. وبشكلٍ أعم، إنه صراعٌ بين النظام الذي حافظ عليه وجدانُ المجتمع طيلةَ مسيرته التاريخية، وحَظَر استغلالَه، ولَعَنَ ذلك، واعتبرَه جرماً لا يُغتفَر؛ وبين المشروعِ الاجتماعي الرأسمالي الجديدِ الساعي لفتحِ الأبواب على مصاريعها أمام استعمارِ المجتمعِ واستغلاله والتسلطِ عليه، دون الاعترافِ بأيِّ حظرٍ أو جُرمٍ أو لعنة. و"الاتجاه الموضوعي" هو المصطلح المفتاح لهذا المشروع.
تتخفى تحت مفهوم "الموضوعانية" Nesnellik لـ"الفكر التحليلي" فكرةٌ مفادها: ما من "قيمةٍ" لا يمكن إخضاعها للعملية. إذ يمكن استغلال كلِّ ما في الطبيعة من حيٍّ وجماد، والتحكم بها وتملُّكها، بحيث لا يقتصرُ الأمرُ على كدحِ الإنسان فحسب، بل ويمكن البحث والتنقيب فيها، والتمتع بحقِّ استغلالها بكافةِ الأشكال. وفيما عدا الذواتِ المنتقاة، يحق النظر لكلِّ شيءٍ على أنه ميكانيكيٌّ آلي، وبالتالي، التحكم به واستغلاله بلا رحمةٍ أو شفقة. أما الفرد، والمواطِن، ومجتمعُ الدولة القومية، المنظَّمون كـ ذواتٍ أساسية في مواجهة الطبيعة والمجتمع، فيُعتبَرون "اكتشافاتٍ جديدةً" ذاتَ طاقةٍ جنونيةٍ قادرةٍ على الإبادات الجماعية، وإيصالِ البيئة لحالةٍ لا تُطاق، باعتبارِ أنهم الآلهةُ الجديدةُ غيرُ المقَنَّعة. وكأنّ "اللوياثانَ" القديمَ بات مسعوراً. وكأنه ما من شيءٍ Nesne لا يستطيع التحكمَ به أو تمزيقه إرباً إرباً. من المهم الاستيعاب جيداً أنّ النظرَ إلى المواقف الموضوعية الشيئية على أنها المصطلحُ الأكثرُ نزاهةً وشفافية في الأسلوب العلمي قد تَسَبَّبَ في كوارثَ مُهلِكة، وانحرافاتٍ كبرى، بل ومجازرَ مرَوِّعةٍ بما يضاهي محاكمَ التفتيش المتبقيةِ من العصور الوسطى. يجب التشديد، وبعناية، على أنّ الموقفَ الموضوعي ليس مصطلحاً علمياً نزيهاً على الإطلاق.
لا يمكننا إيضاح أسبابِ عُطب وإفلاس وشلل علم الاجتماع في راهننا، ما لم نستوعب أنّ "الأسلوب العلمي" بحدِّ ذاته وسيلةٌ لأكبرِ تقسيمٍ طبقي. أقولها علانيةً أنه لـ"الأسلوب العلمي" "الموضوعي" دورٌ معيِّنٌ وحاسمٌ في إفلاسِ أكثرِ التيارات العلمية الاجتماعية مثاليةً وطموحاً، ألا وهي "الاشتراكيةُ العلمية" التي اعتَبَرتُها – أنا أيضاً – كذلك، في إحدى المراحل.
فالتفسخُ، ومن ثم الانهيارُ الذي لَحِقَ بالاشتراكية العلمية وبكافةِ مشتقاتها، أو مرورُها بفترةِ تحوُّلٍ من رأسماليةِ الدولة المباشرةِ إلى الرأسمالياتِ الخاصة، بعد اجتيازها مرحلةً طويلةً من التطبيق وتشييدِ النظام الاجتماعي؛ إنما يرجع في أساسه إلى "الأسلوب العلمي" ومفهومِه في "التشيؤ" . وإلا، ما مِن شكٍّ بتاتاً في حُسن نوايا المساهمين في نضالِ الاشتراكيةِ بإيمانٍ راسخٍ وجهودٍ حثيثة. سأكتفي بالتنويه إلى أني سأستفيض في شرحِ هذه المواضيع في مكانها المناسب.
إنّ كافةَ البنى العلمية التي تُضفي على التمييز بين الذات والموضوع دوراً أساسياً، هي أسيرةُ استقلالياتها لدرجةِ أنها تزعم بتفوقها على كافةِ ضروبِ القيمِ والمُثُل الاجتماعية. ولربما أنّ الانحرافَ الأكبر الحاصلَ باسم العلم مخفيٌّ في هذه المزاعم. ولربما لم يشهد التاريخُ التحامَ العلم مع النظام المهيمن في أيِّ عصرٍ مثلما هو عليه في العصر الرأسمالي. فدنيا العلم، بدءاً من أسلوبه إلى مضمونه، هي القوةُ العظمى في إنشاء النظام، وفي تأمين شرعنته وصونه. إنَّ الأسلوبَ العلمي للعصر الرأسمالي، وبالتالي، كافةَ العلوم الناشئة فيه، يُشكِّل القوةَ الأساسيةَ المؤديةَ إلى ترسيخِ آليةِ الربح في النظام، وما تمخَّضَ عنها فَشَمَلَ كافةَ قطاعاتِ المجتمع وحلقاتِهِ الداخليةِ والخارجية من حروبٍ، أزماتٍ، آلامٍ، مخاضاتٍ، مجاعةٍ، بطالةٍ، دمارِ البيئة، والتضخمِ السكاني. وما عبارةُ "العلمُ قوة" الموجَزَة سوى تعبيرٌ عن الافتخار بهذه الحقيقة. قد يقال: وما السَّيِّئُ في ذلك؟ فعندما تصدحُ الأصواتُ، وتنطلقُ هذه الأحكام بكلِّ سهولةٍ من أحشاءِ النظام المتحصن بدرعِ النزاهة والشرعية، تكون قد عَبَّرَت عن أكثرِ المواقفِ طبيعية.
وإذا كانت الحداثةُ الرأسمالية في راهننا تعطي إشاراتِ استحالةِ الاستمرار في كافة ميادينها وفروعاتها، فلـ"الأسلوب العلمي" الذي ترتكز إليه نصيبٌ وافر في ذلك. من هنا، فالأمر المهمُّ والمصيري هنا هو توجيه النقد إلى الأسلوب الذي يشكل الدعامةَ الركن للنظام، وإلى "الضوابط العلمية" المطروحة للوسط. إنَّ نقطةَ الضعف الأساسيةَ للانتقادات الموجَّهةِ لكافة الأنظمة، بما فيها انتقاداتُ الاشتراكية، تكمن في لجوئها إلى نفسِ الأسلوبِ الذي ترتكز إليه تلك الأنظمةُ في تحقيقِ وجودها. مع أنَّ الحقيقةَ تشير إلى أنّ انتقادَ الواقعِ الاجتماعي الناشئِ اعتماداً على نفسِ الأسلوب الذي يستند إليه هذا الواقعُ لا يُنقِذ النُّقّادَ من الوقوعِ في نفس النتيجة. فمن الشهيرِ جداً أنَّ السائرين على نفسِ الدروب المرسومةِ سلفاً، لا يمكنهم الوصول لأيِّ مكانٍ سوى القرى أو المدن التي تؤدي إليها تلك الدروب. وهذا تماماً ما حصل لمناهضي النظامِ القائم، بما فيهم الاشتراكيةُ العلمية.
إنني أُبدي اهتماماً بالغاً في تقييماتي إزاء تناوُلِ الخصائصِ والمزايا الطبقيةِ والاجتماعية للتمييز بين الذات والموضوع بشكلٍ أساسي. ذلك أنَّ هذين المصطلحَين الباديَين وكأنهما نزيهان، هما السببُ الأنطولوجيُّ (الوجودِيُّ) لنشوءِ الحداثة التي غدت مستحيلةَ الاستمرار. وهذان المصطلحان لا علاقة لهما بالمنجزاتِ العلمية كما يُعتَقَد، وليسا نقيَّين من الميزات النسبية. وهما مشحونان بمفهومٍ ثبوتيٍّ قوالبي بصدد الطبيعة والذات، بقدر ما هو عليه الأسلوبُ الوثوقيّ الدوغمائي في العصور الوسطى بأقل تقدير. فالسعيُ لفهمِ الحياة عبْرَ التمييز والفصل العلني بين الذات والموضوع يؤدي بالحياة إلى الاختناق المادي، ويجعلها رجعيةً ومُهَمَّشةً ومُبهَمَة أكثر مما كانت عليه حياة الإنسان في العصور الوسطى. فحياةُ الإنسان التي كتَمَ الأسلوبُ العلميُّ أنفاسَها وحَرمَها من الحرية، قد تشتتت إرباً إرباً في الحداثة الرأسمالية اعتماداً على التمييز بين الذات والموضوع، ونشأت التصدُّعاتُ المتأصلةُ في كافة مناحي الحياة. إنَّ القيمة العظمى المفقودةَ مع تجزُّؤِ التكاملِ حتى خلاياه الأوليةِ بسبب "الضوابطِ العلمية"، هي تكامُلُ ووحدةُ الحياة الاجتماعية المسجَّلةِ ضمن أبعاد الزمان والمكان. ما من شيءٍ في راهننا أخطرُ من "تضييق الخناق على الحياة"، ومن مأساةِ الحياة المبتورة من جوهرها ومقوِّماتها الزَّمَكانية. إننا وجهاً لوجه أمام أشدِّ المصائرِ بؤساً. فالسرطنةُ الاجتماعية ليست تصوراً من صُنعِ الخيال، بل هي التفسيرُ الأمثل للواقع الملموس للنظام القائم إزاء الحياة.
هذا الموضوعُ، الذي يتطلب التأملَ فيه بإمعان، لا يمكن تناوله في المرافعة إلا بتقييمه ضمن نطاقٍ محدود. لا أقترح أسلوباً جديداً بانتقاداتي هذه. كما أنها لا تعني اقتراحَ عدميةِ الأسلوب. ذلك أني متيقظٌ للخصائص التي تعبِّر عنها السبلُ والأساليبُ والقوانين الملتزَمُ بها في حياةِ الإنسان، بل وفي حياةِ الطبيعة بأحيائها وجماداتها. كما أُولي قيمةً ثمينةً للطريقة والأسلوب. لكن، وبينما يَكُون مفهومُ الأسلوبِ والقانون مشحوناً على الدوام بمخاطِرِ المضمون الحتمي المطلق، فإني مضطرٌّ للتشديد على أنّ الإصرارَ والثبوتَ في ذلك يُفضي إلى إنكارِ التطور والحرية. لا أتصور وجودَ كَونٍ بلا أساليبَ أو قوانين. ولكني لا أؤمن أيضاً بأولويةِ ميكانيكيةِ ديكارت، الذي ينظر إلى الكون كَنَسَقٍ رياضيٍّ فحسب. ولديّ شكوكٌ عميقة تَرى منطقَ الرياضياتِ والقانونِ منطقاً مَرَضيّاً، بل وألاحظُ شبهاً فظيعاً بين الرهبان السومريين الذين اخترعوا الرياضياتَ والقانون، وبين الذهنيةِ العلمية الراهنة. إني على قناعةٍ بأنَّ كليهما يمثلان المدنية عينها.
مناهَضةُ الأسلوب لا تعني إنكارَه كلياً، ولا البحثَ عن أسلوبٍ بديل. من الضروري القول أنّ الانفتاحَ أكثر لإمكانيةِ التفسير الأقرب إلى خَيارِ الحياة الحرة يتميز بمعانيَ أسمى. وإذا كانت الغايةُ هي الوصولُ إلى معنى الحياة، فعلى الأسلوب أن يكونَ وسيلةً في ذلك. فالدولةُ الكبرى والإنتاجُ الصناعيُّ العظيمُ وحدهما قد ألحقا الحروبَ والدمارَ بالبشرية، بدلاً من السعادةِ والرفاه. فلدى اتحادِ الإنتاجِ مع القوة، يتزايد الابتعادُ عن المعنى. وفي جميع الأوقات يأتي أصحابُ الادخار في مقدمة الشرائح البليدة التي لا تُبدي تفاهماً تجاه الحياة. في حين يُنظَر إلى الادخار بعينِ الشكِّ والريبة دائماً داخلَ المجتمع. إنّ الخلاصَ من مشكلةِ الأسلوب، أو تخطيها والتغلبَ عليها، يتضمن معانيَ متأصلة، حيث يستوجب محاسبةَ العصرِ والمدنية المُعاشَين. ولطالما نصادف أمثلةً ضاربةً للنظر عن ذلك في الأزمنة التاريخية. سيذهب أيُّ بحثٍ عن المخرج هباءً ما لم توجَّه الانتقاداتُ الراديكالية الجذريةُ إلى الرأسمالية وأساليبها وضوابطها العلميةِ التي تَمْهُرُ جميعَ مؤسساتِها وقوالبها العصرية بطابَعِها؛ وما لم نتوجه بالتالي إلى إعادةِ إنشاءِ العلم المساعِد على الدنوِّ أكثر من الحياة الحرة. ليس لدي نيةٌ في تقديمِ أيةِّ مساهَمةٍ لثنائيةِ الحداثة – ما وراء الحداثة. ومع احترامي للعديد من المواقفِ البارزة في هذا السياق، لكنَّ قناعتي راسخةٌ حتى الآن بأنها لا تزال بعيدةً عن جوهرِ القضية. ولا زلتُ أرى ما وراء الحداثة استمراراً للحداثة بأغلفةٍ وأقنعةٍ جديدة.
إني مضطرٌ لتقديمِ شروحي باسمِ مصطلح "نَسَق الحقيقة"، حيث أبحث عبره عن سبيلٍ للخروج من قضايا الحياة المُبعَدةِ عن قيمِ الحرية، والمُثقَلةِ بالأخطاء والضلال؛ عوضاً عن البحث عن أسلوبٍ بديل. لا ريب في أنه لطالما تمَّ البحثُ عن الحقيقة في المجتمع البشري، وبرزَت العديدُ من الخَيارات كجوابٍ لهذه الأبحاث، بدءاً من الميثولوجيات إلى الأديان، ومن الفلسفة إلى العلوم الراهنة. ومثلما لا يمكن التفكيرُ بالعيش في حياةٍ خارجَ إطارِ هذه الخَيارات، فلا يمكن إنكارُ وجودِ واقعٍ مؤلم وهزليٍّ يفيد بأنَّ هذا الكَمَّ المتراكمَ من القضايا العالقةِ نابعٌ من تلك الخَيارات. أي، ثمة ثنائيةٌ تقول: لا يمكن العيش معها، ولا بدونها. ولكنَّ الحداثةَ التي نحياها ذات فوارقَ فريدةٍ من نوعها، حيث بلغَت حدودَ استحالةِ الاستمرار في العديد من الميادين. وإذا ما سعينا لتعدادها بشكلٍ خاطفٍ سنلاحظ: التضخمَ السكاني، نفاذَ الموارد، دمارَ البيئة، التصدعاتِ الاجتماعيةَ المتعاظمةَ بلا حدود، الروابطَ الأخلاقيةَ المنحلَّة، انقطاعَ الحياة عن الزمان والمكان، الحياةَ المتوترةَ والمفتقدةَ لجاذبيتها وشاعريتها، أكداسَ الأسلحة النوويةِ القادرة على إحالة الدنيا إلى صحراءٍ قاحلة، وضروبَ الحروبِ الجديدة اللامتناهية والمستفحلة في البنية الاجتماعية برمتها. كلُّ ذلك يُذَكِّر بيومِ القيامة والمحشر الحقيقي. إنّ الوصولَ إلى هذه المرحلة بِحَدِّ ذاته مؤشِّرٌ واضحٌ على إفلاسِ أنساق حقيقتنا القائمة. أنا لا أَعرِضُ لوحةً تشاؤمية، ولكننا لا نستطيع البقاءَ صامتين، ولا نتمالكُ أنفسنا عن الصراخ بأعلى صوتٍ إزاء الحياة المنتهية داخلَنا وأمامنا. علينا ألا نفقد الأمل، وألا نخنق أنفسنا بذرفِ الدموع. ولكن، علينا البحثُ عن الحل. وإلا، هل كان بحثنا عن الحقيقة عملاً تافهاً أم فارغاً؟ أم أننا كنا نمر بعصرِ القوى الظلامية؟ أين، ومتى ارتُكِبَت الأخطاءُ الفادحة؟ أين، ومتى تشبثنا بالأفكارِ الدوغمائية الجامدة؟
أنا واثقٌ من أنّ الحداثةَ الرأسمالية انتهلَت قوتها الساحقة من تكويناتِ المجتمع المخادِعة المضلِّلة. لا يمكن إنكارُ حصولِ كفاحاتٍ باسلةٍ تجاه ذلك، ولكنَّ ما حلَّ بالنظمِ المُقَدَّمة على أنها نموذجُ النصرِ والنجاح واضحٌ للعيان. إذن، والحال هذه، هل هذا العالَمُ هو النهائيُّ والأبدي، مثلما يدَّعي النظامُ القائم؟ أَمِن غيرِ الممكنِ وجودُ عالَمٍ آخر؟ إني منتبهٌ لتكراري للأسئلة المطروحة يومياً. ولكن، يجبُ عدمَ الاستهتار أو الاستخفافِ بجهودِ الكشف عن الوجه الباطني للكثير من الظواهر، بدءاً من الوقوعِ في أخطاءِ الأسلوب في العديد من النقاط، إلى الأخطاءِ الموجودة في الضوابط العلمية، ومن التفسيراتِ القائمة بشأنِ السلطة والاقتصاد إلى المفاهيم والتمأسسات السلطوية المتحكمةِ بالحقوق وعِلمِ الجمال . وفي هذا السياق أرى في ذاتي القدرةَ على الشروع بتجربةٍ معينة، بل وأعتبر ذلك وظيفةً أو دَيناً عليَّ الإيفاء به إزاء قيم الحرية.
[email protected]